الصفحات

الثلاثاء، 6 ديسمبر 2016

دراسة أثرية وملامح صخرية من جبل (مطاحن) بمكة ...


دراسة أثرية وملامح صخرية من جبل (مطاحن) بمكة

صحيفة المدينة، الاربعاء 1430/08/14 هجري - 2009/08/05 ميلادي  - بقلم: غدير شوطان :

  لقد استقطب انتباهي أحد الجبال الواقعة شمال مكة المكرمة غرب حاضرة النوارية، ويعرف بجبل أو (مطاحن) تعتليه قمم من الصخور المتناثرة بشكل انسيابي نحو الجهتين الشرقية والغربية على هيئة جدران صخرية متهدمة مع رؤية محاجر واسعة وملتويات صخرية مما دفعني لملامسة هذه الآثار واستجلاء فكرها الوظيفي والجمالي، مع جموح شديد لفك وظيفتها وفهم مكنونها الثقافي، ولكن اصطدامي بقدر كبير من الغموض أمعن في ترويض هذا الجموح وكسر حدة الاندفاع وجعلني أكثر روية واستكانة بعد تقصي هذه الآثار، ولي العذر فتاريخ البشرية تاريخ موغل ومعقد وشديد الاضطراب والتنافر ومتداخل بشكل شديد، وقليلاً ما كان يخضع لنظام وظيفي تحصيلي يمكن قياسه أو فهمه أو على الأقل صياغته افتراضيّاً.

  وأغلب الدراسات تخضع للافتراض والإسراف في الاجتهاد، ولعل هذا الجبل شاهد على تلك التعقيدات الوظيفية لنمط الحياة البشرية القديمة وربما المتتابعة، فبعد جولة تطلعية أمكنني تقديم بعض المتن المعرفي الضئيل لمثل هذه المناشط.

الموقع:
  يقع جبل أبو مطاحن في الوسط الشمالي لوادي سرف المعروف والذي يضم ثراه قبر السيدة ميمونة بنت الحارث -رضي الله عنها - وقد ذكره المؤرخون وأصحاب السير والجغرافيون بقدر كبير من الوضوح الأدبي.
  ومن أبرزهم الحموي في المعجم؛ حيث قال: (وهو موضع على ستة أميال من مكة، وقيل: سبعة، وتسعة، واثني عشر) تزوج به رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث، وهناك بنى بها وهناك توفيت وفيه، قال عبيد الله بن قيس الرُقيات: لم تكلَم بالجلْهَتَين الرُسُومُ .. حادث عهدُ أهلها أم قديمُ) (مادة سرف). وتقدر المسافة ما بينه وبين مكة المكرمة نحو 15كم.
  يبدأ هذا الوادي من جبال الوسيعة الشرقية وما خلفها وينتهي بمر الظهران غربًا بعد أن يقطع نحو 30 كيلاً، وطبيعته لا تختلف كثيرًا عن طبيعة الأودية المحيطة بمكة؛ حيث تتغلب الصخور النارية المتحولة ولجرانيتية على المكون العام لهذا الوادي، كما تظهر عوامل تعرية، ولكنها أقل تأثيراً في الجرانيت، وربما ظهرت جليًا في السهول، أما من حيث التكون الطبيعي فهناك تنوع بسيط للنباتات، كالسرح والسلم والسمر، وبعض النباتات الحولية، كالشكاع والعشرق والرتعة، تتخللها بعض الزواحف المستوطنة، وبعض من الطيور البرية المستوطنة، وأهمها الصعو والقطا والقمري والحمام المطوق والصخري.
  يقع هذا الجبل المعني غرب قبر السيدة ميمونة بنحو 2000م، ويصل ارتفاعه نحو 20م ومكونه الرئيس الجرانيت، أما بعده عن الحاضرة السكانية فلا يكاد يتجاوز 800م.

آثاره:
  يتكون الجبل من صخور جرانيتية شديدة السواد تعتليه صخور مجلوبة وزعت بشكل منسق على قمة الجبل وطرفيه الشرقي والغربي، والغالب أنها جلبت من أكمة صخرية تبعد عن الجبل نحو 15م.
  ولقد تجلت مجموعة من النقوش والرسوم تتراوح ما بين 10 إلى 15 ولا يمكن الحكم على مخزونها الوظيفي في ظل غموض غالبيتها مع تداخل شديد في أنماط توزيع الأهداف النقوشية أو الرسومية، وإن كانت الرسومية تميل للبساطة وتمثل هذه النقوش علامات غير واضحة، ولعلها مخربشات توشحت الواجهات الصخرية نظرًا لقابليتها للكتابة دون أن تكون هناك روابط؛ حيث لا يمكن الربط ما بين تاريخ المباني وهذه الرسوم والنقوش، فالغالب أن لا علاقة، فمن المرجح أن بعض المسافرين بين مكة المكرمة والممالك الشمالية (يثرب - العلا - البتراء) أثبتوا قدرًا من هذه التذكارات على هذه الصخور، أمّا الرسوم فيظهر بها الجمل وما يشبه قرص الشمس، وبعض الدوائر الخطية ولعلها متزامنة مع تاريخ سابقتها، أمّا الملتقطات السطحية فتكاد تكون نادرة جدًّا وغالبية الملتقطات جاءت بفعل عوامل التعرية، وهو ما يغري الناظر باعتبارها مكاشط، أو رؤوس سهام، وأهم ما تم مشاهدته (مدق صخري) دائري بقطر 7سم، وبطول 30 سم مدحوس بين صخرتين، ولعله يشبه كثيرًا بعض المدقات التي ظهرت في الدوائر الحجرية في مواقع أخرى مشابهة على امتداد الوادي الرأسي، خاصة على طرف تليعة طامي، أمّا الفخار فيكاد يكون غائبًا باستثناء المستوطنات البشرية المتبقية في الطرف الجنوبي وعلى حافة بعض الجبال ولا يمكن الربط ما بينها وبين النشاط الصخري الذي استقطب فضول المسافرين.
  وأكثر ما يلفت ذهن الرائي المحجر الدائري المائل قليلاً عن القمة الشرقية، والذي يصل قطره 10م، ويشابه كثيرا المحاجر التي شاهدتها في سهول وأودية مجاورة؛ ممّا يدفع بتقصي الربط والمقارنة، ولا بأس من التركيز على طريقة البناء المحجري، كما يمكن تطبيق منهج المقارن على نسقين؛ نظام المحاجر والدوائر الحجرية دون التركيز كثيراً على الملتقطات، وإن كانت مغرية جدًا.
  ولكن الأهم بالنسبة لنا هذه المجلوبات الصخرية التي توزعت بين قمة الجبل والأكمة المجاورة، والمحير كيف أمكن زلق الصخور الضخمة التي يصل وزن بعضها نحو طنين في عالية الجبل أو حتى سفحه؟ فالظاهر أنها سحبت بواسطة الدواب مع دعم جهدي للإنسان.
  ويستمر ذلك افتراضاً ثم ثبتت على هيئة جدران قائمة بارتفاع 100سم أو محجرية قصد منها وضع برج مراقبة لحماية بعض المستوطنات البشرية المطمور غالبها تحت الرمال، فأبراج المراقبة يثبت أن هناك مستوطنات بشرية ونشاطًا حضاريّاً متجذرًا، ولعل مستوطنات كانت تنتشر على تلك السهول من جبل أبو مطاحن حتى جبال الوسيعة، ولكن غالبها دمر بفعل المد العمراني الهائل والذي سوف يسحق ما تبقى من آثار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق