الصفحات

الأربعاء، 25 أبريل 2018

مدينة تراغن في كتابات بعض الرحالة من أوائل القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر ...


مدينة تراغن



 في كتابات بعض الرحالة


من أوائل القرن السابع عشر


 إلى القرن التاسع عشر

إعداد

د. المختار عثمان العفيف

قسم التاريخ - كلية آداب الزاوية
جامعة السابع من أبريل


   تعد الرحلة من أهم الفنون الأدبية التي تصور بعض مظاهر الاتصال بين الشعوب والتفاعل بين الحضارات، وما ينجم عن هذا التفاعل من تمازج وصراع فكري وحضاري،( ) لأن القيام بالرحلة، قد يكون الهدف منها طلب العلم والمعرفة أو لغرض ديني كأداء فريضة الحج مثلاً، وأحياناً يتستر بعض الرحالة لتحقيق مآرب استعمارية في حين كان لبعضها أهداف إنسانية، وتجدر الإشارة هنا أنه من الواجب إخضاع تلك المعلومات التي كتبها الرحالة للتحليل الموضوعي والنقد البناء من اجل إبراز الحقيقة.

   وبخصوص القارة الإفريقية فقد تنامت حركت الرحلات وكثر عدد الرحالة الذين وفدوا إليها منذ أوائل القرن التاسع عشر باسم الكشف الجغرافي حيناً، ورصد تجارة الرقيق حيناً آخر، وقامت لتحقيق تلك الأغراض جمعيات جغرافية وأخرى جمعيات للدراسات الإفريقية بدعم أولئك الرحالة مادياً ومعنوياً في سبيل إنجاز المهام التي جاءوا من أجلها، وصدرت الكتب والدوريات لنشر تقارير مشاهداتهم وما نقلوا عن غيرهم. ( )
   وفي هذا البحث يصعب تناول كل ما كتبه الرحالة عن موضوع هذه الدراسة أو غيرها، لأن كثير من الرحلات نسمع عنها ولا نجدها متوفرة في مكتباتنا، لتكون في متناول اليد، ولهذا السبب ينحصر موضوع هذا البحث ضمن إطار الفترة الزمنية الحديثة، الواقعة ما بين أوائل القرن السابع عشر وخلال القرن التاسع عشر من خلال كتابات بعض الرحالة.
    واعتمدت هذه الدراسة أيضاً على مشاهدات بعض الرحالة الذين زاروا إقليم فزان خلال فترة البحث التي شهد فيها الإقليم حكم أسرة أولاد محمد الفاسي والعهد القرمانلي والعهد العثماني الثاني، وكانت انطباعات أولئك الرحالة التي سجلوها في تقاريرهم أكبر الأثر لتوضيح المعالم التاريخية لمدينة تراغن عبر العهود من حيث موقعها وذكر سورها وطرقاتها وهندسة قلعتها ومبانيها ومساجدها ومقابرها وشرب أهلها وحدائق وأشجار نخيلها، ووصف بعض عادات أهلها خاصة عند استقبال وتوديع ركب الحجاج المغاربة والأفارقة على السواء.
     وقبل الحديث عن مشاهدات بعض الرحالة لمدينة تراغن كان لابد من الإشارة إلى جغرافية المنطقة من خلال موقعها على طرق القوافل الصحراوية والتجمعات العمرانية القريبة منها التي أعطت لمدينة تراغن أهمية مما جعلها عاصمة إقليم فزان في عهد حكم ملوك كانم.
   تقع مدينة تراغن في وادي الحفرة بإقليم فزان الواقع جنوب ليبيا على ارتفاع 420م فوق مستوى سطح البحر تقريباً، وتمتد تراغن شرق مرزق بمسافة 55 كم، وتبعد سبها عنها بمسافة 145كم باتجاه الشمال، وعن طرابلس بنحو 770كم على طريق مصراتة- الجفرة.
يحدها من الجنوب سبخة كبيرة التي تكونت نتيجة الرشح على سطح الأرض وتمتد لمسافة 30 كم، وإلى الجنوب من هذه السبخة تمتد أدهان مرزق، وترتفع هضبة صخرية في الجهة الشمالية من التجمع السكاني، وفي حالة سقوط بعض الأمطار- وهذا نادر– فوق هذه الهضبة تسيل باتجاه الجنوب عبر الأودية إلى السبخة.
أما أقرب تجمعات السكان العمرانية لمدينة تراغن الديسة التي تقع على مسافة 12كم باتجاه الغرب، والزيتونة الواقعة على بعد 13 كم باتجاه الجنوب الشرقي، وأم الأرانب على مسافة 38كم باتجاه الشمال الشرقي.
هذا وتتحكم تراغن في مجموعة طرق قوافل التجارة والحج التي تربطها بغيرها من واحات إقليم فزان، منها الطريق الشمالي مروراً بسبها، وكذلك الطريق الذي يمر بتراغن باتجاه الشرق إلى زويلة، وإلى تمسة، وعلى نفس الطريق بالقرب من حمّيره الواقعة على مسافة 50 كم شرق تراغن، ثم يتفرع منها الطريق الموصل إلى القطرون وتشاد.( )
   وإلى جانب أهمية موقع تراغن الجغرافي فإنها تتميز بخصوبة أرضها وبوفرة مياهها الجوفية العذبة، وعندما تحدث رولفس عن وادي الحفرة يقول بأن الماء هناك قريب من سطح الأرض وأن بعضها عذب تماماً والبعض الأخر مالح أو كلسي، وفي الغالب يحصل المرء على الماء إذا ما نبش الأرض، ولكن عيون الماء في تراغن يندر وجودها التي تتدفق مياهها بقوة، وكانت أغزرها هي عين تراغن وتدعى عين قندرية. ( )
    تتميز بلدة تراغن بوجود ست عيون مائية، وكلها تقع في جنوب غرب البلاد وأن المياه هناك تندفع من منسوب 32 متراً وهي مختزنة في تكوينات عصر الباليوجين الأعلى. ( ) وتستغل مياه هذه العيون حتى وقت قريب منا لري معظم حقول الواحة، ويقال أن بعضها كانت مستغلة في الزراعة منذ أن كانت فزان خاضعة لحكم ملوك كانم الذين امتد نفوذهم من منطقة بحيرة تشاد حتى طرابلس.( )
   ونظراً لوفرة المياه في منطقة تراغن مقارنةً ببعض الواحات الأخرى يذكر الرحالة ناختيجال بأن الماء كان ينقل من هناك إلى غدوة التي تبعد عنها مسافة 60كم، عبر إحدى الممرات التي حفرت تحت سطح الأرض لتنقل الماء لمسافات بعيدة، ويطلق على هذه المنظومة المائية الفجارة أو الفقارة، وهي طريقة تعمل على زيادة كمية منسوب الماء بواسطة حفر آبار عمودية بعمق قامتين تقريباً يرتبط بعضها ببعض عن طريق قنوات أفقية، وهي في العادة تعمل بطريقة فنية حيث تنساب المياه فيها من المنطقة المرتفعة إلى المنطقة المنخفضة بشكل تدريجي، ومن تم يتم توزيعها على الأراضي التي يراد زراعتها، وهذه الطريقة هي التي استخدمت مند القدم على نطاق واسع في صحراء شمال أفريقيا وغيرها، علماً بأن هذه المنظومة المائية تتطلب بطبيعة الحال صيانةً بالغة العناية لتنظيف مجراها ووقف زحف الرمال على فتحات آبارها.( )
   إن اشتهار منطقة تراغن بوفرة المياه وقربها من سطح الأرض هي التي ساعدت من دون شك على نمو أشجار النخيل بها، في شكل غابات كثيفة، والتي تعد بالآلاف وأكثر تمورها من الأصناف الرفيعة المستوى التي كانت تؤمن الغداء للسكان وللقوافل العابرة من خلالها.
   أما عن المدلول التاريخي لاشتقاق اسم أو معنى تراغن، توجد إشارةً عابرة بأن تراغن أو “طرغان” (Pagarin)، وحسب رأي إسماعيل العربي كانت، هي المدينة الرومانية التي ذكرها الشريف الإدريسي باسم تساوة وقال أن السودان يسمون تساوة جرمة الصغرى، وأن بين المدينتين مرحلة أو دونها،( ) وبالرجوع إلى كتاب الإدريسي (نزهة المشتاق) نجد أن مانسب إلى الإدريسي كان صحيحاً، لكن بالرجوع إلى خريطة موقع إقليم فزان الجغرافي بالفعل نجد أن هناك مدينة تسمى تساوة والتي تبعد عن مدينة مرزق مسافة 51كم إلى الغرب وهي نفس المسافة تقريباً التي تفصلها عن مكان مرزق الواقعة غرب تراغن، وأن مدينة جرمة التي تقع شمال تساوة كانت أقرب إليها من مدينة تراغن. أما أن تكون المدينة رومانية فقد يكون ذلك الأمر جائز، لكن اقتصار الإشارة عليها بالاسم اللاتيني المذكور أعلاه يبقى الأمر ضعيفاً إلا إذا ظهرت أدلة أو شواهد تاريخية تؤكد صحة ذلك.
أما التعليل الثاني فهو عابرأيضاً، الذي تردده بعض الروايات المحلية من سكان المنطقة ذلك بأن الاسم مركب من مقطعين الأول (ترا) ويقصد به الطلب، والثاني (غن) والمقصود به طلب الغناء أي من الأغنية والأغاني،( ) وهذا التعليل جاء ضعيفاً هو الأخر ويحتاج إلى دليل مقنع للتسليم بصحة اشتقاق اسم هذه البلدة، ولكن من الأرجح أن هذه التسمية ربما ترجع إلى أصول جرمانتية أو إلى التوارق أو إلى التبو أو إلى الزغاوة أو الكانميين الذين حكموا منطقة فزان، واتخذوا من تراغن عاصمة لها، لذلك نجد أن مدلول أو معنى هذه التسمية وغيرها من التسميات الأخرى التي تتعلق بمدن وقرى فزان مازال بعضها يحتاج إلى المزيد من الشواهد التاريخية لتحديد مدلولاتها وأسباب اشتقاق أسمائها.
    ومما هو جدير بالذكر أن شهرة مدينة تراغن كعاصمة لإقليم فزان إنما يرجع ذلك إلى عهد ملوك كانم الذين حكموا فزان، وفي هذا الشأن تفيد إحدى روايات شابيل أن حملة خرجت من كانم في عهد الملك دونامه دابلامي 1221- 1259م إلى فزان حوالي سنة 1258م استجابةً لاستغاثة أهالي فزان به لوضع حد للفوضى التي أثارها ابن قراقوش بعد سقوط بني خطاب على يد والده، وفي بلاد ودان حيث قتل قراقوش أشعل تلك البلاد ناراً، فأنفذ إليه ملك كانم من قتله وأراح البلاد من فتنته، وكان ذلك في سنة 656هـ/ 1258م. ( )
    وعلى إثر حملة كانم على فزان قاموا بضمه إلى نفوذهم، وقد ساعدهم على ذلك وجود الفراغ السياسي في البلاد بسبب الفتن المشار إليها، ومن ناحيةً أخرى فقد كانت دولتهم بحاجة إلى أن تضمن ممراً حراً للقوافل التجارية عبر واحات فزان فمنذ زمن طويل كانت على علاقات تجارية مع طرابلس وتونس، وبذلك يتحقق لهم إعادة طريق القوافل القديم الممتد من بحيرة تشاد حتى طرابلس مروراً بواحات فزان،( ) وبالتالي شهدت حركة القوافل ظروفاً ملائمة لم يسبق لها أن مرت بها من قبل.
    وفي عهد الملك دونامه نصب في تراغن العاصمة الجديدة لإقليم فزان التي أسسها أحد قادته، وقيل أنه من التبو، حيث اتخذ لنفسه لقب (ماي) ملك وأسس أسرة إفريقية حكمت الإقليم، هي بني نصور (نسور)، وهي من سلالة من البرنو، حيث مازالت تحتفظ ذاكرة أهالي تراغن كما يقول ناختيجال بروايات محلية عن أيام تلك الأسرة الحاكمة، ومن المحتمل أن يكون الحكم وراثياً، وبالنظر إلى المسافة الكبيرة التي تفصلها عن الحكومة المركزية، فمن المحتوم أن يكون مركز حكم الولاة في تراغن مستقلاً جداً. ( )
استمرت تراغن عاصمة لإقليم فزان في عهد دونامه، الذي كان من أبرز سلاطين أو ملوك كانم حيث قام بجهود كبيرة لتوسيع إمبراطوريته التي امتد نفوذها من الضفة الجنوبية لبحيرة تشاد إلى طرابلس شمالاً، ومن حدود مصر شرقاً إلى نيجيريا غرباً، ( ) وشهدت تلك الإمبراطورية في القرن الثالث عشر الميلادي انتعاشاً اقتصادياً بفضل الاهتمام بالزراعة وسيادة الأمن.( )
وفي مدة وجود النفوذ الكانمي بفزان ازدادت حركة العمران في البلاد وشيدوا القصور أو القلاع في كثير من نواحي فزان للاستقرار بها، وشحنوها بالمقاتلين في مواقع مختلفة منها لتأمين طرق القوافل. ( )
   والجدير بالقول هنا إن فترة حكم الكانميين لفزان كان الغموض يكتنفها، وفي هذا الشأن يشير جاك تيري- أحد المهتمين بدراسة تاريخ إقليم فزان حديثاً- عن ندرة المعلومات حول الأسلوب الكانمي في إدارة الصحراء الليبية، ويرجع السبب في ذلك إلى سكوت المؤلفين عن هذه الفترة باستثناء بعض الروايات التي جمعها المستكشفون في القرن التاسع عشر، فتبقى من المراجع الهامة في تزويدنا ببعض المعلومات التي تتناول تاريخ معالم إقليم فزان. ( )
   وفيما يخص الأوضاع السياسية، فقد استمرت تراغن عاصمة الإقليم في عهد الكانميين، ولكن بعد موت زعيمهم دونامه، وبسبب الخلافات التي حدثت في تشاد أصبحت إمارة بني نسور التي كانت تحكم فزان باسمهم مستقلة، وبذلك استعاد حاكم تراغن لحسابه دور سياسة زويلة إبان ازدهارها في عهد بني خطاب، حيث كان يستلم من قوافل التشاد العبيد ومنتجات أواسط أفريقيا التي يعاد تصديرها عن طريقه إلى طرابلس وتونس، وأحياناً إلى مصر عن طريق برقة
   وفي أواخر القرن الرابع عشر يقول ناختيجال تم تحول مملكة كانم إلى برنو، وقد جرى ذلك نتيجة حروب مع جيرانها، وأصبح التأثير المباشر لحكام برنو في فزان، قد قارب على النهاية خلال هذه الفترة، لأن فزان كانت الأكثر بعداً من حيث المسافة، والتي كانت لا تعدهم بأية مكاسب مادية إذا ماتم استثناء الحصول على التمور جانباً، ويقول ناختيجال “لا نندهش إذا ما ترك هذا الإقليم النائي على الفور في يد واليها”، ويقول أيضاً أن التأثير المباشر لحكام برنو في فزان، قد اختفى، وأصبح الحكم فيها مستقلاً تقريباً، وأخيراً خلص حكم فزان بعد بني نسور إلى الخرمان (القورمان) من السكان المحليين الذين اختاروا زويلة مقراً للحكم. ( )
  عندئٍذ أصبحت زويلة عاصمة الإقليم للمرة الثانية، وفي هذه الآونة مد الخرمان نفوذهم من زويلة شرقاً إلى سوكنة شمالاً وإلى غدامس غرباً، وعندما أرادوا بسط نفوذهم على جهات غات اصطدموا بالتوارق هناك، وفي نهاية المطاف وبالتحديد خلال القرن الخامس عشر يرى محمد سليمان أيوب أن عدم استقرار إقليم فزان كان مرجعه إلى الفوضى التي سادت الإقليم بسبب غارات التوارق وتدمير المزارع، وفشل الخرمان في صد فرق الجمالة التوارق، وبذلك أصبحت فزان قطراً بلا حكومة مما مهد السبيل أمام السلطان محمد الفاسي ليتولى أمورها.( )
   وعلى الرغم من نهاية سيطرة ملوك كانم- برنو على إقليم فزان إلا أن بعض مآثرهم قد بقيت في فزان شاهداً على عصرهم، ومن ذلك أنهم شيدوا عدداً كبيراً من الحصون الدفاعية في نواحي فزان والتي تعرف عندهم أيضاً باسم القلاع أو القصور، ويصفها محمد سليمان أيوب بأنها عبارة عن مباني من اللبن عالية الجدران لها مداخل كبيرة، وكان بالسور المحيط بكل منها خندق عميق لحماية القصر. أما الأسوار فكان لها أبراج عالية بها فتحات للمراقبة ولإطلاق السهام إذا تطلب الأمر ذلك.( )
   وكانت قلعة تراغن من أشهر تلك القلاع لضخامتها وهندسة بنائها، وقد شيدت في الطرف الشرقي للمدينة القديمة، حيث كانت مقراً للحكام، ومازالت أثارها قائمة حتى الآن، وفيها قبر أحد الحكام الزغاوة أو الكانوريين على ما يبدو والمسمى (بالمي علي)، وأن قبر الماي أو الملك (علي) معروف جيداً في تراغن، ولكن ليس على القبر المبني من الطين أي نقش أو كتابة تشير إلى ذلك،( ) هناك من يرى أن الأصح هو إدريس بن علي حاكم برنو، وليس فزان، قد توفي في تراغن أثناء عودته من الحج، حيث دفن هناك، وربما كان ذلك في سنة 1700.( )
   ومن أثارهم في تراغن وجود العديد من البساتين والساحات والعيون والآبار التي تحمل أسماء باللغة الكانورية، وهي لغة كانم وبرنو، وقد أشار ناخيتجال إلى بعض منها، مثل ناكانيبي، قصر المعزاة، من نا: الموضع، وكاني: المعزاة، وشيم قانه، العين الصغيرة، وفرٍفرٍ، هي اسم ساحة من الساحات، والتي ربما تعني الشخص الغني بالخيول، كما لاتزال إحدى الحدائق حتى عهد ناختيجال تسمى نقروتوه، وتعني حديقة فرس النهر، وأخرى كرِيبي خاصة بحديقة الكلاب، وثالثة تسمى بلتوبي من بلتو، أي الضبع، وأخيراً ثمة أسماء عديدة للبساتين والآبار مأخوذة من أصحابها السابقيين، مثل جدرام، وهو تحريف لأسم سعد ورام تعود لسعد، عمرام، موسى رام، كريمبي وما شابه ذلك.( )
    أما بالنسبة لسكان تراغن فإن أصول بعضهم يرجع إلى الكانميين وفي هذا الشأن يشير جاك تيري بأن أولاد أكسوم يقولون أنهم منحدرون من الكانميين الذين حكموا المنطقة. كما ترجح وثائق بني تامر أو ثامر بأن أصول هذه الأسرة يعود إلى برنو، كما تحمل احتفالات الزواج في طياتها، كذلك الحال بالنسبة للفولكلور والرقصات بشكل خاص مؤثرات سودانية والتي لا تمت بصلة إلى مناطق الساحل الليبي.( )
وعلى أية حال فإن بعض تلك المؤثرات السودانية المشار إليها ظلت سائدة في المنطقة حتى بعد انتهاء حكم الكانميين لإقليم فزان. كما أن التواصل كان مستمراً بين طرابلس وكانم- برنو حتى العهد القرمانلي 1711-1835، ومن ذلك أن الشيخ محمد الأمين الكانمي 1813-1835 الذي ينتسب إلى تراغن حسب بعض الآراء( ) والذي حكم مملكة كانم- برنو كان على صلة قوية بحاكم إيالة طرابلس يوسف باشا القرمانلي 1795-1832 وكثيراً ما كان الباشا يدعمه حتى بالقوة العسكرية إذا تطلبت الحاجة إلى ذلك.
   أما في عهد أسرة أولاد محمد الفاسي التي حكمت فزان خلال الفترة 1550- 1813م، فإن مرزق أصبحت عاصمة الإقليم، وفي ذات الوقت فإن تراغن لم تفقد أهميتها كمدينة تاريخية بل استمرت كمحطة على طرق قوافل تجارة فزان، وملتقى لركب الحجاج، والجدير بالذكر هنا أنهم كانوا في عهد أولاد محمد يستقبلون استقبالا طيباً في كل أنحاء فزان التي يمرون بها، حيث كانت تعفى بضائعهم من الضرائب، مما حدا بالتجار الذين انضموا لركب الحج أن يخلطوا بضائعهم مع بضائع الحجيج تجنباً لدفع الضرائب،( ) وفي هذا الشأن يشيد ابن مليح- أحد الحجاج المغاربة- في رحلته من المغرب إلى مكة المكرمة 1630-1633، بكرم الضيافة وحسن الاستقبال للحجاج من قبل أعيان وأهالي مدينة تراغن في تلك الفترة، حيث قال: “نزلنا بقصر تراغن قصر عظيم، وخيره جسيم، وفضله عميم، قد حل به من السادات الأخيار، من له في الفضل اشتهار، أرباب علوم ومعارف، وخلفاء مكارم وعوارف، فمنهم الولي الأكبر، والعماد الأشهر، السيد الذي لم يتقدم له نظير… سيدي عمر بن تامر التراغني… فلقي الركب في نحو ميل في كبكبة من إبل وخيل… فأقسم ليقيمن الركب ثلاثاً… فجاد جود السحاب… ووسع الناس بضيافته… وفي أمثاله يقال الشعر (على البسيط) :
خلاله عن طريق المجد حاسرة ومن يساجل صوب العارض الهطل
علم وحلم ورأي محضر ويد سبحان جامع هذا الفضل في رجل

  ثم استمر في مدحه كثيراً على عادة شعراء ذلك الزمان، وبمناسبة مغادرة ركب الحجاج من هناك ذكر بيتين من الشعر (على الخفيف) :

من حبك في حشاشتي اوطار ما مر بها العدل ولا السلوان
تا لله لقد حلوت في القلب فلو بالهجر مزجت طاب الهجران( )

   وفي عهد حكم أسرة أولاد محمد لفزان كانت تراغن تعد بوابة مرزق من ناحية الشرق فمن هناك يستعد القادمون للقاء السلطان بمرزق، والذي يحضر عادة من مقره بقلعة مرزق لاستقبال القافلة لتهنئة الحجاج بسلامة الوصول بعودتهم من مكة المكرمة.( )
   أما في العهد القرمانلي التي أصبحت فزان تابعة لباشا طرابلس، فقد نالت مدينة تراغن اهتمام جون فرانسيس ليون أول رحالة أجنبي يزور فزان في أوائل القرن التاسع عشر، الذي انطلق من طرابلس إلى فزان، فتحدث عنها في رحلته يقول: “بلغنا حدائق وبساتين تراغن، وبدأت لنا كأفضل منطقة مزروعة رأيناها”، ثم تحدث عن درجة الحرارة هناك التي بلغت 9 درجات مئوية صباحاً في يوم 16 ديسمبر 1819، ثم قام بزيارة أحد المرابطين- لعله من أسرة تامر التراغني المشار إليه- وأفاد بأن أفراد أسرته كانوا جميعاً من المرابطين العلماء، وبعد ذلك ذهب لمشاهدة الحدائق ولرؤية جداول الماء التي كانت إحدى مفاخر فزان، ” هي مؤلفة من أربع برك يبلغ محيط كل منها ثلاثين أو أربعين قدماً تغطيها الحشائش، وتسبح بها أعداد كبيرة من الضفادع، وكانت تربة البساتين التي تعتمد على الري من هذه البرك بيضاء ملحية تماماً، وكانت تطير حولها اعداد من أسراب الطيور التي تشبه السمان، إلا ان لكل منها ذيل أطول، ويبدو أن كثافة أشجار النخيل كانت تشبه مظلة معقولة للآهلين“.( )
   أما سكان المدينة فقد قدر عددهم ليون أثناء زيارته لفزان سنة 1819 ما بين خمسمائة وستمائة نسمة( )، وبعد أقل قرن من الزمان قدر دي أغسطيني في سنة 1917 عددهم بنحو 1300 نسمة، وأشار إلى أسماء بعض العائلات هناك منها عائلة آسّية التي يرجع أصلها إلى أوجلة، أما عائلة تامر فهم مرابطون من سلالة السيد تامر دفين تراغن، وعائلة بكّوري من مجابرة برقة، وعائلة جابر من القطرون، ثم ذكر دي أغسطيني عائلاتٍ أخرى مثل عائلة فطيطم وعائلة كرامباكو وعائلة باوة.( )
   أما شكل المدينة فكانت أسوارها ومنازلها يغلب عليها اللون الأخضر الباهت بينما تبدو القلعة ذات لون مائل للحمرة. ولاحظ ليون أيضاً بأن تربة المناطق المحيطة بالمدينة تميل إلى اللون الأخضر الذي انعكس على لون مبانيها لاستخدام تلك التربة في مادة البناء.
   ويذكر ليون أن مدينة تراغن كانت في الماضي ذات أهمية عندما كانت عاصمة فزان. أما في عصره فهي أشبه بأن تكون أطلالاً، وكان من بينها القصر أو القلعة فيقول: “أنها كانت ذات أهمية كأحد الحصون العربية. وقيل له أنها شيدت قبل مرزق بحوالي 600 سنة، وقيل أيضاً استخدم في بنائها 500 بغل من البغال التي استعملت في نقل مواد البناء، والتي ماتت قبل أن يكتمل بناء القلعة، ومنذ ستين عاماً خلت كان يسكنها أحد أشقاء السلطان [أحمد بن الناصر الفاسي 1754-1767م الذي عاصر عهد علي باشا القرمانليالذي حكم الأقاليم الشرقية من فزان التي كانت تضم زويلة وما حولها من واحات، ويقول ليون أن السلطان الذي كان يحكمها يسمى “سلطان الشر“.( )
   ويضيف ليون إن مدينة تراغن كان يوجد بها أربعة مساجد، كل واحد به مئذنة صغيرة مشيدة بالطين، وبعض منازل المدينة كانت كبيرة إلا أنها أصبحت أطلالاً لتغير ظروف مالكيها، وما نتج عن ذلك من الإهمال وعدم ترميمها وصيانتها.( )
   وحول شكل المدينة تفيد إحدى الرحلات التي قام بها دنهام وكلابرتون وأودني من أجل استكشاف دواخل أفريقيا، وأثناء عبورهم لإقليم فزان مروا بمدينة تراغن في نهاية شهر نوفمبر سنة 1822 بأن “المدينة نظيفة ومسورة بل واحدة من المئة وتسع مدن التي يتفاخر ويتباهى بها سكان فزان. وكانت مدينة تراغن في الماضي مثل مرزق عاصمة ومقر السلطان الذي يحكم الجزء الشرقي من فزان، والذي يمكن مشاهدة بقايا وآثار قلعته“.( )
ومما يجب ذكره أن الشهرة التاريخية لمدينة تراغن بدأ دورها يتضاءل أمام أهمية مرزق كعاصمة لإقليم فزان منذ حكم أسرة أولاد محمد واستمرت مرزق عاصمة الإقليم حتى العهد العثماني الثاني 1835- 1911 ، وفي تلك الفترة أصبحت تراغن تفقد مركزها كمدينة سياسية وإدارية، وبالتالي امتد الإهمال إلى حدائقها ونخيلها، وإلى قلعتها ومنشآتها العمرانية، وفي هذا الشأن يصف تلك الحالة البائسة الرحالة رولفس بقوله: “إن بلدة وقلعة تراغن ليستا سوى كومة كبيرة من الخراب، ويقوم بينهما حوالي ثلاثين بيتاً مأهولاً والجزء الأكبر من السكان يعيشون في أكواخ مبنية من سعف وجريد النخيل الواقعة خارج أسوار المدينة كما هو الحال في مرزق وعلى تلة صغيرة في الجنوب الغربي توجد قبور من يدعون بحكام برنو وهي عبارة عن ثلاثين إلى أربعين أكمة واطئة مثل تلك الأكوام التي يعملها الجند“.
   وبخصوص تلك القبور يشير رولفس إلى الرحالة بويرمان عندما أراد أن يفتح بعضها إلا أنه وجد أن الأرض المكونة من طبيعة سبخية كانت أصلب من أن تحفر بالفأس التي أحضرها معه وخلال رحلته 1862-1863 تمكن من تحقيق ذلك، في وقت متأخر حيث فتحت بناء على طلبه بعض هذه الأكوام، وقد تبين أن الكتل الغرانتية كانت ترتخي عندما يصب عليها الماء“.
   ومن الملاحظ أيضاً أن أشجار النخيل قد حازت على إعجاب رولفس الموجودة على جانبي الطريق من مرزق إلى تراغن أكثر من البلدة ذاتها. فكانت تلك الأشجار تحف الطريق مسيرة ساعات الذي يدخل منظرها الجميل على النفوس بهجة بدلاً عن مشاهدة القفار هنا وهناك، حيث لا نجد غرابة في أن شجرة النخيل تشكل ثروة بلاد فزان عموماً مثلها مثل المناطق الصحراوية الأخرى التي تزخر بالواحات العامرة، وفي هذا الشأن يعتبر الفزانيون منطقة تراغن الغنية بمياهها الجوفية بمثابة الوطن الأم لشجرة النخيل إذ توجد هناك أغلب الأنواع وأفضلها، وربما كان موطنها إلى الشرق قليلاً ويزعم رولفس بأنه يوجد في فزان ثلاثمائة صنف من التمر. ( )
   ويرى رولفس أيضاً أن الحكومة العثمانية لو ساعدت الأهالي على الاهتمام بهذه الأشجار المثمرة لكان من الممكن أن تحصل على دخل أكثر مما تأخذ من عموم فزان من الضرائب. لكن تلك الأشجار قد أصابها الإهمال نتيجة عدم العناية بها، ومن ناحية أخرى أفاد بأن أشجار النخيل التي يستخرج من لبها عصير اللاقبي، قد تتعرض إلى الهلاك حتماً إذا أهملت،( ) ولا ترجع إلى الإنتاج مرة أخرى إلا بعد مرور ثلاث سنوات تقريباً في حالة العناية بها.
   وفي خاتمة هذا البحث يمكن الإشارة إلى أهمية الجوانب الآتية:
• تعتبر شجرة النخيل مصدر ثروة بلاد فزان، لذلك يجب المحافظة عليها وتنميتها بكافة الطرق والسبل.
• إن الصلات التجارية بين كانم وطرابلس كان لها اثر مهم في تدعيم الروابط التاريخية منذ القدم بين الساحل والصحراء عبر واحات إقليم فزان.
• تزخر مدينة تراغن ببعض المعالم التاريخية بصفة خاصة وبلاد فزان بصفة عامة خلال فترة الحكم الكانمي لفزان، لذلك يجب المحافظة على المواقع التاريخية القديمة والعمل على ترميمها، والحث على إستعمال قصورها أو قلاعها كمتاحف أثرية ومناطق ترفيهية التي من شأنها أن تكون عاملاً مشجعاً على السياحة الصحراوية، والتعريف بتراث بلادنا.
مصادر وهوامش البحث
– نازك سابا يارد “الصراع الفكري والحضاري في أدب بعض الرحّلات العرب” مجلة الفكر العربي، ع51، يونيو (1988)، ص9.
– غيرهارد رولفس، عبر أفريقيا، رحلة من البحر المتوسط إلى بحيرة تشاد وإلى خليج غينيا، ج1، ترجمة عماد الدين غانم، سبها، مركز البحوث والدراسات الإفريقية، 1987، ص17.
– أمانة اللجنة الشعبية العامة للمرافق، إقليم سبها التقرير النهائي للمنطقة الفرعية لمرزق، 1985، ص33-6.
– رولفس، المصدر السابق، ص145.
– جمال الدين الدناصوري، جغرافية فزان، بنغازي، دار ليبيا للنشر والتوزيع، 1967، ص384.
– عبدالعزيز طريح شرف، جغرافية ليبيا، ط2، الإسكندرية، دار الجامعات المصرية، 1971، ص299.
– جوستاف ناختيجال، الصحراء وبلاد السودان، مج 1، ترجمة عبدالقادر مصطفى المحيشى، طرابلس، مركز جهاد الليبين للدراسات التاريخية، 2007، ص160-161.
– إسماعيل العربي، الصحراء الكبرى وشواطئها، الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1983، ص132-133.
– الأمين محمد الماعزي، سكان فزان، ج1، القاهرة، المطبعة الفنية الحديثة، 2003، ص390.
– أبو محمد عبدالله التيجاني، رحلة التيجاني706- 708هـ، طرابلس، دار الفرجاني، (د.ت)، ص111.
– ناختيجال، المصدر السابق، ص300، محمد سليمان أيوب، مختصر تاريخ فزان حتى سنة 1811، طرابلس، المطبعة الليبية، 1967، ص95.
– ناختيجال، المصدر السابق، ص300.
– أنظر الشكل(1).
– إبراهيم صالح بن يونس، الإسلام وحياة العرب في إمبراطورية كانم- برنو، القاهرة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1976، ص81-82.
– شوكت عارف الأتروشي، دولة كانم الإسلامية، عمان، دار دجلة، 2007، ص98-99 .
– جاك تيري، تاريخ الصحراء الليبية في العصور الوسطى، ترجمة جاد الله عزوز الطلحي، مصراتة، الدار الجماهيرية للنشر، 2004، ص363.
– Lethielleux, J, Le Fezzan, Ses Jardins, Ses Palmiers, 41 Avenue de Londers, Tunis, 1948. P,11.
– ناختيجال، المصدر السابق، ص301.
– محمد سليمان أيوب، المرجع السابق، ص97-102.
– المرجع نفسه، ص95.
– ناختيجال، المصدر السابق ،ص300، محمد سليمان أيوب، المرجع السابق، ص96.
– ناختيجال، المصدر السابق، ص300.
– المصدر نفسه، ص301.
– جاك تيري، المرجع السابق، ص364.
– محمد سعيد القشاط، صحراء العرب الكبرى، قبرص، دار الملتقى، 1994، ص32وبشأن أصل الكانمي هناك من يرى أنه كان ينتمي إلى (بنوكانم) الذين يرجع أصلهم من هون. وهم بقية من العوائل التي رحلت من مدة قديمة إلى برنو، وفي مدينة هون ما زال من يحمل لقب الكانمي حتى اليوم. أنظر
Enrico Petragnani, Il Shara Tripolitano, Editore in Roma, 1928, P.114.
– عمر النقر، تقاليد الحج في غرب أفريقيا، دراسة تاريخية للقرن التاسع عشر، ترجمة اشتياق عبدالله زكريا، بحث تكميلي لنيل درجة الماجستير، كلية الدراسات العليا وحدة الترجمة، جامعة الخرطوم، 1999، ص33، (غير منشورة).
– أبي عبدالله محمد بن أحمد القيسي( الشهير بالسراج الملقب بابن مليح) أنس الساري والسارب من أقطار المغارب إلى منتهى الآمال والمآرب سيد الأعاجم والأعارب 1040هـ/ 1630-1633م تحقيق محمد الفاسي، فاس، مطبعة محمد الخامس، 1970، ص34-35.
– فريدريك هورنمان، الرحلة من القاهرة إلى مرزق عاصمة فزان عام 1797، تعريب مصطفى محمد جودة، طرابلس، دار الفرجاني، 1993، ص80.
– جون فرنسيس ليون، من طرابلس إلى فزان 1818-1820، ترجمة مصطفى جودة، ليبيا –تونس، الدار العربية للكتاب، 1976، ص159.
– المصدر نفسه، ص160.
هنريكو دي أغسطيني، سكان ليبيا، ج1، ترجمة خليفة محمد التليسي ، ط2، ليبيا- تونس، الدار العربية للكتاب، 1978، ص568.
– جون فرنسيس ليون، مصدر سابق، ص169-161
– المصدر نفسه، ص161
– دنهام وكلابرتون وأودني، رحلة لإستكشاف أفريقيا، ج1، ترجمة عبدالله عبدالرزاق إبراهيم، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2003، ص73.
– غيرهارد رولفس، رحلة عبر أفريقيا، مشاهدات الرحالة الألماني رولفس في ليبيا وبرنو وخليج غينيا 1865-1867، ترجمة عماد الدين غانم، طرابلس، مركز جهاد الليبين للدراسات التاريخية، 1996، ص265.
– المصدر نفسه، ص165-166.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق