الصفحات

الثلاثاء، 27 فبراير 2018

إشكاليات التخطيط الحضري في عمان ...


إشكاليات التخطيط الحضري في عمان 


خليفة سليمان 


مجلة الفلق الإلكترونية


1.التاريخ والتحديات
تجمع المصادر العلمية على أن التخطيط هو الأسلوب العلمي الذي يهدف إلى تقديم الحلول أو بدائل الحلول للمشكلات الحالية أو المتوقعة للمجتمع وذلك في إطار خطة منظمة ذات سياسة وأهداف واضحه، خلال فترة زمنيه محدده، تأخذ في الاعتبار الإمكانيات والموارد ، كذلك المحددات الحالية أو المستقبلية سواء كانت بشريه أو طبيعية. والتخطيط بشكل عام يجب أن يكون شاملا ومرنا ومستمرا حيث يمكن تعديل مساره حسبما يستجد من ظروف .

وتجمع المصادر ذات الصلة بمجال التخطيط أيضا أنه لابد من وجود خطة استراتيجية شاملة للمجتمع مما يمكن الدولة من تقديم الخدمات الرئيسية للإنسان والذي هو هدف التنمية . ويؤكد أحد الباحثين على ضرورة التخطيط الاستراتيجي الذي  يهدف بشكل عام الى التنسيق بين الموارد المتاحة والفرص المتاحة في البلد على المدى الطويل لتحقيق أهداف استراتيجية طويلة الأجل تقوم على رؤية استراتيجية يُراد تحقيقها في الأجل الطويل، لذلك فالتخطيط يخلق تصور لما يجب عمله خلال فترة زمنية معينة لتحقيق أهداف محددة بالاعتماد على الموارد والإمكانات والفرص المتاحة ويرسم الطريق إلى تحقيق الأهداف المحددة مسبقاً، ويمكن القول بأنه بدون التخطيط الاستراتيجي الصحيح فإن الدولة تسير باتجاه غير صحيح، فتتفاقم المشكلات والاختلالات وتهدر الثروات والطاقات ، بدون تحيق أي نتائج.
والتخطيط الحضري أو العمراني هو أحد أنواع التخطيط الذي يهدف إلى تقييم الحياه العمرانية والريفية، وإيجاد حلول هندسية للمشاكل العمرانية مثل التضخم السكاني، أزمات المرور، تنظيم الحركة بين السكان والخدمات. ومن ثم فأن الدول تسعى إلى إيجاد آليات صحيحة لإقامة مخطط حضري يتلاءم مع طبيعتها الجغرافية ويحقق المتطلبات الضرورية للسكان.
وفي عمان يأخذ التخطيط العمراني أو الحضري بعدا آخر من حيث عدم اكتمال الرؤية المحددة له وعدم فهم استراتيجيات التخطيط القائم عليها. ففي حين نجد أن هناك مناطق مخططة وبطرز هندسية مميزة وخصوصا في العاصمة مسقط ، نجد مناطق أخرى ترسم فيها العشوائيات الحديثة صورة باهتة عن مستقبل هذه المناطق وخصوصا فيما يتعلق بالمرور وعدم توفر الخدمات الرئيسية كشبكات الصرف الصحي .
والتخطيط الحضري في المدينة العمانية ليس ببعيد عن التخطيط الحضري في أغلب مدن الخليج ، فعلى الرغم من حداثة إنشاء المدينة الخليجية إلا أن الأغلب منها لم يأخذ باستراتيجيات التخطيط الحديث، ومن ثم ظهرت المدن في الخليج كالفقاعات التي انفجرت فجأة دون أن تحدد مسارا معينا لفتات الانفجار ، مما جعل إعادة هذه المدن إلى الوضع المخطط الصحيح مكلفا جدا .
مسقط نموذجا
عند النظر إلى الملامح الحضرية لمدينة مسقط نجد أنها متباينة جدا . فأحياء القرم ومدينة السلطان قابوس مثلا أنشأت بمخططات عصرية تراعي جميع المتطلبات الرئيسية للمحلة العمرانية ، بينما نجد أن حي الخوير بولاية بوشر مثلا وبعض الأحياء في ولاية مطرح كالحمرية على سبيل المثال تمددت بطريقة لا تراعي البعد المستقبلي للمدينة الحديثة . ونتيجة لهذا التباين نجد مناطق في مسقط تغرق في البرك المائية بعد الأمطار بسبب غياب شبكات التصريف المائي في حين ان أحياء أخرى لا تعاني من نفس المشكلة . وبينما تعاني مناطق من اختناقات مرورية شديدة وشبه يومية ، نجد في المقابل مناطق لا تعاني أي مشكلة مع المرور. أيضا نجد بنايات شيدت في بدايات النهضة العمانية في روي، قد أنشأت بطابق سفلي يوفر مواقف للسيارات ومركبات السكان ، في حين نجد مباني حديثة في ولاية السيب لا تراعي أدني متطلب لخصوصية السكان الذي يعتمد اغلبهم على السيارات في التنقل ، فنجد منطقة الخوض مثلا التي تضخمت في العشر سنوات الأخيرة الماضية تعاني من مشكلة الازدحام المروي الشديد خصوصا في أوقات الذروة، بل أن أغلب السكان يضعون مركباتهم في المواقف الخاصة بالمحلات التجارية في غياب كامل للبعد الحضاري للمدينة الحديثة. وبشكل عام لم يراعي تخطيط محافظة مسقط البعد المستقبلي للمدينة كعاصمة ، فلا يوجد مركز رئيسي للمدينة واضح المعالم (CBD) ولا توجد خريطة استراتيجية واقعية لاستخدام الأرض. كما أن الطرق صممت بمسارات لا تراعي البعد المستقبلي، مما نتج عنه إصلاحات وإضافات مستمرة . تمدد مسقط أيضا لم يرعي النظرة المستقبلية للمدينة ، مما نتج عنه تمدد أفقي بحت للعمران خلق ندرة في الأراضي وأدى إلى استحداث أحياء (استخدامات الأرض) لا يتماشى مع الواقع، وعليه أصبحت منطقة غلا الصناعية مثلا لصيقة جدا بالمراكز الحضرية وقريبة من أهم المعالم الحضارية في العاصمة كالمستشفى السلطاني وجامع السلطان قابوس الأكبر. كما غاب عن المدينة التخطيط المستقبلي لوسائط النقل العام. هذه الاشكاليات في التخطيط خلقت الحاجة إلى الاصلاح ومازالت ، ولكن كانت عملية الاصلاح في المجمل مكلفة جدا وتشكل عبأ كبيرا على ميزانية الدولة .
إن إنشاء مدينة كمسقط والتي تعتبر من المدن الشريطية حسب تنصيف التخطيط الحضري للمدن يجب أن يراعي طبيعة المدينة المحصورة بين البحر والجبل ، ويجب أن يكون ذا بعدا استراتيجيا يضع في الحسبان التطور المستقبلي للمدينة بالشكل الذي يستوعب السكان ويوفر لهم الخدمات الرئيسية .
التاريخ الحضري للمدينة العمانية
قبل عام 1970م كانت العقارات والأراضي يتم التعامل عليها بمقتضي صكوك شرعية تصدر عن المحاكم الشرعية أو بموجب بيوع عرفية تعتمد من أصحاب السعادة الولاة، ومع بداية النهضة المباركة في عام 1970م أنشئ الجهاز الإداري للدولة وظهرت دائرة الأراضي التي كانت تتبع وزارة العدل (آنذاك) ومهمتها النظر في الطلبات التي يقدمها المواطنون لمنحهم أراض بمختلف الاستعمالات وتبت فيها لجنة برئاسة مدير بلدية مسقط.
وفي عام 1972م أتبعت دائرة التخطيط بوزارة التنمية لتقوم بتوزيع الأراضي وإصدار إباحات البناء ثم يتم إرسال خطاب إلى دائرة الأراضي لمنح المستحق قطعة أرض سكنية أو صناعية أو تجارية ، وفي نفس العام أنشأت وزارة شؤون الأراضي لتضم قسم الأراضي وقسم السجل العقاري وقسم المساحة.
وفي عام 1975م صدر المرسوم السلطاني رقم (26/1975) بإصدار قانون تنظيم الجهاز الإداري للدولة وحدد اختصاصات وزارة شؤون الأراضي والذي كان من أهم أهدافها تخطيط الأراضي بجميع مناطق السلطنة لأغراض السكن بدرجاته المختلفة وللأغراض التجارية والصناعية، وتقسيم المناطق المخططة إلى قطع محددة المساحة والرقم والمرجع والدرجة. كذلك إعداد خرائط التطوير وخرائط الموقع لكل منطقة يتم تخطيطها تحدد فيها الشوارع وأماكن المرافق العامة كالأسواق والمساجد والمدارس والمستشفيات وغيرها.
وبحلول عام 1976م صدر المرسوم السلطاني رقم 17/1976 بإجراء بعض التعديلات على الهيكل التنظيمي للوزارة ليصبح مسماها وزارة شؤون الأراضي والبلديات وآلت إليها مسؤولية الإشراف على شؤون بلدية مسقط والبلديات الإقليمية. بعد ذلك وفي عام 1982م صدر المرسوم السلطاني رقم (48/1982) بإلحاق وزارة الأشغال العامة بوزارة شئون الأراضي والبلديات لتصبح مديرية عامة باسم (مديرية الأشغال العامة ) تقوم بالإشراف على تنفيذ الإنشاءات التي تكلفها بها الوزارات والوحدات الحكومية المختلفة . ثم، وفي عام 1984 تم نقل مسؤولية الإشراف على بلدية العاصمة عن الوزارة، ليشرف ديوان البلاط السلطاني على مهامها وذلك بموجب المرسوم السلطاني رقم (18/1984) لتستقل مدينة مسقط من حيث الإشراف العمراني عن باقي المدن العمانية . أما في عام 1985 فقد صدر المرسوم السلطاني رقم (2/1985) بإنشاء وزارة شئون البلديات الإقليمية للنهوض بالخدمات البلدية في المناطق والولايات المختلفة وتؤول إليها الصلاحيات التي كانت مقررة لوزارة شئون الأراضي والبلديات في مجال البلديات الإقليمية وأصبح مسمى الوزارة وزارة شؤون الأراضي. وفي نفس العام صدر المرسوم السلطاني رقم (10/1985) بتعديل مسمى وزارة شؤون الاراضي ليصبح وزارة الاسكان التي أوكل إليها كل ما يتعلق باستخدام الأرض في عمان، وفق قوانين صدرت تباعا لتنظم عمليات استخدام الأرض واستحقاقها.
إلا أن إنشاء اللجنة العليا لتخطيط المدن كانت بمثابة الخطوة المهمة نحو مدينة حديثة  شاملة والتي كان من أهم أهدافها هو تنفيذ خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية في السلطنة في المجالات العمرانية والمكانية، وذلك من خلال إعداد الخطط التفصيلية على المستويين الإقليمي والحضري. وقد تم انشاؤها رسمياً بموجب المرسوم السلطاني رقم 27/85، الصادر في فبراير من عام 1985م وأعيد تشكيلها أكثر من مرة بناءً على مقتضيات الصالح العام. وقد استمرت اللجنة في عملها حتى عام 2012م،إلا أن المشاكل الحضرية التي تعاني منها العاصمة مسقط وبقية المدن العمانية تمخض عنه إلغاء اللجنة العليا لتخطيط المدن بحسب المرسوم السلطاني رقم (32/2012)  وإنشاء المجلس الأعلى للتخطيط بموجب المرسوم السلطاني رقم (30/2012) في 26 مايو 2012م والذي يهدف الى وضع الاستراتيجيات والسياسات اللازمة لتحقيق التنمية المستدامة في السلطنة وإيجاد الآليات التي من شأنها تطبيق تلك الاستراتيجيات والسياسات وصولا الى تحقيق التنوع الاقتصادي والاستقلال الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية المتاحة ، على أمل أن يسعى المجلس إلى تدارك سلبيات الماضي في التخطيط الحضري ، ويسعى إلى إيجاد خطة حضرية استراتيجية صحيحة تراعي المرحلة الراهنة ، وتأخذ في الحسبان الأبعاد المستقبلية للمدينة العمانية .

الطفرة السكانية:
يمكن تقسيم التحضر في دول الخليج (ومنها السلطنة) إلى مرحلتين، مرحلة التغير البطيء وهي مرحلة ما قبل اكتشاف النفط. ومن أهم خصائص تلك المرحلة أن المدن في تلك الفترة كانت صغيرة، وبعضها كان يحيط به سور له بوابات ، وأن نسبة قليلة من السكان يعيشون فيها، وكانت درجة التجانس والترابط بينهم عالية.
كانت نسب التحضر في تلك الفترة تتراوح بين 10% إلى 30% أما بقية السكان فكانوا يعيشون في الأرياف والبوادي، مع اختلاف النسبة من دولة إلى دولة خليجية أخرى، وكان سكان المدن يعتمدون في دخلهم على الوظائف الرسمية وعلى التجارة، وعلى الحرف اليدوية والنقل، ولم يكن هناك عمالة أجنبية كبيرة. كانت منتجات الحضارة تنتشر ببطء خلال تلك الفترة مثل السيارات، والمذياع، وأدوات الطبخ، وكان الكثير من السكان يترك أسرته في البادية أو في الريف لحاجة أسرته الممتدة إلى أفراد أسرته النووية في العمل الزراعي والرعي أو الصيد ، وقد نمت المدن في تلك الفترة ببطء شديد.
ومع ظهور النفط تضاعف دخل دول الخليج، وبدأ ما عرف بمرحلة الطفرة السكانية، وبدأت مرحلة التغير الحضري  السريع، حيث تسارعت وتيرة الهجرة من الأرياف والبوادي إلى المدن، لكثرة عوامل الجذب في المدن مثل الوظائف، والخدمات المختلفة، وكثرة عوامل الطرد في الأرياف والبوادي، وبدأت المدن تتوسع بسرعة كبيرة، حتى تضاعفت مساحاتها، وتضاعف سكانها عدة مرات خلال ثلاثة عقود ونصف تقريباً.
وخلال العقود الأربعة الماضية شهدت السلطنة حالها كحال بقية الدول في منطقة الخليج ارتفاعا في معدل النمو السكاني نتيجة الهجرة من المناطق الريفية إلى المدن الكبيرة فاصبح أكثر من 75% تقريبا يعيشون في المدن الحضرية وأن عدد المساكن في الفترة (2003م – 2010م) قد ارتفع بمقدار 120.062 مسكن حسب نتائج التعداد العام للسكان والمساكن في عام 2010م. وفي ضوء هذه الاحصاءات فأن التحديات والمشكلات البيئية التي تواجه المدن وخصوصًا الكبرى منها تتعدد وتتنوع (مثلما ورد في الجزء الأول من المقال) بدءً بعمليات التخطيط الحضري والعمراني وتوفير المسكن الملائم وما يتطلبه من خدمات ومرافق الماء والصرف الصحي , وتصريف الأمطار والنظافة والتخلص من النفايات وتأمين الأسواق والطرق العامة والإضاءة وتجميل المدن وانشاء الحدائق العامة وأماكن الترويح فضلاً عن وسائل المواصلات والاتصالات وحماية البيئة من التلوث.
سمات النمو الحضري في عمان:
وكنتيجة لتلك الطفرة السكانية وعدم وجود توسع عمراني ذو بعد استراتيجي واضح فقد تميز النمو الحضري في عمان بالآتي:
– أغلب الأشكال الحضرية في المدن العمانية مبعثرة وهياكل التسوية فيها غير مكتملة وذلك ليس فقط في مناطق التوسع العمراني لمحافظة مسقط وإنما يمتد ذلك إلى أغلب مناطق التحول الحضري في عمان.
– انتقل غالبية السكان من المحلات العمرانية القديمة (مراكز المدن القديمة والقرى) الى المناطق المفتوحة.
– المخططات الحضرية الحديثة لا تراعي كفاءة المناطق واختصاصها ووظيفتها المحيطة المألوفة، بل يتم إنشاءها بشكل عشوائي متى ما توفرت المساحة لإيجاد المخطط.
–         عدم مراعاة الطبيعية الجغرافية والجيولوجية للمنطقة أحيانا ، مما أوجد بعض المخططات السكنية في مجاري الأودية أو في أماكن تكدس الكثبان الرملية أو السبخات.
– إهمال المناطق الحضرية القديمة ، مما أدى إلى اندثار بعض المباني الأثرية والأسواق التقليدية المهمة واندثار الأفلاج، وتهميش الحيازات الزراعية وخصوصا مزارع النخيل.
– عشوائية نقل استخدامات الأرض في بعض المناطق ، فتتحول المساحات الزراعية بين ليلة وضحاها إلى استخدامات سكنية وتجارية واحيانا صناعية.
– أغلب المخططات الحديثة لا تنسجم مع التمدد الطبيعي للمدينة ، فبينما تمتد الملكيات الخاصة (الفضاء) بمئات الأمتار في قلب المدينة حيث تتوفر أغلب الخدمات، تنشأ المخططات الحديثة في أطراف المدن خالية من الخدمات.
– تتركز أغلب المخططات الحديثة بالقرب من الطرق الرئيسية ، مما يؤدي إلى ازدحامها بشكل تدريجي ويعيق التوسع في تلك الطرق مستقبلا.
– بناء وحدة سكنية خاصة أو فيلا واحدة على قطعة أرض مسورة أصبح نمط الحياة السكنية المفضلة في عمان مع ما تواجهه هذه السمة من محدودية الموارد التي تتعلق أساسا بالأرض.
–  نسبة كبيرة جدا من السكان يستقر في مكانين أو أكثر وذلك نتيجة لاختلاف مكان عملهم عن مقر إقامتهم الدائم ، مما يشكل ضغطا أكبر من حيث ضرورة توفير الخدمات الأساسية في التجمعات الحضرية. وهذا ربما ما يفسر الطلب المتزايد للأراضي والخدمات مقارنة بعدد السكان.
–  عدم الاهتمام بالمظاهر الثقافية كالساحات والميادين والمعارض وذلك على عكس المدن العالمية، حيث يختفي المتحف في أغلب المدن الرئيسية في بلد التراث ، وتختفي المكتبة في بلد ذات أرث علمي متجذر ، وتختفي الشوارع والمراكز الثقافية حتى في العاصمة مسقط.
–         توزيع المخططات الحديثة لا يراعي أهمية وجود أماكن للترفيه في المدن، مما يجعل غالبية السكان تلجأ إلى الدول المجاورة أو السفر وتنفق المئات من الريالات على مثل هذا النوع من الرحلات.
النموذج الحضري العماني القديم:
أن شكل المدينة العمانية قديما كان نموذجا للتجمع الحضري المثالي ، حيث كانت المدينة أو القرية تضم أماكن السكن (الحارات) والقلعة أو الحصن (المقر الإداري) ، والأسواق ، ومصادر الماء (الفلج أو الوادي) ومواقع العمل (المزارع والمراعي أو البحر بالنسبة للمناطق الساحلية) في مساحة لا يزيد قطرها عن 5 كيلومترات ، وهي ذات السمات التي تتميز بها المدن الحديثة في العالم المتقدم ، والتي تهدف إلى تقديم أفضل الخدمات للسكان في وقت أسرع وبشكل أسهل وهذا هو أحد أهم أهداف التنمية البشرية عالميا. كما أن أغلب المدن العمانية القديمة تتموضع على ضفاف الأودية ، حيث تتوفر التربة الفيضية الخصبة الصالحة للزراعة ومصادر المياه (بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي من المنتجات الزراعية والأعلاف الحيوانية في إطار مكاني محدود) مع تأمين الحماية اللازمة من السيول وفيضانات الأودية.
 إلا أن فقاعات التحضر الحديثة لم تستفيد من ذلك النموذج العماني الأصيل ، بل أهملت أغلب الجوانب الخاصة بجغرافية المكان وبيئته الطبيعية . كما أنها لم تأخذ بالملامح الحضرية للمحلة العمرانية العمانية التقليدية فأصبح شكل المدينة العمانية مبعثر يمتد لعشرات الكيلومترات دون ملامح، بعد أن كان بؤرة تحمل هوية المجتمع وترتكز على مجموعة من مقومات الاستقرار البشري ، مما كان له أغلب الأثر في تحول المجتمع سريعا من مرحلة التجانس إلى مرحلة اللاتجانس.
 وفي ظل الطلب المتزايد على الأرضي أصبحت المخططات تتوزع بشكل متسارع وغير مدروس خارج أطار المدينة التقليدي مما خلق اشكاليات جمة من حيث التزايد المستمر في المطالبة بالخدمات الرئيسية كالطرق والكهرباء والماء ، أو المطالبة بإنشاء سدود حماية وتعويضات مالية نتيجة وجود تلك المخططات في أماكن عبور السيول والأودية ، أو تفاقم مشكلة الازدحام المروري في المراكز الادارية للمحافظات نتيجة بعد المخططات الحديثة عن الأسواق ومراكز المدن، ومن ثم يقطع المواطن عشرات الكيلومترات بالسيارة بشكل شبه يومي للوصول إلى الأسواق الرئيسية أو المستشفيات أو مراكز الخدمات الحكومية.
وكنموذج لتلك الخصائص والسمات الحضرية يمتد التجمع الحضري في مسقط العاصمة مثلا لمسافة تزيد عن 100 كيلومتر وهي مدينة شريطية تتجانس معماريا وعمرانيا مع التضاريس والطبيعة الجغرافية إلا أنها تفتقد إلى البؤر الحضرية السكنية التي من الممكن أن تكتفي بذاتها مما جعل التنقل اليومي بالسيارة أمر حتمي، مع إهمال واضح للتوسع باتجاه الهضاب والجبل والتركيز على الوديان والسهول. وهو ما يخالف أيضا الإرث المعماري العماني الذي شكلت فيه البؤرة الحضرية النموذجية المكتفية بذاتها (القرية) مكانا للسكن ، وشكلت سفوح الجبال وضفاف الوادي أحد المواقع المهمة لإنشاء المحلات العمرانية ذات الحدائق والمزارع المعلقة وخصوصا في المناطق الجبلية أو تلك المطلة على سفوح الجبال.
وعلى الرغم من أن (مسقط) مدينة مازالت تحتفظ بالشخصية العمانية وملامحها وهويتها وثقافتها وخصوصا في أشكال المباني والألوان المستخدمة إلا أن النمو العمراني لا يوحي بوجود رؤى استراتيجية محددة ومعلنة لأوضاع مستقبلية مناسبة لتوزيع الأنشطة واستخدامات الأرض في ظل انفجار سكاني متسارع وزيادة طردية في أعداد السيارات التي تعتبر الوسيلة الرئيسية وربما الوحيدة للنقل. وأن كانت هناك خطط غير معلنة في هذا الجانب فيجب عليها مراعاة التوازن بين احتياجات التنمية في الحاضر والمستقبل والأخذ بما وصل إليه العالم في هذا المجال، بما يحقق مبادئ التنمية المستدامة والتوازن بين الرغبات من ناحية وبين محدودية الموارد من ناحية أخرى وخصوصا فيما يتعلق بتوفر الأرض ووسائط النقل العام، مع ضرورة وضع تلك الخطط في إطار تشريعي وقانوني واضح وملزم ومن خلال عمليات وإجراءات محددة وبتـنسيق وضمان مشاركة مجتمعية كاملة.


ملاحظة: تم جمع بعض البيانات من بعض المواقع الحكومية ذات الصلة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق