الصفحات

الثلاثاء، 1 مايو 2018

التطور المناخي وتأثيره على الصحراء الكبرى خلال العصر الحجري الحديث ...


                
                التطور المناخي وتأثيره على الصحراء الكبرى

                         خلال العصر الحجري الحديث

الأستاذ مبارك جعفري
المركز الجامعي بالوادي

   الصحراء في اللغة تعني الأرض القاحلة الجرداء, حيث جاء في لسان العرب لأبن منظور والقاموس المحيط للفيروزبادي أن الصَّحْراء من الأَرض: هي المُستوِيةُ في لِينٍ وغِلَظ وقيل: هي الفَضاء الواسع؛ زاد ابن سيده: لا نَبات فيه. وقال ابن شميل: الصَّحْراء من الأَرض مثل ظهر الدابة الأَجْرَد ليس بها شجر ولا آكام ولا جِبال([1])
    وتعتبر الصحراء الجزائرية جزاء من الصحراء الكبرى التي تغطي جزءاً كبيراً من وسط أفريقيا وشمالها بالإضافة إلى أجزاء من غرب آسيا, تمتد الصحراء الكبرى الإفريقية من المحيط الأطلسي غربا إلى البحر الأحمر شرقا، على طول 3000 كلم, ومن الأطلس الصحراوي شمالا إلى بداية المناطق الاستوائية جنوبا، على طول 1500 كلم وتشكل حاجزا طبيعيا بين شمال القارة ووسطها, يقدر الباحث ميلبورن مساحتها في حوالي تسعة ملايين كلم2 ([2] ).بينما يرى هوكو (HUGOT ) أنها أربعة ملايين ونصف مليون كلم2([3]) ويبدو أنه من الصعب تحديد مساحة الصحراء بدقة كون التصحر يلتهم سنويا عشرات الآلاف من الهكتارات مما يجعلها في تمدد مستمر مع استمرار الجفاف . 
   تختلف تضاريس الصحراء عن باقي مناطق اليابسة على سطح الأرض وأبرز معالمها في الجزائر:
العروق: وتعرف بالسهول الرملية وأهمها في الصحراء الجزائرية العرق الغربي الكبير والعرق الشرقي الكبير وعرق شاش وعرق إقدي وهي كثبان رملية متصلة تشكلت مع مرور الزمن نتيجة عملية النحت والإرساب, الرق: ويشغل مساحات واسعة من الصحراء على شكل منبسط حصوي تتخلله بعض الكتل الصخرية والأودية والمرتفعات, يتعرض دوماً للتعرية مثل صحراء تنزروفت, الهضاب: وأهمها هضبة تادمايت, المرتفعات أهمها مجبلة الهقار والطاسيلي وهي جبال بركانية قديمة التكوين توجد بها أعلى قمة في الجزائر تهات حوالي 3000م, الشطوط والسباخ, وهي أماكن منخفضة أهمها شط ملغيغ في الجنوب الشرقي وسبخة (مكرغان)([4])
   يتميز المناخ الصحراوي بالجفاف مع اختلاف في حدته من منطقة إلى أخري, مع الحرارة الشديدة في فصل الصيف, تصل إلى خمسين درجة مئوية في منطقة عين صالح مثلا, والبرودة في فصل الشتاء والتي تصل إلى أقل من صفر درجة في بعض المناطق, وبالتالي يزيد المدى الحراري عن أربعين درجة مئوية, كما تتميز الصحراء بالرياح والزوابع الرملية القوية تصل سرعتها أحياناً إلى 100كلم في الساعة, كما تكون عرضةً للتيارات الباردة القادمة من الشمال في فصل الشتاء, والتيارات الحارة القادمة من الجنوب في فصل الصيف. 
   تقطع الصحراء عدة أودية أهمها في الجزائر: واد الساورة ووادي تمنراست ووادي ميزاب ووادي سوف ووادي ريغ. تعرف هاته الأودية عند الجغرافيين بالكاذبة لقلة مياهها, وسوء انتظامها لكن رغم ذلك تعمل على تغذية الينابيع والآبار بالمياه, وبعث الحياة داخل صحراء قاحلة, بما ينمو حول مجاريها من أعشاب ونباتات صحراوية, مثل: الديس, الدرين, العقاية,...الخ), وبما تشكله من سباخ عند مصباتها([5]).
  تكاد تخلوا الصحراء من الغطاء النباتي, نتيجة للجفاف وقسوة المناخ, باستثناء أشجار النخيل وبعض النباتات الشوكية, التي تنمو في مجاري الأودية, أو في المناطق الرطبة, والمعروفة بقرب مياهها الجوفية من السطح, تعيش في الصحراء حيوانات مثل: الجمال, الزواحف, وبعض الطيور, التي اتخذت من مجاري الأودية, والواحات مأوى لها.
   هذه الأوضاع البيئية للصحراء حاليا يرى كثيرا من المؤرخين وعلماء الجيولوجيا أنها لم تكن كما هي عليه الآن، إذ كانت وإلى غاية أزمنة متأخرة يقدرها البعض بحوالي 6000 سنة ق . م أو ربما إلى ما بعد ذلك، عبارة عن منطقة خصبة يسودها مناخ رطب وتعج بمختلف مظاهر الحياة من نباتات وحيوانات كما عرفت قيام الحياة البشرية. وهذا ما يتطابق مع الحديث النبوي الشريف حيث روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لن تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجًا([6]وأنهارًا "([7]و روى الإمام أحمد في مسنده قال: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا مِنْهُ وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا "([8])
  ويعتبر هذا الحديث النبوي الشريف من المعجزات العلمية التي تصف حالة الصحراء من قبل و لم يدركْها العلماء إلا في العقود الأخيرة حيث تدل الشواهد العلمية والأبحاث أن جزيرة العرب وهي جزء من الصحراء الكبرى كانت في القديم أرض مخضرة, تتخللها الأودية والأنهار, وبها مختلف أنواع النباتات والحيوانات ومن هنا حاول العلماء من خلال الأبحاث والدراسات تحديد طبيعة المناخ الصحراوي القديم ومعرفة أهم التغيرات التي طرأت على البيئة الصحراوية .

الصحراء قبل التصحر:
   تدل البقايا والمستحثات والرسومات التي عثر عليها لحيوانات مثل الكركدان والتمساح وفرس البحر والفيل([9]) والحمار الوحشي والزرافة والجاموس والخنزير ذو القرنيين والمعز والظبي والنعام أنها كانت تعيش في الصحراء, إلى جانب نباتات مختلفة([10]) منها شجر الجوز والصفصاف والدردار والزيتون...الخ وقد استمرت الغابات والأشجار تغطي المرتفعات مثل جبال الهوقار والطاسيلي حتى الألف الثالثة قبل الميلاد على أقل تقدير قبل أن ينتابها الجفاف وتتحول إلى مناطق جرداء مقفرة وصحراء مثل ما هي عليه الآن ([11]). ومن خلال دراسة البيئة المناسبة لهاته الكائنات يمكن القول أن الصحراء قد عرفت مناخ حار رطب في القديم جعل منها جنة خضراء. 
    ومن الشواهد التي تؤكد هذه الوضعية المناخية التي عرفتها الصحراء، أثار الفرشات والمسطحات المائية كالبحيرات الضخمة حيث تدل الدراسات الحديثة أن شط الجريد الواقع جنوب تونس كان قد تحول إلى بحيرة في مناسبتين : الأولى حوالي 140000 سنة ق.م ، أي بعد نهاية دور جليد ريس وبداية الفترة الفاصلة بين دور جليد ريس ودور جليد قورم . والثانية حوالي 90000 سنة ق.م ، أي خلال الربع الأول من دور جليد قورم. ونفس الشيء بالنسبة لبحيرة تشاد، حيث عرفت هذه البحيرة تضخماً في حجمها خلال عصور ما قبل التاريخ وذلك فيما بين 40000 و 20000 سنة ق.م ، أي خلال المرحلة الأخيرة من دور جليد قورم بلغ ست عشرة مرة المساحة الحالية، و تجاوز عمقها خمسون متراً وهي اليوم في تناقص مستمر([12]), و كانت تعيش في هذه البحيرات مختلف أنواع الأسماك([13]) والكائنات البحرية كفرس البحر والتماسيح بالإضافة إلى مجاري الأودية و الأنهار والتي كانت دائمة الجريان, كما وجد في التاسيلي رسم لقارب مما يؤكد فرضية استخدام الانسان لهاته المجاري في الصيد والتنقل([14]ومن الأدلة على المناخ الرطب الذي كان يسود الصحراء صدفة عثر عليها في الصحراء الجزائرية دلت على أن معدل التساقط كان 500ملم([15]), وكذلك المسطحات المائية الضخمة الموجودة بجوف الصحراء حاليا، والمقدرة بمليارات الأمتار المكعبة والتي تنفجر على شكل عيون أحيانا مثل عين صالح ولمنيعة ) و تغذي الأبار التي تسقي الواحات وقد أثبتت الدراسات أنها تشكلت خلال الفترات الرطبة والممطرة التي عرفتها الصحراء خلال عصور ما قبل التاريخ. كما دلت صور الأقمار الصناعية على وجود أثار للمجاري المائية تحت كثبان الرمال كما هو الحال في صحراء الربع الخالي بشبه الجزيرة العربية([16]) .
   وانطلاقا من هاته المعطيات عمل كثير من الباحثين مثال: غوتيي، وكابوت, وبالوت([17]). ...وغيرهم على دراسة هذا التحول والتطور المناخي الذي شهده العالم وأهم مسبباته وابرز انعكاساته خاصة على البيئة الصحراوية. 

التغيرات المناخية:
   يمكن أن نقرن مفهوم التغيرات المناخية بتغير درجة الحرارة كونه العامل الرئيسي الذي يتحكم بدوره في مختلف الخصائص المناخية الأخرى مثل كمية التساقط وشكله و نسبة الرطوبة، والرياح لأن درجة الحرارة تؤثر على حجم ووزن الهواء وبالتالي تؤثر على حركته لذلك فيمكن القول أن التغيرات المناخية ممكن أن نعبر عنها بالتغيرات الحرارية([18]) وبالتالي يمكن القول أن السبب الرئيسي لحدوث التغيرات المناخية هي درجة الحرارة والتي تتغير نتيجة لمجموعة من العوامل منها: الطاقة المنبعثة من الشمس, مكونات الغلاف الغازي, قابلية الأرض وغلافها الغازي على عكس الطاقة الواصلة إليها, طبيعة حركة المياه داخل المحيطات, احتباس حرارة الشمس بسبب الدقائق الموجودة في الغلاف الغازي, التغيرات في مدار أو محور الأرض ومحور دورانها حول الشمس و اختلاف معدل ترنُّحه, زحف القارات([19]).
   لقد تشكلت الأرض في حدود 4.5 مليار سنة يطلق علماء الجيولوجيا على الفترة مند نشأتها وإلى غاية 600 مليون سنة (ما قبل الكمبري) وبعدها تبدأ العصور الجيولوجية([20]وهي: الزمن الجيولوجي الأول: من 600م س ألى 230 م س تميز بظهور أول النباتات والحيوانات المائية والبرمائية.
الزمن الجيولوجي الثاني:من230 م س إلى 65 م س ظهور الثديات.
   الزمن الجيولوجي الثالث: من 65 م س إلى 03 م س تفرع الرئيسيات عن الثديات. الزمن الجيولوجي الرابع: من 03 م س إلى اليوم تميز بوجود الإنسان . 
   وقد جرت خلال عمر الأرض الطويل الكثير من التغيرات المناخية ويحاول الكثير من الباحثين ربط هذه التغيرات بالأدوار الجليدية حيث تثبت الأبحاث العلمية أن الكتل الجليدية القارية الموجودةحاليا في القطبين الشمالي والجنوبي والتي تبلغ مساحتها حوالي خمسة عشرة مليون كلم2 كانت مساحتها أكبر، خلال عصور ما قبل التاريخ وكانت تغطي أجزاء كبرى من قارتي أوروبا وأمريكا .
   وقد أدرك علماء الأرض أن كوكب الأرض مر بدوراتٍ جليدية تمت على مراحل زمنيةٍ طويلةٍ. وفي أماكن مختلفة تحرّك خلالها الجليد من أحد قطبي الأرضأو منهما معًا في اتجاه خط الاستواء, وينحسر فيما بينهما أوٍ خلال الدورة الواحدة, وهناك تفاوت في مدتها الزمنية تخلّلتها دورات من انحسار الجليد وقد أحصى الباحثون العديد من تلك الدورات أهمها الأدوار الجليدية الألبية نسبة إلى جبال الألب التي ترك فيها الجليد آثار كبيرة وبالتالي استخدمت كإطار زماني ومناخي أهمها أربعة أدوار هي:
دور جليد قونز (Gunz ) ما بين 1.3 م س و 1.8 م س ق .م
دور جليد مندل (Mindel ) ما بين 0.7 م س و 0.3 م س ق .م
دور جليد ريس (Riss ) ما بين 300000 س و 120000 س ق .م 
دور جليد قورم (Wurm ) ما بين 120000 س و 12000 سنة ق .م([21])
   وقد كان يفصل بين كل دور جليدي وآخر فترات دافئة تعود فيها الصحراء إلى حالة الجفاف, وقد يشهد الدور الجليدي الواحد العديد من التغيرات المناخية ونذكر على سبيل المثال أنه في حدود 20000 سنة ق.م بلغت كتل الجليد أقصى زحفها إذ بلغت المساحة المغطاة حوالي أثنين وأربعين مليون كلم2 ، أي ما يقارب ثلاث مرات المساحة التي يغطيها الجليد الآن. وخلال العشرين ألف سنة الأخيرة قبل الميلاد شهدت الصحراء الكبرى فترات من الجفاف مثل ما وقع بين 18000 ق م و10500 ق م وأخرى مطيرة بين فترتي 10500 ق م و8500 ق مواقل أمطار بين8500 ق م و 6500 ق م ليعم الجفاف بعد 3000 أو 4000 ق م([22])(انظر الخريطة في الملاحق)

تأثير التغيرات المناخية على البيئة والإنسان:
   لقد تركت التغيرات المناخية الكثير من الآثار على البيئة الصحراوية وما يتصل بها فخلال الزحف الجليديّ على اليابسة, تتحول المناطق المحاذية لدوائر العرض العليا إلى صحارى جليدية قاحلةٍ تكون فيها الحياة شبه منعدمة, مع انخفاض مستوى البحار والمحيطات وعلى سبيل المثال فإن مدينتي قابس وصفاقس التونسيتين الواقعتين الآن على الشاطئ مباشرة ، كانتا تبعدان عنه بحوالي 100 كلم ما بين 15000 و 13000 سنة ق.م([23]). 
   بينما تتحول الصحاري الممتدة من المحيط غربًا إلى وسط آسيا شرقًاً إلى منطقة رطبة تسقط بها أمطار غزيرة. وقد اختلف الباحثون في العوامل الكامنة وراء الأمطار الغزيرة التي كانت تشهدها الصحراء, فالبعض يعزوها لما يعرف بالتضادات البارومترية الناتجة عن تزايد تلاقي التيارات الهوائية الدافئة مع الباردة وتحول الرياح الغربية نحو الجنوب وهي التي كانت عادة تهب على سهول أوربا وتكون محملة بالأمطار فتتساقط الأمطار في شمال أفريقيا والصحراء, والبعض يعزوها إلى تعمق الرياح المسببة للتساقط في قلب الصحراء سواء القادمة من الشمال أو الجنوب فتصحبها أمطار غزيرة وعندما تتوقف عند الأطراف يحدث الجفاف في الصحراء وما يحدث الآن صورة مصغرة لتلك المرحلة([24]), كما أن هناك اختلاف حول تزامن الفترات المطيرة مع مرحلة الزحف أو الانحسار الجليدي بينما هناك من يرى أن كل من المناطق المطيرة عاصرة مراحل الجليد في العروض التي تليها العليا والسفلية([25]).
   وكان نتيجة لهذا التساقط أن اتسعت مجاري الأنهار وتشكلت البحيرات نتيجة لارتفاع منسوب المياه وعمت الخصوبة وانتشرت الخضرة والغابات الكثيفة ويرى الباحث كامبس camps([26]) والذي أجرى العديد من الأبحاث في الصحراء الجزائرية أن العديد من الأودية الكاذبة الموجودة حاليا كانت أودية دائمة الجريان مثل وادي الساورة بالجنوب الغربي والذي كان شبيه بوادي النيل لطوله وغزارته([27]), ووادي إغرغار ووادي تفاسيت وهي أحد أسباب استقرار الإنسان في هاته المناطق كما كانت هناك كثيرا من البحيرات المغلقة مما يوفر بيئة مناسبة للكثير من الحيوانات المختلفة وقد عرفت المنطقة هاته البيئة خلال فترات مختلفة منذ ملايين السنين تدل على ذلك اآثار المكتشفة آخرها اكتشاف لما يعتقد انه أقدم هيكل عظمي للديناصورات والذي تم بمنطقة إمغران بالمغرب الأقصى سنة 2003 ويبلغ طوله 38 مترا([28]) وهو ما يدل على قدم الحياة بهاته المناطق.
   وفي الفترات التي ترتفع فيها درجة الحرارة تتقلص كتل الجليد وتنحسر نتيجة لذوبان أجزاء منها . مما أدى إلى ارتفاع منسوب مياه المحيطات والبحار وتغمر اليابسة. ويحل الجفاف بالمناطق الصحراوية ويتقلص منسوب الماء في المجاري وتقل قوة سيره فيتحول إلى مجاري فرعية، وإلى مستنقعات لا تقوى على التحرك . وتستقر الكثبان الرملية بالتدريج في مجراه إلى أن توقف مسيرته كما حدث لعدد من الأنهار في الصحراء التي نلاحظ أوديتها الواسعة ومجاريها الجافة. كما يؤدي الجفاف إلى القضاء على الغطاء النباتي وتجف الطبقة السطحية للتربة وكذلك الصخور الأقل صلابة التي تتعرض للتمدد والتقلص نتيجة لارتفاع المدى الحراري مما يؤدي إلى تشققها وتصبح عرضة لعوامل التعرية وتتعرض لعملية النحت والإرساب وهكذا تشكلت معالم التضاريس الصحراوية, و أما الكائنات الحية التي تواجدت بهذه المناطق فبعضها لم يستطع مجارات التغيرات المناخية فانقرض، والبعض انتقل إلى أماكن مجاورة والبعض الآخر واصل الحياة وحاول التأقلم مع الظروف الطبيعية الجديدة. 
    كما كان للتغيرات المناخية تأثير على استقرار الانسان وتطوره في هاته المناطق فعاش إنسان الحجري القديم يمارس الصيد ويتنقل بين الغابات والأحراش وعند الجفاف هاجر بحثا عن الماء واستقر قرب المجاري المائية وهو ما ذهب إليه تشيلد في نظريته حول اكتشاف الزراعة والتي رأى أن شمال أفريقيا وغرب أسيا هما موطنها الأصلي بسبب الجفاف الذي أصاب الصحراء بعد فترات مطيرة مما أدى إلى تقلص الغطاء النباتي والثروة الحيوانية وهو ما أجبر السكان على الاستقرار بالواحات حيث المياه الجوفية وممارسة الزراعة وتربية الحيوانات([29]) وإذا صدقت نظرية تشيلد فيمكن أن نضف تأثير آخر للتغيرات المناخية على الصحراء وهو أنها أسهمت في تمدن الانسان واستقراره وهو ما دفع بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأن الجذور الأولى لحضارة الإنسان خلال عصور ما قبل التاريخ في شمال أفريقيا تعود إلى جهود الإنسان الصحراوي الذي عاش في الصحراء ثم كان مضطرا لمغادرتها إلى المناطق المجاورة، بحثا عن الكلأ والماء نتيجة للجفاف([30]) أخذا معه مكتسباته الحضارية ومنها انتقاله إلى العصر الحجري الحديث الذي يعتبر نقلة هامة وحاسمة في حياة الإنسان انتقل خلاله من مرحلة الجمع والالتقاط والتنقل المستمر إلى الاستقرار وممارسة الزراعة وهو ما يمكن اعتباره ثورة في حياة الانسان وكان الاستقرار قريبا من موارد الماء وعمل على تربية الحيوانات ولكي يخزن محصوله اهتدى إلى صناعة الأواني وتشذيب الحجارة ([31]) غير أن البعض يرى أن العصر الحجري الحديث قد تأخر في بلاد المغرب والصحراء إلى ألف سنة عنه في المشرق لأن الظروف الطبيعية شبه الجافة بين الفترة الماطرة والجافة أوجدت الحشائش والأشجار القصيرة وهو ما جعله يتجه نحو الرعي والتنقل وبالتالي لم يعرف الزراعة والاستقرار إلا في قرون متأخرة جدا حوالي 1200ق م وبقيت بعض المناطق على هذا الوضع لغاية مجيء الرومان([32])
    ويعتبر الفن الصخري الذي تزخر به الصحراء الكبرى خير شاهد على تأثير المناخ على البيئة والكائنات المرتبطة بنشاط الانسان حيث تدل مشاهد الفن الصخري على حالة مناخية معينة([33]) مثلا: مرحلة البقريات: حيوانات متوحشة , قطعان الأبقار, سمك, فيلة, نعام, مشاهد الرعي والصيد...الخ وتمثل المناخ الرطب. مرحلة الأحصنة: نقصان الأبقار ظهور الحصان, عربات تجرها الخيول, الكلاب, الأروية, الزرافات والغزلان, وتمثل مناخ شبه جاف. مرحلة الجمال: وجود الجمال إلى جانب بعض الأبقار والأحصنة, وتمثل مناخ جاف صحراوي, ويعد الجمل الحيوان الذي يدل وجوده على تغير مناخي كبير وقع بالصحراء([34])
    وفي الختام يمكن القول أن الصحراء في العصور الحجرية كانت تختلف عن الصحراء الحالية من حيث المناخ والتضاريس والكائنات الحية, كما يعتبر العصر الحجري الحديث نقلة هامة وحاسمة في حياة الإنسان انتقل خلاله من التنقل المستمر إلى الاستقرار وممارسة الزراعة ومن دون شك ساهمة البيئة الصحراوية القديمة والحديثة في هذا الانجاز والثورة, كما تشير بعض الدراسات المناخية الحديثة على أنّنا مقبلون على دورة جليدية جديدة يسود فيها المناخ الماطر الصحراء الكبرى نتيجة لانخفاض ملحوظٌ في درجات الحرارة خلال فصل الشتاء في نصف الكرة الشماليّ لكنها تأخرت بسبب الاحتباس الحراريّ وهو ما بشر به الرسول صلى الله عليه وسلم.

الهوامش:

([1]) ابن منظور لسان العرب حرف الصاد ( صحر) و الفيروزبادي القاموس المحيط حرف الألف( الصحراء)*[على الخط] القاموس الجامع متعدد اللغات, شركة الزهري للبرمجيات, متاح علىwww.elzohry.com› تاريخ التحميل (05 ـ 03ـ 2009).

)[2](.MILBURN. M: Les chars préhistoriques du Sahara, Sur quelques inscriptions énigmatiques des confins Nigéro- Fezzanis, le Saharien, 1984,p91

([3]) هوجو هـ. ج: الصحراء فيما قبل التاريخ, تاريخ إفريقيا العام, المجلد الأول( المنهجية وعصر ما قبل التاريخ في إفريقيا, إشراف جوزيف كي زيربو), اليونسكو, نشر جون أفريك, باريس, 1983م, ص 591.

([4]) الأطلس العالمي: المعهد التربوي الوطني والديوان الوطني للمطبوعات المدرسية, الجزائر, بدون تاريخ, ص ص18, 19.

([5]) نفسه

([6]) جاء في مفردات القرآن للأصفهاني مرج. ويقال للأرض التي يكثر فيها النبات فتمرح فيه الدواب وجاء في لسان العرب لابن منظور مرج: أَرضٌ واسعةٌ فيها نبت كثير والجمع مُروجٌ القاموس الجامع متعدد اللغات , (مرج).

([7]) صحيح مسلم حديث رقم 1681.

([8]) مسند الإمام أحمد حديث رقم 8477 , 9026.

([9]) عثر على هيكل لفيل الماموث بحاسي خليفة شرق الوادي سنة 1957، وهو معروض بمتحف باردو بالجزائر.


)[10](Quezel.P : flore et palynologie sahariennes quelques aspects de leur signification biogéographique et paléoclimatique, bulletin de l’ I.F.A.N.T.XXII, sér.A, n 2, 1960, pp 353-360

([11]) محمد الصغير غانم: مواقع وحضارات ما قبل التاريخ في بلاد المغرب القديم, دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع, عين مليلة, الجزائر, 2003, ص110.

([12])مصطفى أعشي: نماذج من التواصل الحضاري بين شمال أفريقيا والصحراء الكبرى خلال عصور ما قبل التاريخ*[على الخط] جامعة محمد الخامس, الرباط, المغرب, بدون تاريخ, متاح على : 
http://www.google.com/url?sa=t&source=web&cd=1&ved=0CBUQFjAA&url=http%3A%2F%2Fwww.ncrss.com%2FTSH1.doc&ei=KwFTTdvHN9KS4Qa3 6sn0CA&usg=AFQjCNGoZ8C_6YsSL7GxewKtGyARMP1bqw&sig2 =_qKpy-3rXyxSHfoYVQGdSg تاريخ الإطلاع (09 ـ 02ـ 2011 الساعة 10: 22) ص ص 3ـ 4.

([13]) توجد مغارة في إيغزر بالقرب من تيميمون على شكل سمكة ضخمة ويعتقد بعض علماء الأثار أنها تشكلت نتيجة لترسبات على سمكة في العصور القديمة حيث تظهر الزعانف والرأس.

([14])محمد الصغير غانم: المرجع السابق, ص159.

([15]) هوجو هـ. ج: المرجع السابق, ص 609.

([16]) أنظر الصورة بالملاحق

([17])هوجو هـ. ج: المرجع السابق, ص 592.

([18]) واثق غازي المطوري: علم المناخ القديم والعصور الجليدية, [على الخط] جلوجيا وادي الرافدين, البصرة, العراق, 2006, متاح على ›http://www.geologyofmesopotamia.com/histrical%20geology/Paleclimatology-and-Ice%20Ages.html تاريخ التحميل( 08 ـ 02 ـ 2011 الساعة 26: 22) 

([19]) نفسه.

([20]) محمد سحنوني: ما قبل التاريخ, ديوان المطبوعات الجامعية, بن عكنون, الجزائر, 1999م, ص07.

([21]) نفسه, ص 17.

)[22] (Jean Loïc LE Quellec : répartition de la grande faune sauvage dans le nord de l’holocène, l’anthropologie, tome103,n.1,paris,1999, pp161-176

([23]) مصطفى أعشي: المرجع السابق, ص03.

([24])محمد الطاهر العدواني: الجزائر منذ نشأة الحضارة(عصور ما قبل التاريخ وفجر التاريخ) المؤسسة الوطنية للكتاب, الجزائر, 1984, ص ص 137, 138.

([25])نقسه, ص 138.

)[26]( Camps. G : Les civilisations préhistoriques de l’ Afrique du nord et du Sahara, Doin, Paris, 1974. P 219 

([27]) محمد الطاهر العدواني: المرجع السابق, ص137.

([28]) حليمة بوتمارت:قصة اكتشاف أقدم ديناصورات العصر بمنطقة إمغران المغربية, [على الخط] جريدة المساء المغربية العدد 1364 الجمعة 11 فيفري 2011, متاح علىhttp://www.almassae.press.ma/node/16564› تاريخ التحميل 12ـ02 ـ2011 الساعة 20 ـ 21)

([29]) زكريا رجب عبد المجيد: عصور ما قبل التاريخ في العالم القديم, دار المعرفة الجامعية, ط1, دار المعرفة الجامعية, الإسكندرية, 2008, ص 80. 

([30]) محمد الهادي حارش: التاريخ المغاربي القديم السياسي والحضاري منذ فجر التاريخ إلى الفتح الإسلامي, المؤسسة الجزائرية للطباعة, الجزائر, 1995, ص131.

([31]) محمد بيومي مهران: المغرب القديم, دار المعرفة الجامعية, الأسكندرية, مصر, 2007, ص ص 33, 34.

([32]) نفسه: ص 41

([33])عبد الجبار عباسي: الكتابات الليبية البربرية في إطار الفن الجداري الصحراوي, دراسة أثرية لمجموعة من الكتابات الصخرية في محيطيها الطبيعي والثري بالتاسيلي نازجر , رسالة مقدمة لنيل شهادة الماجيستير, إشراف فيلاح محمد المصطفى, قسم الأثار, جامعة الجزائر, الموسم الجامعي, 2004 ـ 2005, ص ص 34, 35.

([34]) سميرة عمراني: دراسة أركيوبالينولوجية لأوساط الهولوسان بمنطقة تين هناكتن( الطاسيليأزجر, الصحراء الوسطى) رسالة لنيل شهادة الماجيستير في علم الآثار, إشراف د م بصديق و ع دراجي, جامعة الجزائر, 2001 ـ 2002, ص 233.
ــ 
مداخلة الأستاذ مبارك جعفري في الملتقى الوطني الثالث(الصحراء في القديم)المنعقد بتاريخ 1 ـ 2 مارس 2011 بالمركز الجامعي بالوادي 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق