الصفحات

الأربعاء، 9 أكتوبر 2013

الحل الاستراتيجي لمشكلة المرور في القاهرة ...

الحل الاستراتيجي لمشكلة المرور في القاهرة
 
 صحيفة الاهرام المصرية - 5/1/2008 - مكرم محمد أحمد :

  الحل الاستراتيجي لمشكلة المرور في القاهرة بالإمكانات المتاحة‏,‏ عنوان دراسة حديثة لواحد من أهم المتخصصين في مشكلات النقل في مصر والعالم‏,‏ الدكتور سعدالدين عشماوي عميد هندسة الأزهر السابق وأستاذ تنظيم النقل الذي أنفق‏40‏ عاما من عمره علي دراسة مشكلات النقل في مصر والعالم‏,‏ وأسهم بخبراته ودراساته في حل مشكلات النقل في عدد من عواصم الدول الأوروبية‏,‏ وما يزيد من أهمية دراسة الدكتور عشماوي أنها تتحدث عن حلول استراتيجية لمشكلة بالغة التعقيد يزداد تفاقمها عاما وراء عام‏,‏ من خلال الامكانات المتاحة دون فتح محاور جديدة تتكلف المليارات أو اللجوء الي بناء الكباري العلوية وحفر الأنفاق التي يعتقد الرجل أنها تنقل المشكلة من مكان الي مكان آخر‏,‏ سرعان ما يتحول الي عنق زجاجة جديد يزيد من ارباك المرور‏.‏


   ولايكمن السبب الرئيسي للمشكلة من وجهة نظر صاحب الدراسة‏,‏ في قصور الامكانات التي يتم تبديدها في حلول جزئية لا تفيد كثيرا‏,‏ بقدر ما يكمن في قصور السياسات والقرارات غير السليمة التي جعلت من النقل العام في القاهرة الذي يتمثل في الأتوبيس وسيارة السرفيس والمترو والترام منظومة فوضوية الطابع‏,‏ تفتقد التنسيق والترابط‏,‏ إضافة الي غياب الرشد في استخدام الامكانات المتاحة التي كان يمكن أن تساعد علي تحجيم المشكلة كما حدث في عواصم دول متقدمة مثل لندن وباريس وطوكيو.

   برغم اعتراف صاحب الدراسة بأن عناصر المشكلة الرئيسية تتبلور في قصور شبكة الطرق المتاحة‏,‏ وتبديد جزء كبير من طاقاتها الاستيعابية وقدرتها علي تصريف المرور نتيجة الاشغالات التي حولت معظم الشوارع الي جراجات بالليل والنهار‏,‏ وعدم الانضباط الذي يسود الشارع المصري‏,‏ ويشارك فيه الجميع ابتداء من قائدي سيارات النقل العام والخاص الي المشاة‏,‏ فضلا عن انخفاض وعي المواطن المصري بأبعاد المشكلة وصعوبة انضباطه‏,‏ برغم الارتباط الوثيق بين التقدم الاقتصادي والاجتماعي وزيادة الطلب علي النقل وارتفاع كفاءته‏,‏ وذلك ما يدعو الي دق أجراس الانذار بقوة‏,‏ لأن تفاقم مشكلات النقل في القاهرة دون آفاق واضحة لحلول تحاصر المشكلة وتقضي علي أسبابها يمكن أن يمثل خطورة بالغة علي مستقبل التنمية في مصر‏.‏

  وتتركز نقطة البداية المهمة في هذه الدراسة‏,‏ التي تثير الدهشة في عدد من الحقائق‏,‏ يؤكد جميعها أن مشكلة النقل والمرور في القاهرة أقل تعقيدا عنها في المدن الكبري الأخري مثل لندن وروما وطوكيو‏,‏ التي تجاوز حجم سكان كل منها حجم سكان القاهرة كما هو الحال في طوكيو التي يسكنها‏17‏ مليون نسمة‏,‏ وتطول رحلة الراكب اليومية من مقر سكنه الي مكان عمله في هذه العواصم عن القاهرة نظرا لزيادة مساحة كل من هذه العواصم‏,‏ التي يرتفع فيها عدد السيارات الخاصة التي تشكل واحدا من أهم أسباب المشكلة المرورية في العالم كثيرا عن عدد السيارات في القاهرة‏.

  حيث يتجاوز عدد السيارات في كل من لندن وباريس وطوكيو‏20‏ مليون سيارة‏,‏ بينما لا يزيد حجم السيارات عموما في كل محافظات مصر علي ثلاثة ملايين ونصف المليون‏,‏ تشمل السيارات الخاصة والأوتوبيسات والميكروباصات وجرارات الزراعة التي تستخدم كوسيلة نقل في بعض المناطق الريفية‏,‏ كما أن سعة الطرق في معظم الدول الأوروبية لا تختلف كثيرا عنها في القاهرة‏,‏ فعلي حين لا يتجاوز عرض شارع اكسفورد أهم شوارع العاصمة البريطانية وأكثرها ازدحاما بالمتاجر والناس والسيارات‏20‏ مترا‏,‏ يصل عرض شارع‏26‏ يوليو في القاهرة الي‏25‏ مترا‏,‏ كما أن نسبة أعداد السيارات لأحمال شبكة الطرق لا تزيد في مصر علي‏24‏ سيارة للكيلومتر الطولي الواحد‏,‏ في حين تصل في بريطانيا الي‏62‏ سيارة لكل كيلومتر‏!‏
واذا كانت البيانات الأساسية لأطوال الطرق وعدد السيارات ونسبة أعداد السيارات لإجمالي شبكة الطرق تقول بوضوح بالغ إن عناصر المشكلة الأساسية في القاهرة أخف وطأة من عناصر المشكلة في أي من هذه العواصم العالمية الكبري‏,‏ فلماذا إذن تتعقد مشكلات النقل والمرور في القاهرة عنها في معظم هذه العواصم‏,‏ إلا أن يكون السبب غياب الاستراتيجيات الواضحة وسوء تنظيم الامكانات المتاحة‏,‏ وعجز التخطيط عن ادراك الأسباب الحقيقية للمشكلة ومواجهتها‏.‏

   ومن وجهة نظر صاحب الدراسة‏,‏ فإن غياب الحراك السكني في القاهرة الذي يساعد علي تقصير المسافات بين مواقع العمل ومواقع السكن ويختصر رحلة الذهاب والعودة اليومية لركاب القاهرة‏,‏ أدي الي توليد حركة نقل ضخمة تكاد تكون مفتعلة‏,‏ تتمثل في ملايين الرحلات اليومية غير المبررة التي تزيد من تعقيد مشكلة المرور في القاهرة‏,‏ واذا كان في القاهرة كما تؤكد معظم الاحصاءات الرسمية أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون شقة سكنية مغلقة وغير مأهولة تكاد تساوي حجم الطلب علي الاسكان في العاصمة‏,‏ لكنها مسحوبة من سوق العرض لأسباب يتعلق معظمها بعجز القانون عن تصحيح العلاقة بين المستأجر والمالك في العقارات علي نحو ما حدث قبل عدة سنوات في الأرض الزراعية‏,‏ وتوريث عقود الايجار القديمة وانخفاض القيمة الايجارية لهذه المساكن‏,‏ اضافة الي عدم اطمئنان المالك الي حقه في استعادة شقته من المستأجر اذا انتهي عقد الايجار كما هو الحال في القانون الجديد لايجار المساكن‏...,‏ اذا كان الأمر كذلك‏,‏ فإن تحرير هذا العدد الضخم من المساكن المغلقة من قيود القانون القديم ولو في اطار برنامج متدرج سوف يزيد من حجم العرض في سوق العقارات ويؤدي الي حراك سكني ضخم يصحح العلاقة بين مكان العمل ومكان السكن ويعيد توزيع خريطة الاسكان بما يضبط المسافة بين السكن والعمل في القاهرة‏.‏

   وربما يضاف الي هذه المشكلة التي توجد طلبا مفتعلا علي النقل في القاهرة‏,‏ هذا العدد الهائل من الموظفين الذين يتحركون الي مكاتبهم كل يوم لمجرد البقاء في المكاتب ساعات العمل‏,‏ بصرف النظر عن معدلات انتاجهم الحقيقي الذي يتدني الي حدود عدد من الدقائق المحدودة نتيجة زحام المكاتب وزيادة أعداد الموظفين الي حد يفيض كثيرا عن الحاجة الحقيقية للعمل‏,‏ الأمر الذي يستدعي ضرورة التفكير في توفير ملايين الرحلات اليومية لهذه الأعداد الضخمة من الموظفين‏,‏ سواء من خلال اختصار حضورهم الي النصف في مناوبات أسبوعية أو نصف أسبوعية‏,‏ أو تشجيع قيام الموظفين بأعمالهم المكتبية وهم في منازلهم من خلال شبكات الإنترنت كما يحدث الآن في عدد كبير من الدول الآسيوية‏,‏ واختصار عدد حضور الموظفين في كل وزارة الي الحد الذي تفرضه متطلبات العمل داخل الوزارة‏,‏ باعتبار أن الأصل في مهمة الوزارة هو إقرار السياسات ووضع الخطط واتخاذ القرارات الاستراتيجية والرقابة علي التنفيذ‏,‏ وبدء التطبيق العملي الجاد لشعار مركزية التخطيط ولا مركزية التنفيذ‏,‏ الأمر الذي يخفف من أعباء مشكلات المرور في العاصمة‏.‏

   وقد تبدو هذه الحلول للبعض حلولا نظرية نتيجة مشكلات التطبيق أو غياب القدرة الشجاعة علي مواجهة المشكلة الجوهرية من خلال قرارات غير تقليدية تصحح أوضاعا خاطئة‏,‏ لكنها في الحقيقة تمثل حلولا عملية ينبغي أن تكون في حسبان المخطط وهو يعالج أزمة النقل والمرور في العاصمة علي المدي الزمني المتوسط والبعيد‏,‏ لكن محور الحل الجوهري الذي تركز عليه دراسة الدكتور عشماوي هو ضرورة إعادة التخطيط العلمي السليم لمنظومة النقل الجماعي بمختلف أنواعه في القاهرة‏,‏ والتي تشمل مترو الأنفاق وهيئة النقل العام والشركات الخاصة للنقل الجماعي‏,‏ واوتوبيسات المصالح والمؤسسات التي لا تعمل في اليوم أكثر من‏4‏ ساعات ويصل حجمها الآن الي ضعف حجم أسطول النقل العام‏,‏ وميكروباصات السرفيس التي تؤكد الاحصاءات أنها تنقل ضعف الأعداد التي ينقلها النقل العام‏,‏ خصوصا أن هذه المنظومة علي أهميتها الفائقة تعاني العشوائية الشديدة التي تبدد الامكانات المتاحة‏,‏ وتقلل من مستويات الخدمة‏,‏ وتنظر الي مشكلة النقل العام في القاهرة الكبري من منظور جزئي يتجاهل وحدة الموقع السكاني‏,‏ المتمثل في القاهرة الكبري والذي ينبغي التعامل معه باعتباره وحدة واحدة متكاملة بصرف النظر عن التقاسيم الادارية التي تقع في حدود ثلاث محافظات‏,‏ وذلك من خلال خطط تشغيل تحكمها قرارات مركزية ترفع من كفاءة النقل العام الجماعي‏,‏ وتعطيه الأولوية التي يستحقها بحيث يتم تفضيله علي استخدام السيارات الخاصة التي تشكل الآن واحدا من أهم أسباب تعقيد مشكلة المرور في العاصمة‏.‏وفي حساب الدراسة أن انخفاض مستوي خدمة النقل الجماعي وعدم وجوده في كثير من المناطق وفي توقيتات منتظمة ومتقاربة‏,‏ هو الذي يدفع الأفراد الي استخدام سياراتهم الخاصة التي تحتاج السيارة الواحدة منها الي‏20‏ ضعفا من مساحة أرضية الشارع اذا انتقل راكب السيارة الخاصة بالاوتوبيس‏,‏ خصوصا أن الدراسة تؤكد أن‏40‏ في المائة من أصحاب السيارات الخاصة يضطرون الي تملكها واستخدامها لعدم وجود وسيلة نقل مناسبة لرحلة الذهاب الي العمل اليومية‏,‏ كما تقدر الدراسة أن‏80‏ في المائة من أصحاب السيارات الخاصة يمكن أن يتوجهوا طوعا لاستخدام النقل الجماعي لرحلة الذهاب الي العمل اليومية علي وجه الخصوص‏,‏ اذا تم توفير نقل جماعي لهؤلاء بمستوي خدمة لائق‏.‏

   ومن المفارقات العجيبة التي تؤكدها الدراسة‏,‏ أن الدولة تدعم السيارات الخاصة بأكثر من‏3‏ مليارات جنيه هوحجم الدعم الذي ينفق علي شراء البنزين بقيمة لا تتجاوز خمس قيمته الحقيقية‏,‏ علي حين ينحصر حجم الدعم الذي تقدمه الدولة الي النقل الجماعي في حدود‏287‏ مليون جنيه تدعم بها هيئة النقل العام‏,‏ لأن كل وسائل النقل الجماعي في مصر‏,‏ بما في ذلك المترو والسرفيس وأوتوبيسات النقل الجماعي الخاصة تغطي تكاليفها وتحقق أرباحا معقولة‏.‏

   ومن المفارقات الغريبة أيضا‏,‏ أن التسهيلات والقروض والاستثمارات التي يتم توجيهها لشراء السيارات الخاصة‏,‏ تزيد أضعافا مضاعفة علي التسهيلات والقروض التي تذهب لتمويل شراء الأوتوبيسات‏,‏ وفي عام‏2006‏ بلغ حجم قيمة بيع السيارات في مصر‏17‏ مليار جنيه ذهب معظمها لتمويل شراء أكثر من‏132‏ ألف سيارة خاصة مقارنة بـ‏38‏ ألف أوتوبيس وباص‏,‏ وعلي حين يتم تمويل السيارة الخاصة بمعدل فائدة لا يتجاوز‏11‏ في المائة‏,‏ يتم تمويل سيارة الأوتوبيس أو أي من مركبات النقل الجماعي بمعدل فائدة يزيد علي‏13‏ في المائة‏,‏ والغريب أنه في حين يدخل كل عام الي العاصمة‏100‏ ألف سيارة جديدة‏,‏ فإن عدد السيارات القديمة التي تخرج من الخدمة أقل كثيرا‏.‏

   ومن المفارقات المذهلة أيضا أن يصل معدل ملكية السيارات الخاصة في القاهرة الي‏8‏ سيارات لكل مائة مواطن‏,‏ في حين لا يتعدي معدل ملكية السيارات الخاصة في سنغافورة الي سيارة واحدة لكل مائة مواطن‏,‏ بينما يصل متوسط دخل الفرد هناك الي ما يزيد علي‏16‏ ضعفا إلي متوسط دخل المواطن المصري بما يؤكد انحياز قرارات الدولة في مصر الي السيارة الخاصة علي حساب النقل الجماعي‏,‏ برغم أن السيارة الخاصة تستقطع ثلث دخل الأسرة المتوسطة شهريا‏,‏ بسبب أعباء الصيانة ومصاريف الوقود وأقساط استهلاك السيارة‏,‏ أي أن السيارة الخاصة تمثل عبئا علي الأسرة المصرية يمكن أن تسارع الي التخلص منه لو توافرت وسائل نقل جماعي مناسبة‏.‏
وتؤكد الدراسة أخيرا‏,‏ أهمية توسيع شبكة مترو الأنفاق لتغطي مختلف أرجاء الموقع السكني للقاهرة الكبري‏,‏ لأن المترو لايزال علي المدي المتوسط والبعيد المشروع الأقل كلفة‏,‏ ولأنه يرقي بخدمة النقل الجماعي الي وضع متحضر كما تزداد قيمته باعتباره مشروعا اقتصاديا يدر عائدا مجزيا قد لا يظهر في موازنة الحكومة ولكن نتائجه تظهر في وفر الوقت وتقليص مساحة الشارع الي حدود الصفر‏,‏ وحجم الراحة التي تتحقق للراكب‏,‏ وفضلا عن ذلك فإن خط المترو الواحد يعادل‏12‏ طريقا بطول خط المترو يتكون كل منها من ثلاث حارات‏,‏ كما تقدر الدراسة أن تحديث خط مترو مصر الجديدة من روكسي الي عبدالمنعم رياض سوف يؤدي الي خفض حركة المرور علي شبكة الطرق التي تربط ما بين مصر الجديدة ووسط القاهرة بأكثر من‏150‏ ألف سيارة ساعة الذروة بمعدل‏50‏ ألف سيارة في الساعة الواحدة‏,‏ بالاضافة الي تخليص وسط القاهرة من أماكن انتظار جزء كبير من السيارات‏,‏ يقلص قدرة شوارع وسط القاهرة علي تصريف حركة المرور بسبب اشغالات الانتظار علي الجانبين‏,‏ التي تستوعب ما يزيد علي ثلث مساحة الشارع‏.‏


  وخلاصة القول إن دراسة الدكتور عشماوي تشكل مفاجأة كبيرة لأنها تقول لنا استنادا الي أرقام واحصاءات حقيقية‏,‏ إن السبب الأكبر لمشكلة النقل في القاهرة يعود الي سوء التخطيط وعشوائية التنظيم وعجز القرارات عن فهم جوهر المشكلة وأبعادها الاستراتيجية‏,‏ وهي قضية تستحق المناقشة في إطار مؤتمر علمي للنقل‏,‏ يحضره كل المتخصصين قبل الحديث عن مشروعات ضخمة تتكلف عشرات المليارات من الجنيهات لنقل العاصمة خارج القاهرة أو التفكير في شق محاور جديدة واقامة أنفاق وكباري علوية جديدة لن يترتب عليها سوي نقل مشكلة المرور وترحيلها من مكان الي آخر‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق