الصفحات

السبت، 19 يوليو 2014

كتاب جغرافية التسويق بين الأدب والمحتوى والتخطيط ...

كتاب جغرافية التسويق بين الأدب  والمحتوى  والتخطيط
 إعداد :  الأستاذ الدكتور : أ.د. فايز حسن حسن غراب

2008 / 2009 م

المقدمة :

    مما لاشك فيه أن الإنسان يولد ومعه سلة من الاحتياجات الضرورية التي لا تتوفر في الوسط المكاني المحيط به ، وفى الاتجاه المعاكس تتوزع الموارد بصورة غير منتظمة ، وهنا يتحتم تواجد الأسواق لتوفيق الأوضاع بين الاثنين ، ونزيد على ذلك أن الأسواق تعكس التفصيلات الدقيقة للصورة التي يعيشها المجتمع من المحاور الاقتصادية والاجتماعية ، بل والسياسية ، فالمجتمعات المغلقة ذات الاكتفاء الذاتي لا يىشكل السوق فيها دورا كبيرا ، بل يتقزم دور السوق ، ومن الأدلة التاريخية فإن ظاهرة التبادل والتسويق قد مارسها الإنسان العاقل فى العصر الحجري القديم ، وذلك وفق منظومة اقتصادية واضحة المعالم .

    فالإنسان تموضع في مواضع ثابتة وشبه ثابتة ، وأسس لأول مرة مساكن على شكل مغارات وكهوف ، هذا فى الغرب الأوربي ، وكانت هذه الكهوف مناطق للعبادة والتخزين ، ولقد ظلت الأسواق فى الكثير من عمرها في أحضان مراكز العبادة في عصر ما قبل الإسلام ، بل تعزز الرابطة بين الأسواق وبين دور العبادة في ظل الإسلام ، وقد تعددت ألوان المساكن من الكهوف سالفة العرض إلى الخيام المصنوعة من الجلود أو الملاجئ الأرضية ، أو الأكواخ طينية المستديرة على طول المجارى النهرية التي سهلت الحركة التجارية بين المراكز العمرانية .
   ومع التطور الاجتماعي والاقتصادي برزت مرحلة حياتية أخرى تمثلت أساسا في تقسيم العمل ، فقد تفرغ النسوة والأطفال للصناعة كتهيئة الجلود لصنع الملابس ، وتهيئة الطعام ، وإيقاد النار، و كان نتاجا لحالة الاكتفاء ، ورغم ذلك  فقد ظهرت إشارات على وجود تبادل تجارى واضح في كثير من الأحيان ، فقد عثر على بعض قطع الصوان في منطقة جاجارينو  Gagarino على نهر الدون فى جنوب روسيا على مسافة 70 ميلا من مصدرها الأصلي في الوادي الأدنى للنهر ، وحدد هذا المدى الإطار الخارجي للمنطقة التسويقية الكبرى أنذاك .
     ويعد العصر الحجري الحديث فتح جديدا في جغرافية الأسواق فقد سجل الكثير من أوجه التحضر الذي استند أساسا على الزراعة ، وتربية الحيوان ، وصناعة الآلات الخاصة بالعمل الزراعي كالمحراث وآلات الحصاد ، والأهم في ذلك هو موسمية الزراعة التي استوجبت استحداث أساليب التخزين ، وهذه الأخيرة أكثر العناصر تأثيرا في التجارة ومواقع الأسواق ، وترتب على ذلك امتداد المدى المسافي جدا ، فأصداف البحر الأحمر وجدت لدى سكان الفيوم والمعادى ، ووجدت أصداف البحر المتوسط لدى فلاحى الدانوب والراين ، وكان ذلك برهانا على التخصص الاقتصادي ، فجماعات الصوان كانت تصنع الفئوس فى مناطق كثيرة من العالم ، وفى المقابل كانت تستورد الغذاء من القمح واللحم من مناطق أخرى .
    ولسنا هنا لتأريخ بديات التسويق ، ولكن الهدف المرجو تحديد المحطات الرئيسة في الحضرية التي حددت إلى حد كبير المواقع المثلى للأسواق والمراكز التجارية  .
   ولعل ما أورده لويس ممفورد في كتابه الكبير المدينة على مر العصور – The City in The history( 657 صفحة عدا المقدمة والفهارس ) (1)ما يؤكد الدور الحيوي للسوق ، والمحاور الرئيسة لبيئة السوق ، حيث جمع ثلاثة عناصر تمثل بحق الثوابت الرئيسة للتبادل التجاري : فالنهر – الطريق- السوق ، ثم يؤكد الدور الريادي للسوق حينما يقول : إنه في منطقة السوق تجتمع المؤسسات الحكومية سواء في المناطق القديمة أو المستحدثات العمرانية ........ إن الوظائف الرئيسة للسوق التخزين – التوزيع ، وكان ذلك ضمن الممتلكات المكانية للمعبد ، فالمعبد كان بمثابة الولاية التجارية – Trading Estate  - والمركز التسويقي Shopping Center  لجميع المنتاجات .
   وقد لفت الأنظار إلى أن التطور الحضاري قد أثر على الأسواق كمواقع تجارية وذلك لحساب اقتصاديات السوق بعد دخول الوسطاء فى العمليات التجارية ، وذلك عندما ذكر في الفصل الرابع عشر ( تحت عنوان التطور التجاري ومشكلات المدن ) من موقع السوق إلى اقتصاد السوق ، وقد أعطى المؤلف الذي تحت أيدينا السوق الكثير من الاهتمام الجغرافي وذلك تحت :
·  الدور الكبير والمتنامي للسوق في النمو الحضري .
· الدور اللأ محدود للسوق في ضبط إىقاع الحياة في المدن ، فالسوق هو المحدد الرئيس للعمليات التجارية – المهيمن على الحياة الاجتماعية – القائم بالأمور الدينية – الدائب على حفظ الأمن .
· التطور الذي يصيب مواقع الأسواق وقد يفقدها أهميتها ، فظهور التجارة المتنقلة ، والتجارة من المصدر ، والوسطاء ، والتجارة عبر الإنترنت ، وانتشار العولمة التجارية ، تغير دوريات الأسواق ، التسويق الدولي ، فكلها ذات محاذير اقتصادية تترك بالضرورة تداعياتها على مواضع ومواقع الأسواق .
· التطور الذي يصيب جغرافية النقل ، والذي يعتبر المحدد بل المسئول الأول عن الكثير من التأثيرات والتداعيات التي تصيب جغرافية الأسواق ، فالطرق الدائرية -المحاور - طرق الإنفاق - النقل الجوى - وتركيز المراكز التجارية الكبرى بالقرب من الموانئ الجوية بل والبحرية قد ترك التأثير الأكبر على منظومة الأسواق ، ولا يقف الأمر عند هذا الحد ، فتتبع الأسواق فى مسيرتها ( بالتعاون مع جغرافية النقل ) قد حدد المراحل التي عايشتها ومازالت تعيشها المراكز الحضرية : فسوق المنطقة الوسطى ترك منصبه إلى المنطقة الانتقالية ، ثم إلى المنطقة الخارجية ، ثم إلى الضواحي والتوابع ، وأخيرا إلى منطقة التقاطع القصوى لشبكات الطرق ( على النحو الذي سيرد عند دراسة المراكز التجارية الكبرى - المولات )  ولكل من هذه الأسواق وجهة خاصة تلازمت مع التوجهات الحضرية .
· وتتأثر العملية التسويقية بعاملين على درجة عالية من التأثير، فمرونة التاجر ، وطول نفسه تحدد المدى أو الدائرة التي يمتد فيها أطول نفس للتاجر ، وبالتالي أقصى امتداد للمنطقة التجارية لدى التجاريين ، أو إقليم السوق لدى الجغرافيين ، وفى المقابل فالمستهلك يمتلك خيوط العملية التجارية من خلال تميزه بعدة ملكات ، فالعمر والنوع والمستوى الاقتصادي والاجتماعي كلها مؤثرات قاطعة في الخريطة التجارية .
    ولنأتي إلى المحور الأخير في تحليل شخصية الأسواق ، وهو التفاعلات المكانية للسوق ، أو العلاقات الإقليمية للسوق ، أو دائرة نفوذ السوق ، وأخيرا إقليم السوق ، ولنعود لنؤكد إن الدور الأكبر للسوق إنما يترجم من خلال توجهات الحركة التجارية التي تولد العلاقات المكانية - إقليم السوق .
    وتجدر الإشارة إلى أن العلاقة بين جغرافية الأسواق ، وبين جغرافية العمران لا ولن تنقطع أبدا ، قد يكون السبب في ذلك اليقين بمفصلية العلاقة ، ولنؤكد هذه العلاقة من الأدب الجغرافي الحضري ، إن أوروسو حينما وضع تصنيفا للمدن ، وذلك فى العام التالي لانتهاء العشرين عاما الأولى من القرن المنصرم فى ست فئات ، ورغم اختزال دور الأسواق في فئة واحدة ( الفئة الخامسة ) فقد أوجبت عليه التواجد في ثلاث فئات فرعية : في مدن الجمع ( Collection ) ، ومدن الانتقال أو التحويل ( Transfer ) ، أو مدن التوزيع ، وقد توسع شانسي هاريس في إدخال الدور الأكبر للأسواق والتجارة كأساس لتصنيف المدن ، فمن بين الفئات التسع لوظائف المدن استقلت التجارة بفئتين ( مدن تجارة التجزئة – مدن تجارة الجملة ) ، ودخلت التجارة بنوعيها ضمن الأسس التي استند عليها هارس في بقية الفئات ، فعلى سبيل المثال عندما حدد مدن الصناعة ( الرمز M ) اشترط نسبة العمالة الصناعية مع تجارة التجزئة والجملة 74% من إجمالي العمالة فى المدينة ) ، وتسرب دور التجارة إلى بقية فئات التصنيف ونظرا لوضعية السوق فإن يقدم شهادة على العصر ، ويمكن من هذا المنطلق أن نحدد ثلاث مراحل متميزة :
المرحلة الأولى : مرحلة التسويق الدوري وسادت على مدار العصور، ومازالت تمثل علامة بارزة فى الحياة الاقتصادية .
المرحلة الثانية : مرحلة التسويق المتخصص : حيث تحولت الخريطة الإنتاجية إلى مخروطية واضحة تعبر عن التخصص الإنتاجي ، وهذا واضح في تسويق الحبوب ( والإبل في سوق برقاش ) .
المرحلة الثالثة : مرحلة التسويق المتعدد – المتخصص – ذات الأطر الكبيرة ، ففي إطار مكاني واحد تتعدد المحال التجارية ذات التخصص السلعي في إطار مكاني كبير ، وهذا يتم في المراكز التجارية الكبرى (المولات ) .
   إن هذه التأملات التي سطرها المؤلف لتنم عن ما يحمله الكتاب المذكور بين دفتيه ( في عموميته ) من معالم واضحة فى جغرافية التسويق ، ولكن لابد من التأكيد على الدور الريادي لجغرافية التسويق فى التخطيط – التخطيط – التخطيط التجاري على مستويات متعددة ، يتكون الكتاب المذكور من عدة محاور :
المحور الأول : أدبيات جغرافية التسويق ، والمدارس التي فتحت أبوابها لمعالجة الأسواق من المناظير الجغرافية ، ورواد هذه المدارس خلال المائة عام التي سادت القرن المنصرم ، مثل المدرسة الأمريكية ، والمدرسة الإنجليزية ، والمدرسة الفرنسية ، والمدرسة النيوزيلندية والمدرسة العربية فلكل منها منهجا خاصا .
المحور الثاني : الجوانب التخطيطية في جغرافية التسويق ، استعرض الدراسات والتطبيقات التي سارت بالأسواق منحا جديدا تمثل في وضعها في إطار تنظيمي يحقق الأهداف التي وجدت من أجلها الأسواق ، وكانت نظرية كريستالر هي الأكثر حظا في الجانب التخطيطي .
المحور الثالث : تطور محتوى جغرافية التسويق والتطورات التي جرت خلال الربع الأخير من القرن الماضي : العولمة والتسويق والأسواق الدولية ، وتكامل الأسواق .
المحور الرابع : يركز التحليل على مرونة الحركة التجارية ونفس التاجر في التردد على الأسواق طول الرحلة التجارية فى إطار المقارنة مع البيئات الأخرى ، فهناك تاجر البيئة السهلية ، وتاجر البيئة الجبلية ، وتاجر البيئة الساحلية .
المحور الخامس : وتناول الجانب الأكثر ديناميكية في جغرافية الأسواق بل وكل الدراسات الجغرافية ، ألا وهو سلوكيات المستهلكين ، والمتغيرات الجغرافية التي حددت هذه السلوكيات ، من التراكيب السكانية ، والاقتصادية ، والمركب السلعي ، ووسائل الوصول إلى الأسواق والمراكز التجارية .
المحور السادس :  وهو الأكثر اهتماما من قبل المؤلف نظرا لأنه يمثل العمود الفقري للدراسات الجغرافية ، بل المحدد الرئيس لجغرافية التسويق ألا وهو أو الإقليم التجاري( المنطقة التجارية ) الذي يتحدد وفق الأطر الخارجية لنهايات التفاعل التجاري بين المراكز التجارية المتجاورة ، وقد ركزت الدراسة على الأساليب الكمية للتحديد النظري لها ( مع تطبيق ذلك على البحوث التي أجراها المؤلف وأوردها في الكتاب الذي تحت أيدينا ) ،  كما استعرضت الدراسة نماذج للأقاليم الفعلية .
المحور السابع  : ويمثل نهجا جديدا في التطبيقات الجغرافية ، حيث أجرى الباحث هذه الدراسات ( كدراسة حالة ) لرفع الواقع الجغرافي وإعطاء التوجهات التخطيطية التي استشعرها الباحث من خلال رحلته الطويلة في مجال دراسات الأسواق التي بدأت منذ عام 1989 م بدراسته للدكتوراه عن الأسواق الريفية بمحافظة المنوفية وتوالت حتى عام 2006 م ببحث المراكز التجارية الكبرى ( المولات ) مرورا بتجارة التجزئة في محافظة المنوفية ، والأسواق الجبلية ومرونة التاجر الجبلي ( اليمنى ) وسوق الإبل ( في قرية برقاش )..... وفى الصدد ذاته فقد حملت دفتا الكتاب الدراستين : الأبعاد الجغرافية لتسويق الإبل ، والمراكز التجارية الكبرى لأنهما يعكسا آليات التجديد التجاري في مصر ، كما اختتما برأي الباحث في تخطيط الظاهرتين .
    ولعل هذا الكتاب يعد الأول في المكتبة العربية الذي يحمل الاسم المشار إليه ، فالكاتب لم يقابل مؤلفا ( في حدود مطالعات الكاتب )  بهذا الاسم باللغة العربية ، ولكن موضوعاته بالتأكيد قد استندت إلى الأدب الجغرافي . 
    وتجدر الإشارة إلى أن البيئة التي نحظى بالعيش فيها وهى محافظة المنوفية في حاجة ماسة إلى التخطيط التجاري بها ، وخصوصا الأسواق الريفية التي تعيش في وضع عشوائي يهدر الكثير من العوائد والمردودات النقدية التي يمكن أن توظف في رفع مستويات أداء المؤسسات الخدمية بها ، ويقوم الكاتب حاليا بتحديث رسالة الدكتوراه الخاصة به لكي تتمشى مع المستجدات الاقتصادية التي كانت وما زالت تعيشها أسواق المحافظة .
   و يلتمس الكاتب العذر ( إذا سقطت سهوا بعض المراجع ) ، ويود التأكيد على أن الكثير من المصادر والمراجع التي استعان بها الكاتب مثبتة في هوامش الكتاب بصفة رئيسة ، وكذلك في نهايات البحوث التي قام بها الكاتب  واستعان بها في الكتاب ، ولا يعتبر عدم ورودها في الكتاب من قبل التعدي على حقوق الغير .
   وأخيرا فإذا صادف الكتاب قبولا لدى القارئ فهذا توفيق من الله ، وإذا صادف غير ذلك فمن عند الكاتب .

والله المستعان                                                           




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق