الصفحات

الخميس، 9 فبراير 2017

منهج البحث التاريخي بقلم الدكتورة رجاء وحيد دويدري ...


منهج البحث التاريخي 

بقلم الدكتورة رجاء وحيد دويدري

أولاً: مراحل البحث التاريخي

 إن الهدف من البحث التاريخي هو صنع معرفة علمية من الماضي الإنساني، ونعني بالعملية أنها تستند إلى طرائق عقلانية توصل إلى الحقيقة بقدر ما تسمح به الظروف التي تخضع لها، وهي ظروف تقنية (طبيعة الوثائق المستخدمة ووجودها) وظروف منطقية (تلك التي تحللها نظرية المعرفة).

مراحل البحث:

1- اختيار المشكلة (الموضوع).

2- جمع الحقائق والوثائق وتدوينها من مصادرها.

3 ـ نقد الواقع والحقائق.

4 ـ صياغة الفرضيات التي تفسر الأحداث واختبارها (التركيب).

5 ـ تفسير نتائج البحث وكتابة تقرير عنه.

(1) اختيار موضوع البحث:

  إن الأصول العامة لاختيار موضع المشكلة المراد بحثها واحدة في كل المناهج التاريخي منها والوصفي والتجريبي، ويعني اختيار المشكلة اختيار موضوع البحث، أي طرح مشكلة تتعلق بالماضي يكون لها أهمية واقعية وقيمة وجودية، والباحث الأصيل هو الذي يعرف كيف يختار المشكلة الحقيقية، ولقد كان المؤرخ التربوي الإنكليزي (اللورد اكتون) يوصي طلابه بجامعة كمبردج بقوله: «ادرسوا مشكلات لا فترات زمنية».

  إن المشكلة المطروحة يجب أن تنطلق من المبادرة الذاتية للباحث التاريخي، وتنبثق من فضوله العلمي الخاص، وأن تكون جديدة في عنوانها ومضمونها، تضيف جديداً إلى المعرفة التاريخية، أكان في ميدان التوثيق أو في مجال التركيب، وقد يعد بعض الباحثين موضوعات طرحت سابقاً، إذا وجدت أصول تاريخية جديدة تسوغ إعادة بحث الموضوع من جديد، وإسقاط أضواء جديدة على بعض مناحيه، وأن تكون المشكلة بقدر طاقة الباحث على العمل ومدى قدرته على الحصول على الأصول الضرورية، وأن تكون هذه الأصول قادرة على تقديم ما يوضح المشكلة ويحلها، وأن تكون المشكلة بعيدة ما لا يقل خمسين عاماً من زمن الباحث (2)، وقد يُدفع الباحث للمشكلة دفعاً نتيجة الصدفة وهذا كثير في التاريخ القديم، حيث الوثائق نادرة.

  عند تعيين الباحث لمشكلة بحثه يكون في أحد وضعين: إما أن المشكلة انبثقت في ذهنه واتضحت لديه وعندئذ يتم تحديدها بيسر، أو أن يكون خالي الذهن عنها، أو أن الغموض يكتنفها في فكره، حينئذ يلجاً إلى القراءة والمطالعة، ليكوّن خلفية ثقافية يحدد عليها موقع المشكلة، ويقوم ببحث عام أولي عن مصادر المشكلة، ويلجأ بالاستفسار ممن لهم خلفية عن هذه المشكلة، ومن ثم يضح مخططاً أولياً للنقاط التي سوف يعالجها بالبحث والدراسة وبهذا يتكون هيكل الموضوع وعنوانه.

جمع الحقائق والوثائق وتدوينها:

  إن وسيلة الإجابة على المشكلة هي جمع المصادر، وهي أهم أعمال المؤرخ، ويطلق على هذا العمل باللغة الأجنبية اسم (هوريستيك ) (Heurestique)، فالتاريخ يُصنع بالوثائق (3) وحيث لا وثائق لا تاريخ، وهذا ما يقوله المؤرخ المعاصر (لوسيان فيفر): «إن التاريخ دون شك يصنع بالوثائق المكتوبة إذا وجدت» وقد حاول بعض المؤرخين تصنيف الوثائق ضمن زمرتين: 

1 ـ الروايات المأثورة، والمخلفات المحسوسة.

2 ـ وقال آخرونبتقسيم مصادر البحث إلى (أولي) أو (أصول) أو مصادر فقط، وإلى مشتقة (ثانوية) وسوف نأتي في موضع آخر على تفصيل ذلك، وقد تجمع المصادر معلومات أولية وثانوية، وبشكل عام يمكن تصنيف المصادر أو الوثائق إلى: 

أ ـ الوثائق المكتوبة أو المطبوعة.

ب ـ الوثائق الأخرى.

ت ـ الرواية الشفاهية المباشرة.

أ- تشكل الوثائق المكتوبة المخطوطة والمطبوعة ميداناً واسعاً وتشمل: 

1 ـ وثائق الأرشيفات (أو المحفوظات الحكومية).

2 ـ أرشيف المنظمات المختلفة في المجتمع كسجلات الجمعيات والنقابات بأنواعها والأحزاب السياسية و...

3 ـ المدونات الإعلامية: النشرات والصحف والدوريات المتنوعة والإذاعة...

4 ـ التقارير السرية (حكومية أو خاصة).

5 ـ المؤلفات الأدبية والجغرافية والعلمية والفلسفية والفنية والتاريخية، وكل ما دوّن في مجالات المعرفة الأخرى، مما له أهميته.

نشير بخاصة إلى المكاتب حيث يبحث المؤرخ فيها عن أمور ثلاثة: 

1) البيبلوغرافيا (Bibliographie): وهي في معناها العام مجموع ما نشر عن موضوع معين، وبمعناها الخاص (علم المؤلفات الخاصة بحقل معين من المعرفة وما نشر منها) وهي إما وضعية أو نقدية أو تحليلية، ولقد أدرك العرب قيمتها، وكتاب (الفهرست) لابن النديم (ت438هـ / 1047م) دليل على ذلك، ولم يبدأ الاهتمام بها في أوربا إلا في القرنين (الخامس عشر والسادس عشر) وتوسعت العودة إليها في القرنين (السابع عشر والثامن عشر) في أوربا والعالم الإسلامي والوطن العربي، ونذكر في هذا الشأن (كشف الظنون عن أسامي الفنون) لحاجي خليفة (ت 1067 هـ / 1657م).

  البيبلوغرافيا هي أداة البحث الأولى، وهي عالمية وعامة ووطنية، وقد نمت الأخيرة نمواً كبيراً في القرن (العشرين)، وقد يلجأ الباحث التاريخي إلى (البيبلوغرافيا التاريخية) فحسب، وحدودها سائبة كحدود التاريخ نفسه، ولقد تطورت، ونشير بخاصة إلى (بيبلوغرافيات الدوريات)، ومن أشهر الدوريات التاريخية (المجلة التاريخية في فرنسا) و(المجلة التاريخية الإنكليزية) و(المجلة التاريخية الأمريكية) و(الألمانية) وقد نشرت المجلات التاريخية في (بيبلوغرافيا عالمية) خاصة هي:

«World list historical periodical and Bibiographes. Oxford 1939».

2) تضم المكتبة أيضاً بعض وثائق الارشيف وبعض الوثائق الأركيولوجية (النقود) وأدوات العمل الأخرى، فالموسوعات العامة (Encyclopidia)، وهي كتب المعارف العامة، من مثال كتاب (تاريخ الرسل والملوك) للطبري، و(الكامل) لابن الأثير، و(العبر)لابن خلدون، مادتها مرتبة حسب الحروف الأبجدية، أو بحسب الموضوعات، فهي لازمة للباحث التاريخي، تعطيه عناصر الإعلام الأولى التي توجه بحثه، وهناك الموسوعة الكبيرة (بالفرنسية) (1885م – 1902م) والفرنسية (1935م) والألمانية (1952م – 1960م) والبريطانية (1947م) والأمريكية (1940م) والإسلامية، وقد صدرت باللغتين الفرنسية والإنكليزية، وعمل على ترجمتها في مصر.

  هذا وجدير بالذكر دور المحفوظات (الأرشيف) (Archives) في التاريخ العربي، حيث كان يوجد في العهد الأموي (دار للقراطيس) تشبه ما نسميه اليوم (الأرشيف) كذلك في العصر العباسي، وبشكل عام كان للدول العربية الإسلامية أرشيفاتها الإدارية الضخمة، وصل إلينا منها ما ندر من مثال (أوراق البردي) وقد عملت كل دولة عربية على تأسيس دار خاصة للأرشيف (مديرية الوثائق) في سورية، مصر، المملكة الأردنية الهاشمية، و... هناك بعض الوثائق في بعض دور الأرشيف الأجنبية منها في إسبانيا، إيطاليا، فرنسا، النمسا، إنكلترا، تركيا.

3) ومن أدوات العمل معاجم الأعلام، ومعاجم اللغات المختلفة، والأطالس التاريخية والجغرافية والخرائط، هذا بالإضافة إلى الأدوات المادية الضرورية للبحث التاريخي من مثال: قارئات (الميكروفيلم) والمصورات (فوتوغرافية) وبعض المواد الكيماوية المساعدة، وسوف نوضح في موضع آخر طريقة تصنيف ونسل المعلومات من هذه المصادر.

ب- الوثائق الأخرى (Miscellaneaus): أي المخلفات المحسوسة، وتشمل الآثار التي تختلف عن الأحداث، من مثل المباني المتنوعة والطرق والجسور والبقايا الإنسانية والصور، والوسائل الناطقة كالأشرطة المسجلة والسجاد والأقمشة والفنون الأخرى، يليها المخلفات الأثرية وتحفظ في المتحف، وهناك ثلاث مجموعات من المتاحف؛ متاحف الفن، ومتاحف التاريخ، ومتاحف العلم؛ وجميعها تهتم بالبحث التاريخي. منهج عمل الباحث في المتاحف مثل عمل الباحث في المكتبات والأرشيفات.

جـ ـ الرواية الشفاهية المباشرة: وهي أقوال الأشخاص الموثوقين الذين شاهدوا الحوادث الماضية بأنفسهم، وسمعوا عنها مباشرة، وكتاباتهم، وقد يستعين الباحث بشهادات أشخاص لم يروا الحادث بأنفسهم ولكنهم سمعوا عنه من أشخاص آخرين، أو قرؤوا عنه في مصادر مفقودة أو غير ذلك.

 هذا وتشكل الرواية الشفاهية مصدراً هاماً من مصادر البحث التاريخي، وحيث يقوم الباحث بالاتصال بالناس الذين عايشوا المشكلة وشاهدوها، أو اشتركوا فيها فعلياً، بعد أن يكون قد أعدّ مجموعة من الأسئلة الشاملة الذكية يطرحها عليهم، وقد تكون أجوبتهم مكتوبة أو شفاهية، وقد يكون الاتصال بهم مباشرة، وهو الأفضل أو بواسطة الكتابة إليهم، ونشير هنا إلى وجوب خضوع هذه المصادر لنقد الباحث التاريخي من حيث سلامتها الجسمية والنفسيةوالعقلية والأهواء والميول والعواطف.

ثانياً: نقد الوقائع والحقائق

  يطلق على عملية (التحليل) المفصل للاستدلالات التي تقود من ملاحظة الوثائق إلى معرفة الوقائع والحقائق اسم (النقد). وهي عملية ضرورية لجميع الوثائق مهما كان نوعها، يقوم بها الباحث التاريخي بعملية فكرية تراجعية، نقطة الانطلاق فيها الوثيقة، ونقطة الهدف الواقعة التاريخية، وبينهما سلسلة من الاستدلالات تكون فيها فرص الخطأ عديدة.

  إن مصادر المعلومات في معظمها مصادر غير مباشرة، تتراوح بين شهادات الأشخاص الذين حضروا الحوادث أو الذين سمعوا أو كتبوا عنها، وبين الآثار والسجلات والوثائق التي تركوها، وحيث أن هذه الوثائق معرضة للتلف والتزوير بسبب قدمها، كما أن كتابها معرضون للنسيان أو التزوير، لهذا تطرح تساؤلات حول مدى موضوعية الوثيقة ومدى تطابق معلوماتها مع معلومات وثائق أخرى، وهل كتبت مباشرة بعد الحادثة أم بعد مرور فترة زمنية، هل كان صاحبها في صحة جسمية ونفسية سليمتين، هل توفرت له حرية الكتابة حينما كتب، أم أنها كتبت بتأثير من سلطة أو وجهة نظر ما، كما أن كثيراً من المسلمات التي كانت شائعة اكتشف الباحثون أنها ليست صحيحة.

 إن ما ذكرناه من حيث نقد الوثائق، يعود بنا إلى نقد مصادر الخبر من حيث معرفة سلامتها أو زيفها والأسباب التي تدعوا إلى التحريف والتشويه والخطأ المتعمد فيها وغير المتعمد. 

  عملية النقد المصادر هذه احتفظت بإطارها الأساسي التقليدي الذي حدده (لانغلوا) و(سينوبوس) (44) في عمليتين رئيسيتين:

1 ـ النقد الخارجي.

2 ـ النقد الداخلي.

  وفي كليهما على الباحث أن تكون قراءته فاحصة متأنية، تتناول شخصية المؤلف أو الكاتب كما تتناول الوثيقة شكلاً ومضموناً ، بحيث تخرج على أسس صحيحة محكمة من التحقيق العلمي (5).

 يتناول الباحث في النقد الخارجي للوثيقة هوية الوثيقة وأصالة الوثيقة (Authenticityy) أي صدق الوثيقة أو عدمه (إثبات صحة الأصل)، تحديد مصدر الوثيقة، زمانها ومكانها، هل هي الأصل أم منسوخة عنه، هل كتبت بخط صاحبها أم بخط شخص آخر، هل كتبت بلغة العصر الذي كتبت فيه أم تتحدث بمفاهيم ولغة مختلفين، وهل المواد التي كتبت عليها كانت مستعملة في زمن كتابتها، هل تتحدث عن أشياء كانت غير معروفة في ذلك العصر، وهل يطابق مظهرها مخبرها، هل في نصها إضافة أو حك أو تغيير؟ و البحث عن هوية المؤلف، وهل كان شاهداً مباشراً للحوادث، أم لا؟ والبحث عن موارد الأصل، هل تحمل اسم صاحبها أو تحمل اسماً مستعاراً؟ ويتحقق الباحث من ذلك بمقارنة الوثيقة من حيث الأسلوب والخط بأعمال أخرى للمؤلف والفترة الزمنية التي كتبت فيها الوثيقة، وهل هناك أحداث وردت في الوثيقة وأماكن لم يعرفها شخص عاش في عصر كتابة الوثيقة، وإذا كان المؤلف مجهولاً وكانت الوثيقة غير مؤرخة فهل في مضمون الوثيقة ما يكشف عنهما؟ .

   بعد أن يتم التأكد من زمان ومكان الوثيقة وتحقيق شخصية الباحث فإن النقد الداخلي أوالباطني يسير نحو تحقيق عمله لتقويم الوثيقة، معنى المادة الموجودة في الوثيقة وصدقها، هل كتبت بناء على ملاحظة شخصية مباشرة أم نقلاً عن رواة، ويسير ذلك وفق خطوتين: 

 الأولى هي «النقد الداخلي الإيجابي» والهدف منه تفسير الأصل التاريخي، وإدراك معناه الحقيقي، ويمر ذلك بدورين: الأول تفسير ظاهرة النص وتحديد المعنى الحرفي له، والثاني إدراك المعنى الحقيقي للنص أي هدف المؤلف مما كتبه.

 أما «النقد الداخلي السلبي» فيتناول مدى دقة الحقائق التي أوردها صاحب الأصل وإخلاصه، ومدى الموضوعية فيها، ويعني هذا تحليل شخصية المؤلف وظروفه، ومدى صحة ما أورد من حوادث، أي إثبات الحقائق التاريخية، ويرتبط ذلك ارتباطاً كبيراً بتقويمها، أي بمدى فهمها وشرحها، ويتعلق ذلك بشخصية الباحث التاريخي وخياله المبدع وثقافته الواسعة وقوة الملاحظة ومقدماته، وكل هذا يوضح لنا التعقيد الشديد للتحليل أو النقد التاريخي، إلا أنه يبين لنا في الوقت نفسه الضرورة المطلقة له.

  هذا ولابد أن تتوافر لدى الباحث معارف تاريخية عامة وخاصة كافية، وحس تاريخي وذكاء وإدراك عميق ومعرفة بالسلوك البشري، ومعرفة أيضاً بالعلوم المساعدة من مثل فقه اللغة والكيمياء وعلم الأقوام وعلم الخرائط وعلم النقود وعلم النفس، والإلمام بالفنون والأدب، ومعرفة الخطوط واللغات القديمة منها والحديثة، مما يتطلب تدريباً للباحث، رغم إمكانية الاستعانة بالمتخصصين في كثير من هذه الأمور.

  ويمكن الرجوع في بحث هذه المعايير إلى ما كتبه الغزالي (ت 505هـ / 11111م) في كتابه (المستصفى من علم الأصول) وما دونه ابن الصلاح (ت 641هـ / 1243م) في كتابه (مقدمة في علم الحديث) للاطلاع على عدالة الراوي، وقد طرح المؤرخ (سينوبوس) جملة من الأمثلة توضح أسباب الخطأ فيما يقدمه مؤلف النص من الواقع، وربما أخذ جزءاً كبيراً منها مما طرحه ابن خلدون في مقدمته عن (أسباب الكذب في الخبر) (6).

  وقد أورد (فان دالين) مبادئ عامة للنقد نورد فيما يلي أهمها:
 
1 ـ لا تقرأ في الوثائق القديمة مفاهيم أزمنة متأخرة.

2 ـ لا تحكم على المؤلف بأنه يجهل أحداثاً معينة لأنه غفل عن ذكرها.

3 ـ لا تقلل من قيمة المصدر ولا تبالغ في قيمته.

4 ـ لا تكتفي بمصدر واحد حول حقيقة واحدة.

5 ـ الأخطاء المتماثلة في مصدرين أو أكثر تثبت نقلها بعضها عن بعض.

6 ـ إذا ناقض الشهود بعضهم بعضاً في واقعة فقد يكون أحدهم صادقاً، وقد يكونون مخطئين جميعاً.

7 ـ النقاط التي يتفق عليها شهود كثر أكفاء مباشرون تعتبر مقبولة.

8 ـ قد تعطي وثيقة ما دليلاً كافياً في نقطة معينة ولا تعطي مثل هذا الدليل في نقطة أخرى.

9 ـ الشهادات الرسمية شفوية أو كتابية، يجب تأييدها ما أمكن بأخرى غير رسمية (77).

ثالثاً: التركيب التاريخي

  أعطانا النقد التاريخي ما نسميه بـ (حقائق التاريخ) بشكل مبعثر متفرق ومجرد، ولابد لهذه الحقائق أن تنظم ويتم الربط بينها، بفرضية تعلل الحادث وتبين مجرياته وتعلل أسبابه وتحدد نتائجه.

  إن الباحث حين بدأ يجمع الحقائق ونظر في المصادر لم يكن يفعل ذلك من لا شيء وإنما كانت له فرضية مبدئية جمع الحقائق وفقها ونظر في المصادر بوحي منها، لهذا فإنه يعود لفرضيته هذه بعد أن جمع هذه الحقائق ونقدها، فيعيد صياغة الفرضية في ضوء ملاحظاته ومكتشفاته ويعدل فيها في ضوء ما توصل إليه، مع الإشارة إلى أن طبيعة البحث التاريخي تقتضي حتماً اختلافاً في نوعية الفروض وكيفيتها وتتطلب مهارة خاصة، كما أن سمات الحادثة التاريخية وماهيتها وغيابها، وكونها وقعت في الماضي، لا تتكرر، متعددة العوامل متشابكة الأسباب كل ذلك يجعل الفرضية في البحث التاريخي صعبة، كما تتطلب من الباحث أن يتميز بصفات من حيث قراءة المعرفة والخيال الخصب الواسع، ومهما كان الأمر فإن درجة اليقين التي تنتهي إليها الفروض التاريخية، أقل بكثير من درجة اليقين التي يتوصل إليها علماء الطبيعة.

  تتضمن عملية التركيب التاريخي عمليات مترابطة متداخلة مع بعضها، تكون صورة فكرية واضحة لكل حقيقة من الحقائق التي تجمعت لدى الباحث:
 
1 ـ قيام الباحث بتكوين صورة فكرية واضحة لكل حقيقة من الحقائق المتجمعة لديه، وللهيكل العام لمجموع بحثه، أي يكون صورة عن واقع الماضي تنشئها مخيلة الباحث، من منطلق مشابهة الماضي الإنساني للحاضر، إلا أن المعطيات الوثائقية المتنوعة تجعلها أكثر وضوحاً، وتقود الباحث نحو أساس واضح، يجمع الحقائق المتوفرة لديه وفقه، أي أنه يضيف الحقائق وفق كل جزئية من جزئيات (الصورة المتخلية).

2 ـ تصنيف الحقائق بحسب طبيعتها الداخلية، وكان المؤرخون السابقون يصنفون الحقائق استناداً إلى الظروف الخارجية: المكان والزمان، تاريخ مرحلة زمنية ما، أو بلد معين، أو سيرة رجل.

  وقد وضع (لانغلوا) و(سينوبوس) نموذجاً أو هيكلاً من هذا النوع لتصنيف الحقائق، جمعا فيه طبيعة الظروف الخارجية، وخصائص الحقائق، ومظاهر النشاط والفعالية الإنسانية وقد تضمن هذا النموذج ما يلي:

1) الظروف المادية.

2) العادات الفكرية.

3) العادات المادية.

4) العادات الاقتصادية.

5) المؤسسات الاجتماعية.

6) المؤسسات العامة.

  لابد من التأكيد أن أنواع التصنيف (الزمني الجغرافي، المنطقي أي بحسب الخصائص ونوعها) لا يستخدم أحدها مستقلاً عن الآخر تماماً، إنما هي متداخلة فيها بينها. ولا يكتفي المؤرخ بالمقارنة بين حوادث زمن وآخر في بيئة واحدة، وإنما عليه أن يدرس أوجه الشبه والاختلاف بين الظاهرات المختلفة، في بيئات متنوعة، وأزمنة واحدة أو مختلفة، يقف المؤرخ من خلال ذلك على تشابه في بعض الظاهرات، على مستوى المجتمعات كلها، مما يدفع المؤرخ إلى وضع (تعميمات) تجعل الصياغة التاريخية أقرب إلى الصياغة العلمية المحددة (بالقانون).

3 ـ يملك المؤرخ المحاكمة أو ما يسمي ملء الفجوات والثغرات التي يجدها الباحث في هيكل التصنيف لأنه لا يستطيع ملء هذه الثغرات بالملاحظة المباشرة أسوة بالباحثين في العلوم الطبيعية، وهناك طريقتان في هذا الشأن: 

أ- الطريقة السلبية: وهي الاعتقاد بأن الحادث الناقص لم يقع، ولكي تصبح المحاكمة سليمة من الضروري تأكيد ما يلي: ألا يكون هناك وثائق أبداً تشير إلى الحادث الناقص، وأن تكون الواقعة التاريخية الناقصة من نوع لا يمكن إلا ملاحظتها وتدوينها لأهميتها في عصرنا.

ب- الطريقة الإيجابية: وتعتمد على استنتاج حقيقة لم تشر إليها الوثائق، من حقيقة أثبتتها الوثائق. يعتمد الاجتهاد الإيجابي على فرضيتين؛ الأولى عامة ومنبثقة من كليات عامة مستمدة من تجارب الإنسان، والثانية خاصة ومنبثقة من الوثائق، ويبدأ المؤرخ عادة بالفرضية الخاصة، بالحقيقة المستفادة من الوثائق، من مثال: مدينة ما تحمل اسماً عربياً، ولكن الوثائق لا تذكر من بناها، فعلى المؤرخ أن يعرف مؤسسها، فإذا وقع الباحث على الفرضية العامة القائلة بأن اسم مدينة ما هي غالباً من لغة الشعب الذي أنشأها، فإنه يستنتج أن هذه المدينة أسسها العرب، لأنها تحمل اسماً عربياً. ولكي تكون النتيجة صحيحة وثابتة يجب أن يتوافر شرطان:

1- أن تكون الفرضية العامة صحيحة كل الصحة: أي يكون الارتباط بين الواقعتين التاريخيتين وثيقاً جداً، وإذا استوفي هذا الشرط، يكون لدينا في الواقع(قانون) بالمعنى العلمي للكلمة، ولكن من الواضح أننا بمعالجاتنا لوقائع الإنسانية، لا يمكننا أن نعمل إلا (بقوانين فرضية) منبثقة من تعميمات ناقصة، فهذه (القوانين الفرضية) قريبة من الحقيقة بالنسبة إلى مجموعة محددة من الوقائع، إلا أنها ليست صحيحة دائماً، من مثال (سيراكوز) في أمريكا (شمال غرب نيويورك) تحمل اسماً إغريقياً، ومن ثم لابد من توافر شروط أخرى قبل إصدار حكم بأن اسم أي مدينة يتعلق بجنسية مؤسسيها.

2- يجب أن تكون لدى الباحث معرفة تفصيلية عن الحقيقة الخاصة، أي قبل إصدار الحكم حول الشعب الذي أسس مدينة ما، لا بد للباحث من دراسة الظروف المختلفة المحيطة بالمدينة، كموقعها وعادات الشعب، وتطورات تاريخها، أي لابد من الاعتماد على مجموعة من الظاهرات والتفصيلات، لا على ظاهرة واحدة، ولاسيما أن الكليات العامة مستمدة في أغلب الأحيان من معلومات الإنسان عن الحياة الاجتماعية، وتحتوي معظم هذه المعلوماتعلى عنصر من الشك، ولذا لابدّ من الحذر. هذا ولابدّ من التأكيد على أن يكون الباحث متروياً في عملية الاجتهاد التاريخي، وحذراً في اجتهاداته واستنتاجاته، وألاّ يذهب فيها بعيداً، ولا يعتمد على تعميمات ضعيفة لا أدلة أو براهين كافية عليها، علماً بأن الاجتهاد لا يؤدي إلى نتائج قاطعة وثابتة، وإنما إلى نتائج تقريبية. 

  وعلى الباحث أيضاً ألا يسرف في تحليل الأصول، بحث يحملها من الاجتهادات أكثر من محتواها الحقيقي. كما لا يجوز أن يخلط بين الحقائق المؤكدة التي توصل إليها من وثائقه، وبين الوقائع التي حصل عليها بالاجتهاد، وفي الحالة الأخيرة عليه أن يبين بصراحة أنها استنتاج، وأن يظهر مدى ثقته أو شكه بها.

4 ـ ربط الحقائق التاريخية ببعضها أو البحث عن علاقات قائمة بينها - التعليل:

  وهي ذروة العملية التركيبية في التاريخ، والنتائج النهائية لها، ويقودنا بحث العلاقة بين الحقائق إلى موضوع هام في منهج البحث التاريخي، هو موضوع التعليل، أو البحث عن الأسباب، ولقد أكد التيار الحديث في الكتابة التاريخية أن دراسة التاريخ هي دراسة أسباب، وإذا كان جمع المادة التاريخية يشكل الخطوة الأولى، فإن التعليل يشكل الخطوة الأخيرة الحاسمة، وهو الذي يقود إلى الصيغ العامة التي تشبه إلى حد ما القوانين، والتي تحاول أن تكشف النسيج الذي يكون ماضي الإنسان في دوافعه وروابطه ( ، فسرد الأحداث متسلسلة زمنياً أو مصنفة نوعاً، مهما بلغ من الدقة والموضوعية، لم يعد يمثل في نظر المؤرخين المعاصرين سوى تقويم (كرونولوجي)، لا يفسر واقع الإنسان وفعاليته المختلفة، ولابدّ من إدخال الروابط المنطقية المعقولة، ضمن تلك الأحداث، والتساؤل عن أسباب ازدهار الحضارات وانحطاطها، وتفوق الأمم وتدهورها، وتفجر الثورات وخمودها إلى غير ذلك من الأمور، فالسببية هي الركن الأساسي الذي يقيم التاريخ عليها علميته، ويحاول أن يتساوى بها مع العلوم الأخرى.

  يضاف أخيراً مشكلة كبرى هي مشكلة (الاحتمال والصدفة)، فهناك أمور تبدو خارجة عن حدود إرادة الإنسان، ومن هنا كانت السببية في التاريخ هي محاولة للكشف عن (السبب) ولكن عن تلك المجموعة المركبة من الأسباب والعوامل الكامنة في كل حدث، وهكذا فإن المشكلات الكثيرة التي لا تزال تحيط بمفهوم السببية في التاريخ، دعت عدداً من الفلاسفة إلى إخراج لفظ (سبب) من قاموس المؤرخين، ورغم ذلك فإنه لابدّ للباحث من المضي في مضمار التعليل، لأن المقصود من السببية في التاريخ تفسير أحداثه، أي جعلها أكثر فهماً، وإيجاد معناها، وبيان أمور فيها تبدو غير ذات معني.

  يقسم والش (Walsh) (9) مفهوم تفسير التاريخ أو البحث عن التعليل فيه إلى ناحيتين: الأولى هي (البحث عن المعنى في التاريخ) والثانية هي (البحث في معنى التاريخ) تكون الأولى عندما يبحث المؤرخ في معنى (حادث) أو (مجموعة من الحوادث) في بيئة محدودة، مثلا تساؤله عن أسباب الموجة الأولى من الفتوحات العربية الإسلامية، فالبحث يجري في مجموعة من الأحداث المحددة في الزمن وإلى حدّ ما في المكان، وهذا العمل بحسب (والش) هو عمل المؤرخ، وفي هذا المضمار يمكن للباحث التاريخي أن يصل بغيته بطرق شتى أهمها: 

1 ـ أخذ ما ذكر في الأصول التاريخية نفسها عن مثل تلك الأسباب.

2 ـ قيام المؤرخ بدراسة العناصر الداخلة في كل حادث من ظواهر الحقائق التي تعرض له، ومحاولة إثبات أو نفي هذه الفروض حسبما يملك من حقائق بنزاهة موضوعية.

3 ـ وعند تحليل الباحث لعناصر العلاقات في الحادث المدروس لاستخلاص أسبابه، يجب أن يلجـأ إلى طريقة (المقارنة) متبعاً بذلك طريقة العلماء الطبيعيين ونحوهم آخذاً بالاعتبار ما يلي:

1 ـ إن دراسة التاريخ تدور حول (تاريخ الإنسان) والإنسان كائن معقد.

2 ـ إن الحوادث التاريخية لا تخضع لسبب واحد، بل لمجموعة من الأسباب.

3 ـ إن أحداث التاريخ محدودة بالزمان والمكان.

  أما الناحية الثانية في دراسة التعليل التاريخي، وهي دراسة معنى التاريخ ككل، فإن والش يؤكد ويلح على أن هذا لا علاقة خاصة له بعمل المؤرخين، لأن التساؤل عن معنى التاريخ ككل هو سؤال فوق التاريخ، فالتاريخ بمعناه الحقيقي هو انصباب جداول عديدة من الأجناس والأمم والعادات والحكومات والصناعات والأفكار والإدارات في تيار واحد من الأمل التقدمي، وقد طرحت عدة نظريات للتعليل الواحد في التاريخ، أو معنى التاريخ ككل.

  تقتسم اليوم ميدان فلسفة التاريخ مدارس عدة، تياراتها يكمل الواحد منها الآخر، وتحاول جميعها أن تنظر إلى تاريخ الإنسانية كوحدة متكاملة، والمذاهب الفسلفية المعاصرة هي:

1 ـ المدرسة البيوغرافية: (مدرسة سيرة الأشخاص) أو مدرسة التراجم.

2ـ المدرسة العلمية: أي أن التاريخ هو دراسة التطور العلمي التقني للإنسان.

3 ـ المدرسة الاقتصادية: وتنظر إلى كل التاريخ على أنه صراع الكتل البشرية أو الجماهير ضد استغلال الطبقات.

4 ـ المدرسة الجغرافية: وترتبط بالمدرسة الاقتصادية في التفسير التاريخي، فأعمال البشر مسيرة بالجوع المادي والموقع الجغرافي.

5 ـ المدرسة الاجتماعية: تحاول أن تبحث في أصل المجتمع وبنيته ونشاطاته، معتمدة على الأسباب الطبيعية والحيوية العاملة كلها معاً في موكب تطوري.

6 ـ المدرسة الفكرية المثالية: ويرى مؤرخو هذه المدرسة أن قصة تقدم الأفكار الإنسانية هي تاريخ الجنس البشري.

7 ـ المدرسة التركيبية الشاملة: ويعترف الفلاسفة بأهمية الإسهامات التي قدمتها المدرسة الفلسفية الأخرى، وأن قيمة هذه الإسهامات لا تبين إلا عندما نركبها في نظرة عالمية للتاريخ.

  وهكذا فإن تقدم الجنس البشري بكليته يصبح مفهوماً عندما ننظر إليه على أنه تتابع عوامل وجهود فردية وعلمية واقتصادية وجغرافية واجتماعية وفكرية، فالتاريخ هو القصة الكاملة للعالم بكل وسعته. إننا ننهي بحث التعليل في التاريخ بالقول: إن على الباحث التاريخي أن يستفيد من مدارس فلسفة التاريخ كلها، وأن يسعى إلى البحث عن جميع الأسباب والعوامل والدوافع المشار إليها آنفاً في إطار بحثه دون فكرة مسبقة، وألا يأخذ بنظرية واحدة، وأن يختار من الحقائق ما يؤيدها.

  وهكذا يتضح أن مرحلة التركيب التاريخي، هي أشق المراحل في البحث التاريخي، وأكثرها صعوبة، تظهر فيها إمكانية المؤرخ، لأن ما ذكر من مراحل في إعداد البحث التاريخي تتطلب محاكمة قوية وسليمة، وخيال مبدع، وثقافة واسعة عميقة، وموضوعية تامة.

إنشاء البحث التاريخي

  من خلال ما قام به الباحث التاريخي من إجراءات توصل إلى مجموعة كبيرة من الحقائق في هيكل تصنيفي معين، وفي سياق تعليلي محدد، وعمله لا يكتمل إلا بالتدوين، ويميز النقاد التاريخيون في هذه الخطوة بين عمليتين:

عملية الصياغة وعملية العرض.

أ- الصياغة التاريخية:

  وهي آخر العمليات التركيبية، يسعى فيها المؤرخ للتعبير عن نتائج بحثه. وهي تقابل في العلوم الأخرى الدساتير أو القوانين التي تأخذ في بعض العلوم (صياغة رياضية) أما في التاريخ فالصياغة وصفية، دقيقة موجزة وهنا يصطدم المؤرخ بمشكلة هي أول ما يجابهه وهي مشكلة (ما هو المهم) من الحقائق التاريخية، وفي أغلب الأحيان تستمد الحقيقة أهميتها من علاقتها ببيئة المؤلف وعصره وبهدفه أو أهدافه في كتابة التاريخ، ومن المؤكد أن هناك حقائق في كل موضوع بمثابة العمود الفقري منه،ولا مناص لجميع المؤرخين الذين يطرقونه عن الاستناد ٍإليها، مهما كانت الظروف والعصر اللذان يعيشون فيهما، ومع ذلك فإنه يمكن القول: إن هذا لا يضمن اتفاقهم في القواعد العامة التي يصلون إليها، إذ قد يجد كل واحد منهم في الحقائق ذاتها معاني مختلفة. وقضية ما هو مهم لها تفسيران: المهم في نظر الماضي، والمهم الآن، والتاريخ العلمي الدقيق بحسب المؤرخ الألماني (فون رانكة 1795م – 1886م) (10) هو القائم على المعنى الأول، وهذا يتطلب توفر ما يسمى (الحاسة التاريخية) لدى الباحث، وهذا الاتجاه في الدراسة التاريخية، هو ما يعبر عنه بلفظ (الموضوعية) وهو الذي ساد في القرن (التاسع عشر)، وسعى المؤرخون خلاله أن يحققوا بهذا المثل الأعلى.

  شاع التيار الثاني منذ مطلع القرن (العشرين) الذي تحدى فكرة (الموضوعية) على أساس أنها غير ممكنة التحقيق، ومع أنه من المتفق عليه مبدئياً أن الباحث الموضوعي ينتقي عادة من الحقائق ما كان لها أكبر النتائج على تطورات أتت بعدها، أو ما يمكن أن يستشف منها ما سيأتي، أو تلك التي انبثقت بشكل طبيعي مما سبقها، فإن النقاد التاريخ قد وضعوا بعض نقاط هداية في هذا الطريق، وميزوا بين ثلاثة أنواع من الحقائق: 

- الحقائق العامة: وهي المشتركة بين مجموع كبير من الناس أو الحقائق التي لها صفة أكثر ديمومة من غيرها (العادات، النظم).

- الحقائق الفردية: أو الشخصية وهي التي تخص شخصية تاريخية معينة. 

- حقائق الحوادث: وتعتبر من الحقائق الخاصةلأنها تحدث مرة واحدة ومحددة بزمانها ومكانها.

  وفي الحقيقة إن عملية الصياغة التاريخية هي جزء من عملية التركيب التاريخي، إذ قد تقود إلى التعليل، أو التعليل إلى الصياغة الصحيحة، وهي تركيز وتكثيف مدون للحقائق التاريخية العديدة، ومحاولة لوضعها في صيغة عامة واحدة، تسقط منها الحقائق المتغيرة وتبقى الثابتة والمشتركة منها.

ب- العرض التاريخي:

  وهو إخراج الموضوع وحدة كاملة متماسكة الأطراف، بحيث يكون إحياءً للماضي يتحسسه الباحث القارئ، وهذه الخطوة هامة وعسيرة، ويتبين في العرض أمران رئيسان: أولهما اتباع الباحث مخططاً واضحاً، وثانيهما استخدام الباحث أسلوباً كتابياً ملائماً، والعمليتان متكاملتان.

  إن البحث العلمي يشمل في صورته التقليدية: 

  المقدمة، المتن، النتائج، الهوامش، بحيث يشمل مشكلة البحث، والفرضية الأساسية التي قام عليها البحث، والفرضيات الثانوية التي تفرعت عنها، ثم طرائق الباحث في النقد والبحث والنتائج التي توصل إليها، وأخيراً قائمة بمراجع البحث والملاحق والفهرسة الأبجدية والفهرسة العامة.

  نشير بخاصة إلى أسلوب عرض البحث التاريخي، إذ أن الأسلوب الأدبي الصرف غير مستساغ أبداً في الكتابة التاريخية، لأنه قد يحرف الحقائق عن مسارها الدقيق، بما يطرحه من ألفاظ عامة، أو حاملة لصفة المبالغة، أو منجرفة وراء الخيال، فالكتابة التاريخية فن لا يمتلك ناصيته جميع المؤرخين، إنها كتابة بعيدة عن الإطناب الممل والاختصار المخل، بعيدة عن المبالغات أو التعصبات أو الإخلال بالموضوعية، تظهر من خلالها شخصية الباحث الذي يجب أن يجلو قصة الإنسانية بوضوح وأمانة (11).

الهوامش
_______________________________

(1) فاخر عاقل، أسس البحث العلمي في العلوم السلوكية، مرجع سبق ذكره: 101 – 102.

(2) يقوم عدد من المؤرخين ببحث القضايا المحيطة بهم، وقد يقدمون خلالها وثائق حتمية وأبحاثاً مجدية وموضوعية.

(3) مفردها وثيقة، والكلمة في مصدرها اللغوي بالعربية أتى من وثق به وثاقة وثقة أي ائتمنه، والوثاقة مصدر الشيء المحكم الوثيق، والوثيقة في الأمر إحكامه والأخذ بالثقة (ابن منظور: لسان العرب، 1/371 بند وثق) دار صادر- بيروت.

  أما باللغة الأجنبية فهي أداة وبيّنة مكتوبة صحيحة يثبت بها أي فرد حقه، وقد طغت فكرة الصحة والإحكام في القرن (التاسع عشر) على فكرة النص المكتوب حتى انتهى الأمر بالمؤرخين إلى تعريف الوثائق بأنها (جميع الآثار التي خلقتها أفكار البشر القدماء وأعمالهم).

(4) مؤرخان فرنسيان، شارل فيكتور لانغلوا (1863م – 1929م) وشال سينوبوس (1854م – 1942م).

(5) جاءت لفظة تحقيق مصدراً لفعل (حقق يحقق تحقيقاً) وأصل الفعل المضعف العين (حقّ) ويرى ابن فارس أنها تدور حول إحكام الشيء وصحته، ويقال: حققت الأمر أو حققته أي كنت على يقين فيه (معجم مقاييس اللغة، 2/15، 16، 219)وتهذيب اللغة (3/377).

(6) مقدمة ابن خلدون: 35.

(7) فاخر عاقل: أسس البحث العلمي في العلوم السلوكية، مرجع سبق ذكره: 109.أيضاً: 

Van dalien, D. B, Understending Educvational Rescaech, op. cit, eh7.

(8) شاكر مصطفى، «التاريخ هل هو علم»، مجلة عالم الفكر، المجلد الخامس، العدد الأول، (1974م):201.

(9) Walsh, Meaning in history in ''Theories of history'' Free Press, New york 1965. p. 298.

(10) كان على رأس المدرسة الوصفية في الكتابة التاريخية ومن أتباعها المؤرخان الفرنسيان شارل لانغلوا وشارل سينوبوس.

(11) Van Dalen, D. B. '' Understending Educvational Rescaech, ch. 7.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق