الصفحات

الأحد، 22 مايو 2016

معنى الوجود في المكان: نظرات في الجغرافيا والفينومينولوجيا ...


معنى الوجود في المكان

نظرات في الجغرافيا والفينومينولوجيا

أ.د. منصور البابور 


أستاذ الجغرافيا (متقاعد) بجامعة قاريونس في بنغازي، ليبيا

Sense of Being in Place: A Geographical and Phenomenological Perspective 

Mansour M Elbabour

Mansour Elbabour, Ph.D. Professor (emeritus) of Geography at Garyounis University, Benghazi, Libya

جامعة الإمارات العربية المتحدة، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، مجلد (20)، عدد (2)، أكتوبر 2004: الصفحات 172-147.

Abstract

Humanistic geography seeks to achieve an understanding of the role played by human awareness and human consciousness in shaping space and the acquisition, on the part of individuals and groups, of a sense of place.

 This is in sharp contrast to the 'scientistic' methods in studying man which tend to diminish the significance of human experience, sense, awareness, and knowledge. This paper has the general aim of identifying the philosophical orientations which have either explicitly or implicitly influenced the rise of the humanistic perspective in geography in the early 1970's as an extension of the behavioral approaches in geographical research.

  This has been done through an exposition and adoption of phenomenological concepts, and was coupled with a critique of positivistic approaches and the recognition by humanistic geographers of the shortcomings of spatial/theoretical geography.

  Subsequently, humanistic geographers have succeeded in the development of a concept of place that has a multitude of sensational meanings.

  It is argued that insufficient satisfaction with the methods of scientism on the one hand, and the propensity of phenomenological procedures for geographical research dealing with a concept of place which allows for a deeper penetration into the levels of individual and group consciousness, on the other, explain the mutual and increased interest in space and place matters seen now as the focus of the proponents of both phenomenology and humanistic geography. 

مستخلص 

  تسعى الجغرافيا الإنسانية لمحاولة فهم دور المعرفة الإنسانية في تشكيل الفضاء الجغرافي واكتساب الأفراد والجماعات 1 لحس المكان ، وذلك على نقيض طرائق العلموية scientism في دراسة الإنسان التي تترع إلى التقليل من شأن وعي الإنسان ومعارفه وخبراته وأحاسيسه .

   تهدف هذه الورقة إلى التعريف بشكل عام بالاتجاهات الفلسفية التي ساهمت بشكل صريح أو ضمني في بزوغ الترعة الإ نسانية في بداية السبعينات كامتداد للمنـاهج الـسلوكية في البحـث الجغرافي . يتم ذلك من خلال استعراض مفهوم الفينومينولوجيا الذي اقترن ب الدعوة إلى التخلي عن الوضعية المنطقية وتطور مفهوم المكان بمعانيه الحسية المتعددة . يحاج هنا أن عدم الاقتناع الكامل بطرائق العلم وية من ناحية، و قابلية أساليب الفينومينولوجيا للبحث الجغرافي في مفهوم المكان والخوض أكثر في مستويات وعي الفرد والجماعـة مـن ناحية أخرى، يفسران الاهتمام المشترك والمتزايد الذي نشاهده الآن من قبل دعـاة الفينومينولوجيـا والجغرافيـا الإنسانية 

مقدمة

   يحتل مفهوم المكان بمعانيه المختلفة موقع الصدارة عند الحديث عن الجغرافيا و فلسفتها، ولعل جون كي رايـت (1947) هو أول من أشار إلى فلسفة المكان في زماننا وذلك عندما صاغ مصطلح geosophy2 للتعبير عن طبيعة المعرفة الجغرافية في ماضيها وحاضرها، إذ يبدو أن رايت لم يقتنع بالمنهج ية المادية التي اعتمـدها كـارل سـاور (1925 ،) وسار على نهجها تلاميذه من بعده، التي تتلخص في الدعوة للأخذ بمورفولوجية اللاندسـكيب قـصد الابتعاد عن منهجية الحتمية البيئية وإيجاد بديل إيجابي لها .

   كان ساور محقا في رفضه لتعريف العلم بمقتضى فرضـية سببية واحدة تجعل الباحث يتوقع نتائج بحثه سلفا، حيث رأى أنه عوضا عن البحـث عـن المـؤثرات الطبيعيـة وشواهدها في المنطقة يجب على الجغرافي أن يبين الحقائق المادية ويصف الخصائص البارزة للمنطقة ويحدد درجـة ترابطها دون اللجوء إلى محاولة تفسيرها سلفا (جيمس، 1972، ص 399). بينما نجد رايت ينحـاز لجغرافيـا بشرية تهتم بالأشياء غير المادية التي تميز الأفراد والجماعات، ويرى أن عالم الجغرافي أوسع من مجرد عرض لم ظـاهر الأرض البارزة التي يمكن قياسها وتخريطها وتصنيفها ووضعها في رتب ودرجات. هذا العالم مكون أيضا من أماكن تبدو متماثلة في مظهرها المادي ولك نها متباينة في نظرة الناس لها وفهمهم لمعانيهـا (يونـغ، 2001، ص 681 .) يمكن للجغرافي، في نظر رايت، ‘‘أن يصف المكان أو الإقليم آخذا في الاعتبار كل التفاصيل ولكن بطريقـة غـير مشوقة لا روح فيها، أو يمكنه تأكيد الجوانب المميزة التي ينفرد بها الإقليم بطريقة الإبداع الجمالي والفني ... إذا ما رغب الجغرافي أن تأتي كتاباته ودروسه أكلها فعليه أن يضفي عليها شيئا من التعبير الفني - لمسة من التذوق الجمالي الذاتي على أقل تقدير (رايت،1947، نقلا عن برويك، 1965، ص 22). 

  يؤمن رايت، إذن، بدور الـذات المبدعة في اكتساب المعرفة الإنس انية ويرى أن جل التراكم المعرفي في هذا العالم لم يأت بطريق التطبيـق الـصارم والدقيق لأساليب البحث العلمي ولكن جاء بواسطة الخيال الحدسي الذكي – أو التبصر - الذي ميـز الفلاسـفة والأنبياء والفنانين والعلماء، وبالنسبة للجغرافي واسع الخيال ونافذ البصيرة، فلا حدود ل لمعرفـة الجغرافيـة الـتي 3 باستطاعته اكتسابها ولا حصر ‘للمعرفة المجهولة ’ التي يستطيع اكتشافها، ولعل ‘‘أكثر هذه ‘المعـارف المجهولـة   تشويقا هي تلك التي توجد في عقول الناس وأفئدتها ’’ (رايت، 1966، نقلا عـن هـارفي، 1969، ص 292، 294).

   يسير لوينثال على منوال رايت مؤكدا أهمية الخبرة ةيذاتال والتعلم والذاكرة والخيال في تكوين الانطباعات والأفكار عن الأماكن التي نعيش فيها وتلك التي نزورها أو نقرأ عنها ونشاهدها من خلال الأعمال الفنية والأدبية، حيث تتكاتف خبراتنا القريبة في حياتنا اليومية مع تلك البعيدة عنها لتؤلف الصور الذهنية التي لدينا عـن الواقـع (لوينثال260 ،1961، نقلا عن هارفي، 1969، ص 292).

  تطورت جغرافية المكان في النصف الثاني من القرن الماضي على أيدي أقطاب الجغرافيا الإنسانية أمثال لوينثـال (1975 ،1961) ، توان (1977 ، 1976 ،1974 ،) ريلف ( 1976 ،1970)، وغيرهم، و اعتبر هؤلاء أن تفرد المكان وخصوصيته تنبعان من معرفة الأفراد والجماعات للمكان و من أحاسيسهم المستقاة من تعلقهـم بـه ومعيشتهم فيه . يشير يونغ (2001، ص 681) إلى أن رواد الجغرافية الإنسانية، على نقـيض معاصـريهم مـن الجغرافيين البشريين، ‘‘كانوا مدركين لدور الذات في إيجاد رموز المكان و أهميته المعيارية وإعطائهمـا معـنى ’’.

  وخلال العقدين الماضي ين انظم إلى فريق الإنسانيين المزيد من الجغرافيين من ذوي التوجهات الفلسفية البنيوية نحـو تطوير المفاهيم والأفكار الجغرافية، حيث نراهم يبحثون في مسائل الوجود والزمن، وتوضيح الفروق بين مفهـوم 4 الفضاء الجغرافي ومفهوم المكان 5 . وعلى غرار سابقيهم، فقد تنوعت اهتماماتهم المعرفية وإن اتفقوا على رفض قبول فكرة الحقائق المطلقة والنظريات الشاملة . أصر هؤلاء على إجراء الدراسات النقدية التحليلية التي تنظر للأمـاكن ضمن سياقاتها الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية بشكل عام .

   يزخر العالم الذي نعيش ـ و نتدبر أمور حياتنا ـ فيه بالأماكن المتباينة، ولكننا لسنا على بينة من فهمنا لكيفيـة تكوين هذه الأماكن وطرق اكتشافها والإحساس بها . وإذا ما صح أن الأماكن تشكل جانب أساسي من وجـود الإنسان على هذه الأرض ، وإذا ما كانت هذه الأماكن مبعث أمان ودليل هوية لقاطنيها من أفـراد وجماعـات، فحري بنا أن نلم بسبل الخبرة بها وإبداعها حفاظاً عليها من الضياع .

   هناك تخوف من زوال هذه السبل، الأمـر الذي تشير إليه دلائل كثيرة، مما يهدد بتمييع وإضعاف شخصية الأماكن المتمايزة وربما ضياعها بالكامل ، كما قد تؤدي هذه الحالة إلى تغير غير مرغوب فيه في الأسس الجغرافية للوجود من ارتباط راسخ بالأماكن إلى انتفاء صفة الأصالة عنها . ومن هنا تأتي أهمية التعرف على جوهر المكان وروحه المتميزة، إذ يتوقف على مدى إدراكنا وفهمنا لهذه الأماكن مدى نجاحنا في الخطوة الأساسية التالية وهي المحافظة عليها وضمان بقائها واسـتمرارها (ريلـف، 1976).

   تهدف هذه الورقة إلى تقديم مفهوم المكان بمعانيه المختلفة المستقاة من أحاسيس الأفراد وخبراتهم، وذلك مـن 6 منظور الفينومينولوجيا ، وضمن إطار البحث في الجغرافيا الإنسانية . 

بين الجغرافيا و الفلسفة

  شهد الربع الأخير من القرن العشرين مزيدا من التلاقي بين الجغرافيا و الفلسفة ، وإذا كان اهتمـام الفلـسفة بالجغرافيا موغل في القدم وربما يعود إلى الفترة الكلاسيكية، فإن اهتمام الجغرافيا بالفلسفة حديث العهـد نـسبياً . وعموماً، فقد تميزت العلاقة بين الجغرافيا والفلسفة خلال الجزء الأكبر من القرن الماضي بكونها ‘‘أحادية الجانـب ينكب فيها الجغرافيون على دراسة كتابات الفلاسفة ... الأمر الذي لم يترك ميراثا ينبئ عن تفاعل فكـري بـين الفريقين’’( انتريكين، 2001، ص 694). 

  ولكن، توخيا للإنصاف في حكمنا، ربما يكون من الأنسب أن نعيد ما ذكره كي سي في هذا الشأن وهو " أن الفلسفة و الجغرافيا يفتقر بعضهما إلى بعض ، حيث هناك مجال للاستفادة من هذه الحاجة المشتركة " ( كيسي7 ،2001 ، 683.)

   لعل أوضح مظاهر التلاقي بين الجغرافيا والفلسفة بدأ مع بداية عقد السبعينات عندما وجه نفر من الجغـرافيين نوعاً من الاحتجاج النقدي ضد المغالاة في بناء النظرية والموضوعية والتحليل الكمي وغير ذلك من الأهداف الـتي نادى بها الوضعيون خلال عقد الستينات . وكان الدافع وراء هذا الاحتجاج أن دعاة التفسير الوضعي تغاضوا عن حقيقة أن الإنسان فرض نفسه (من خلال قيمه وأخلاقه وأحاسيسه ونظمه ...) على العالم المحيط بـه (جيلـك، 1974:ص200)، ولهذا وجب توجيه الاهتمام إلى حياة الناس اليومية الغنية بالأحاسيس سعيا إلى تقويم تفكيرهم، وبالتالي سلوكهم، على ضوء هذا الفهم ‘الإنساني’ الكامل للأفراد والجماعات والأماكن . هكذا بـدأت الترعـة الإنسانية 8 في الجغرافيا ووجد أنصارها في مدارس الفلسفة النقدية مثل المثالية 9 والوجودية 10 والفينومينولوجيا مـا كانوا يبحثون عنه من أطر معرفية يصوغون فيها البدائل للتقاليد والنماذج التجريبية التحليلية التي كانت سائدة.

   يتلخص هدف الجغرافي البشري المتأثر بالفلسفة المثالية في محاولة فهم التطور الحاصـل في المظـاهر والأنمـاط الثقافية 11 التي تغطي سطح الأرض وكشف النقاب عن الفكرة أو الأفكار التي وراءها . أي ينصب الاهتمام علـى فهم الأثر المعقول والمنطقي الذي تسببه الظاهرة وليس على تفسير الظاهرة في حد ذاتها (جيلك،1974:ص194). ولهذا فإن تفسيره لهذه المظاهر الثقافية يتضمن تصنيفاً لكل البيانات المتوفرة، ويشمل ذلك مقاصد الأفراد المعنـيين بالدراسة و ‘النظريات’ التي يتصرفون من خلالها، والنظر إلى تصرفاتهم كاستجابات عقلية للمواقف التي تعرضوا لها كما تراءت لهم في حينها (ص 202 ) هذا الشكل، فإن الفلسفة المثالية تمكن الجغرافيين البـشريين مـن تقـديم تفسيرات تعتمد على الطبيعة الخاصة للسلوك البشري النظري وإعادة التفكير في أفكار الناس الذين يسعى الباحث إلى تفسير سلوكهم، وهذا ما يمكنهم من شرح السلوك الإنساني بطريقة نقدية تحليليـة وتأويلـه دون الاسـتعانة بالنظرية. 12 

  أما البديل الثاني للفلسفة الوضعية فقد اعتمد على كل من الفينومينولوجيا التي تؤكد مسائل المعرفة ومعنى أحاسيس الإنسان الحياتية وخبراته، والفلسفة الوجودية التي تعنى بالسلوك الحياتي للأفراد والجماعـات، أي أن الفلـسفتين تشتركان في الهدف الرئيس وهو تقصي المعاني والقيم وفهمهما .

   وإذا ما قارنا هذا البديل بسابقه الذي يعتمد على ‘المثالية’ فإننا نراه ينال حظوة أكثر عند الجغرافيين لأنه ينظر للإنسان في تفاعله الحسي مـع محيطـه الاجتمـاعي والطبيعي (هارفي، 1972: ص129). تقارن آن بوتمر (1974: ص37) بين وجهتي نظر الوضعي ين وأشـياع الفينومينولوجيا الوجودية (أي فينومينولوجيا عالم الحياة) 13 وترى أنهما على طرفي نقيض حيث أن ‘‘ ... أنـصار الفينومينولوجيا الوجودية يطمحون إلى توضيح الكل المتمثل في الأحاسيس المعاشة مـستعينين في ذلـك بمـصادر متنوعة، علمية وغير علمية، يختارونها ’’.

   وهذه تشمل تفهمهم وإدراكهم الحسي 14 للبيئة أو للأشياء المحيطة بهـم،ونمط تفكيرهم، أي بكل ما يتعلق بمقاصدهم ومداركهم ووعيهم لما حولهم (بوتمر، 1974: ص37) 

  من بين الآثار الأدبية الجغرافية التي عززت أواصر التلاقي بين الجغرافيا و الفلسفة في الفترة المعاصرة نذكر كتابي توان : 

- Space and Place,1976 .


- Topophilia : A Study of Environmental Perception, Attitudes, and Values ,1974.

   من عناوين هذه الكتب الثلاثة يظهـر جلياً الاهتمام بمفهوم المكان الذي أصبح ملازماً للجغرافيا الإ نسانية في سعيها لفهم عالم الإنسان من خلال دراسة علاقة الناس بالطبيعة، ومن خلال أحاسيس هؤلاء الناس وأفكارهم و شعورهم وتعلقهم (ارتباطهم) بالمكان . فإذا ما كانت المفاهيم الفينومينولوجية قد استخدمت في البحث الجغرافي، فما نتائج هذا الاستخدام؟ بمعنى آخر، هـل تركت الفينومينولوجيا أثراً باقياً في جغرافية المكان ينبئ عن التزام كامل بمفاهيمها ونهوجها؟ هذا مـا سـنحاول الإجابة عنه في الجزء التالي من هذه الورقة.

خاتمة
 
  كان مسعى الجغرافيين للأخذ بمنهجية الفينومينولوجيا نابعاً من رفضهم لهيمنة الوضعية على أشكال التفكير الأخرى وبحثهم عن منهجية بديلة لتلك المعتمدة على اختبار الفرضيات وبناء النظريات من ناحية، ولاقتنـاعهم بملاءمـة الفينومينولوجيا للبحث في مفهوم المكان بمعانيه الحسية المختلفة، من ناحية أخرى. وتقوم حجة المشككين في إلباس الجغرافيا رداء العلموية على أن ما أنجز من أعمال نظرية في الجغرافيا لا يتعدى كونه تقليداً واهناً لطرائق العلمويـة المستخدمة في العلوم الطبيعية . 

  لقد كان قبول الجغرافيين للوضعية بشكل سريع وعن طيب خاطر نتيجـة طبيعيـة لتداعيات الثورة الكمية التي بدأت في الجغرافيا في نهاية الخمسينات واستمرت خلال عقد الستينات مـن القـرن الماضي. وقد تعزى أيضا السرعة في الدعوة إلى التخلي عن الوضعية إلى أن ما حدث في الجغرافيا من ‘ثورة’ لم يمس فلسفة الجغرافيا وجوهرها بوصفها علم ‘التباين المكاني ’، ولكن اقتصر فقط على منهجية جديـدة بـدت براقـة حينذاك. 

 ولكن يبدو أن الفينومينولوجيا لم تترك أثراً باقياً وفعالاً في البحث الجغرافي كما كان منتظراً لها من قبل دعاتها من الجغرافيين الإنسانيين . وقد يعود السبب بالدرجة الأولى إلى رسوخ المنهج الوضعي وحضوره البين في جل أعمال الجغرافيين الكميين البارزين الذين وجدوه مطواعاً لتحليل العلائق المكانية والنظم المكانية، وهو ما كـان شـغلهم الشاغل خلال عقد الستينات وبداية عقد السبعينات من القرن الماضي . 

  ولم يظهر أثر الفينومينولوجيـا حـتى في الدراسات الإقليميةعلى الرغم من ميلها إلى الوصف التوليفي الذي يهتم بالجوهر وليس التحليل، مما قد يناسب هذا النوع من الدراسات . وباستثناء القبول الحذر والمحدود لمنهجية الفينومينولوجيا في الجغرافيا التاريخيـة والجغرافيـا السلوكية، يمكن القول أن الطبيعة غير الامبيريقية للنهج الفينومينولوجي تجعله مرفوضاً من قبل الباحثين في الجغرافيا البشرية المهتمين بمشكلة الاستدلال والوصول إلى تعميمات عن الأنماط المكانيـة الناتجـة عـن سـلوك الأفـراد والجماعات، أي ترجمة السلوك المكان 46 إلى أنماط مكانية 47 ، وهذا ما جعلهم أكثر تمسكاً بطرائق الوضعية التي توفر لهم ذلك (والمسلي،1974: ص106). 

   وإذا لم تتمكن الجغرافيا الإنسانية في أن تكون "المثال" البديل للنهج الكمي / النظري في الجغرافيا كما كان مؤملاً لها من قبل دعاتها، فقد نجحت، على الأقل، في تحدي ومواجهة سلطة ودوغمائية العلم الوضعي الذي تتقاسم معه منذ أكثر من ثلاثة عقود الاهتمام بمفهوم المكان .

   وبإصرار الجغرافيا الإنسانية على النظر للجغرافيا على أنها علاقة بين الذات (أو النفس ) والعالم فقد نجحت أكثر في توضيح وفهم كنه المكان واللاندسكيب، وهما المفهومـان اللـذان يشكلان لب الجغرافيا البشرية . ولعل أبرز إسهامات ومآثر الجغرافيا الإنسانية تظهر بوضوح في التقريـب بـين الجغرافيا والفلسفة، فقد انظم إلى فريق الإنسانيين في الجغرافيا نفر من الفلاسـفة الـذين ينظـرون إلى المكـان واللاندسكيب بعيون جغرافية . 48 


   ما أحوجنا اليوم في بلادنا العربية إلى الأخذ بمفاهيم الفينومينولوجيا واكتسابها من أجل إذكاء الوعي بتراثنا الأصيل وحمايته من الضياع، فقد نجد فيها العصمة من فقد معالم مدينتنا الإسلامية ذلك المكان الزاخر بالمعاني والدلالات ، الذي ربما هو أهم شواهد ذلك التراث، وإنقاذ ما تبقى من تفردها وهويتها المتميزة من الاندثار .

   لا شك أن النظرة الثاقبة النابعة من أحاسيسنا الصادقة وقراءتنا الواعية لتاريخنا وحضارتنا هي السبيل إلى إعـادة اكتـشاف جـوهر الأماكن المتميزة في عالم يميل باطراد إلى أن يكون أكثر تجانساً و أكثر ‘عولمة‘ ، و يغص ‘بسقط المتاع ’ بكل أشكاله وألوانه.

المصادر

- البابور، منصور محمد. الجدل المعرفي في الجغرافيا: بين الوضعية المنطقية والترعة الإنسانية. بحث قدم في الندوة العلمية التي عقدت بكلية الآداب والتربية بجامعة قاريونس خلال الفترة 14-1991/5/16 حول ‘‘إشكالية تطبيق المنهج العلمي في العلوم الإنسانية’’. (غير منشور ). هونديريك، تيد (محرر). 

- دليل أكسفورد للفلسفة . ترجمة نجيب الحصادي، بنغازي : الهيئة القومية للبحث العلمـي (تحت الطبع ).

- ريلف، ادوارد. المكان واللامكان. ترجمة منصور البابور، بنغازي: المكتب الوطني للبحث والتطوير(تحت الطبع ). وعزيز، الطاهر. المناهج الفلسفية. بيروت: المركز الثقافي العربي، 1990 .

- Broek, Jan O.M. 1965. Geography: itsscope and spirit. Columbus, Ohio: Charles and Merrill Books. 

- Buttimer, Annette.1974. Values in Geography. Association of American Geographers, Resource Paper No. 24. 

- ______. 1977. Comment in Reply. Annals of the Association of American Geographers 67( ): 180-83.

- ______. 1976. Review of "Place and Placelessness". Annals of the Association of American Geographers 67 ( ): 622-24. 

- Casey, Edward S. 2001. Between geography and philosophy: What does it mean to be in the place-world? Annals of the Association of American Geographers 91 (4): 683-93. 

- _____. 2001. On Habitus and Place: Responding to My Critics. Annals of the 14 Association of American Geographers 91 (4): 716-23. 

- Downs, Roger M. (1978). Review of Tuan's "Space and Place". Geographical Review( ): 375-376.

-  Entrikin, J. Nicholas. 2001.Hiding Places. Annals of the Association of American Geographers 91 (4): 694-97.

-  ______. 1976. Contemporary Humanism in Geography. Annals of the Association of American Geographers 66 (4): 615-32.

- Gregory, Derek. 1978. Ideology, Science and Human Geography. London: Hutchinson. 

- Guelke, L. 1974. An idealist alternative in human geography. Annals of the Association of American Geographers 64: 193-202. 

- Harvey, David. 1969. Explanation in Geography. London: Arnold Publishers.

- Hooper, Barbara. 2001. Desiring Presence, Romancing the Real. Annals of the Association of American Geographers 91 (4): 703-15.

- James, Preston E. 1972. All Possible Worlds: A History of Geographical Ideas. Indianapolis, Indiana: The Odyssey Press, Bobbs-Merrill Co. 

- Lowenthal, David. 1961. Geography, Experience, and Imagination: Towards a Geographical Epistemology. Annals of the Association of American Geographers 51(3): 241-60.

-  ______. 1975. Past time, present place: Landscape and memory. Geographical Review 65(1) 1-36.

- Lynch, Kevin. 1960. The Image of the City. Cambridge, Massachusetts: The M.I.T. Press.

- Relf, Edward. 1970. An inquiry into the relations between phenomenology and Geography. Canadian Geographer XIV (3): 193-201. 

- ______. 1976. Place and Placelessness. London: Pion.

- Sauer, Carl. 1924. The Morphology of Landscape.

- Tuan, Yi-Fu. 1974. Topophilia: A Study of Environmental Perception, Attitudes, And Values. Englewood Cliffs, Prentice-Hall. 

- ______. 1976. Humanistic Geography. Annals of the Association of American Geographers 66 (2): 266-76.

- ______. 1977. Space and Place. The Perspective of Experience. Minneapolis: University of Minnesota Press.

- Young, Terence. 2001. Place Matters. Annals of the Association of American Geographers 91 (4): 681-82. 

- Walmsley, D.J. 1974. Positivism and Phenomenology in Human Geography. Canadian Geographer XVIII (2): 95-107. 

- Wright, John K. 1947. Terrae incognita: The place of imagination in geography. Annals of the Association of American Geographers 37: 1-15

النص الكامل :



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق