الصفحات

الأحد، 18 مارس 2018

مساهمة في دراسة الجهوية الموسعة - بمقاربة سوسيولوجية ..


مساهمة في دراسة الجهوية الموسعة

بمقاربة سوسيولوجية


رشيد لزرق جامعي

نشر في السند يوم 05 - 11 - 2010


   تعتبر الجهوية في الوقت الحالي من القضايا التي باتت تحضى باهتمام ومتابعة متزايدة على المستوى الوطني، ويأتي هذا الاهتمام في خضم تجربة اكتسبها النظام اللامركزي بإيجابياتها وسلبياتها، حيث وصلت كل القوى السياسية والفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والهيئات التمثيلية وطنيا إلى كون إقرار جهوية موسعة من شأنه التأسيس لمرحلة تنموية جديدة بتفكير ومناهج جديدة، و ضمن هذا السياق بات المغرب مطالبا بتحقيق إصلاح جهوي فعلي يستجيب لتطلعات المجتمع المدني والسياسي بمختلف أطيافه و مكوناته. 

   حيث و صل كل المهتمين، لكون الجهوية كما هي معتمدة بصيغها وأساليبها الحالية وإمكانياتها، فالدولة اقتنعت بحتمية الإقلاع عن عدم التمركز وجعل أدوات القرار قريبة من المعنيين وإصلاح اللامركزية، وهنا يمكن طرح إشكاليتن قبل الدخول في تحديد الجهوية الموسعة كاصلاح شامل للمركزية الجهوية، هاتين الإشكاليتين، هما إشكالية تحديد مفهوم الجهوية. بمختلف أبعادها و جوانبها قصد امتلاك رؤية شمولية و من خلال تتبعنا للعديد من الكتابات وجدنا أن هناك تجاهلا للمقاربة الاجتماعية الأمر الذي نحاول من خلال دراستنا هاته تداركه قصد إغناء النقاش الدائر بخصوص الجهوية الموسعة.

I. مقاربة سوسيولوجية لمسألة الجهوية بالمغرب

 أن مسأت تدبير الشأن العام في كل مجتمع لا يمكن فهمها بمعزل على المقترب السوسيولوجي ووفق هذا الاتجاه ،يعد تدبير الشأن العام مسألة سوسيوثقافية بالأساس، فهي بذلك وثيقة الارتباط بمنظومة القيم والرموز والأعراف والعادات والتقاليد والقوانين السائدة في مجتمع محدد.

  و من خلال تتبع المعطيات التاريخية، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمعات الثالثية، عموماً و المجتمعات العربية على وجه الخصوص، يتبين لنا أن هذه المجتمعات شهدت أشكالا متنوعة من التنظيم و الهيكلة والتوجيه لمسألة تدبير دواليبها الاجتماعية المختلفة.

  هذه الأشكال عرفت حدوداً متباينة من حيث نمط و مستوى التنظيم و الفعالية و المشاركة، و في ضبط العلاقات المجتمعية بهياكل الدولة السياسية المتحكمة في السلطة و في تدبير الشأن العام، وهذا التباين يرتبط بالمنظومة الثقافية والهياكل الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية القائمة في المجتمع.

   والمغرب كمنطلق لهذه الدراسة يعد مجتمعا في طريقه للنمو يستحيل فهمه من دون استحضار المفاهيم الثلاثة التالية:

1- الجماعة: Commune/Collectivité
2- القبيلة: Tribue.
3- المخزن: Makhzen.

   إن هذه المفاهيم الثلاثة تعد مفاتيحا أساسية لا غنى عنها في تحليل و استيعاب و فهم طبيعة النظام الاجتماعي والثقافي و السياسي المغربي المعاصر.

  شكلت هذه الأطر و الهياكل الاجتماعية التنظيمية، اطرا فاعلة و مندمجة في محيطها السوسيوثقافي العام، بشكل متفاعل و متكامل وفق شروط وحدود معينة مع غيرها من المؤسسات الاجتماعية كالزاوية و المسجد و الأسرة...

  إن تدخل الاستعمار تحت شعار " الرسالة الحضارية والتحديثية" ضرب البنى الاجتماعية واستطاع بالفعل تحطيم العديد من المقومات التي كانت تتوفر عليها من بنيات اقتصادية و اجتماعية و سياسية ... فارضاً نماذج وبدائل غريبة وفي نفس الوقت احتفظ بالأطر والهياكل التقليدية المتآكلة، والمتواجدة خارج التاريخ في منظور الفكر الاستعماري، مما يخدم مصالحه المعلنة و الظمنية مبرراً ذلك ، بهدف إخراج المجتمعات المتخلفة من تاخرها التاريخي والعلمي و الثقافي إلى عالم التقدم و النماء و الحداثة التي وصلت لها المجتمعات الأوربية.

  لقد تم طرح الدولة الوطنية في المجتمعات الثالثية والعربية كبديل وطني و تاريخي و سياسي للاستعمار، واستطاعت بفعل تحمس الشعوب لخوض صراعات مع القوى المستعمرة و الحصول على الاستقلال السياسي.

  غير أن عقود الاستقلال الشكلي أظهر تخبطاً وعجزاً في احتواء التمايزات و الاختلافات و المشكلات مما أدخلها في وضع هجين ما بين التقليد من جهة ، و مقومات حداثة مشوهة من جهة أخرى.

 هكذا حاول كل مجتمع من المجتمعات الثالثية ادارة تنميته و مشكلاته بشكل ظل مرتهنا بشروطها ثقافة وطبيعة تركيبته الاجتماعية والسياسية، وإمكاناته المادية والبشرية، وأيضا بنمط علاقاته وتوجهاته سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي. هذا مع العلم بأن القاسم المشترك الذي يظل حاضراً بين هذه المجتمعات هو اندراجها في إطار أوضاع التخلف والتهميش التي ترتبط بشروطها ومقوماتها الذاتية، كما ترتبط بالسياسات والسيناريوهات الدولية لتقسيم النفوذ.

  و من بين الحلول المقدمة لاخراج هذه الدول من تخلفها الشامل و المعقد إلى فضاء الحداثة و التنمية تم طرح الجهوية Régionalisme كسياسة تدبيرية وتشاركية وعقلانية وديمقراطية ولامركزية لإدارة الشأن العام.

  ومن تم باتت العديد من المفاهيم و مكونات الجهةوالجهوية والجماعات المحلية، والتنمية الجهوية... قضايا تثير تساؤلات حول انشغالات فكرية و اجتماعية و سياسية بشكل متعدد الابعاد على اعتبار "الجهوية" كسياسة وتوجهات، وكبناء تنظيمي، ليست بمثابة هيكلة مستقرة أو هامدة وإنما هي سيرورة ديناميكية من التنظيم والبناء وتفاعل للمصالح والرهانات والتفاعلات... وطنيا وجهوياً بل وحتى دولياً ، ولذا فإن الجهوية تظل، بفعل هذه الدينامية الحية، متفاعلة مع شروطها التاريخية، وبالتالي تظل مسألة فرعية ضمن ما يعرف ب "المسألةالاجتماعية: Question Sociale" في مدلولها السوسيولوجي الشمولي.

II. الجهوية كوسيلة للتدبير الديمقراطي للتعدد والاختلاف في إطار الدولة الوطنية

إن الجهوية : آلية تدبير لتعزيز لامركزية صنع القرار وتصريف مقتضياته، ولدمقرطة تسيير وتنظيم وهيكلة اختلافات دواليب ومجالات ومكونات ومؤسسات المجتمع، هي مفهوم حديث التبلور، وإن كانت له سوابق تاريخية أصبحت، في مجتمع العقلنة والتنظيم والمأسسة، تقليدية متجاوزة.

  و عليه فإن مفهوم الجهوية من المفاهيم التي باتت تتردد بشدة في الآونة الأخيرة لدى مختلف الفاعلين السياسيين بالمغرب الأمر الذي يقتضي منا استيعابه عبر وضعه في سياقه التاريخي لمعرفة ضروف إفرازه و السياقات التي طبق فيها هذا المفهوم ويقتضي منا تأطيره تاريخياً لمعرفة سياق إفرازه و السياقات المغايرة التي طبقت. هذه أهم عوائق وعواقب هذا النقل أو التوظيف، وما يطرحه كل ذلك من تفكير في شروط وآفاق وبدائل التجاوز. وهكذا يمكن أن نذكر، فيما يخص السياق الغربي تحديدا، بالملاحظات الآتية:

أ - ظهور الجهوية.

  ظهر مفهوم الجهوية في إطار المجتمعات الغربية كنتيجة للتحولات التي التي شهدتها على مختلف الميادين معرفية وسياسية وتكنولوجية واجتماعية وحضارية متعددة مست كافة المجالات والأصعدة. أفرزت تأسيس "دولة وطنية: Etat National" شكل ميلاد الدولة الوطنية تتويجا للحركة التي قادتها البرجوازية بفصائلها المختلفة، والتي كانت بمثابة بديل اجتماعي و سياسي للنظام القائم.

  انشغلت الدولة الوطنية في خلال القرن الثامن عشر بسبل التحكم في الدولة عبر إقامة سلطة مركزية لتحقيق مشروعها الاجتماعي من أجل تطبيق مشروعها الاجتماعي والسياسي والفكري، من دون أن يلغي البعد الديمقراطي وعرفت هذه الفترة تسارعاً في التحولات و التغير على المستوى الاجتماعي، كان من نتائجه ظهور مجموعة من القضايا و المشاكل والحاجيات التي لم تكن إبان عصر الاقطاع مما ولد فكرة الجهوية من أجل تدبير تمايز المجتمع، بفعل تعقد مؤسساته وبنياته وعلاقاته، والأنماط المعرفية والقيمية ...فباتت الحاجة للتخصص الوظيفي مضبوطا، يشتغل في إطاره من داخل حدود وأهداف ووظائف مرسومة من طرف المركز وفق معايير ومقتضيات هذا التخصص من أجل أن يصبح القطاع ، أو الجهة أو المؤسسة المعنية أكثر ايجابية و مردودية ، فظهرت الحاجة لتقسيم العمل الاجتماعي.

  هذا التطور المجتمعي انعكس على مفاهيم الديمقراطية بشكل أفقي و عمودي.  نقصد بالتطور الأفقي، التطور الحاصل بين جهات و مناطق مجالات المجتمع ،أما عمودياً : فبين الأفراد و الطبقات و مختلف الشرائح الاجتماعية من حيث المصالح و الأدوار التي يلعبونها داخل المجتمع الأمر الذي انعكس على تطور مفاهيم الديمقراطية ومبادئ تكافؤ الفرص بشكل أفقي، بين الجهات ومجالات الاجتماعية، وعموديا.

  إذن يمكن اعتبار مفهوم الجهوية في الغرب جاء نتيجة سياق تطور الفكر الديمقراطي، حيث برزت الجهوية باعتبارها مكونا أساسيا للمجتمع من أجل ممارسة الاختلاف و التمايز في حاجيات وأولويات و اهتمامات كل جهة. و بالتالي فالجهوية كانت بمثابة أسلوب ديمقراطي للتعبير عن مطالب و خصوصيات هذا الاختلاف من أجل مواكبة التحولات الاجتماعية والبشرية .

  إن الجهوية في الغرب وفي السياق الذي أفرزها عملت على بلورة التنظيم العقلاني للمجتمع: "Organisation Rationnelle"، يقوم على استراتيجية بناء تنظيم المؤسسات و المجالات الاجتماعية على أساس عقلاني بإسناد المهام والوظائف والمسؤوليات للمؤسسات والأفراد والجهات على أساس الكفاءات والخبرات الاجتماعية لا على أساس عقلاني بعيد كل البعد من المقاربات الحالية التي باتت تعتمد الجهوية على أساس تدبير اختلاف الهويات، مما جعل من الجهوية نقلة نوعية في المجتمع الحديث على مستوى الفكر والممارسة الاجتماعية، مما فسح المجال لبروز مفهوم التخطيط للتنمية Planification على مختلف الميادين سواء كانت وطنية أو جهوية وفق للحاجات و الامكانيات من أجل تكريس التدبير الكفيل بتفعيل القدرات .

  شكل هذا الاتجاه تدعيماً لسيرورة الديمقراطية القرار في إطار التخطيط العقلاني المتكامل بشكل منظم ،تشارك فيه كل الأطراف و الفعاليات و مكونات المجتمع. وبذلك برزت الجهوية كمحاولة من أجل ايجاد صيغة توفيقية بين كل من المجتمع المدني بفعالياته و مؤسساته والدولة كإطار ممثل للمجتمع العام والحامل لمشروع كلي وشرعي لتنظيم العلاقات والتفاعلات الاجتماعية لكل مكونات المجتمع.

III. الجهوية و أهدافها.

  الجهوية كنمط للتعبير عن تصور مجتمع لحاجاته و مشاكله من أجل بناء استراتيجية تمكنه من تدبير أموره و التحكم فيها تفترض أن تدرجه ضمن تخطيط شمولي متكامل ينظم كل الجهات من أجل استثمار الموارد البشرية و الرفع و إغناء التعدد الثقافي و الرفع من المستوى الاقتصادي و الصحي و فق أهداف و خلفيات واضحة، بشكل يمكن كل الجهات من التدبير العقلاني الذي يقوم عليها تنظيم هذه المجتمعات و ذهبت بعض المجتمعات المتقدمة بعيدا في هذا التدعيم الى الحد الذي يمكن كل جهة أو مؤسسة ولكل فرد لبناء مشاريع خاصة للتعبير عن المتطلبات والإهتمامات والخصائص المميزة لكل عنصر من أجل تحقيق مجموعة الاهداف التالية:

1- المقاربة التشاركية في تدبير الشأن العام.

   في زمن العولمة، تزايدت سرعة حراك المجتمعات، مما فرض التحول في ما كان يعرف بالتخطيط المركزي الخاضع لتوجهات المركز، وباتت هناك حاجة ماسة لإعتماد مقاربة تقوم على إشراك كل أطراف المجتمع هذا التوجه، بات يسمى بالتخطيط التشاركي Planification Participative، من أجل بلورة تصور شمولي متكامل يوفق بين التوجهات الكبرى للمجتمع والجهة.

2- دمقراطة صنع القرار Démocratisation de la prise de Décision.

  إن المقاربة التشاركية كهدف لا يمكن أن ترسخ من دون تحقيق ديمقراطة في اتخاد القرارات، بحيث لكي يكون أي قرار ديمقراطي، و جب أن تشارك فيه كل الأطراف المستهدفة منه، لا أن يحتكر من قبل جهة واحدة.

  وفق هذا المنطلق لم يعد يكتفي بالنظر للقرار في ضرورة احترامه الآليات الديمقراطية الشكلية في اتخاده و تطبيقه بل وجب تتبعه من أجل تحقيق المبتغى ولن يتحقق ذلك إلى بإشراك الأفراد المستهدفين منه من أجل ضمان نجاعته و تحقيق الغاية من ورائه.

  ولضمان هذه الديمقراطة، يتعين وضع سياسة جهوية تقوم على إتاحة الفرصة لبروز الخصوصيات التقافية من أجل التعبير عن ذاتها واستغلال الشئ الذي يوفر الاستغلال الأمثل للإمكانيات والطاقات بشرية والمادية، وفق ما تريد كل جهة بلوغه ضمن منظور تنموي شامل ينظم الاختلافات و يؤسس لمسيرة تنموية اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية عامة .

  وفق هذا المنطلق يتم توفير الأدوات التشريعية التي تمكن من آليات التدبير الرشيد، فحينما نخطط على مستوى الجهة ضمن التوجهات الكبرى، نوفر إمكانيات التركيز على مجالات أو قطاعات أو معالجة مشكلات جهوية الشئ الذي مكن من اقتصاد الجهد والمال وتجاوز الحلول التعميمية للقرات المركزية و التي تكون النتيجة بعدها غير دقيقة.

IV. الجهوية في المغرب السياق و العوائق

1. السياق التاريخي التي اعتمدت فيه الجهوية بالمغرب

    يذهب العديد من الباحثين للخلط بين الجهوية كأسلوب حديث لتدبير الشأن العام، و بين الوضعية التي عاشها المغرب ما قبل الاستعمار والتي كان مقسما إلى قبائل و عشائر تكرس الاختلاف في الممارسات بين القبائل و الجهات والأعراف والإثنيات داخل المجتمع، وذلك بسبب المسار المتعتر الذي عرفته الجهوية في المغرب و الذي أدى إلى التعاطي معها وفق المقاربة الأمنية، بدل المقاربة التنموية مما جعل العديدين ينظرون إلى مفهوم الجهوية بمنظور قدحي Péjoratif، لا يرى في السياسات الجهوية في المغرب أي تدبير عقلاني للاختلاف والتعدد داخل الوحدة الوطنية الشاملة كما هو منتظر.

  إن ضعف الأداء و الحصيلة السياسية الجهوية يمكن ارجاعها إلى كون مغرب ما بعد الاستقلال، ظل مشغول باستكمال وحدته، و ضمان تماسك كل مكوناته، مما جعله يتمسك بالتدبير المركزي الشئ الذي فوت عليه الفرصة لإعطاء الاهتمام للجهة من عناية وتأطير، وظلت النزعة المركزية هي المهيمنة بشكل عام في التوجهات الكبرى للسياسات العامة و في كل المخططات التنموية المعتمد من طرف المركز.

  غير أن ظهور حراك اجتماعي جعل العديد من فئات المجتمع تعبر عن مطالب ثقافية و تنموية احتضنها القوى التقدمية الشيء الذي أسس إلى حوار بين هاته القوى و المركز أسفر عن تأسيس التناوب التوافقي و الذي أسس لتطور في المسار الديمقراطي بالمغرب المعاصر و التي كانت من مطالبها ضرورة إقامة دستور يقوم على أساس دمقرطة الحياة السياسية و الذي جعل من الجهوية في صميم هذه المطالب مما دفع بمركز القرار على المستوى المركزي إلى مراجعة السياسات التخطيطية المتبعة وبنائها على أساس عقلاني، تراعي الخصوصيات الثقافية لمكونات الجهوية للمجتمع.

2. عوائق السياسة الجهوية بالمغرب

الجهوية: كآلية تدبيرية وعقلانية حديثة قد انخرطت في إطار المجتمعات المتقدمة ضمن فلسفة تنموية واجتماعية واقتصادية وسياسة محددة، واضحة الأهداف والمقاصد، وقائمة على قيم ومعايير منسجمة مع مطالب وخصوصيات السياق السوسيوثقافي الذي تنتمي إليه.

  هذا الأمر يجرنا للتساؤل حول مدى نجاعة السياسة الجهوية في المغرب؟

الجهوية كأسلوب للتدبير الحكيم من أجل تحقيق التنمية و نمط فكري يروم دعم الديمقراطية المحلية، من أجل تكريسها في المغرب، يلزم بداية توفير مجموعة من الشروط المسطرية، التنظيمية، البشرية الضرورية، والمناخ السياسي والثقافي والاجتماعي المناسب. أي مجمل المقومات الكفيلة بنقلها من الخطاب إلى الفعل، وتحويلها من مبادئ وقيم وأهداف وترتيبات إدارية واقتصادية ومسطرية... إلى "ثقافة ممارسة"، أي إلى "سلوك ديمقراطي وعملي متنفذ" قائم على استلهام الشروط، والمقومات التي تقوم عليها.

   وفي هذا المجال يمكن القول: أن المغرب منذ انخراطه المباشر في سياسة "الجهوية"، بذل جهودا كبيرة لدعم هذه السياسة، على المستوى التشريعي والمسطري، منذ 1971 إلى 1976، إلى التقسيم الجهوي الجديد سنة 1996، هذه الجهوذ لم تحقق النتائج المتوخاة منها ،لكون الجهوية وجب صياغتها في ظل فلسفة اقتصادية و اجتماعية و سياسية و اضحة عبر رؤية شمولية متكاملة للتنظيم المجتمعي من حيث التخطيط و البرمجة. الشيء الذي أفرز العديد من العوائق و المتمثلة في كون أغلب النخب الجهوية المتواجدة حاليا ليس لها النضج والوعي الإجتماعي و السياسي والوطني المسؤول المكرس للمصالح الوطنية العليا.

  الأمر الذي يولد صعوبة لديها في استيعاب المفاهيم و النماذج العقلانية للتدبير و التنظيم، و بالتالي يصبح تعاملها مع هاته المفاهيم كشعارات لا كمبادئ، حيث أظهر التطبيق العملي فجوة بين التنظيم الجهوي كتنظيم حداثي عصري، و بين المضامين التي لازالت ذات طابع تقليدي من حيث البنيات و التنظيمات الجهوية.

   الأمر الذي أدى إلى عدم استفادة بعض الجهات والأقاليم و فك عزلتها ، وذلك بفعل خضوع هذه التجارب للعديد من المراهنات والصراعات وتنازع المصالح مما يؤشر على كون مجتمعنا لازال لم يقطع نهائيا مع العقلية القبلية.

   إن التقسيم الجهوي الحالي عند تحديد مكوناته و حدوده و مراكز الجهات، انعكس على عدم استفادة العديد من المدن والقرى والمناطق ،إذ كان يفترض أن تستفيد منه في مجال الخدمات الصحية والتربوية والاقتصادية وغيرها، وذلك نظرا لافتقادها لكثير من الشروط والإمكانات والمؤهلات... ، وبظهور المصالح الفئوية، مما أعاق تحقيق تحول نوعي في المجتمع من حيث الفكر و الممارسة. الأمر الذي بات يستدعي القطع مع الوضع القديم والإنتقال إلى وضع جديد يعتمد على سياسة معقلنة للبحث العلمي ،يصبح ضرورة علمية ومجتمعية حاسمة لتدعيم وتأطير وترشيد ممارسة الجماعات المحلية. غير أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا في إطار أعم وأشمل، أي على مستوى سياسة وطنية شمولية.

V. تصور حول الجهوية الموسعة بالمغرب

    إن الجهوية كأسلوب حداثي عقلاني للتدبير و صنع القرار هي مسألة تقع في صلب المسالة الديمقراطية تقتضي دعم المشاركة السياسية و إشراك كل الأطراف و الفعاليات المعنية بصنع القرار في إطار توجهات كبرى لمشروع مجتمعي متكامل قائم على الوفاق و التشارك و التعامل الديمقراطي و الإعتماد المتبادل بين الأفراد و المؤسسات و الجماعات و الجهات المتعددة في المجتمع، تقتضي إصلاح سياسي و دستوري و تجاوز التعثر الديمقراطي الذي أظهرته الإنتخابات الأخيرة و التي كشفت عن هوة تفصل المواطن المغربي عن المجتمع السياسي، بالانكباب على معالجة أزمة الثقة هاته و التي تشكل عقبة في تطور المسار الديمقراطي بالاعتراف بكون المسلسل الديمقراطي الذي دشنه المغرب في التناوب التوافقي ،و الذي ابتدأ بدستور 1996 قد وصل الى مرحلة تفرض إحياء جديد لمضامينه و أشكاله، و كل تأخر في الإصلاح يؤدي إلى تنامي الهياكل الموازية التي تفرغ العمل المؤسساتي من محتواه، لهذا فالمرحلة المقبلة تقتضي إصلاحا سياسيا و دستوريا يضع حدا لهذه المعيقات البنيوية، فمشروع الجهوية الموسعة يشكل فرصة لطرح أفق سياسي للإصلاح المؤسساتي بروية شمولية هذا المبتغي يفرض تحقيق شروطه المتمثلة بالأساس في ضرورة مراجعة الوثيقة الدستورية المؤطرة لعمل المؤسسات بشكل يروم لتحقيق تجانس و توازن السلط قصد التوفيق بين مستلزمات الشرعية الديمقراطية و الناجعة التدبيرين و البناء المعقلن و المتوازن عبر إحياء المشروع الديمقراطي لإزالة العوائق بين المواطن و المجتمع السياسي في اتجاه يستند الى قيم المواطنة و مكانة الدولة في المجتمع.

   إن مشروع الجهوية الموسعة الذي طرحه الملك في يناير 2010 يمكن اعتباره منطلقا لخلق دينامية جديدة من أجل إصلاح عميق من أجل تحديث هياكل الدولة . لتكون مؤهلة لإقامة نظام لامركزي ديمقراطي يستحظر البعد المتعلق بقضية الوحدة الترابية و يهدف في الوقت نفسه إلى إحداث تحول في الحياة السياسية يجعل الديمقراطية المحلية عنصراً معبئاً للطاقات و منتجاً للنخب، و يجعل التدابير الترابية مكوناً أساسياً لرؤية تنموية حديثة تروم بناء جهوية موسعة ديمقراطية تأخد بالحسبان التنوع البشري و الثقافي في إطار هوية وطنية قوية و متجددة مما يسمح بانبثاق انتماء جهوي قوي يستنهض كل الطاقات الحية. هذه الروية تفرض تحسين القدرات المؤسسية للدولة عبر اصلاح أنظمة اللامركزية، اللاتركيز ونمط تدبير المالية العمومية. هذا الاصلاح و وجب أن يرافقه إصلاح النظام المؤسسي للجهة و نظام الاقتراع و إصلاح قانون الأحزاب وفق رؤية جديدة للجهة توائم الواقع المغربي و تتفادى إنتاج نفس الأنماط التقليدية القائمة على محددات إثنية أو جغرافية ،بنهج مقاربة تعتبر نظام الجهة شكلا متطورا و فق سيرورة تاريخية ،هذا المبتغي يمر بتحقيق مقاربة واقعية ومتطلعة نحو المستقبل، عبر الإنكباب على إعادة تحديد الجهات و توزيع خريطة الإختصاص و سياسة الموارد ،و تعديل نمط الاقتراع في الجهة.

1. التقسيم الترابي للجهات.

  إن التقسيم الترابي للجهات وجب أن يرتبط بنقاش موسع، قائم على اختيار عقلاني، يضع قواعد موضوعية لتحديد خريطة جهوية جديدة تحافظ على وحدة الدولة و وحدة التراب و تحقيق المشاركة، الفعالية في التطبيق.

أ - اللامركزية: في مختلف مجالات التدبير و صنع القرار، و هي مسألة تقع في صلب المسألة الديمقراطية بشكل عام.

ب - المشاركة: إشراك كل الأطراف و الفعاليات المعنية في تسير الشأن العام في إطار توجهات كبرى لمشروع مجتمعي متكامل قائم على التوافق والمشاركة و التعامل الديمقراطي، والاعتماد المتبادل بين الأفراد والمؤسسات والجماعات والجهات المتعددة في المجتمع.

ت - الفعالية: اعتماد كافة الوسائل التواصلية و التقنيات الحديثة و أساليب البرمجة و التخطيط مما يسهل عمليات الدفع بوتيرة التنمية و مواكبة التطورات المتسارعة، باعتماد سياسة رشيدة للبحث العلمي ولتكوين وتأهيل العنصر البشري، من خلال بلورة سياسة تدبيرية ذاتية منسجمة مع حاجاتها و مستقلة عن أي تبعية.

2. توزيع الاختصاصات بين المركز و المحيط.

   إن الجهوية هي تراكم ينبغي تحقيقه بشكل تدريجي، من لدن مختلف الفاعلين بروح توافقية، يضع مشروع الجهوية برؤية شمولية تروم الإصلاح ، بداية- إصلاح هياكل و تنظيمات الدولة في اتجاه تكون فيه اللامركزية الجهوية محركا و محفزا لإعادة تموقع الدولة على المستوى الترابي تكون فيه اللامركزية و اللاتركيز على المستوى الجهوي ركيزتين لتوازن مؤسساتي يخضع لنظام تحديد المسؤوليات السياسية بشكل واضح بين مختلف الفاعلين، مركزيا و محليا.

أ - الوالي: يكون فيه ممثلا للدولة و منسقا للسياسات القطاعية الجهوية و مسؤولا أمام الحكومة في شخص الوزير الأول الذي يتقدم له بالتقارير السنوية المصادق عليها من طرف مجلس الجهة.

ب - مجلس الجهة: يكون المسؤول عن وضع مخططات لإعداد التراب ، وللتنمية الاجتماعية و الاقتصادية للجهة و يكون رئيسه آمرا بالصرف.

3. إصلاح القانون الانتخابي للجهة.

  ضرورة توفير الشروط المناسبة لإقامة مجالس جهوية على أسس ديمقراطية سليمة تجعلها منتخبة بشكل عقلاني وديمقراطي يمنحها تمثيلية للمجتمع ذات مصداقية مقبولة سياسيا واجتماعيا، الأمر الذي يجعلها ممثلة لحاجيات وتطلعات و مصالح المواطنين. ومدرسة اجتماعية و سياسية لتكوين المواطنين و لتأسيس ثقافة سياسية جديدة قائمة على قيم العقلانية والديمقراطية والحوار ومتعارضة مع قيم الانغلاق والشوفينية أو القبيلة الضيقة.

   هذا الإصلاح يقتضي إعادة تحديد وظائف الجهة و علاقتها بالجماعات المنتخبة على صعيد الجهة لضمان تناسقها وانسجامها يحول دون تضارب الأهداف والمشاريع عبر توفير مجمل المقومات الأساسية المدعمة لهذا البناء و التي تضمن للجهة المعنية إمكانية الإفادة و الاستفادة في إطار سياسة الاعتماد المتبادل الذي يجب أن تكون الموجه الأساسي للسياسات التنموية جهويا ووطنيا وبكل ما تتطلبه هذه الجهة من شراكة partenariat تكاملية بين مختلف الجهات و المؤسسات و القطاعات و الفرقاء المعنيين على المستوى الجهوي أو على المستوى الوطني العام.

   ومن أجل ضمان حد أدنى من استقرار و فعالية مجلس الجهة وجب أن يتم انتخاب أعضائه وفق نمط اللائحة على دورتين مما يسمح للفاعلين الجهوين من ربط أو توفيق تحالفاتهم على أساس تقارب البرنامج و تفادي ظاهرة استعمال الأموال و عدم الانسجام في التدبير على المستوى الجهوي. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق