الصفحات

الثلاثاء، 15 أكتوبر 2013

توظيف التصميم العمراني للحد من الجريمة في المناطق السكنية ...

توظيف التصميم العمراني للحد من الجريمة في المناطق السكنية
 
    تزداد  مشكلة  الأمن  في  المدن  الكبيرة،  نظرا  لاتساع  أحيائها  السكنية،  وزيادة  كثافتها  السكانية،  فضلاً  عن  اتساع  نشاطها  الاقتصادي  بما  يصحبه  عادة  من  ضعف  في  العلاقات  والمفاهيم  الاجتماعية  التقليدية،  وقد اتسع  النطاق العمراني  لمدينة  الرياض  خلال  العقدين  الماضيين،  وانتشرت  معه  المناطق  السكنية  المعاصرة  التي  تم  تصميم  وتخطيط  غالبية  أحيائها  بطرق  تختلف  عن  النمط  التقليدي،  وتوجد  العديد  من  الطرق  العقابية  والعلاجية  والوقائية  للحد  من  الجريمة  وإشاعة  الأمن  في  المناطق  العمرانية،  كما  يلعب  أسلوب  تخطيط  وتصميم  البيئة  السكنية  وطريقة  تشكيلها  دوراً  هاماً  وفعالاً  للغاية  في  تقوية  العلاقات  الاجتماعية  بين  السكان،  وإحساسهم  بالأمن  ومشاركتهم  الفعالة  في  إيجاده،  وفي  تقليص  الفرص  المتاحة  للجريمة،  والرفع  بالتالي من  مستوى  الأمن  بالأحياء  السكنية.  وفي  هذه  الدراسة  تمت  مناقشة  جوانب  التصميم  العمراني المؤثرة  في  الرفع  من  مستوى  الأمن  بالأحياء  السكنية  وإبراز  أهم  المعايير  التصميمية  المساهمة  في  تحسين  بيئة  الأحياء  السكنية  من  خلال  خفض  فرص  الجريمة  بها،  وتقويم  مدى  تطبيق  هذه  المعايير  في  عدد  من  الأحياء  السكنية  المعاصرة  بمدينة  الرياض  وتحديد  جوانب  القصور  فيها.

   وقد  أشارت  نتائج  الدراسة  إلى  أن  الكثير  من  المعايير  التصميمية  التي  تساهم  في  الحد  من  الجريمة  قد  تم  إهمال  تطبيقها  في  غالبية  الأحياء  السكنية  المعاصرة  في  مدينة  الرياض،  كما  ظهر  أن  تطبيق  معيار  واحد  فقط،  يتمثل  في  تحويل  الشوارع  العابرة  بحي  النزهة  إلى  مجموعة  من  الشوارع  ذات  النهايات  المغلقة،  ينتج  عنه  تحسن  ملحوظ  في  تحقق  العوامل  التي  تساهم  في  الحد  من  الجريمة  في  المناطق  السكنية،  وفي  هذا  مؤشر  واضح  إلى  إمكانية  القيام  بإجراء  الكثير  من  التعديلات  الإيجابية  على  القائم  من  الأحياء  السكانية  المعاصرة.

المقدمة :

   شهدت  المملكة  العربية  السعودية  خلال  العقود  القليلة  الماضية  نهضة  تنموية  شاملة،  تميزت  بسرعة  مواكبتها  للمعطيات  المعاصرة،  وتجسدت  شواهد  التنمية  والتغير  بشكل  واضح  في  مدن  المملكة  التي  شهدت  تجربة  عمرانية  هائلة  بشكل  عام،  ونمواً  كبيراً  في  قطاع  الإسكان  يغطي  الغالبية  العظمى  من  النطاق  العمراني  للمدن  بشكل  خاص،  فعندما  تأسست  المملكة  العربية  السعودية،  في  عام  1353هـ-1932م،  كانت  الرياض-  على  سبيل  المثال-  مدينة  صغيرة  لا  تتجاوز  مساحتها  بضعة  كيلو  مترات  مربعة  وذات  نسيج  عمراني  تقليدي،  ولا  يزيد    عدد  سكانها  عن  ثلاثين  ألف  نسمة  ومنذ  ذلك  الوقت  نمت  مدينة  الرياض  لتصبح  عاصمة  حضارية  حديثة  تبلغ  مساحة  نطاقها  العمراني  بمرحلتيه  الأولى  والثانية  (1782  كم2)  وتغطي  حدود  المدينة  المطورة  في  الوقت  الراهن  حوالي  (800كم2)  تشكل  نسبة  الاستعمالات  السكنية  فيها  أكثر  من  (80%)  ويسكنها  أكثر  من  ثلاثة  ملايين  نسمة  (الهيئة  العليا  لتطوير  مدينة  الرياض  1420هـ).  وقد  اعتمد    في  غالبية  هذا  النمو  الكبير  والسريع  على  استخدام  نمط  عمراني  ومعماري  جديد  ومختلف  عن  النمط  التقليدي،  حيث  تميز  النمط  الإسكاني  الحديث  بالشوارع  الشبكية  المستقيمة  ذات  التصميم  الموجه  لحركة  السيارات،  وكذلك  بالوحدات  السكنية  المنفصلة  (الفيلات)  ذات  الارتدادات  من  جميع  الاتجاهات،  وانتهت  بذلك  سيطرة  السكان  على  الطرق  والساحات  الخارجية  المشتركة  لانتقالها  من  الإذعان  المتحد  سابقاً،  بين  السكان  المجتمعين  كفريق  واحد  في  النسيج  العمراني  التقليدي،  إلى  الإذعان  المشتت  في  النسيج  العمراني  المعاصر.

   أثرت  العديد  من  العوامل  الدينية  والمناخية  والسياسية  والاجتماعية  على  النسيج  العمراني  التقليدي  في  المدن  العربية،  ونتيجة  لذلك  نجد  أن  جميع  المباني  في  الحي  متداخلة  من  دون  حدود  أو  علامات  بارزة،  وكأنها  نسيج  من  التمويه  المتعمد  الذي  يلغي  الفردية  ولا  يشجع  عليها،  فيصعب  على  العابر  في  الحي  تمييز  حجم  أو  حدود  المسكن  في  النسيج  العمراني  التقليدي  للمدن،  والجزء  القديم  من  مدينة  الرياض  مثل  على  ذلك،  فالعابر  في  الطرقات  والممرات  والأزقة  المتعرجة  للنسيج  التقليدي  لا  يستطيع  تحديد  حجم  أو  هوية  المسكن  ومستوى  ثراء  الأسرة  من  الخارج،  حيث  تظهر  جميع  المباني  متشابهة  عند  النظر  إليها  من  الخارج،  وذلك  راجع  للتوحد  في  استخدام  مواد  البناء  وطريقة  إنهاء  المباني  من  الخارج،  يتميز  نظام  الطرق  في  النسيج  التقليدي  بالتتابع  والتدرج  الهرمي  من  العام  إلى  شبه  العام  إلى  شبه  الخاص  فالخاص،  بحيث  تظهر  كل  منطقة  بحدودها  الواضحة  وهويتها  المستقلة  ووظيفتها  المميزة،  مما  يحد  من  عبور  الغرباء  غير  المرغوب  فيهم،  ويمكن  السكان  من  إدراكهم  بوضوح  عند  تواجدهم  داخل  الحي،  كما  يمنحهم  السلطة  النفسية  لسؤالهم  والاستفسار  عن  سبب  وجودهم.

   كما  أن  الانحراف  في  المجتمعات  التقليدية  يكاد  يكون  معدوماً  بسبب  قوة  عوامل  الضبط  الاجتماعي  والأسري  وخضوع  الفرد  خضوعا  كاملاً  لقيم  وتقاليد  المجتمع،  ولأن  طبيعة  المجتمع  المحلي  تعد  من  أهم  المؤثرات  الاجتماعية  على  سلوك  الفرد،  فإن  نوعية  الجرائم  التي  تسود  في  الريف  تختلف  عن  نوعية  الجرائم  التي  تسود  في  الحضر  أو  المدن،  كما  أن  هناك  علاقة  بين  الجريمة  وطبيعة  المنطقة  السكانية،  حيث  يتسم  نمو  العمران  الحضري  للمجتمعات  باختلاف  الثقافات  وانتشار  العلاقات  السطحية  أو  غير  العميقة  بين  أفراد  المجتمع،  وهو  ما  يؤدي  إلى  انتشار  نوع  من  (الفوضى)  التي  تشجع  على  الجريمة،  فتركيز  السكان  وزيادة  كثافتهم  في  المدن  الكبرى  وتعدد  العلاقات  الاجتماعية  وتشابكها  يؤدي  إلى  تناقض  مفهوم  التكافل  الاجتماعي  بالقياس  بأهل  الريف،  وهذه  الخاصية  في  حياة  المدن  الكبرى  تؤدي  إلى  ظهور  العديد  من  مظاهر  الانحراف  والجريمة،  يخبرنا  تاريخ  البحث  الاجتماعي  في  ميدان  المدينة  والجريمة  بأن  هناك  تلازماً  بين  الانحرافات  السلوكية  واتساع  العمران،  بمعنى  آخر  أن  كبر  حجم  المدينة  وتعقيد  العلاقات  فيها  يصاحبه  تحلل  من  التقاليد  وضعف  في  الضبط  الاجتماعي،  كما  كشفت  العديد  من  الدراسات  عن  وجود  علاقة  طردية  بين  زيادة  نسبة  الجريمة  وكبر  حجم  المدينة  من  حيث  الكثافة  السكانية،  فالعلاقات  بين  سكان  المدينة  الحديثة  تتجه  نحو  الفردية  والنفعية  وضعف  التماسك  الاجتماعي،  وتفقد  بالتالي  العادات  والتقاليد  والأعراف  الكثير  من  قوتها  مما  يساعد  على  تطور  الجريمة  وأشكالها  وأنواعها  والأساليب  المستخدمة  في  ممارستها.

   وتتسم  المدن  الكبرى  بترامي  أطرافها  واتساع  مساحتها  اتساعا  مصحوباً  بالعديد  من  الطرق  الرئيسية  والفرعية،  وكذلك  بتعدد  وتنوع  أحيائها،  كما  تتسم  بوجود  علاقات  اجتماعية  متشابكة  ومعقدة  لكثافة  سكانية  كبيرة  في  منطقة  جغرافية  محددة،  وارتباطها  بنشاط  اقتصادي  وتجاري  واسع،  لذا  فإن  التطور  المستمر  والنمو  المتواصل  للمجتمعات  في  المدن  الكبرى  يفرز  دائماً  أنواعا  مستحدثة  من  السلوك  الإجرامي.  مما  لا  شك  فيه  أن  للتحضر  في  المدن  الكبرى  العديد  من  المظاهر  الإيجابية  من  أهمها  ارتفاع  مستوى  معيشة  ودخل  الأفراد،  وانتعاش  الحياة  الاقتصادية،  وتزايد  نسبة  المتعلمين،  وارتفاع  مستوى  أداء  الخدمات  مقارنة  بحياة  الريف،  إلا  أن  له  أيضاً  مظاهر  سلبية  مثل  التباين  الكبير  بين  الطبقات  الاجتماعية،  وبروز  مشكلات  الهجرة  الخارجية  والداخلية  سعيا  لرزق  أوفر  التي  يصاحبها  في  العادة  زيادة  مشكلات  الشباب،  وضعف  الوازع  والروابط  العائلية  والأسرية  وتفككها  في  بعض  الأحيان،  وغيرها  من  المظاهر  السلبية،  فعندما  تتسع  المدينة  وتصبح  ذات  كثافة  سكانية  مرتفعة  يرتفع  بها  مستوى  الاحتياجات  الإنسانية  مما  قد  يتسبب  في  ازدياد  القلق  النفسي  بين  الشباب،  كما  أن  توفر  سبل  ووسائل  الاتصال  بين  شتى  دول  العالم  قد  يساعد  على  انتقال  أنماط  الجريمة  والانحراف  من  مكان  إلى  آخر  وخاصة  في  المدن،  كما  ترسل  المدينة  للفرد  خطاباً  مزدوجاً  متناقضاً  تتصارعه  قوى  السوق  الخاضعة  للمال  وقوى  الأخلاق  وتعطي  الحظوة  للأولى    على  حساب  الثانية،  يتضح  مما  سبق  أن  الجريمة-  كشكل  من  أشكال  الخروج  على  قواعد  الضبط  الاجتماعي-  ترتبط  ارتباطا  مباشرا  بطبيعة  الحياة  في  المدن،  ونجد  بالتالي  أن  استقرار  الأمن  في  المدن  الكبرى  مرتبط  بجهود  مختلفة  ومتشعبة  للأجهزة  الأمنية  ضد  الجريمة،  سواء  بطرق  مباشرة  أو  غير  مباشرة،  ومما  زاد  الأمر  تعقيداً  دخول  العديد  من  المجتمعات  العربية  بشكل  سريع  في  مرحلة  تمدن  تختلف  حضاريا  وثقافيا  عما  اعتادت  عليه،  فتزعزعت  نتيجة  لعمليات  التحضير  السريعة  الكثير  من  القيم  والعادات  والمفاهيم  التقليدية  وظهر  الكثير  من  القيم  الجديدة،  خاصة  تلك  التي  تعطي  المال  أهمية  كبرى،  لقد  استوردت  المجتمعات  العربية  في  هذا  العصر-  مثل  الكثير  من  الدول  النامية-  انساقا  قيمية  صالحة  للمجتمعات  التي  ولدت  فيها،  وبعض  أساليب  الحياة  الغربية  العصرية  التي  قد  لا  تتفق  مع  طبيعة  المجتمعات  العربية  وما  تميزت  به،  ونماذج  معمارية  وعمرانية  مستجدة،  فظهر  التفكك  والتشكيك  في  قيمها  التقليدية،  ولم  تستطع  المجتمعات  العربية  لعوامل  ثقافية  وحضارية  أن  تتكيف  مع  تلك  الأنساق  المستوردة،  وهو  ما  أفرز  بعض  التصدعات  في  البناء  الاجتماعي،  ظهرت  في  صور  شتى  مثل  التفكك  الاجتماعي  وضعف  القيم  البيئية  الأصلية  وظهور  بعض  المشكلات  المتصلة  بالجريمة  والانحراف،  وغيرها  من  المظاهر  الاجتماعية  السلبية،  التي  أدت  إلى  زعزعة  الأمن  والاستقرار  في  المجتمع،  ونشر  الخوف  في  نفوس  أفراده،  فنجد-  على  سبيل  المثال-  أن  برامج  التنمية  الطموحة،  التي  شهدتها  المملكة  العربية  السعودية  خلال  العقود  الماضية  والتي  لا  تزال  تشهدها  حتى  وقتنا  الحاضر،  تتطلب  توافد  الأيدي  العاملة  بأعداد  كبيرة  من  مجتمعات  وخلفيات  ثقافية  وعرقية  عديدة،  حتى  غدت  المملكة  الدولة  الأولى  في  المنطقة  في  استيراد  العمالة،  وكان  لمدينة  الرياض  النصيب  الأكبر  من  هذه  العمالة  الوافدة،  ومما  لا  شك  فيه  أن  هذه  العمالة  تؤثر  مع  الهجرة  الداخلية  على  شكل  الهرم  السكاني  وحجم  السكان  وتركيبهم،  حيث  تتطلب  برامج  التنمية  اجتذاب  فئات  عمرية  محددة  كما  تجتذب  الذكور  دون  الإناث،وقد  اتفقت  العديد  من  الدراسات  على  أن  التغيرالديموغرافي  للمجتمع  يحدث  تغيرات  اجتماعية  هامة  تعمل  على  هدم  بعض  القيم  السائدة  فيها،  كما  تبرز  العديد  من  القيم  الجديدة  التي  تتعارض  مع  بعض  القيم  القديمة،  مما  يعرض  المجتمع  وتنظيماته  إلى  أنواع  من  التفكك  والانحلال.

   كما  نلاحظ  أن  نسبة  تزايد  الحضر  في  المملكة  العربية  السعودية  تسجل  تصاعداً  سريعا،  فقد  كانت  تمثل  (9%)  في  عام  1950م  وبلغت  (  31%)  في  عام  1974م،  وقد  بلغت  (76%)  في  عام  1995م  ويتوقع  أن  تصل  إلى  (79%)  في  عام  2000م  (اللجنة  الاقتصادية  والاجتماعية  لغربي  آسيا  1995م)  وبالنظر  إلى  معدل  النمو  السنوي  للسكان  في  مدينة  الرياض،  ففي  عام  1411هـ  وعام  1417هـ  يتضح  أنه  كان  على  التوالي  (8.80%  و  8.1%)  سنوياً،  بينما  يمثل  نسبة  النمو  الطبيعي  منه  فقط  (3.30َ%)  سنويا،  ويعود  الفرق  في  معدل  النمو  السنوي  هذا  إلى  نمو  الهجرة،  حيث  بلغ  في  عام  1411هـ  (5.50%)  سنوياً  وبلغ  في  عام  1417هـ  (4.8%)  سنوياً،ويتضح  أيضاً  أن  النمو  الطبيعي  المستقبلي  المتوقع  للسكان  في  الرياض  حتى  عام  1432هـ  سوف  يتراوح  بين  (2-3%)  سنوياً  فقط،  بينما  يعود  كبر  حجم  النمو  السكاني  للرياض،  والمتوقع  أن  يكون  بمعدل  (6-10%)  سنوياً،  إلى  الهجرة  التي  من  المتوقع  أن  تكون  بين  (4-8%)  سنوياً.

   ومن  هذا  يتضح  حجم  تأثير  النمو  من  الهجرة  على  نمو  السكان  في  مدينة  الرياض  وما  يترتب  عليه  من  نمو  حجم  المدينة  واتساعها.

   لقد  ظهر  أن  حوالي  ثلث  الجرائم  حوالي  (30.2%)  من  المجموع  الكلي  للجرائم  المرتكبة  في  مدينة  الرياض،  خلال  1408-1410هـ،  هي  من  جرائم  السرقة،  وهي  بذلك  تمثل  واحدة  من  أعلى  أنواع  الجرائم  توزيعاً  على  أحياء  المدينة،  حيث  إن  أغلب  أحياء  الرياض  قد  حدثت  بها  جرائم  سرقة  بصورة  متكررة،  وقد  أشارت  العديد  من  الدراسات  إلى  أن  توزيع  جريمة  السرقة  يتأثر  بمدى  وجود  الفرص  التي  تهيأ  لارتكاب  تلك  الجريمة.

   إن  بناء  وإعمار  المدن  يعتبر  أحد  أعظم  إنجازات  المجتمعات  على  مر  التاريخ  الإنساني،  وقد  نمت  المستوطنات  البشرية  في  الماضي  بشكل  بسيط  وبطيء    مكن  الإنسان  من  التطور  والوصول  إلى  الأفضل  من  خلال  التعلم  عن  طريق  التجربة  وتلافي  الأخطاء،  ولكن  إيقاع  النمو  السريع  في  عصرنا  الحاضر  يتطلب  مراجعة  تجاربنا  العمرانية  بشكل  جاد  ومستمر،  حيث  يتبين  من  العرض  السابق  أهمية  العناية  بدراسة  الأمن  في  المناطق  السكنية  بالمدن  الكبرى  لتزايد  أعداد  سكانها  وترامي  أطرافها،  فضلا  عن  تميزها  بنشاط  اقتصادي  وتجاري  واسع،  ذلك  لأن  هذه  المتغيرات  تفرز  دائماً  أنواعاً  مستحدثة  من  السلوك  الإجرامي،  كما  أن  في  تعدد  الطروحات،  حول  قضية  الأمن  في  الأحياء  السكنية  بمدينة  الرياض  ومشكلة  ارتفاع  مستوى  الجريمة،  بشكل  متكرر  في  وسائل  الإعلام  المحلية  من  صحافة  مكتوبة،  ورسوم  كاريكاتيرية،  وبرامج  (مسلسلات)  تلفزيونية،  خلال  السنوات  الثلاث  الماضية  دليل  قوي  على  تفاعل  المجتمع  مع  أهمية  هذه  الظاهرة،  يجب  أن  يؤخذ  في  الاعتبار  أن  حجم  المدينة  ليس  هو  العامل  الوحيد  المؤثر  في  ارتفاع  نسبة  الجرائم  في  الأحياء  السكنية،  ولكن  سوء  التصميم  والتخطيط  العمراني  للمناطق  والأحياء  السكنية  وما  يترتب  عليه  له  تأثير  كبير  على  ضعف  أو  فقد  العلاقات  الاجتماعية  بين  السكان  وبالتالي  ازدياد  الفرص  المتاحة  لارتكاب  جرائم  السرقات  في  الأحياء  السكنية.  لذا  فإن  من  دواعي  إجراء  هذا  البحث  مناقشة  المعايير  التصميمية  التي  تساهم  في  خفض  فرص  الجريمة  في  الأحياء  السكنية،  وتقويم  مدى  تطبيق  هذه  المعايير  في  الأحياء  المعاصرة  بمدينة  الرياض،  خصوصا  وأن  ترسيخ  الأمن  الداخلي  والاستقرار  الاجتماعي  يعد  من  أهم  خطط  التنمية  في  المملكة  العربية  السعودية.

الجوانب  العمرانية :

  إن  توجه  السكان  نحو  الإحساس  بالأمن  والمشاركة  في  إيجاده  والثقة  في  توفره  مرتبط  بالتصميم  والتخطيط  الفراغي  والمكاني  للحي  السكني،  فقد  وجد  الباحثون  بعد  دراسات  مستفيضة  أن  استخدام  التصميم  والتخطيط  العمراني  هو  أكثر  الأساليب  فعالية  للتحكم  في  مستوى  الجريمة  في  المناطق  السكنية،  فعلى  سبيل  المثال،  وجد  أن  العمائر  السكنية  ذات  المداخل  المحصورة  ضمن  فراغ  مشترك  يقلل  تعرض  شققها  لجرائم  السرقة  مقارنة  بالعمائر  ذات  المداخل  غير  المقيدة  أو  المفتحة  بغض  النظر  عن  المتغيرات  الأخرى  كنوع  الجنس  العرقي  للسكان،  أو  مستوى  الدخل،  أو  الموقع.

   إن  فهم  علاقة  تصميم  وإدارة  البيئة  العمرانية  بالسلوك  الإنساني  مطلب  مقدّم  للتمكن  من  رفع  مستوى  نجاح  محاولات  منع  وقوع  الجريمة،  ذلك  لأن  نجاح  هذه  العلاقة  يمنح  السكان  إمكانية  التحكم  والقوة  اللازمة  لحماية  حياتهم  وبيئتهم،  وتعتبر  معالجة  الجوانب  البيئية  المؤدية  إلى  وقوع  الجريمة،  أو  المشجعة  عليها،  أو  المهيئة  لها،  أو  الموفرة  للمناخ  المناسب  للجريمة،  أحد  الجوانب  التي  يجب  أن  تؤخذ  في  الاعتبار،  لقد  وجد  أن  تكاليف  التصميم  المعماري  والعمراني  للحد  من  الجريمة  أقل  من  تكاليف  زيادة  قوات  الأمن،  وأقل  كذلك  من  تكاليف  الصرف  على  توفير  الحماية  الفردية  (الخاصة)  للوحدات  السكنية،  والتي  تجعلها  تظهر  في  النهاية  وكأنها  حصون  أو  قلاع  وليست  مساكن.

الحلول  والمعالجات  الفردية :

  أظهرت  دراسة  عن  الإنسان  والعمران  في  مدينة  الرياض  بأن  السرقات  تعد  واحدة  من  أكبر  مشاكل  الأحياء  السكنية  بالنسبة  للسكان،  لذا  نجد  أن  من  الحلول  الفردية  التي  يلجأ  إليها  السكان  للرفع  من  مستوى  الوقاية  من  الجريمة،  في  البيئة  السكنية  المعاصرة،  وضع  حديد  الحماية  على  النوافذ  في  الدور  الأرضي  والأدوار  الأخرى  التي  تعلوه،  وكذلك  حول  وحدات  التكييف  النافذية  (window  type  units)،  وعلى  مراوح  التهوية  (الشفط)،  بالإضافة  إلى  المبالغة  في  رفع  الأسوار  الخارجية،  وإن  كانت  هذه  الحلول  قد  تجعل  عملية  اقتحام  الوحدة  السكنية  تبدو  أكثر  صعوبة  وأقل  جاذبية  للصوص،  إلا  أن  بعض  هذه  الحلول  الفردية  في  الحقيقة  قد  تجعل  الأمر  أسوأ،  فالاعتماد  على  تقنية  "تقوية  الأهداف"  مثل  استخدام  حديد  الحماية  على  النوافذ  والأبواب  قد  يجعل  المسكن  يظهر  "كقلعة"،  وبالتالي  قد  تدفع  اللصوص  إلى  الهجوم  بشكل    أذكى  وأكثر  عنفا،  كما  أنها  تساهم  في  نفس  الوقت  في  زيادة  العزل  الاجتماعي    بين  السكان،  علما  بأن  توفر  العلاقات  الاجتماعية  بين  السكان  عامل  مهم  في  الرفع  من  مستوى  المراقبة  وبالتالي  الأمان  في  الحي.  فقد  وجد  أنه  كلما  زاد  الترابط  الاجتماعي  بين  سكان  الحي  كلما  انخفض  مستوى  الجريمة  به،  كما  أظهرت  الأبحاث  أن  اللصوص  يعولون  على  موقع  الوحدة  السكنية  والعناصر  المحيطة  والتوزيع  العام  للحي  السكني  بشكل  أكبر  من  المعالجات  الفردية  التي  تستخدم  من  قبل  السكان  لتوفير  الأمن  لوحداتهم  السكنية.

الفضاء  الوقائي :

   هناك  أنواع  محددة  من  الفراغات  والتشكيلات  المكانية  في  الأحياء  السكنية(مثل  المناطق  المتوارية  والمظلمة)  تشجع  على  حدوث  الأنشطة  الإجرامية،  ويستطيع  المعماري  المطلع  على  أسلوب  المجرمين  في  الإقدام  على  الجريمة  أن  يتحاشى  ببساطة  في  تصميمه  تلك  الفراغات  التي  تدعم  الأنشطة  الإجرامية،  فالمجرم  في  بحث  مستمر  عن  بيئة  غير  حصينة،  ويتم  منع  الجريمة  بتكوين  بيئة  حصينة  وغير  مشجعة  على  ارتكاب  الجريمة،  لذا  فإن  استعمال  التصميم  المعماري  والعمراني  بكفاءة  مهم  لإلغاء  المناطق  السكنية  المعيبة  أو  غير  الحصينة،  فالفضاء  الوقائي-  على  سبيل  المثال  –  يعد  أنموذجاً  جيداً  للحلول  التي  تمنع  الجريمة  في  البيئة  السكنية،  وذلك  عن  طريق  إيجاد  بناء  اجتماعي  يتمكن  من  حماية  نفسه،  بحيث  يكون  هناك  هدف  واحد  لمختلف  العناصر  التي  تكون  هذا  الفضاء،  ألا  وهو  إيجاد  بيئة  فيها  روح  الجماعة  والشعور  العام  بالمسئولية،  لتحقيق  حياة  آمنة،  لأنه  عندما  يتولى  السكان  حماية  أنفسهم  كأفراد  وليس  كمجموعة  فإنهم  يخسرون  معركتهم  ضد  الجريمة.
المعايير  التصميمية :
   نستطيع    استخلاص  المجموعة  التالية  من  المعايير  التصميمية  التي  يؤدي  تطبيقها،  في  مرحلة  تصميم  وتخطيط  الأحياء  السكانية،  إلى  الحد  من  الجريمة  والرفع  من  مستوى  الأمن  بها،  ونشر  الإحساس  بالأمن  لدى  السكان:

- وضوح  المداخل  إلى  الحي  كبوابات  تحدد  للحي  نطاق  الحيازة  الخاص  به،  وتمنحه  هويته  المميزة  بطريقة  تمكن  السكان  من  مراقبة  هذه  المداخل  والتحكم  فيها.
- إلغاء  الطرق  العابرة  داخل  الأحياء  السكنية،  واستخدام  نظام  الشوارع  السد  (Cul-de-sacs)  أو  الساحات  (Courtards)    أو  الشوارع  الحلقية  (Loops)  للحد  من  دخول  العابرين  بسيارتهم  أو  على  الأقدام  إلى  الشوارع  السكنية  المحلية.

- تصميم  شبكة  طرق  تخفض  من  سرعة  السيارات  وتحد  من  سيطرتها.

- زيادة  فرصة  السكان  والمارة  في  المراقبة،  بحيث  يتمكن  السكان  من  داخل  وحداتهم  السكنية  من  مراقبة  الشارع  والوحدات  السكانية  المجاورة،  وأن  يتمكن  المارة  كذلك  من  مراقبة  الأنشطة  المشبوهة  حول  الوحدات  السكنية  أو  بداخلها.

- تنمية  مفهوم  الحي  من  خلال  التأكيد  على  إبراز  هويته  المميزة  وتحديد  نطاق  الحيازة  للفراغات  المشتركة  به،  وتطبيق  نظام  التدرج  الهرمي  للشوارع  والفراغات،  مما  سيؤدي  إلى  تمكين  السكان  من  القيام  ببعض  الأنشطة  المشتركة  خارج  الوحدات  السكنية  وبالتالي  تقوية  العلاقات  الاجتماعية  بينهم،  وتمييز  الغرباء  بسهولة  ووضوح.

- توظيف  مفهوم  تنسيق  الحي  من  خلال  تصوير  العناصر  الحيوية،  مثل  الأرصفة  والتشجير  والإضاءة  والجلسات  المظللة  والمحمية  ومباني  المرافق  والمحلات  التجارية،  وكذلك  توفير    الفراغات  المشتركة  شبه  الخاصة  كمناطق  تجمع  ضمن  الحي  السكني،  لتشجيع  السكان  على  البقاء  خارج  الوحدات  السكنية  والتنقل  على  الأقدام  داخل  الحي  السكني.

- إلغاء  المناطق  التي  تمكن  المجرم  من  الاختباء،  مثل  بقاء  القطع  السكنية  بيضاء  (غير  مطورة)  ومنتشرة  داخل  الحي  وبين  الوحدات  السكنية..
التوصيات :
   تحقق  ضمن  النهضة  التنموية  التي  شهدتها  المملكة  العربية  السعودية  الكثير  من  أهداف  التنمية  الإسكانية،  وقد  ظهرت  نتائج  هذه  التنمية  بشكل  ملموس  في  اتساع  المناطق  السكنية،  وتوفير  الأعداد  المناسبة  من  الوحدات  السكنية،  وتمكين  المواطنين  من  تملكها،  خاصة  في  المدن  الرئيسية،  وكذلك  في  تحسن  مستوى  جودة  المساكن  من  الناحية  الإنشائية،  واتساع  مساحتها،  وكبر  أحجامها  خصوصاً  عند  مقارنتها  مع  نماذج  المساكن  التقليدية،  إلا  أنه  وضمن  تسارع  عمليات  التنمية  العمرانية  تم  إغفال  بعض  الجوانب  الهامة  في  تخطيط  وتصميم  الأحياء  السكنية،  ويمكن  أن  نخلص  من  هذه  الدراسة  بالنتائج  والتوصيات  التالية:

1. افتقار 
غالبية  الأحياء  السكنية  المعاصرة  في  مدينة  الرياض  إلى  تطبيق  جملة  من  المعايير  التصميمية  والتخطيطية،  والتي  أبرزت  الدراسة  مدى  أهمية  تطبيقها  للحد  من  فرص  الجريمة  ولرفع  مستوى  الأمن  بالأحياء  السكنية.

2. العمل  على  تطبيق  المعايير  التصميمية  الخاصة  بالحد  من  الجريمة  في  مرحلة  تصميم  وتخطيط  الأحياء  السكنية  الجديدة،  لأن  تطبيقها  من  البداية  أسهل  وأكثر  فعالية  وأقل  تكلفة.

3. على  الرغم  من  أنه  قد  تم  إغفال  تطبيق  الكثير  من  المعايير  التصميمية  والتخطيطية  الخاصة  بالحد  من  الجريمة  في  الأحياء  السكنية  المعاصرة  بمدينة  الرياض،  إلا  أنه  لا  يزال  بالإمكان  تطبيق  الكثير  منها  على  الأحياء  السكنية  القائمة،  وإجراء  العديد  من  المعالجات  التي  ستسهم  في  الحد  من  الجريمة،  والرفع  من  مستوى  الأمن،  وتمكين  السكان  من  المشاركة  في  المحافظة  عليه،  وبالتالي  تخفيف  العبء  على  أجهزة  الأمن  وخفض  التكاليف  اللازمة  لها،  وفي  التجربة  البسيطة  التي  قامت  بها  وزارة  الشئون  البلدية  والقروية  في  حي  النزهة  بالرياض  مثال  جيد  على  مدى  إمكانية  عمل  المعالجات  وتطبيق  المعايير  على  الأحياء  السكنية  القائمة.

4. دعوة  جميع  الجهات  المعنية  بقضية  الأمن  في  الأحياء  السكنية  إلى  الاستمرار  في  وضع  برامج  تطوير  مماثلة  لتجربة  حي  النزهة  ولكن  بشمول  وعمق  أكبر،  فلقد  حان  الوقت  للعودة  إلى  تطبيق  الكثير  من  المبادئ  والمعايير  العمرانية  والمعمارية  الأولى،  من  خلال  فحص  المستوطنات  التقليدية  كما  أنشئت،  والوعي  بكل  الحلول  التي  تم  التوصل  إليها  عبر  الأيام  ونسيت  بعد  ذلك  ضمن  جهود  توفير  الاحتياجات  الإسكانية،  كما  يمكن  إيجاد  العديد  من  الأمثلة  الجيدة  لمناطق  سكنية  معاصرة  خالية  من  الجريمة،  والتي  يمكن  اقتباس  بعض  الحلول  والمعالجات  الجيدة  المطبقة  عليها.

5. يتضح  من  خلال  هذا  البحث  الحاجة  الملحة  إلى  إجراء  المزيد  من  الأبحاث  التطبيقية،  التي  تسعى  إلى  التعرف  على  التوزيع  الجغرافي  للجريمة  في  الأحياء  السكنية  وعلاقته  بأنماط  تصميمها،  وإلى  تقديم  الحلول  والمعالجات  المعمارية  والعمرانية  لمشكلة  الأمن  في  أحيائنا  السكنية  القائمة،  مع  ملاحظة  أن  تراعي  هذه  الدراسات  الوضع  التخطيطي  والتنظيمي  لتلك  الأحياء  وكذلك  الاحتياجات  والرغبات  الثقافية  والاجتماعية  للسكان،  كما  يجب  علينا  ملاحظة  أن  تأثير  التصميم  للحد  من  الجريمة  في  الأحياء  السكنية  ليس  إلا  واحداً  من  مجموعة  من  المتغيرات  الأخرى  التي  تؤثر  على  مستوي  الأمن  والتي  منها  على  سبيل  المثال  أسلوب  إدارة  الحي  وحجم  مساهمة  السكان  فيه.
 
______________

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق