الصفحات

الخميس، 1 مايو 2014

أسس التصميم الحضري في الإسكان وتخطيط الأحياء السكنية بمدينة ينبع الصناعية ...


أسس التصميم الحضري في الإسكان وتخطيط الأحياء السكنية

 بمدينة ينبع الصناعية

 م.عبدالحفيظ عوض حفظ الله - كلية تصاميم البيئة - جامعة الملك عبدالعزيز  - ص.ب 9027 جدة 21413 - بحث مقدم لندوة الإبداع والتميز في النهضة العمرانية بالمملكة خلال مائة عام ، 1419هـ .:

 ملخص البحث:

   تهدف الورقة إلى استكشاف أسس التصميم الحضري والجوانب النظرية المطبقة في الإسكان ومخططات الأحياء السكنية في مدينة ينبع الصناعية وتقييمها من خلال مقارنتها بالنماذج السائدة ثم إبراز جوانب التميز والإبداع فيها والعوامل التي ساعدت في تحقيق ذلك التميز والإبداع ثم البحث في إمكانية تطبيقها في المخططات السكنية في المناطق الحضرية .

    على ضوء ما سبق فإن الورقة تتكون من أربعة أجزاء ، الجزء الأول مقدمة والجزء الثاني تحديد ومناقشة خمسة جوانب من أهم اهتمامات التصميم الحضري تتضمن محاولة لاستكشاف أسس التصميم الحضري المطبقة في تصميم الأحياء السكنية والإسكان وأنظمة تجميع الإسكان من خلال تلك الجوانب الخمس وهي النمط الفراغي العمراني ، المفردات الحسية العمرانية والقيم الجمالية ، الشخصية المعمارية للإسكان وتميز كتلها ، المعالجة البيئية وتنسيق الحدائق والفراغات ، وقوة الانطباع التصوري البصري بالتركيز على مقارنة الأنماط الانحنائية المطبقة في مدينة ينبع بالنمط الشبكي التقليدي . الجزء الثالث ويناقش تصميم الحي السكني بمدينة ينبع كنموذج للتصميم الحضري بتسليط الضوء علي عاملين أساسيين ساعدا علي تميز المدينة وهما  تبني لائحة خاصة بالممارسة المهنية و تطبيق تلك اللائحة ثم معرفة إمكانية تطبيق تلك الأسس في المناطق الحضرية بالمملكة العربية السعودية . والجزء الرابع يتضمن خلاصة البحث .

1- مقدمة :

   تعتبر مدينتي ينبع والجبيل من الحالات النادرة والمحدودة عالميا كمدن أنشئت بتخطيط مسبق على أرض فضاء ، أتبعت فيها نظم وأساليب التصميم الحضري الحديثة بمنهجية علمية استنادا إلى الأسس المهنية والنظريات الحديثة التي يتطلع إلى تطبيقها الباحثون والأكاديميون واقعا معاشا ومشاهدا للعيان ، وبناءا على ذلك يمكن بسهولة الحكم قياسا إلى تلك النظريات والأساليب التعرف على مدى فاعليتها ونجاحها في إيجاد بيئة عمرانية مميزة ومقدرتها في وضع الحلول التصميمية الإبداعية .
   إن تصميم أي منطقة سكنية أو خلافها ينبغي أن يوضع على تصور مسبق تتكامل فيه كافة عناصره ومكوناته بطريقة يتم معها التعرف على كيف يمكن أن تبدو المنطقة بتفاصيلها بعد تنفيذ المخطط ومعرفة الأثر البيئي والجمالي والحسي والنفسي الذي يمكن أن يحدثه ذلك التصميم على سكانه وزائريه ، وهذا من أهم اهتمامات التصميم الحضري . ويقع التصميم الحضري في منطقة وسطى بين مجموعة اختصاصات مهنية أهمها العمارة وعمارة البيئة والتخطيط الحضري بحيث يصعب معها فصل الجوانب الدقيقة لكل من هذه التخصصات على حده داخل ذلك المجال . وينبثق من هذا الاتحاد مجموعة من القواعد والنظريات التي تنسب تحديدا إلى التصميم الحضري أكثر من أن تنسب إلى أي تخصص آخر . والجوانب التي يختص بها التصميم الحضري عديدة اتجه الباحثون إلى تصنيفها بطرق شتى وقد تناول بعضهم على معظمها وركز بعضهم على جوانب بعينها . قد يطلق باحث ما مصطلحا محددا على جانب من تلك الجوانب يطلق عليها باحث آخر مسمى مختلفا إلا أن المفاهيم غالبا ما تكون متقاربة . ولهذا التخصص أهداف تصميمية أهمها السعي لتوفير بيئة عمرانية مميزة وجذابة تستجيب لكافة المتطلبات الإنسانية المكانية الوظيفية والنفسية والمؤثرات البيئية وتتنوع فيها القيم الجمالية وتتناسق فيها عناصر البيئة المبنية من منشئات ومحاور مرورية وأفنية وفراغات . وانطلاقا من ذلك فانه سيتم التركيز في هذه الورقة على خمسة جوانب تعتبر هي من أهم اهتمامات التصميم الحضري هي :

(1) النمط الفراغي العمراني .
(2) المفردات الحسية العمرانية والقيم الجمالية .
(3) الشخصية المعمارية للإسكان وتميز كتلها .
(4) المعالجة البيئية وتنسيق الحدائق والفراغات .
(5) قوة الانطباع التصوري البصري ، وذلك بالنسبة للمنطقة السكنية والإسكان و تخطيط الأحياء السكنية لمدينة ينبع الصناعية .

2- النمط الفراغي العمراني :

2-1  الأنماط الانحنائية مقارنة بالنمط الشبكي :

   يتجه تخطيط مدينة ينبع أن يكون أقرب إلى نمط التخطيط الشبكي القطري بالنسبة للمحاور المرورية الرئيسية للمنطقة السكنية مع منحنيات كبيرة تتناسب مع الوظيفة المرورية لتلك المحاور والسرعة التصميمية لها وتساعد على كسرالرتابة البصرية مما يقوي الانطباع البصري للمدينة ويؤدي إلى تنوع المناظر على طول المحاور . أما بالنسبة للمحاور الثانوية فإن الانحناءات تزداد فيها كاستجابة تصميمية طبيعية لتدني السرعة فيها عن سابقتها .
   أما الشوارع من المرتبة الثالثة فيغلب عليها النمط القوسي (Loop system) إذ أن من مميزات هذا النوع محدودية المداخل والمخارج انسجاما مع محدودية المستخدمين لها . أما بالنسبة للطرق من المرتبة الرابعة وهي الشوارع المؤدية إلى مداخل الوحدات السكنية مباشرة فإنه يغلب عليها نوع النهايات المغلقة أو الأزقة الغير نافذة (Cel-de-sac) وهذا النوع كما هو معروف يساعد على الفصل المروري بين المشاه وحركة السيارات واحد الأساليب التخطيطية لتوفير عنصر الأمن والسلامة داخل المنطقة السكنية (أنظر الأشكال 1،2،3) . وقد طبق هذا النوع كل من كلارنس أستين وهنرى رايت كأحد أهم الحلول التخطيطية الحديثة الفعالة فيما يعرف بالسوبر بلوك وقد تم تطبيقه في رادبيرن بنيوجرســــــــي (DeChiara, &  Koppelman, 1982) .
    وتخدم الأزقة غير النافذة مجموعة صغيرة من الوحدات السكنية موفرة بذلك درجة عالية من الخصوصية لسكان تلك المجموعة ، وغالبا ما تجمع بين تلك الوحدات فناء في شكل ملاعب أطفال ومواقف سيارات تربط بين تلك الوحدات اجتماعيا .
   يبدو واضحا في لمسات الحلول التصميمية لمدينة ينبع ‎‎‎‎التأثر إلى حد ما بأفكار ابنيزا هاوارد التي صاغها فيما يعرف بالمدينة الحديقة (Garden City) التي ظهرت في بداية القرن العشرين وقد طبقها ريموند يونوين عند تصميمه لضاحية ايرسويك (Madani,1993) وجذبت فكرة المدينة الحديقة اهتمام المصممين العمرانيين ومخططي المدن لما فيها من حلول فائقة شكلت نقطة تحول في مجال التصميم الحضري . مما تعتمد عليه الفكرة هي اتجاه الطرق الرئيسية للاستقامة وكلما تدرج الشارع إلى أسفل إتجه إلى الانحناء كما تعتمد على تطبيق نظام الأزقة غير النافذة (Cul-de-Sac) التي تعمل على تغيير علاقة الشارع بالوحدة السكنية حيث تتكون أفنية خاصة لمجموعة من الوحدات تتوفر فيها الإحساس بالاحتواء والآلفة (Madani,1993) . ويساعد النمط الانحنائي على تنوع المناظر على الطريق وتغيرها (أنظر شكل 2). ويساعد نظام الأزقة غير النافذة على تقليل طول ناصية الوحدات على الطريق وبالتالي تقليل أطوال الطرق على المخطط العام . ومن الخواص الأخرى لفكرة المدينة الحديقة هي تخفيض كثافة المنطقة السكنية بتحديد كثافة مثلى هي أثنى عشر وحدة سكنية في الهكتار، ويؤدي ذلك إلى مضاعفة مساحة الفراغات الخارجية لاستخدامها كمتنفسات وحدائق . ومعظم هذه الخصائص التي تعتبر عالية في قيمتها التصميمية تتوفر إلى قدر ملحوظ في تصميم المنطقة السكنية في مدينة ينبع الصناعية في النمط الانحنائي (أنظر شكل 2) .
    يغلب على المخططات الجديدة في مدننا النمط الشبكي في تخطيط وتصميم الإمتدادات والأحياء السكنية ومخططات تقسيم الأراضي ، والطابع الشبكي كما هو معروف من أبسط وأسهل أنواع التخطيط التي لا تتطلب من المصمم الحضري مجهوداً كبيراً . من ميزات النمط الشبكي التخطيطية أنه يدعم ويبرز الجانب العقلاني في تخطيط خدمات البنية التحتية والحركة المروريه ، كما يسهل إنزال المخطط على الطبيعة بعد تصميمه (Rybczynski, et.al.,1981) ، ومن ميزاته كذلك سهولة التعامل حسابياً مع المساحات و إمكانية التحكم فيها عند التصميم والإنزال على الطبيعة بحيث يقلل من الفاقد الفراغي.

شكل رقم (3) نمط تصميم الأحياء السكنية بمدينة ينبع الصناعية
المصدر : (RCJY, 1987)

   ظهرت المخططات الشبكية بصورة ملحوظة في المملكة في فترة الطفرة حيث شهدت معظم المدن إتساعاً ملحوظاً نتيجة الاستثمارات العقارية الضخمة وإستجابة للطلب العالي على الإسكان في تلك الفترة . ونتيجة لتسارع المستثمرين في الاستجابة لذلك الطلب فقد برز التخطيط الشبكي كتخطيط يستجيب لتلك المؤثرات خاصة أنها تؤدي إلى تقليل تكاليف الاستثمار وهي بذلك يغلب عليها الجانب الاقتصادي ويضعف فيها الاهتمام بالنواحي الجمالية وإمكانية تحقيق القيم البصرية العالية .
   ومن الجوانب السلبية في التخطيط الشبكي الصلابة الهندسية التي تؤدي إلى محدودية المناظر والقيم البصرية النوعية ورتابتها خاصة عند التجول مشياً أو ركوباً على المسارات المرورية المختلفة كما تضعف معها الشخصية العمرانية وقوة الصورة الذهنية والانطباعية البصرية . ومما يزيد النمط الشبكي صلابة  أنظمة ولوائح التحكم في النمط العمراني التي يكون هدفها مركزاً على تحقيق عدالة الفرص في التطوير العمراني من خلال المساواة في الارتدادات والارتفاعات ونسب البناء و مساحات قطع الأراضي. في ظل تلك المؤثرات إضافة إلى رغبة الملاك في الاستفادة القصوى من مسطحات البناء المسموح بها تنشأ كتل مباني متشابهة عادة ما تتسم بالتكرار ومن ثم تدعو إلى الرتابة.  

شكل رقم (4) نمط تصميم حي الصبح بمدينة ينبع الصناعية

  المتمعن في تصميم الأحياء السكنية لمدينة ينبع يلاحظ اختفاء معظم الظواهر السلبية للنمط الشبكي ، ففي تصميم الحي السكني تتسم معظم الفراغات بالحركة خلافاً للفراغات الساكنة التي تغلب على النمط الشبكي . وهذه الخاصية تتلاءم مع وظيفة الأحياء السكنية ويلاحظ أن المدينة تتكون من جزئين إحداهما سكني والآخر صناعي . نمط الأول انحنائي والثاني شبكي . واختيار هذه الأنماط يتفق تماماً مع وظائفها حيث أن التوفيق في إختيار النمط التخطيطي يعتبر عاملاً حاسماً في نجاح التصميم الكلي .

2-2 أنواع الإسكان وطرق تجميعها:

  يغلب على أنواع الإسكان في مدينة ينبع الوحدات السكنية المستقلة المنفصلة والمتصلة ويقل فيها العمائر السكنية التي تأوي أسر متعددة . ونوع الوحدات المستقلة المنفصلة في المدن تعرف عادة بالفلل . ومفهوم لدى الكثير كبر مساحات الفلل غير أن هذه الفلل في مدينة ينبع صغيرة المساحة وتصل أحيانا إلى اقل من 250 متراً وفي نفس الوقت تتوفر فيها معظم خصائص الفلل بمفهومها لدى عامة الناس ، وهي بذلك تمثل نموذجاً مميزاً للإسكان . كما ظهر نوع آخر من المساكن غير متعارف عليها في بقية الكبري المدن بالمملكة، ويطلق عليها إصطلاحاً منازل وهي عادة من طابق واحد تكفي أسرة واحدة (Town houses) . إضافة إلى ذلك تتنوع أنماط الإسكان مع الاحتفاظ بكثير بالثوابت الواردة في لوائح وأنظمة البناء للمدينة (أنظر شكل 5) .
  ويظهر في ينبع تبني نظام تجميع الإسكان أو ما يعرف بالبلوكات بطريقة مختلفة بحيث تحررت من صلابة الشكل المستطيل إلى ملائمة الشكل الانحنائي ، ويظهر كذلك نظام التجميع ذو الفناء(Clusters) والذي تتصف به نظام النهايات المغلقة أو الأزقة الغير نافذة (Cul-de-sac) وهو لعدد محدود من الوحدات السكنية ، ويتوفر من هذه الأنظمة أنواعاً عديدة تتحد في أسسها التصميمية وتمثل نماذجاً جديرة بالوقوف عليها من قبل الباحثين لمعرفة الإحساس بتلك الفراغات.

3- المفردات الحسية العمرانية والقيم الجمالية :

        من الناحية النظرية فإن الفيلسوف العربي الإسلامي الحسن بن الهيثم الذي عاش في القرن العاشر الميلادي قد أشار إلى كثير من خواص التصميم الحضري ذات العلاقة بالتعبير عن القيم الحسية والجمالية المختلفة وعناصرها كأثر الإضاءة، اللون ، الكتلة ، الشكل ، المكان وكذلك الخصائص الأخرى كالتميز ، الحركية ، السكون ، الاستمراريه ، الملمس ، والجمال وكثير من المفردات التي تناولها المصممون في يومنا هذا عند التعامل مع عناصر البيئة المبنية المختلفة (ElAraby,1996). وفي هذا القرن فإن المفردات البصرية قد تناولها كثير من الباحثون أمثال كالن Cullen . ولم يختلف تناول كالن لعناصر التصميم الحضري عن العناصر التي صاغها بن الهيثم كثيراً . وقد تحدث كالن تحديداً عن تعابير مثل الإثارة ، الوحدة ، التفصيل ، الاحتواء ، المقياس ، والمفاجأة وما إلى ذلك  (Cullen,1961). ولو دققنا في هذه القيم نجد أنها تدور في نفس سياق التعبير عن القيم الجمالية الحسية والبصرية السابقة . كل هذه المفردات وكثير مما لم يذكر تشكل أسساً هامة للتعامل مع الجانب الحسي الجمالي لفهم عناصر البيئة المبنية من منظور التصميم الحضري . وقد وضع كالن ، هذه المفردات بطريقة تسهل التعامل معها وفهمها وتطبيقها بصورة واقعية من قبل المصممين لتحقيق جاذبية المكان وتميزه .
   ومدينة ينبع بتلك الصفات تتميز بوجود ما يعرف بالإحساس بالمكـان (Sence of place) . و يعرف المكان في هذا السياق بالمنطقة المركزية التي نمارس فيها أحداث حياتنا اليومية ومعيشتنا.
   ويضيف آخرون أن الإحساس بالمكـان  مرتبط بقوة بتصاميم المباني العامة مثل المجسمات الجمالية التذكارية ، المساجد والحدائق من حيث جودتها البصرية والجمالية لارتباط هذه العناصر بقوة بمعيشة الإنسان اليومية ، وهي بالتالي ذات معاني وأثر حسي تذكاري (Teo & Huang, 1996) .
 بتلمس هذه المفردات في تصميم المنطقة السكنية في مدينة ينبع نجد أنها مطبقة بصورة غنية أثرت التكوين الكلي لللأحياء السكنية وأدت إلى جاذبيتها وتفردها (أنظر شكل رقم 6) . ويظهر التصميم الحضري توجيه معظم المحاور والممرات نحو المركز أو في إتجاه المسجد لاتخاذه معلماً باعتبار أن ذلك من أهم عناصر التصميم الحضري الإسلامي  (RCJY, 1987, AlSayyad, 1996) .

4- الشخصية المعمارية للإسكان وتميز كتلها :

   مما لا شك فيه أن التعاليم الإسلامية من مصادر التشريع في القرآن والسنة لها إنعكاسات ملموسة على الجوانب العمرانية وأساليب المعيشة والعادات والتقاليد في المجتمعات الإسلامية . وتحديداً فإن هذه العوامل تؤثر بصورة أو بأخرى على التوزيع المكاني الفراغي للأنشطة على مستوى المناطق السكنية ، والعلاقات الأفقية والرأسية عامة في تكوينها ، والقيم الجماليه ، والألوان والزخارف وما إلى ذلك (ElAraby,1996). وعلى مر العصور ومنذ عصر الإسلام الأول بدأت تتبلور فكرة العمارة الإسلامية انطلاقا من تلك المفاهيم حيث عرفت بتميزها عما سواها من الاتجاهات المعماريه ، ويبدو ذلك واضحاً إذا تمعنا في التوزيع المكاني للمدن وأحيائها السكنية. وبرزت مسميات خاصة في العمارة الإسلامية مثل السوق ، الحارة ، المدرسة ، الكتاب ، الوكالة ، الخان ، الزاوية ، النزل وما إلى ذلك .
   برزت الخصوصية كعامل هام ومؤثر وكمفهوم خاص نابع من المفاهيم الإسلامية في التكوين المعماري والتوزيع الفراغي أو المكاني، بل حتى في الطراز المعماري الخارجي للمباني والمنشئات . وفي الحي السكني لمدينة ينبع الصناعية يبدو التأثر بالخصوصية واضحاً في كافة مستويات التصميم  (أنظر شكل رقم 7و8). وعلى وجه الخصوص انعكست في التوزيع الفراغي للمباني والأفنية بتدرج هرمي قوي إبتداءأً من الفراغ الخاص داخل الوحدة السكنية ثم الفراغ الخاص بمجموعة من الوحدات السكنية (Cluster) ثم فراغات شبه عامة إلى فراغات عامة تتمثل في حديقة الحي ، وساحة مركز الحي .
   إن تصميم الأحياء السكنية في مدينة ينبع الصناعية استوحى كثيراً من الأفكار الحديثة كما ذكر من قبل وأضاف إليها بعداً جديداً هو جانب مراعاة الخصوصية والتقاليد الإسلامية وهذا جانب قد لا تراعيه كثيراً تلك الأفكار الحديثة وبالتالي يبدو التميز جلياً ومنعكساً في الشخصية المعمارية والتوزيع الفراغي . وتلخيصاً لذلك فإن تصميم الأحياء السكنية في المجتمعات الإسلامية في العصر الحديث لا ينبغي أن ينأى وينحرف عن التراث الحضاري الإسلامي الذي تبلور خلال العصور ، كما لا ينبغي أن ينعزل عن الإرث الإنساني من الحضارات الأخرى تتفاعل معها وتستفيد من التقنيات الحديثة والأساليب العلمية المتطورة يوماً بعد يوم . وفي مدينة ينبع انصهرت كل تلك المفاهيم لتخرج نموذجاً قوياً ومميزاً (أنظر شكل رقم 8).

5- المعالجات البيئية وتنسيق الحدائق والفراغات :

  كما ذكر سابقاً فإن انخفاض الكثافة التصميمية لمدينة ينبع ساعد على مضاعفة مساحة الفراغات الخارجية ، فظهرت الساحات والأفنية بتدرج هرمي قوي وظهرت المحاور المرورية القوية باتساعها وطريقة تشجيرها وإنارتها . و تتطلب هذه الفراغات معالجة بيئية وتصميم خاص . وبهذا تميز الحي السكني لمدينة ينبع الصناعية بكثافة التشجير وتنوعه وتوفيره بطريقة تتناسب مع وظائف تلك الأفنية والفراغات فمثلاً تم استخدام التشجير على الشوارع الرئيسية فزادتها قوة بصرية وفي ممرات المشاة لتوفيرالظلال وفي الأفنية والساحات لتوفير بيئة جميلة وجذابة (أنظر شكل رقم 9 ) وهي بذلك ساعدت على تلطيف الطقس ، واستخدمت كذلك في مناطق تشكل حزاماً أخضراً واقياً والفصل بين المنطقة السكنية والمنطقة الصناعية . إضافة إلى ذلك فهناك عناية واضحة بأساليب الرصف وأنماطها وطرق توفير أثاث الشوارع من مظلات ، إنارة ، مقاعد جلوس ولا فتات ونوافير ومجسمات وما إلى ذلك . كل هذه العناصرهي من أهم جوانب التخطيط الحضري وهي تظهر تناسقاً وانسجاماً جيداً فيما بينها وتناسقاً وتكاملاً مع العناصر الأخرى للتصميم الحضري .

6- قوة الانطباع التصوري البصري :

   تتكون المنطقة السكنية من مجموعة من الأحياء السكنية تبلغ حوالي الخمسة عشر ، متكاملة الخدمات يفصل بينها طرق رئيسية تشكل حدوداً لتلك الأحياء أيضاً . كما تتوفر داخل كل حى ممرات مشاه تربط بين المنطقة الوظيفية بمعالجة جمالية وتصميم يتوافق مع وظيفة الممر (أنظر شكل رقم 10 ). وتؤدي الممرات إلى مسجد الحي والمنطقة التجارية من خلال شبكة مترابطة للمشاة مظلله ومعالجة بالتشجير ومرصوفة ومصممة بعناية، وظيفياً وجمالياً من حيث إختيار نوعيات التشجير والرصف والمظلات أو المعالجات المكملة الأخرى .
   إذا دققنا في هذا التكوين للأحياء السكنية من جانب قوة الانطباع التصوري البصري الحضري نجد أن كل حي من هذه الأحياء يتميز عما سواه من الأحياء كما يتميز الحي نفسه بقوة تصميمه وشخصيته الخاصة به . وتحقق ذلك من خلال تخصيص نوع معين من الوحدات السكنية لكل حى ، أو من خلال نظام تجميع تلك الوحدات إضافة إلى اختيار نوعيات محددة من المعالجات الخارجية لها والتصميم العام لكتلة الوحدة السكنية . هذا التصميم المتنوع للأحياء أدى إلى تقوية
 الانطباع التصوري البصري أو الكلي للمدينة ويميزه عما سواه . وأهم من ذلك أنه بالرغم من هذا التنوع التصميمي للأحياء السكنية فقد احتفظت كل المدينة بوحدة شخصيتها التي تميزها عن غيرها في المدن .

7- ينبع كنموذج للتصميم الحضري :

   سعت الهيئة الملكية للجبيل وينبع وهي الجهة الإدارية المناط بها الإشراف على تنفيذ هذه المدن إلى تبني أسلوباً منهجياً مهنياً واضحاً وقوياً . فمن الجانب النظري فإن معظم ما تم نقاشه من قبل في هذه الورقة من أسس ونظريات في التصميم الحضري تظهر بوضوح في المخطط السكني لمدينة ينبع الصناعية . كما تظهر كثير من تلك الأسس بطرق وأساليب متنوعة في شكل حلول تطبيقية فعاله تلتزم بالمنهج المهني التخصصي . ومن الجانب التنفيذي فإن نجاح التنسيق ما بين مختلف الجهات المتخصصة العديدة المشتركة في تنفيذ المدينة يؤكده النجاح الملحوظ في الناتج النهائي للتصميم الحضري للمدينة. واختصاراً فإن هناك عاملان مهمان لهما أثر ملحوظ في هذا النجاح هما وجود لائحة مفصلة خاصة بالممارسة المهنية لمدينة ينبع تنفرد بها وتطبقها من خلال مخطط إرشادي مدروس ومفصل . ويدعم هذان العاملان الجانب الإداري الفعال . إن تصميم المدينة السكنية الكلي بالرغم من أن معظم المفردات أستوحيت من نظريات مختلفة إلا أنها نسقت بجملتها في قالب ينسجم تماماً مع المفاهيم الإسلامية ذات العلاقة بالتخطيط مما يزيدها بعداً إبداعياً آخر تتميز به المدينة عما سواها .
   بعد إيضاح الخصائص التي أدت إلى تميز التصميم الحضري لمدينة ينبع يطرح سؤال نفسه وهو ما مدى إمكانية تطبيق نماذج الحلول المطبقة في مدينة ينبع في المخططات السكنية الجديدة لمدننا بدلاً عن الحلول العمرانية التقليدية السائدة الآن ، وقد ظهر بوضوح أن النمط الشبكي التقليدي مثلاً أقل كفاءة تصميمية مقارنة بالأنماط الانحنائية المطبقة في الحي السكني في مدينة ينبع . وللإجابة على ذلك السؤال ينبغي النظر إلى عاملين مؤثرين أساسيين هما نظم ولوائح البناء والممارسة المهنية .

7-1 نظم ولوائح البناء :

   إن السعي للإبداع في التصميم الحضري يتطلب مرونة كافية في نظم ولوائح البناء وتوجيهها توجيهاً يحقق ذلك الهدف وتحد بها من تأثير قوى أخرى معاكسة هي غلبة التأثير التجاري والسعي للاستجابة لقوى السوق . إن تطبيق نظم ولوائح البناء خاصة فيما يختص بالارتدادات ، والارتفاعات ، ونسب البناء ، وأساليب تقسيم قطع الأراضي وتجميعها بطريقة ميكانيكية لا تتفق مع الرغبة في تحقيق عنصر الإبداع وإيجاد بيئات سكنية ثرية وجذابة يتمتع فيها السكان بحياة مترفهة .
7-2 الممارسة المهنية :

   للممارسة المهنية دور هام في توفر الجانب الإبداعي في التصميم إذ يجب أن  ينظر إلى أي مخطط سكني من خلال أبعاده الثلاث وليس من خلال مخططات ثنائية الأبعاد . يجب أن تبنى المخططات السكنية على تصور متكامل وشامل يتضمن حلولاً لكافة عناصرالبيئة المبنية من مباني ، ومنشئات وشوارع وفراغات خارجية تصل إلى درجة التفاصيل الدقيقة ويتحقق فيها جانب الإبداع والحلول المهنية السليمة . ولا يتأتى ذلك إلا من خلال تولي الكوادر المهنية المؤهلة والمكاتب الإستشارية المتخصصة لعمليات التصميم .

8- الخلاصة :

   يظهر التصميم الحضري للحي السكني لمدينة ينبع الصناعية حلولاً مميزة برز من خلالها السعي لتطبيق كثير من الأسس النظرية والأفكار الإبداعية الحديثة في التصميم الحضري مع الاحتفاظ بالقيم الإسلامية ومراعاة العادات والتقاليد المحلية للسكان. بالنظر إلي الحلول الإبداعية المطبقة في مدينة ينبع من ناحية و الحلول التقليدية الأخرى المطبقة في كثير من المدن الأخرى في جانب آخر تبدو مدينة ينبع دليلا قويا و برهانا علي أن فرصة التوجه نحو الحلول الإبداعية مفتوحة.
   ويظهر من البحث أن لمدينة ينبع خلافا للمدن الأخرى نظم ولوائح بناء تفصيلية و دقيقة و مواصفات شاملة تغطي كافة التخصصات ذات الصلة بتطوير المدينة مما كانت عاملا قويا في تميز الحلول التصميمية للمدينة. إن تبني جملة هذه الأسس النظرية والأفكار الإبداعية ما هي إلا دلالة قوية على الأسلوب المنهجي العلمي السليم في الممارسة المهنية في مجال التصميم الحضري، كما أن مرونة لوائح البناء التي تم تطبيقها في تصميم المدينة لها أثر قوي في إظهار النموذج الذي تميزت به المنطقة السكنية لمدينة ينبع .
  و يتضح من البحث أن تلك اللوائح و النظم موجهة في الأساس لتخدم هدف الحصول علي حلول إبداعية و متميزة في حين أن نظم ولوائح البناء في كثير من المدن الأخرى موجهة لتخدم غرض تحقيق العدالة في توزيع الفرص و هي بذلك تقلل فرص الحصول علي حلول إبداعية. كما يتضح من البحث أنه لا يبدو مستحيلاً تطبيق نموذج مدينة ينبع السكنية في إمتدادات المدن ومخططات تقسيم الأراضي الجديدة بحيث تتحقق فيها جوانب الإبداع والتميز فيها من خلال توفير مرونة مناسبة في لوائح البناء وترقية الممارسة المهنية .


المراجع الأجنبية :
AlSayyad, Nezar, “The Study of Islamic Urbanism: A Historiographic Essay” in Built Environment, Vol. 22, No. 2, 1996, pp. 91-97.
Cullen, G., Townscape, Architectural Press, London, 1961.
DeChiara, J. and Koppelman, L., Urban Planning and Design Criteria, Van Nostrand Reinhold Company, New York, 1982.
ElAraby, Kadri M. G., “Neo-Islamic Architecture and Urban Design in Middle the East: From Threshold to Adaptive Design” in Built Environment, Vol. 22, No. 2, 1996, pp. 138-148.
Madani, A. P., “Urban Design in the British New Towns”, in Open House International, Vol. 18, No. 1&2, 1993, pp. 32-47.
RCJY, Madinat Yanbu Al-Sinaiyah: Master Plan, Land Use, Vol.2, RCJY: Royal Commission for Jubail and Yanbu, 1987.
RCJY, Yanbu Industrial City 1993: Facts and Figures, RCJY: Royal Commission for Jubail and Yanbu, 1993.
RCJY, Yanbu Industrial City: Land Sub-Division, RCJY: Royal Commission for Jubail and Yanbu, 1986.
Rybczynski, W. et.al., “Sites, Services and Supports” in Open House International, Vol. 6, No. 2, 1981, pp. 19-30.
Teo, P. and Huang, S., “A Sense of Place in Public Housing” in Habitat International, Vol. 20, No. 2, 1996, pp.307-325. 



 
pr@mpwh.gov.sa : البريد الإلكتروني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق