الصفحات

الاثنين، 30 يناير 2017

الجغرافيا - العلم الدينامي ...


الجغرافيا - العلم الدينامي

مقدمة

  تعتبر الجغرافيا ذلك العلم الدينامي، يتطور بالمشاهدة الدقيقة و التفكير المنطقي الواع. و الجغرافيا بذلك موضوع مزدوج له جانبان: الجانب العلمي و الجانب العمل. و لقد درج الجغرافيون منذ زمن قديم على الاهتمام بدراسة ظاهرات سطح الأرض، و بحثوا كيف تختلف و تتباين من مكان إلى آخر، و كيف تجتمع هذه الظاهرات مع بعضها البعض لكي تعطي مناطق الأرض المختلفة شخصياتها المتميزة.

  و يؤثث هذا العلم مجموعة من المفاهيم و المصطلحات تعطيه خصوصية متفردة، و من بين هذه المفاهيم نجد مفهوم المشهد، مفهوم محوري تناولته مجموعة من المدارس، كل مدرسة تتناوله من وجهة معينة و يمثل المشهد إحدى المفاهيم المهمة في حقل الجغرافيا، حتى أن هناك من يزعم أن الجغرافيا"علم المشاهد" بعدما اتضح أن للمشهد مزايا هامة، فهو يمنح الجغرافيا موضوع، و هو مفهوم يوحدها، و يستجيب لمعنى التأليف و التركيب الذي هو ديدن الجغرافيين، كما يستجيب لاهتمام الجغرافيا بالمسائل العينية و الملموسة و إغناؤها بالملاحظة الميدانية و إدراك " الواقع الجغرافي" إدراكا مباشرا، فضلا على أن المشهد يجسد الأشكال، أشكال التضاريس و التشكيلات البنائية، و في نفس الاتجاه هناك من قال بان" المشهد هو الموضوع الأساسي للبحوث الجغرافية" و يذكر الجغرافي الفرنسي أندري ميني" أن أغلبية الجغرافيين عند نهاية القرن التاسع عشر، كانوا يرون في المشهد أصدق معيار لموضوعهم(...) فللجغرافيا المشاهد و للحساب الأرقام" و هذا ما سيتأكد مع مطلع القرن الموالي، حيث نجد ماكس صور يكتب في أحد مؤلفاته الأولى سنة 1913 " أن الجغرافيا برمتها تحليل المشاهد" و هذا ما أكده أيضا سنة 1928، الجغرافي الطبيعي الألماني كارول طرول قائلا " إن مضمون المعاينة للمشهد يحدد مضمون الجغرافيا العصرية" فلما كان المشهد مرتكزا من مرتكزات الجغرافيا و إحدى أثافيها، وجب قبل المضي في تحليله بوصفه مفهوما علميا طرح السؤال المشروع، ما هو المشهد؟ لاسيما بعدما لم يعد هذا المفهوم، المتعدد المعاني أصلا، مقصورا على مادتنا وحدها، و أصبح في العقدين الأخيرين مشاعا بين علوم شتى، الأمر الذي جعل الاتفاق على تعريف للكلمة مسألة شبه مستحيلة. فما المقصود بمفهوم المشهد؟ ما هي المدارس التي تناولت مفهوم المشهد؟ إلى أي حد يعتبر المشهد أحد أهم المفاهيم الجغرافية؟.

I. مفهوم المشهد الجغرافي

1- مفهوم متعدد المعاني:

  في سنة 1973 نظمت مجلة "l’espace géographique" الفتية آنذاك، و التي تتمتع اليوم بسمعة علمية في المحافل الجغرافية العلمية، مناظرة حول الجغرافيا و المشهد، ساهم فيها، كتابة و مناقشة، صفوة من الباحثين من مختلف الاتجاهات، و توجت هذه الأعمال بإصدار عدد خاص بالموضوع، الذي ما نفك إلى اليوم يشير ردود الفعل، تعقيبا و نقدا و إبداعا، سواء على صفحات نفس المجلة أو في غيرها، فرنسية و غير فرنسية. و رغم ما يزيد عن عشرين سنة من البحث و التفكير، و رغم ما تحقق خلالها من نتائج لا تنكر فإنه عند مطالعة أي مؤلف أو مقال تصطدم بمشكلة التعريف الذي لا يزيد مع التحصيل إلا تعقيدا، و ذلك بسبب تعدد معاني الكلمة، حتى أنه يخيل أن الجغرافيين و هم يطاردون المعنى إنما يركضون وراء أخيلتهم.

   لعله من المفيد بل من اللازم من باب الأمانة العلمية، ثم لتوكيد الحكم الذي أطلقته ثانيا، أن نستعرض جميعا، و لو لعينة من تلكم التعاريف التي تقدم بها الجغرافيون لمفهوم الجغرافيون لمفهوم المشهد، و إن كنت أميل( ضمير المتكلم يعود على محمد بلفقيه) في الحقيقة إلى نهج أسلوب أدق لا يتسع له المقام. في مقال تحت عنوان" تحليل المشاهد و علم الدلائل، مقدمات للمناقشة" استهل روجي بروني عرضه ب"التعريفات" مؤكدا منذ البداية" أن كلمة المشهد، كلمة إقليم، لم تعد تعني شيئا" ثم راح ينتقد المعنى التوسعي لبعض التعاريف، إذ أن"بعض الجغرافيين، شعورا منهم بان المشهد لا يمثل إلا جانبا من الجوانب اللامتناهية للواقع، أصبحوا يقحمون فيه تيارات و سياقات و عوامل تفسير مختلفة المرتبطة به، على حد قول بيير جورج... و يتابع بروني ليكشف عن تعسف آخر في استعمال الكلمة "يرجع إلى رواج نظرية الإدراك التي نظرا لبعض حيثياتها الفلسفية، ذهب إلى حد العزم بأن الواقع كله ذاتي".

   وينتهي صاحبنا، إلى اعتبار المشهد ببساطة"ما يشاهد" و أن هذا التعريف، بقدر ما هو مألوف، فهو ضروري لأن من جهة ينبهنا إلى أن " ما هو مشاهد" منفصل عنا و ينتمي إلى العالم الواقعي و بذلك " يجوز نظريا أن يصبح موضوع تحليل علمي موضوعي مباشر" و من جهة ثانية، فهو جزء منا بالمعايشة و الإحساس، و بذلك يصبح المشهد موضوع بحث عن الإدراك.

   أقر جبريل روجري و نيكولا بيرونششفيلي في كتابهما بعنوان " الأنساق البيئية و المشاهد، حصيلة و مناهج "بأن المشهد" موضوع مركب يجوز أن تنسحب عليه تعاريف كثيرة بحسب الزاوية التي ينظر إليه منها: نظرة الجغرافي و الطبيعي و منسق المناظر و المؤرخ أو المكلف بالتهيئة المكانية و الرسام و السائح و الساكن... و هذه التعاريف غبر قابلة للإدغام، فهي جميعا ضرورية و لا مناص عن أخدها لعين الاعتبار إذا أردنا الوصول إلى معنى شامل للمشهد."

  و نجد روجي بروني الجغرافي الفرنسي المرموق و زميلاه روبير و ميشال طريي، و هم من أنصار الوضعية الجديدة، يعرفون المشهد كما يلي" المشهد مظهر و تمثل، أي ترتيب للأشياء المرئية، يدركه الشخص من خلال منظاره الخاص و حالته النفسية و مقاصده (...)ولا مشهد إلا بالإدراك(...) فالتمثيل هو وحده الذي يعطي المشهد، إلا أن هذه التمثلات لا حصر لها، إذ تختلف باختلاف الأفراد و الثقافات و أنماط الحياة".

2- المشهد عند Piar George

  تنطبق الكلمة حسب الباحثين على مجموعة من الدلالات تميز وحدة جغرافية على المستولى الطبيعي و البشري. و هي أصلا مفهوم ذات مفهوم وصفي- كان شاملا في السابق- و أخذ مجددا معنى موحدا يشمل مجموعة الخطوط الناتجة عن الجغرافيا الطبيعية و عن العلاقات المتراكمة للحضارات التي أوجدت بالتتابع الإطار السياسي لها. و أصبحت مرادفة لكلمة البيئة في عمليات الإدراك الحسي للمساحة- و هي تتوافق إذن مع المساحة المأهولة.

   المشهد هو نتاج التفاعل الديناميكي لمجوعة من العناصر الفيزيائية و الكيماوية و الحيوية و البشرية التي بتأثيرها و تأثرها، و تأثير بعضها البعض، تشكل مجموعا واحدا غير قابل للتقسيم و خاضع للتطور الأبدي... إنه تركيبة واضحة تتجلى فيه مجموعة من الأشياء المتداخلة: الوسط الطبيعي، و المجموعات البشرية، و أنماط الملكية و الاستغلال و أنظمة الاجتثاث الخ".

   من خلال التعاريف التي أعطيت للمشهد من طرف المدارس الجغرافية الألمانية و الفرنسية و الإنجليزية علاوة على بعض الكتابات لفئة من الجغرافيين العرب، نخلص إلى أن هذه المدارس رغم اختلاف توجهاتها الفكرية، هناك نقطة التقاء بينهم، ألا و هي أن المشهد أو المنظر يختص بدراسة الأشكال الخارجية التي توجد فوق سطح الأرض الطبيعية و البشرية.

   و بذلك يكون تصور المشهد يحول حول المظهر الخارجي الذي يحده بصر الملاحظ و كذلك تداخل الأشياء الاجتماعية و الطبيعية و الشخصية و الموضوعية إضافة إلى الإنتاجات المادية و الثقافية، و بذلك يكون المشهد هو نقطة اتصال بين الموضوع المتمثل في المجال و زاوية رؤية الملاحظ.

3 - مفهوم المشهد على ضوء تعاريف متذبذبة في إطار زماني مختلف

   إن الإلمام بمفهوم المشهد يتطلب الإحاطة بسيرورة المعارف المرتبطة به، و التي تتعلق بحقول تنظيمية مختلفة و بتوجهات و تعاريف متعددة كل يتطرق للمفهوم من زاوية محددة .

(Furetiere 1960): جانب من جوانب البلد، وهي المجال الذي يمتد النظر إليه حتى الأفق. الغابات و التلال و الأنهار كلها عبارة عن مناظر طبيعية خلابة.

(Littre 1977): جزء من المجال الطبيعي المعروض على المشاهد.

(R.brunet 1992): اشتقاقيا، هو ما نراه من المجال، وفقا لكلمة إيطالية ظهرت paesaggio، ظهرت حول الرسم خلال عصر النهضة، المشهد إذن هو ذلك المظهر و التمثيل الذي تلمحه العين في لمحة واحدة، و ترتيب للأشياء مرئية موضع المشاهدة عبر مرشحات التصفية البصرية الخاصة بهم، و حالتهم المزاجية الخاصة، مقاصدهم الخاصة...المشهد يحتل حيزا كبيرا من الجغرافيا، لدرجة تأكيد الجغرافيين أن الجغرافيا هي علم المشاهد."

4- المشهد/ المنظر أية علاقة؟

  تبدو كلمة" مشهد" أدق من تعبير" المنظر الجغرافي" التي استعملها البعض، فإن كان المنظر الذي يعجب الناظر إذا نظر إليه و يسره، فأن المنظر يعني الإدراك بإحدى الحواس الظاهرة و الباطنة ، في حين يعرف الأستاذ السعيد بوجروف مفهوم المنظر كل ما ينظر إليه أو يشاهد بالعين المجردة من المجال الأرضي. و بمعنى آخر فهو كل ما تقدمه أو تتقدم به الطبيعة أمام أعينانيا على شكل مشهد طبيعي ينتجه الإنسان على شكل مشهد ريفي أو حضري.

  إنه بناء ثقافي و تمثيل لواقع معين و بذلك فهو يختلف من إنسان إلى آخر، و في هذا الشأن يقول بودلير" إذا كان تجميع الأشجار و الجبال و المياه و المنازل هو ما نسميه منظرا جميلا، فذلك لا يعني أنه جميل في حد ذاته، بل لأنه جميل بالنسبة لي أنا أي كما تراه عيني" . و يتحقق هذا البناء التمثلي من خلال الإدراك الحسي و من خلال المصافاة الثقافية المعبأة بالقيم المجتمعية التي تنتمي لها الفرد الناظر للمشهد...

  إن مشاهدة الواقع المكون من عناصر عامة و جزئية مختلفة تعكس في مرحلة أولى صورا يتم إدراكها ذهنيا بشكل انتقائي من خلال مصافاة ثقافية مكتسبة من المعارف الثقافية للفرد و بحسب سنه و مركز اهتمامه و انتماءه الاجتماعي.

  و يمكن القول بأن مفهوم المنظر قد نشأ و تطور بالعالم الغربي كالجنس لتمثل الطبيعة انطلاقا من عصر النهضة في أوروبا، و لم يصبح صنفا عاديا للإدراك سوى مع بروز الممارسات الأيقونية الخاصة بالرسوم و الصور، و كنوع من تمثل الجمالية كقيمة رومانسية راقية و مبررا للسياسات المعاصرة للمحافظة على البيئة و تنمية السياحة.

   و يعد المنظر في نظر الباحث الجغرافي، بنية و نظاما مشتغلا و متحولا في المجال و في الزمن من جهة و هو من جهة ثانية مجموعة من الرموز التي يسهر على فك ألغازها و دلالاتها في مجتمع معين.

II. المدارس التي تناولت المشهد

1-المدرسة الألمانية "اللاندشفت" و انشطار الجغرافيا

  لقد تطرق الجغرافيون الألمان الموضوع، و على رأسهم"Otto Schlüter" فهم نظروا إليه من البدء أنه "علم المشاهد" و بهذا المعنى، كان اهتمام الجغرافيا منصبا بالدرجة الأولى على أشكال المشاهد، لأقاليم معينة، فابتكروا بتوجيه من المذهب الوضعي السائد حينذاك، عددا من المناهج لتصنيف المشاهد و تحليل عناصرها، حيث يتم تمييز"المشهد الطبيعي" عن "المشهد الثقافي"الذي تدخلت فيه يد الإنسان فإذا كان الاتجاه الأول قد أولى عنايته بتكوين المشاهد و اهتم بالشكل(المورفولوجيا) الأمر الذي بدأ يفصل بين جغرافيا طبيعية و أخرى بشرية، فإن الاتجاه الثاني يصنف المشاهد على أساس السيرورات المتحكمة فيه و يعود بها إلى الأولى و لقد أدت هذه المعالجة "الحفرية"فيما بعد، ببعض المتخصصين إلى الإعراض عن المشاهد المرئية، للخوض في بناء أشكال نظرية مستنبطة من السيرورات لا من الشكل و هكذا تنشأ الجيومورفولوجيا و تصبح علما من علوم الأرض.

2- مدرسة Berkely: من اللاندسكيب إلى الجغرافية الاجتماعية

  في سنة 1925 نشر"كارل ساور" مقاله المشهور "مورفولوجيا المشهد" و كان بذلك برأي"ليلاي" أول من أدخل مصطلح المشهد في معجم الجغرافيا الأمريكية، نقلا عن مصطلح"اللاندشفت" فساور سافر إلى ألمانيا و اطلع عن كثب على دراسة "Schlüter" غير أنه جرد المفهوم من حمولته الحتمية، و اعتبر أن الجغرافيا هي دراسة المشاهد بغية فهم علاقة الإنسان بمحيطه بناء على الجمع بين عناصره البيئية (التي كانت محط الاهتمام خلال القرن التاسع عشر) و مظاهره الجيومورفولوجية و تجلياته الثقافية. و بذلك يمكن ّإبراز العبقرية الثقافية الكامنة في المشهد، الذي اعتبره ساور مجال بحث علم حقيقي أساسه الملاحظة، معرفا المشهد بأنه "مجال يتألف من تشكيلات طبيعية و ثقافية متمايزة"يعالجه الجغرافيون بالرجوع إلى أصوله الطبيعية و تتبع تطوراته إلى أن أصبح مشهدا ثقافيا.

  لكنه ما فتئ أن أدرك ساور صعوبة تطبيق هذا المشهد بسبب عدم إمكان استرداد المشاهد، إلا ناذرا نظرا لتدخل الإنسان فيها منذ ألاف السنين، حيث أصبحت تلك المشاهد مشاهد ثقافية. هذا ما جعل البحث يتجه تدريجيا إلى دراسات في التاريخ الثقافي. و مع بداية الخمسينيات - بعيدا عن تقاليد جامعة "بركلي" التي مارس بها "ساور"- برز عالمان أصبح لهما تأثير كبير: الأول انجليزي و هو المؤرخ "هسنكس" الذي قام بدراسات معمقة حول تاريخ المشاهد، لعل أهمها: "تشكيل المشاهد الانجليزية" الذي صدر سنة 1955، و الذي مازال يعتبر من أمهات المراجع في هذا الباب. أما الثاني فهو "جاكسن" الذي أسس سنة 1951 "مجلة المشاهد" و انطلق يؤلف الكتب و ينشر المقالات حول معنى المشاهد الأمريكية .

3- المدرسة الفرنسية تداخل المفاهيم

  لما أخد "فدال دولبلاش"، مؤسس المدرسة الفرنسة، يعالج موضوع المشهد، فهو يبدو أولا يتحدث عن تحليل " شكل" أو مظهر الإقليم "، ثم حاول دون نجاح استعمال كلمة "scéneri" المشتقة من كلمة"scenery" الإنجليزية و التي يمكن تعريبها بكلمة "منظرة"، قبل أن يستعمل كلمة "paysage" التي كانت هي المفهوم المؤسس لأشهر مؤلفاته في الموضوع. "فدال دولبلاش" يرسم "لوحة" أي يعرض المشاهد النموذجية الفرنسية كما لو يستعمل الريشة عوض القلم، لا بد من التذكير بأن هذا العمل هو مقدمة "لتاريخ فرنسا" لصاحبه "لافيس"، و هو بمثابة و ضع للخشبة التي ستعرض فيها الأحداث التاريخية البارزة للبلاد إلى غاية الثورة.

  إن المشهد"الفيدالي" مشهد مبني يتشكل من تراكيب إقليمية، و هو بالتالي ليس مشهدا مرئيا و هو وثيق الصلة بالإقليم الذي تبلور أكثر بوصفه مفهوما بفضل تطور علوم الأرض، خاصة الجيومورفولوجيا و الجيولوجيا التي كانت أساس تقليم التراب الفرنسي." و في الحقيقة فإن فيدال يصف حافات الحوض الباريسي كما لو كان يطل عليه من الطائرة على علو 3000 متر، تستطيع العين معه مشاهدة فضاء رحب، لكنه بمقياس 1/20000 تنطمس معه فوارق التضاريس، فالرؤية الشبه عمودية تلغي الارتفاع و هو أحد الأبعاد الثلاثة، كما أن فيدال لا يذكر شيئا عن ظاهرة انزلاق المقياس المشوه، فهو في وصفه للمشاهد يساوي بين الأشكال المرئية و يقتصر على المقياس المتوسط فقط..." و بذلك يكون قد أبعد الجغرافيين "عن هذا المشكل الذي يعتبره أساسيا، ألا و هو مشكل اختلاف التصور باختلاف مقاييس إدراك المكان".

   و على هذا المنوال نسج أتباع الأب الروحي للمدرسة الفرنسية"فراحوا بالطريقة ذاتها يصفون لا المشاهد المرئية، بل مجر صور كمشتقة تمتزج فيها المعرفة المباشرة للميدان، إن حدث بالتصور.

  فليس" المشهد المرئي" في الواقع هو الذي يستأثر باهتمام الجغرافيين، و إنما "المشهد النمطي"، ذلك الذي يمكن التعرف عليه في أي إقليم كان و في أي فصل". و هكذا بات الخلط بين المشهد و الإقليم فاشيا في المدرسة الفرنسية و صار احد سيماتها كما هو واضح من رأي أحد الجغرافيين المرموقين الذي يؤكد" إن المشاهد تنتظم حسب منظور جغرافي، على هيئة أقاليم، أي قطع أرضية تتلاشى خصائصها بفعل طابع غالب يجعل منها وحدة عضوية." و تعتقد بياتريس جبلين أنه كان على الجغرافيين الفيداليين استعمال مفهوم المكان عوض المشهد لكنهم لم يفعلوا، أولا بسبب الدلالة التجريدية، و ربطها النظرية الملابسة للكلمة، و ثانيا معارضة لراتزل الذي كان يوظف مفهوم "المجال الخالص" المجرد من أي خاصية جغرافية لبناء نظريته السياسية حول الدولة و مجالها الحيوي.

خاتمة

  من خلال ما سبق يتضح أن مفهوم المشهد مفهوم جغرافي، كل يدرسه من زاوية معينة من خلال مدارس متعددة، فالمدرسة الألمانية -الرواد الألمان- اهتمت بأشكال المشاهد، فقاموا بتصنيفها و تحليل عناصرها من خلال التميز بين المشهد الطبيعي و المشهد الثقافي دون إغفال السيرورات المتحكمة فيه، أما مدرسة الاندسكيب فاعتبرت الجغرافيا -من خلال كتابات كارل ساور- هي دراسة المشاهد بغية فهم علاقة الإنسان بمحيطه بناء على الجمع بين عناصره البيئية و مظاهره الجيومورفولوجية و تجلياته الثقافية، لقد أكد ساور لصعوبة استراد المشاهد نظرا لتدخل الإنسان و بالتالي فالمشاهد لها صبغة ثقافية أما المدرسة الفرنسية فربطت مفهوم المشهد بمفهوم الإقليم من خلال كتابات دولبلاش بوصف المشاهد الامرئية إنها مجرد صور تمتزج فيها المعرفة المباشرة للميدان و إن حدث بالتصور .

  إن نقطة التقاء جميع الجغرافيين هي التأكيد على صعوبة وضع تعريف محدد واضح جامع لمفهوم يختلف حسب تمثلات الأفراد و نمط تفكيرهم. فإلى أي حد استطاع مفهوم المشهد الجغرافي مواكبة تطور الجغرافيا في ظل تجدد المواضيع و المفاهيم؟.


لائحة المصادر و المراجع

محمد بلفقيه، الجغرافيا "القول عنها و القول في" مطبعة المعارف الجديدة، الرباط. المغرب، الطبعة الأولى 2002.

سعيد بوجروف، الجهة و الجهوية بالمغرب أي مشروع لأي تراب، المطبعة و الوراقة الوطنية، الطبعة الأولى 2012.

بيار جورج، معجم المصطلحات الجغرافية ، المؤسسات الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع، الطبعة الثانية، 1422هـ-2002 .

فاطمة البغدادي بحث الماستر" المشهد الحضري لقلعة السراغنة: التحديات البيئية و آفاق التنمية المستدامة 2012- 2013.

الجغرافية العلمية و قراءة الخرائط د.محمد محمد سطحية دار النهضة العربية، الطبعة الثانية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق