الصفحات

الثلاثاء، 7 فبراير 2017

أطلس لبنان : الفصل الرابع: التحولات في استخدام الأراضي ...


أطلس لبنان 

الفصل الرابع: التحولات في استخدام الأراضي

p. 91-115   TEXTEILLUSTRATIONS

شكّلت الحرب اللبنانية الأهلية، خلال السنوات الثلاثين الماضية عاملاً رئيسياً من عوامل التغيرات المحلية في استخدام الأراضي، ولاسيما من خلال تشريد السكان الذي نتج عنها. وكانت النتائج الرئيسية، التي لا مثيل لها، الإهمال والتخلي عن بعض المناطق وتدمير المناطق السكنية والاستقطاب الطائفي، وتدهور لايمكن معالجته للبيئة في بعض الأحيان بسبب المكبات والتعديات على الشواطىء. ومع ذلك، وبصرف النظر عن طبيعة هذه الحركات المكانية المفاجئة، فقد تمّ رسم جغرافيا جديدة للبنان، وهي تملك الكثير من أوجه التشابه مع بلدان أخرى تشهد نمواً قوياً حيث يبقى دور الحكومة ضعيفاً في مجال التنمية، وذلك ضمن الأشكال المكانية التي رسمت على مستويات كبيرة، كما هو الحال ضمن التجمعات العمرانية الجديدة، لاسيما زيادة السكان والنشاطات في المنطقة الساحلية.

كانت فترة ما بعد الحرب، هي الفترة التي ترسخت فيها هذه الديناميكية الجديدة، والتي تعتمد على عودة الحركة الداخلية. إن الاستقطاب الذي مارسته بيروت والذي همشته الحرب، عاد ليكون من جديد العامل الأساسي في تنظيم المجال المُدُني. لكن هذه الحركة قد شجعت أيضاً على نمو عمراني في الضواحي، التي ولدت بشكل متناقض أثناء التقوقع الطائفي خلال الحرب. وكان من نتائج ذلك زيادة كثافة السكان في بعض المناطق الريفية من خلال امتداد العمران في المناطق الطبيعية والزراعية. وفي مجال البيئة، لم يستطع تدخل الدولة المتأخر والجزئي والخجول أن يغير من هذا الوضع، واستمر التدهور بالتزايد. وبالتالي فإن البحث عن الخصوصية اللبنانية يجب أن يتم في هذه الاستمرارية النسبية للتحولات المناطقية، بالرغم من تحولات الوضع السياسي العميقة.


إن عدم وجود المصادر الموثوقة يجعل من الصعب تقدير الأضرار إحصائياً، خاصة تلك الناتجة عن الديناميكيات المكانية التي سببتها الحرب. ويستند تقييم الأضرار على دراسة استقصائية أجريت بعد وقت قصير من توقف القتال. ففي كل أنحاء لبنان، تضرر 12,000 مبنى تقريباً، وتعرض 38% منها إلى أضرار فادحة. وتتركّز المباني المتضررة الى حد كبير في بيروت الكبرى وبعض المدن الأخرى (الشكل 4-1 أ).

لقد كانت الحرب اللبنانية حرب مدن بشكل خاص، حرب تواجهت فيها الجيوش والقوى المسلّحة المحلية مستخدمة أسلحة ذات قدرة محدودة على الدمار، بالمقارنة مع وسائل الدمار التي استخدمت، على سبيل المثال، ضد المدن المهدمة خلال الحرب العالمية الثانية.

ولم يكن للطيران دور في إحداث الضرر، وإلاّ لكان الدمار أكثر من ذلك بكثير. كانت المدفعية الخفيفة وقاذفات الصواريخ والرشاشات والكلاشنكوف أسلحة القتال الرئيسية على طول خط التماس الذي تعرض للتدمير أكثر من غيره، لكنه ظل مع ذلك ثابتاً نسبياً طوال خمسة عشر عاماً من الحرب. وقد شهدت الأسلحة التي تمتلكها مختلف الفصائل تطوراً متزايداً، ونتيجة لذلك، سببت المعارك التي وقعت في الفترة 1989-1990، والتي تدخل فيها الجيش اللبناني على نطاق واسع، أضراراً أكبر مقارنة بتلك التي لوحظت قبل ذلك.

لقد تأثر 15% من المباني في مدينة بيروت (بالإضافة إلى االمركز التجاري)، و10٪ في ضواحيها. لكن الأضرار تركزت بشكل خاص في وسط المدينة، وعلى طول خط التماس الذي يفصل بين القطاعين الشرقي (مسيحي) والغربي (مسلم بالغالبية)، وفي بعض المناطق المتضررة من القتال في الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث توجد المخيمات الفلسطينية، وبشكل محدود في مواقع المعارك التي تواجهت فيها القوى المسلّحة المتناحرة في الضواحي الشرقية، وكذلك في منطقة الدامور الواقعة جنوب العاصمة (الشكل4-1 ب).

وفي خارج بيروت الكبرى، كانت المناطق الرئيسية المتضررة هي تلك التي كانت مسرحاً للمراحل المختلفة من الصراع، ولاسيما المناطق التي تقع على محاور الطرق الداخلة إلى المدينة، وفي مناطق الاختلاط الطائفي. وهكذا، كان جبل لبنان إلى الشرق من بيروت، حول طريق دمشق، وكذلك على طول الحدود بين قضاء المتن وبعبدا، أرض المعارك خلال المرحلة الأولى من الحرب. ثم انتقلت الحرب الى مناطق عاليه والشوف، حيث جرت حرب الجبل في الفترة 1983-1994، وفي شرق صيدا عام 1985،. كما وقعت معارك عنيفة في عام 1983 في طرابلس بين القوى الموالية لسوريا وتلك المحلية والمؤيدة للفلسطينيين (الشكل 4–1 أ).


الشكل 4-1: تدمير المنازل، (أ) في لبنان و(ب) في بيروت الكبرى.

يحمل جنوب لبنان بصمات الاحتلال الإسرائيلي، لكن التفوق العسكري خفف من حجم التدمير الحاصل بشكل عام، مقارنة مع ذلك الذي عرفته منطقة العاصمة، لاسيما الضاحية الجنوبية حيث كانت مقاومة الغزو على أشدها في عام 1982.

إذا كان التدمير المادي محدود الحجم بشكل عام، فإننا نجد في المقابل أن التحولات المتعلقة بهجرة السكان كبيرة جداً. وتشير التقديرات إلى أن ثلثي اللبنانيين قد غيروا مكان إقامتهم خلال الحرب، وأن الثلث لم يجد مقر إقامته الأصلي على حاله بعد الحرب. ولقد أدت الهجرات القسرية، التي سببها المناخ العام غير الآمن أو سياسات الطرد والمذابح، إلى تحقيق تجانس طائفي، غير متساوٍ بالتأكيد، على الأرض اللبنانية، ولكن بالرغم من ذلك ترك تقسيماً مبنياً على أسس طائفية، لطالما دعى إليه بعض المنظرين الإيديولوجيين.

10 وتسمح الخارطة التي أعدت بناءً على بيانات التحقيق الميداني - الذي قامت به جامعة القديس يوسف وجامعة لافال في عام 1987 - بتحديد التيارات الرئيسية للهجرة في ذلك التاريخ (الشكل 4-2). وخلال المرحلة الأولى من الحرب، تم تسجيل تحركات كبيرة للسكان في العاصمة، وخصوصاً في عام 1976، عندما حوصرت الأحياء الفقيرة ذات الغالبية المسلمة، وعلى الأخص المخيمات الفلسطينية في بيروت الشرقية، وأخليت من سكانها من قبل الميليشيات المسيحية. وجاء الرد بشكل خاص بمجزرة الدامور التي ارتكبتها قوات منظمة التحرير الفلسطينية ضد السكان المسيحيين في هذه المنطقة. ومنذ عام 1978، لجأت إلى العاصمة وضواحيها عدة موجات من النازحين الفارين أمام تقدم القوات الإسرائيلية. ويعود توسع الضاحية الجنوبية إلى توطن هؤلاء اللاجئين، وبعضهم في ظروف غير قانونية. وتسارع هذا التوطن ابتداءً من عام 1984، عندما دخلت الدولة حلبة الصراع ضد المسلحين الشيعة والدروز وفقدت السيطرة كلياً على بيروت الغربية.


الشكل 4-2: هجرة السكان القسرية (1975-1987).

11 وابتداءً من عام 1984، أدت الفوضى التي سادت في بيروت الغربية إلى تدهور أوضاع المسيحيين الذين كانوا ما يزالون يقيمون في بيروت. وكانوا يمثلون قبل الحرب ما يقرب من نصف السكان في الجزء الغربي من منطقة بيروت الإدارية. ويفسر هذا الهروب بعيداً عن العاصمة توسع الضواحي الشرقية والشمالية، وخاصة ولادة مناطق سكنية كبيرة في مراكز للاصطياف، في المتن وكسروان، في النصف الثاني من الثمانينات (انظر ص 112، حول نمو بيروت).

12 تعتبر حرب الجبل، بين عامي 1983 و1985، سبباً في هجرة المسيحيين من الشوف ومن شرق صيدا إلى بيروت الشرقية، في حين أن جزين، التي كانت تحتلها اسرائيل والميليشيات المعاونة لها، لم تفقد سوى جزء من سكانها. وتبين خارطة المساكن الشاغرة في عام 1996 (الشكل 4-3) النسبة الكبيرة المعبرة جداً التي تحتلها في المناطق الجنوبية من جبال لبنان، كما أنها ترسم أثار هذا النزوح، التي لم تستطع سياسة عودة المهجرين التي طبقتها وزارة المهجّرين أن تمحوها (انظر الفصل السابع). ومع ذلك، تمّ استبدال بعض الأشخاص المطرودين بلاجئين آخرين يحتلون مساكنهم، سواء في العاصمة أو في المناطق الأخرى. ففي بيروت كان 6,7% من المساكن، في عام 1994، مشغولة من قبل واضعي اليد، وخصوصاً على طول خط التماس.

الشكل 4-3: المساكن الشاغرة في عام 1996.

13 وفي بقية لبنان، انتشر التجانس الطائفي في طرابلس أيضاً، التي غادرها العديد من المسيحيين إلى زغرتا أو نحو « المنطقة المسيحية المصغّرة »؛ وكذلك في البقاع، حيث ازداد الصراع بين زحلة وضواحيها؛ كما أن القرى المسيحية في منطقة بعلبك، عانت أيضاً من الهجرة.

14 وقد تجسد هذا السعي للتجانس الطائفي من خلال تخطيط لسلوك مناطقي جديد، حيث أخذ نطاق الحياة اليومية يتشكل في إطار حركة السكان التي غدت شديدة الصعوبة بسبب الحواجز، وانعدام الأمن ونقص المحروقات. وقد انحصرت حدود الحياة اليومية بمحاور الطرق التي تربط بين مكان الإقامة الجديد ومكان العمل والمدرسة. قد رسم التقطيع الناتج عن ذلك، وبشكل دائم، مناطق العيش التي ما زلنا نشعر بها إلى درجة كبيرة حتى اليوم. ويبين تحليل الحركة اليومية الذي أجري في عام 1994 في بيروت الكبرى استمرار الانقسام بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية. ففي ذلك التاريخ لم يعبر خط المعارك السابق سوى 10% من مجمل التنقلات السكانية (الشكل 4-4). وتتمّ الغالبية الساحقة من التنقلات في المنطقة نفسها. والنتيجة تصدم المرء، لاسيما بالنسبة للقطاعات الواقعة بالقرب من هذا الخط. وفي عام 2006 كانت قد تقلصت الانقسامات في المجال العمراني، لصالح توحيد حقيقي لسوق العمل. لكن ما تزال العديد من خطوط سيارات الأجرة تعتبر خط المعارك القديم كحد للتعرفة. وعموماً، تظل حركة السكن خاضعة بشدة للجغرافيا الطائفية.

الشكل 4-4: الاستقطاب الطائفي بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية في عام 1994.



15 لقد أدت الهجرة والتنقلات القسرية إلى التخلي عن بعض الأراضي، وكذلك إلى تنمية مناطق مُدُنية جديدة. وعموماً، شهد العمران المُدُني نمواً قوياً طوال هذه الفترة. إن هذه الانطلاقة لم تكن نتيجة للحرب فقط: فلقد كانت قائمة بالفعل قبلها واستمرت بإيقاع مدهش في سنوات ما بعد الحرب، كما انتشر أسلوب جديد للحياة، أسلوب ناتج عن الحرب وكذلك عن التغيرات الاجتماعية الأخرى. وكان ذلك من النتائج الأخرى لتدهور الزراعة، ولعودة تيار الهجرة إلى خارج لبنان، وبشكل أعم إثراء بعض الفئات من السكان، وظهور أنماط جديدة من الاستهلاك والاقتناء المتكرر للسيارة والرفاه المنزلي، الذي يتطلب معايير جديدة للسكن. وتُرجمت هذه التغيرات بظهور المشاهد العمرانية الجديدة. فحول المدن بدأ يسيطر مشهدٌ يتميز بانتشار المباني الصغيرة المعزولة في وسط عقارها وعلى طول الطرق أو في المواقع العقارية المفرزة المتصلة بشبكة الطرق الرئيسية. وفي المناطق الريفية، تفسح منازل القرى الحجرية القديمة المكان للمباني الحديثة، أو يضاف لها طوابق أخرى. وفي أطراف القرى، وأحياناً في قلب الحقول، تبرز منازل جديدة، وغالباً ما تكون عائلية وتتألف من العديد من المساكن في وسط الحقول أو الغابات، وكل ذلك ضمن إطار حركة عمران مبتذلة تتراخى تجاهها قوانين التنظيم المُدُني، هذا إن وجدت طبعاً (انظر الفصل السابع).

16 وتوضح الخرائط التي تبين فترات بناء المباني مدى تضعضع الكثافة السكانية التي حصلت خلال الحرب، والتوجه نحو إعادة التركيز في سنوات ما بعد الحرب (انظر الفصل الثالث). فالمناطق التي عرفت أكبر كثافة للمباني التي شيدت خلال الحرب هي المناطق النائية في الجنوب، (باستثناء المنطقة التي تحتلها إسرائيل)، وفي الشمال وفي البقاع (الشكل 4-5 أ). وفي هذه المناطق، تشهد أطراف المدن الكبرى زيادة ملحوظة في البناء، خاصة في الجزء الأوسط من البقاع وأطراف بعلبك، وكذلك التوسع الشمالي في مدينة طرابلس وعلى طول طريق المنية وطريق حلبا. وخلال تلك الفترة، لم يسجل الجزء الأوسط من بيروت الكبرى نمواً كبيراً. وفي المقابل، عانت ضواحيها من طفرة لافتة للنظر، خاصة الضواحي الجنوبية للعاصمة، فضلاً عن المناطق الشمالية، على طول الأوتوستراد المتجه نحو المتن وكسروان.

17 وبالنسبة لفترة ما بعد الحرب، نجد أن الاتجاهات في حركة البناء قد أصبحت أقل وضوحاً (الشكل 4-5 ب). فالمنطقة الوسطى من البلاد (بيروت الكبرى) أصبحت موطناً لحركة واضحة، نجدها أيضاً وبشكل أوسع في المنطقة الساحلية. ويمكن تحليل هذا الاتجاه على أنه عودة لحركة البناء في مدن المنطقة الوسطى. ومع ذلك، لم تتوقف عمليات البناء في المناطق النائية، حيث لا تزال العديد من النواحي تسجل نسبة مرتفعة من الأبنية الجديدة.

الشكل 4-5 ب: حركة البناء أثناء الحرب (أ) وما بعد الحرب (ب).

انتشار العمران على حساب الأراضي الزراعية في البقاع
تصوير وليد باخوس، تموز 2002 ،


18 يوضح تطور المورفولوجيا العمرانية ظهور نسيج مهيمن يتكون من الضواحي التي تضم الأبنية الصغيرة الجماعية حول التجمعات العمرانية الرئيسية، التي ولدت في إطار استثمار عائلي أو استثمارات عقارية تجارية صغيرة (الشكل 4-6). كان هذا النوع من المشاهد العمرانية يميل، في الفترة الماضية، للنمو على كامل السفح الغربي تقريباً من جبال لبنان وليس فقط على أطراف المدن. ولكن في المناطق الريفية، ما زال السكن الريفي فردياً بشكل خاص (الشكل 4-7). وفي المدن، نجد أن الأحياء الخاصة بالفيلات نادرة جداً، وهي تتركّز في بعض مشاريع الوحدات السكانية العقارية الراقية القليلة المنتشرة على التلال المحيطة بالعاصمة. ومؤخراً، ظهرت منتجات من صنف «الأحياء المغلقة» وهي تضم أيضاً منازل فردية.

الشكل 4-6: الأبنية التي تزيد عن أربعة طوابق.

الشكل 4-7: الأبنية الجماعية.

19 كان حجم حركة التوسع العمراني في الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية: 2,5 كم2 سنوياً منذ عام 1963، وقد تضاعفت مساحة المناطق العمرانية منذ ذلك التاريخ (مجلس الإنماء والإعمار، 2002). وينتشر العمران بشكل خاص في المنطقة الساحلية التي تزداد فيها الكثافة أكثر فأكثر، ولكنه يمتد أيضاً ويصل إلى الأطراف.

20 ويُظهر توزّع التوسّع العمراني بحسب درجات الارتفاع عن سطح البحر انتشار العمران في الجبال (الشكل 4-8). ففي حين أن المدن الكبرى تقع على الساحل، فإن معيقات الموقع وآليات التباين الاجتماعي المكانية قد أدت إلى احتلال مناطق على ارتفاعات أعلى. وهو الوضع السائد، خصوصاً في المنطقة العمرانية الوسطى، حيث شمل العمران قرى الاصطياف السابقة التي أصبحت أماكن للإقامة الدائمة.

الشكل 4-8: العمران والتضاريس (السفح الغربي لجبل لبنان).

21 تبين خارطة التوسع العمراني بين عامي 1963 و1998 أن معظم التغيرات في استخدام الأراضي من ناحية الحجم - إن كان في نفس نسبتها من المناطق المبنية من قبل أو بالمساحة المطلقة - قد حصلت في المناطق النائية من البلاد (الشكل 4-9). ولقد تأثر جنوب لبنان بشكل خاص، وظهرت تجمعات عمرانية جديدة نتيجة التحام بلدات قديمة لم تكن ذات شأن، أو كانت في مناطق مجهولة لدى الجغرافيين والعمرانيين، وقد تمّ احتسابها من قبل استشاريي الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية. وهكذا تقدّم برجا-شحيم، الواقعة بين بيروت وصيدا، مع ما يقرب من 60,000 نسمة، أو منطقة المنية-العبدة، الواقعة شمال طرابلس، بعدد سكانها الذي يقرب من 75,000 نسمة، مثالان عن التجمعات العمرانية الناشئة من بدايات تجمّع سكانية تقليدية (انظر الفصل الثالث). وتمثّل (الخارطة 4-9) التجمعات الناشئة عن حركة البناء المذكورة آنفاً.

الشكل 4-9: التوسع العمراني في الفترة 1963-1998.

22 ولكن العمران لم يقتصر على التوسع في ضواحي المدن. فانتشار نمط الحياة المديني يستعير أشكالاً أخرى، ويتسلل إلى قلب القرى والبلدات في لبنان، مما أدى إلى تغير المشهد العمراني. وأحد الأشكال المذهلة لهذا التحول في استخدام الأراضي هو ظاهرة الزحف العمراني، وظهور أبنية عائلية صغيرة خلف أطراف القرى وفي الحقول وعلى التلال. وتوضح الخارطة أن مناطق نمو هذه الأشكال العمرانية الجديدة لا يمكن اعتبارها مماثلة لتوسع الضواحي في التجمعات العمرانية الموجودة (الشكل 4-10 ب)، ولكنها تتعلق أولاً بالمناطق الريفية وفي الأطراف (الشكل 4-10 أ). ويستدعي هذا الشكل الجديد من التوسع العمراني المزيد من البحث. ويمكننا أن نفترض أنه قد أصبح ممكناً بفضل نظام متكامل من التضامن العائلي لإدارة التراث العقاري وللمدخرات، بالإضافة إلى غض النظر من قبل السلطات المحلية بما سمح بالتحايل على القوانين المعيقة بطبيعتها إلى حد ما.

الشكل: 4-10 (أ + ب): التوسع والزحف العمراني.



23 ومع ذلك لا ينبغي أن نستنتج من تحليل هذه الحركة المتسارعة للتوسع العمراني على أنه طال كامل البلد؛ ففي المحصّلة، ليس هناك أكثر من 6% من مساحة البلاد التي تقع في منطقة فيها بناء، يضاف لها 6% من الأراضي المشمولة بالزحف العمراني (انظر الجدول 1). إن الخطاب المتعلّق باختفاء المناطق الطبيعية الذي يعمّ لبنان، يعتمد على التركيز الشديد للتمدّد العمراني، وعلى حقيقة أن السكان يتنقلون في النهاية بشكل قليل خارج المناطق العمرانية، أي فقط على جانبي محاور الطرق، التي تولّد بدورها شريطاً من المساكن يزيد من وهم انتشار العمران.


الجدول 1: أنماط استخدام الأراضي الرئيسية في لبنان 


                                       المساحة كم2                        بـ %

عمران                                 599                                   5.80%

زحف عمراني                        251                                 2.40%

أراض زراعية                        3329                              32.20%

منطقة طبيعية                       6165                                59.60%

المصدر: نمط استخدام الأراضي 1998، فريق إيوريف 2002 (Dar-IAURIF).

24 تحتل الأراضي الزراعية (الشكل 4-11) مساحات شاسعة في السهول وفي الهضاب الشمالية والبقاع والجنوب. في المقابل، نجد أن نسبة المساحات الزراعية في الجبال محدودة بشكل عام. وتقدّم خارطة المناطق «الطبيعية» (الشكل 4-12)، أي تلك التي لم تستخدم للعمران أو للزراعة، أي أنها ترسم، حيث تكون الأجلال المدمّرة، مملكة للماعز وللشجيرات الشوكية، كما تكون أحياناً فريسة للحرائق. إنها نتيجة للهجرة الريفية ولتراجع الزراعة وليس فقط مخلفات المناطق التي لم يترك الإنسان فيها بصماته أبداً. وهكذا فالجبل ومساحات شاسعة في وادي سهل البقاع، وكذلك العديد من منحدرات جبال لبنان قد أهملت، واندمج بعضها محلياً بالمجال العمراني، لكن هذه الأراضي الطبيعية تتوسّع في مناطق أخرى على حساب الأراضي الزراعية.


الشكل 4-11: المناطق الزراعية.

الشكل 4-12: المناطق الطبيعية.

25 كان تدهور البيئة وظروف الحياة أحد النتائج البارزة للزحف العمراني، الذي اقترن مع بطء الاستثمار في ميدان تجهيزات المرافق والخدمات الأساسية التي ترافق العمران، وذلك بسبب الحرب الأهلية وغياب الدولة والإدارات المحلية.

26 كما كان التدهور البيئي، في المقام الأول، نتيجة مباشرة للحرب. وتبين خارطة المناطق الملغّمة في لبنان (الشكل 4-13) هذه الحقيقة بشكل واضح. فقد ساعدت حقول الألغام على عزل الأطراف المتصارعة عن بعضها البعض، كما يتضح من سلسلة المواقع المعروفة التي تطوق جبهات الحرب القديمة أو التي ما زالت قائمة. وهكذا نتعرف بسهولة على منطقة الحدود بين لبنان واسرائيل، وخط الفصل القديم للمنطقة الأمنية الاسرائيلية وامتدادها من جزين، بالإضافة إلى الخط الذي يحدد المنطقة المسيحية الصغيرة في مرتفعات البترون وجبيل وكسروان، وفي الضاحية الجنوبية من بيروت. كما نجد أيضاً في داخل هذه المناطق قطاعات قديمة للمجابهة، كمنطقة ريفون أو سن الفيل، حيث جرى القتال بين القوات اللبنانية والجيش اللبناني في عام 1990.


الشكل 4-13: المناطق الملغّمة والمنزوعة الألغام.

27 كانت عمليات إزالة الألغام التي تمّت بعد الحرب قد تقدّمت بشكل غير متكافئ في حزيران 2004. وقد كانت منطقة بيروت وكسروان والمتن الأعلى نظيفة عموماً. وعلى العكس يمكن أن يدهشنا حجم العمل الذي يجب القيام به، لاسيما في المنطقة الجبلية، بدءاً من منطقة دوما وتنورين بالقرب من البترون، وصولاً إلى الشوف وجزين. ومع ذلك، فقد عرفت بعض القطاعات اهتماماً خاصاً. فبعد سنوات قليلة فقط من الإنسحاب الإسرائيلي، بدا برنامج إزالة الألغام في الجنوب وكأنه همٌ حقيقي. وقد استفاد من تمويلات عديدة ومن الخبرات الدولية. ولم يكن هذا هو الحال في المناطق القريبة من جزين وإقليم التفاح، التي لم تلق الاهتمام نفسه. ففي كل عام تنعي المنطقة العديد من ضحايا الألغام. وعلاوة على ذلك، وبحسب السلطات اللبنانية، لم يقدم الجيش الاسرائيلي خرائط للمناطق التي لغمها أثناء انسحابه، ونتيجة لذلك فإن الأرقام المتعلقة بإزالة الألغام المذكورة هنا، والمأخوذة من تحليل معطيات الأمم المتحدة، قد تكون أقل من قيمتها الحقيقية.


28 لقد أدى انتشار العمران إلى أضرار بيئية خطيرة أخرى. أحد نماذج هذه الأضرار هو استخراج مواد البناء. وتبين خارطة مساحة المقالع انتشارها العام في البلاد، خصوصاً على السفوح الغربية من جبال لبنان، بالقرب من التجمعات العمرانية الرئيسية (الشكل 4-14 أ). تظهر في الشكل بشكل واضح جداً المقالع الكبيرة الواقعة بالقرب من ممر ضهر البيدر بجوار طريق دمشق، وتلك الموجودة في منطقة جبل صنين، وفي منطقة سبلين في الشوف، بالإضافة إلى تلك الواقعة في منطقة شكا،. ومع ذلك يقع أكبر تركيز للمقالع في أراضي بلدة عرسال في سلسلة جبال لبنان الشرقية. وقد كان استخراج المواد كثيفاً بشكل خاص خلال فترة إعادة الإعمار. ويعود ذلك بشكل أساسي إلى طفرة البناء، والحجم الكبير للأشغال العامة، وكذلك إلى الحجم الكبير لعمليات الردم. ووفقاً لحسابات الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية، فهذه الأخيرة تمثل ما يقرب من نصف الحجم المستخرج من المقالع في سنوات التسعينات.

29 علاوة على ذلك، يبدو أن الكثير من المقالع التي تم تحديدها بواسطة الاستشعار عن بعد ليست مرخصة (الشكل 4-14 ب). وهكذا، ووفقاً لإحصاء تم في عام 1997، يملك 151 موقعاً فقط رخصاً، للعمل، من أصل 275 مقلعاً عاملاً بكل طاقته. ومنذ ذلك التاريخ ما زال التصديق النهائي على مخطط توجيهي للمقالع، المحصورة نظرياً في جبال لبنان الشرقية، هو موضوع جدل لا نهاية له، ضمن عملية ابتزاز من أصحاب الكسارات والمقالع، إن كان في الرخص المؤقتة أو في المخالفات.

الشكل 4-14 (أ + ب): المقالع في عام 1997.

30 يعتبر تلوث المياه السطحية الجارية، والمياه الجوفية، والشواطىء، أحد أشكال الضرر الذي يشمل البيئة على نطاق واسع. فلبنان يفتقد بشكل مأساوي إلى محطات معالجة المخلفات المنزلية أو الصناعية على حد سواء. وفي عام 2005، لم يكن هناك سوى محطتين لمعالجة مياه الصرف صالحتين للعمل: محطة الغدير في الضاحية الجنوبية لبيروت، ومحطة بعلبك. أما في الأماكن الأخرى، فإن إلقاء المياه المستعملة في المجاري المائية هو القاعدة. ووفقاً لبيانات عام 1996، تمّ ربط 65% من المباني إلى شبكة الصرف الصحي. ولم يتغير هذا الرقم كثيراً في عام 2004، حيث وصل إلى 67%. ولا تشمل هذه المشكلة المناطق الريفية فقط، بل المناطق العمرانية الجديدة أيضاً (الشكل 4-15). وعلى الرغم من التقدم المرتبط بالاستثمارات في السنوات العشرة الأخيرة، فإن غياب المعالجة يؤدي إلى الحكم على الأنهار بأن تظل مجار حقيقية مفتوحة. وفي الجبال، تتعرض طبقات المياه الجوفية للتلوث بسبب حركة المياه الكارستية في بنية تضاريسية شديدة التصدع.

الشكل 4-15: شبكة التصريف الصحي.

خليج جونية – تطور مدهش للعمران وللمنتجعات الساحلية المرتبطة بحركة السكان
أثناء حرب لبنان


تصوير: كريستين ديلبال، تشرين الثاني 2002 (Christine Delpal)

31 وفي غياب البيانات الحكومية المتعلقة بالتلوث، فقد لجأنا إلى الجمعيات البيئية، كجمعية الخط الأخضر وجمعية البيئة والتنمية - اللتان نستعمل بياناتهما هنا - واللتان بفضلهما تمّت الإجراءات النادرة المعلنة وإحصائيات الصرف الصحي. (الشكل 4-16).

32 ومسألة النفايات الصلبة ليست بوضع أفضل. فبعد سنوات من الحرب، عندما تناثرت القمامة في غمار الفوضى التي عمت كامل الأراضي اللبنانية، تميزت فترة إعادة الإعمار بإرادة التحكم بهذا القطاع. ففي بيروت كُلفت شركة خاصة بجمع النفايات. ومع ذلك، وبسبب غياب منشآت المعالجة، فقد أنشأت هذه الشركة مكبات ضخمة مفتوحة لصالح بيروت الكبرى تصل حتى البحر في برج حمود (تمتد على مساحة تزيد عن 30 هكتاراً) وكذلك شمال طرابلس، وجنوب صيدا. وفي زحلة، تنتشر المكبات في السهل. وقد تم إغلاق موقع برج حمود في عام 1997، ولكن الموقع البديل في الناعمة مخصّص نظرياً للنفايات الخاملة، وهو ممتلئ تقريباً، ويشك بأنه لم ينشأ بموجب المعايير الخاصة بالمكبات. وتبيّن إحصاءات تلوث الهواء أن المدن اللبنانية شديدة التلوث، ويعود ذلك إلى قدم وسائل النقل وسوء صيانتها.

الشكل 4-16: تلوث الساحل والمكبات الرئيسية.

33 يعاني الشاطئ اللبناني من التلوث الشديد أيضاً، بسبب ضغط مكثف للزحف العمراني يمكن قياسه من خلال الصور الفضائية المتعددة التواريخ. فعلى امتداد شريط ساحلي يبلغ عرضه 500 م (الشكل 4-17)، نجد أن 31% من الشاطئ إما مبني أو في طور البناء. وتحتل الزراعة 37% من الأراضي الساحلية، وتمثل المناطق الطبيعية 26%. بينما نجد أن الأراضي الزراعية واسعة جداً في الجنوب والشمال (أكثر من 70% من الأراضي)، ما يزال الغطاء الطبيعي يحتل حيزاً كبيراً (أكثر من 50% من الأراضي) في منطقتين فقط من الساحل، هما في أقصى الجنوب، وهي منطقة تجمد فيها النشاط بسبب الحرب والاحتلال الاسرائيلي والبعد عن المراكز العمرانية، والمنطقة التي تمتد من البترون إلى رأس شكا التي يصعب الوصول إليها بسبب المنحدرات الصخرية المرتفعة، وحيث أنشئت محمية تحت الماء. أما في المناطق الأخرى، لاسيما في الجزء الأوسط، فإن الأنشطة البشرية هي التي تسود. ووفقاً لدراسات تتعلّق بآفاق المستقبل في المناطق الساحلية، فمن المتوقع أن تختفي المناطق الزراعية القريبة من بيروت، والواقعة في أكثر المناطق استثماراً، بحلول عام 2015.


الشكل 4-17: استخدام الأراضي في الشريط الساحلي.

34 في الوقت الذي تم فيه بناء 11% من الشريط الساحلي حتى عام 1962 - أي إحتلاله بالأبنية وأرصفة الموانئ وغير ذلك- فقد اصبح ما يقارب من 48% من الساحل مبنياً في عام 2003 (الشكل 4-18). وقد توسعت المناطق المبنية أثناء الحرب وبعدها، في المنطقة الواصلة بين بيروت-جبيل وشكا-طرابلس. ومع ذلك، فإن هذا التوسع قد شمل منذ بضعة سنوات الشريط الساحلي الواقع جنوب بيروت ومنطقة صيدا. وتمثل منشآت الموانئ جزءاً من هذا التوسع، لاسيما توسع مرفأي بيروت وطرابلس. كما يجب ذكر إنشاء طريق المطار الجديد والمساحات المخصصة لشبكة الطرق. على كل حال، تجدر الإشارة إلى أن جزءاً كبيراً من التعديات على الساحل، مع أنه ملكية عامة، ناتج عن الإشغال المخالف أو غير القانوني للساحل من قبل المجمعات السياحية أو المنشآت الأخرى. ووفقاً لإحصاءات عام 1996 (إيوريف وإكوديت 1997، ECODIT-IAURIF) التي تمّت لتحديد المخالفين ولتصفية المخالفات وتسويتها لقاء غرامة، فإن نصف الساحل المبني قد تمّ بالطريقة نفسها. ولم تطبق المخالفات أو تنفذ التسويات، وربما يعود ذلك إلى أن المستفيدين من هذ التعديات هم من أصحاب النفوذ القوي.


الشكل 4-18: بناء الساحل: تآكل الساحل واحتلاله بالإسمنت (1962-2003).

35 كذلك، لقد تراجع الشاطئ - المشوه كلياً بسبب الزحف العمراني الذي دمّر الشواطئ الطبيعية وحوّل السهول الزراعية الخصبة إلى مناطق مبنية - بسبب هجمات الحت البحري في العديد من الأماكن. كما أن استخراج الرمل للبناء ولعمليات الردم يلعب دوراً بالغ الأهمية في التقلص الذي أصاب الشواطئ الجنوبية. ففي قطاعات مختلفة، نجد أن السكة الحديدية، التي أنشئت في زمن الانتداب، والعديد من أجزاء الطرق قد اختفت تحت الماء. إنها حالة طريق عكار مثلما هو الحال في الجنوب في عديد من قطاعات الساحل الرملية.


36 لقد جعل لبنان من شجرة الأرز شعاراً له، وكان يشتهر بغاباته في الماضي. ولكن هذه الغابات تعاني، منذ العهد الفينيقي، من اعتداءات الحطابين والرعاة وتصنيع الفحم. وتغطي الغابات حالياً 12% من مساحة البلاد، أما إذا لم نأخذ بالحسبان سوى الغطاء الكثيف للغابات (الغطاء الذي يحتل أكثر من 60% من الأرض) فإن النسبة تنخفض إلى 7% فقط، وهي تتنتشر على السفح الغربي من سلسلة جبال لبنان الغربية الذي يتلقى كميات كبيرة من الأمطار - وحيث تسود بشكل رئيسي أشجار الصنوبر والبلوط - وفي المناطق المرتفعة حيث توجد بقع متفرقة من شجر الأرز (أكثر بقليل من 1000 هكتار في عام 1998). أما في السفوح الشرقية وفي سلسلة جبال لبنان الشرقية فتسود أشجار العرعر والسرو التي تحتل مساحات مبعثرة (الشكل 4-19). أما الجنوب ذو الارتفاعات المنخفضة، فهو مستصلح للزراعة بشكل أكبر من بقية أنحاء البلاد. وقد انخفضت مساحة الغابات في لبنان بنسبة تقارب 35% منذ سنوات الستينات، لاسيما في منطقة شمال لبنان في جبال لبنان الغربية. ويدفع عدم تجانس البيانات ومعايير التعريف إلى توخي الحيطة بشأن هذه الأرقام.

الشكل 4-19: توزع الغابات في لبنان.

37 لقد أجرى المجلس الوطني للبحوث العلمية دراسات عن حرائق الغابات. وقد تم الإبلاغ عن أكثر من 2500 بؤرة لاشتعال النيران في الفترة 2002-2003. إن المساحات التي احترقت غير معروفة بشكل جيد: وتقدّر مساحة الغابات المحترقة سنوياً بـ 1500 هكتار، وهذا يدل على أن معظم الحالات المبلغ عنها عبارة عن بداية لاشتعال للنيران تمت السيطرة عليها في الحال. وتظهر خارطة الحرائق أن الحرائق كانت عنيفة حول المناطق العمرانية أو التجمعات الريفية الكثيفة (تمّ جمع هذين النمطين من المناطق في (الشكل 4-20) ضمن فئة «العمران المتقطع»). ومن جهة أخرى، فهي تصيب غالباً البساتين والمناطق الزراعية. فمنطقة عكار التي تتميز بالتعايش بين زراعة تقليدية وضغط عقاري مرتبط بالنمو السكاني الكبير تأثرت بشكل واضح بالحرائق. وقد تمّ إحصاء خمسة وتسعين حريقاً في قضاء القبيات وحده.

الشكل 4-20: الحرائق والعمران.

38 نختتم هذا الفصل من خلال تقديم أكثر دقة عن تنظيم ثلاث مناطق لبنانية سجلت تحولات عديدة في السنوات الأخيرة. والمطلوب هو دراسة تفصيلية أكثر للمنطقة الوسطى. لقد تشوه المشهد الطبيعي بسبب انتشار العمران الذي ينتشر بعمق في الجبل، حيث تتراجع المشاهد الزراعية والطبيعية. فاللبوة، وهي بلدة صغيرة في البقاع الشمالي، تعبر عن مصير المناطق الطبيعية البعيدة عن العاصمة. وتقدم بلدة الصرفند في جنوب لبنان، نموذجاً عن تطور جزء كبير من الساحل يخضع لنمو عمراني متزايد يتنافس مع الزراعة.

الشكل 4-21: بيروت وضواحيها.

39 كان تجمّع بيروت الكبرى يضمّ، بحسب تعريف المنطقة المُدُنية المركزية في الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية، 1,6 مليون نسمة في عام 1997. وموقع بيروت عبارة عن بروز يحمي خليجاً واسعاً يضم ميناءً تمّ بناؤه وتوسيعه تدريجياً، وهو يستفيد في الجنوب من سهل ساحلي واسع، رملي في بعض أجزائه. في المقابل، لا يسمح الجبل في الشرق والشمال إلا بوجود ممر ضيق. كما لا يمكن إعمار الوديان العميقة والضيقة، لاسيما واديي نهر بيروت ونهر الكلب اللذين يرسمان حدود قضاء كسروان. وهكذا نجد أن الاتجاهات الوحيدة للتوسع هي نحو الداخل، وتلك التي تتبع خط القمم والتي تسمح بالوصول بسرعة إلى ارتفاعات تتراوح بين 400 و800 م.

40 وقد عرف السهل الجنوبي العديد من مشاريع التوسع التي أنجزت بشكل غير متساوٍ قبل الحرب (انظر أيضاً الشكل 7-16). ويمتد المطار في هذا السهل، وقد تطلب توسعه الحديث بناء مدرج في عرض البحر فوق رصيف صناعي. وقد اكتمل مؤخراً بناء حرم جامعي لصالح الجامعة اللبنانية، كان قد بدئ ببنائه قبل الحرب. كما تزايدت كثافة البناء في القرى الكبيرة التي أصبحت نقاط ارتكاز للضاحية المتنامية، في الوقت الذي كان البناء يكتمل تدريجياً في السهل الساحلي الشمالي. وتطور انتشار العديد من المناطق الصناعية ومنشآت التخزين على طول نهر بيروت وفي مناطق توسع الميناء.

41 لقد عجل تقسيم التجمع العمراني إبان الحرب في تطور مستقل في كل منطقة. وقد تعزّز السهل الساحلي، باستثناء منطقة خط التماس، بعمران مكثف جداً على الرغم من تنوع أشكاله. وتشكل أحياء الطبقة المتوسطة، التي تتكون من الأبنية المرتفعة، الجزء الأكبر من القسم الشرقي من الضاحية الجنوبية. وإلى الجنوب والغرب من هذا القطاع، لاسيما حول المطار وعلى طول الشاطئ، نمت أحياء عشوائية، تضم عدداً من السكان كان يقدر في نهاية الحرب بـ 200,000 نسمة. وفي الضواحي الشرقية، أدى ضيق الموقع إلى تحويل التوسع نحو محيط خليج جونية بعيداً عن القتال في قلب المنطقة المارونية. وقد جذب الطريق السريع الذي يربط بين بيروت الشرقية وكسروان نمواً عمرانياً خطياً جمع العديد من الوظائف الخدمية التي انتقلت من مركز المدينة الذي دمره القتال. ولكن جزءاً من هذه الخدمات تمّت المحافظة عليه وتجديده في السنوات التي تلت الحرب. وقد شكل ضيق الموقع أيضاً تبريراً طرحه المقربون من الرئيس أمين الجميل (1982-1988) للبدء بتشييد رصيف ساحلي في ضبية.

42 ولقد لوحظ مع عملية إعادة الإعمار انتعاش التنمية العمرانية في بيروت، وذلك من خلال تكثيف بناء الأبنية التي حلت محل النسيج العمراني القديم (المباني الجميلة جداً في بعض الأحيان والعائدة للفترة العثمانية أو لفترة الانتداب). وكانت أحياء الأشرفية وكورنيش عين المريسة والروشة قد امتلأت كلها بالأبنية العالية المخصصة لسكن البرجوازية، أو كأماكن لتأسيس وظائف خدمية جديدة. وفي الضواحي، لم يتباطأ النمو، خصوصاً فوق التلال المفتوحة لمشاريع البناء المخصصة للطبقة المتوسطة. وهنا أيضاً، أنشئ الكثير من مشاريع الوحدات السكانية المفرزة المغلقة ذات النمو المدهش التي لا مثيل لها في أماكن أخرى من العالم. أما بالنسبة للضاحية الجنوبية، فإن جمود المشاريع الطموحة لإعادة الهيكلة يفسر استمرار وجود الأحياء العشوائية سيئة الخدمات والملوثة، وضعيفة الربط بالمرافق العامة.

43 وقد عجلت عملية إعادة فتح الطرق، وتنظيم شبكة جديدة وحديثة من طرق السيارات، في ظهور مشهد جديد يضم المنشآت الخدمية والتجارية. وزرعت مجمعات السوبرماركت والمولات في المواقع المميزة، عند تقاطع الطرق السريعة في الضواحي (انظر أيضاً الشكل 5-23). ومع ذلك، فقد أنشئت العديد من الاستثمارات الكبيرة ضمن منطقة بيروت الإدارية، حيث لا يزال يعيش السكان الأثرياء (فردان والأشرفية). وفي الوقت نفسه، تابعت الصناعة تخفيف كثافتها لتعاود انتشارها في الضواحي البعيدة.

44 إن التحليل الزمني لنمو مساحة بيروت الكبرى يسلط الضوء على الانقطاعات التي تلت الحرب في المناطق العمرانية (الشكل 4-22). وبين عامي 1963 و1987 (تواريخ عشوائية مرتبطة بتوفر المعلومات الكارتوغرافية)، نشهد بشكل أساسي إعمار السهل في الشمال كما في الجنوب من المدينة. والانقطاع الذي يكونه خط التماس محسوس. فمنذ النصف الثاني من سنوات الثمانينات، انطلق العمران ليجتاح التلال المجاورة، خاصة نحو الشمال على طول الطريق السريع الساحلي. إنها الفترة التي تمّ فيها بناء المجمعات السكنية الكبيرة في المنطقة المسيحية. وإثر سنوات ما بعد الحرب، سجلت المدينة بكاملها وبشكل مفاجئ تسارعاً مدهشاً للعمران الذي راح يحتل المنحدرات الشديدة وينتشر على طول محاور الطرق وعلى طول خط القمم، كما استفاد من افتتاح شبكة طرق جديدة في جنوب المدينة.

الشكل 4-22: الإنفجار العمراني في فترة الإعمار (بيروت).

45 يقدم نموذج بلدة اللبوة الواقعة شمالي البقاع صورة معبّرة عن المناطق النائية في لبنان التي تخلت عنها الدولة، حيث الموارد المحلية محدودة ولا تساعد على وجود تنمية اقتصادية. تقع بلدة اللبوة على أطراف سفح جبل من سلسلة لبنان الشرقية، عند خاصرته الجافة وعند التقاء الينابيع التي تسمح بري الأراضي الواقعة في منطقة البادية. وتضم اللبوة نحو 7,000 نسمة. وتمتد المساكن المتجاورة على طول الطريق: تميل القرية إلى تثبيت جزء كبير من السكان الريفيين القادمين من الريف المجاور وسكان من البدو الرحل الذين استقروا فيها حالياً. ويعتبر تآكل المناطق الزراعية شكلاً آخر لهذا التمدد العمراني (الشكل 4-23).

46 وتستثمر الأراضي المروية بطريقة البستنة. كما خصصت مساحات واسعة للزراعات البعلية المعتمدة على الأمطار في الحقول الشاسعة. وقد شكل تطور المقالع في أراضي السلسلة الشرقية القاحلة وضمن أراضي القرى المجاورة نشاطاً هاماً. ويضاف إلى النشاطات الزراعية والتعدين وظائف جديدة ترتبط بنفوذ هذه البلدة الصغيرة في المنطقة المحيطة بها، وباقتصاد العبور (ترانزيت) الجديد. وتخدّم هذه البلدة المسلمة العديد من القرى المجاورة ذات الغالبية المسيحية، مثل رأس بعلبك والعين والقاع. ولقد استفاد اقتصاد العبور من تطور حركة نقل البضائع على محور حمص-بعلبك. ويتنوع المشهد العمراني بفضل ظهور المحلات والمؤسسات الجديدة: تجارة متخصصة ووكالات مصرفية، وبعض الخدمات الطبية والمدارس الثانوية؛ وكل ذلك يؤكد على قوة التغيير الاجتماعي في مجتمع بلدة صغيرة، تظل معزولة جداً وبعيدة عن التحولات التي تعرفها العاصمة والمناطق الساحلية، ولا تستفيد كثيراً من استثمارات الدولة في التنمية. وفي البقاع الشمالي، انتشرت لفترة طويلة زراعة المخدرات خلال فترة الحرب، وشكلت بالنسبة لجزء من السكان مصدراً بديلاً للدخل.

الشكل 4-23: نمط استخدام الأراضي في اللبوة (البقاع).

47 تقع الصرفند في منتصف الطريق بين صيدا وصور، (بالنسبة للموقع، انظر الشكل 3-15)، وقد عرفت تطورات تماثل تلك التي شهدتها بعض المدن الساحلية اللبنانية التي عانت من الضغط العمراني الكبير الذي امتدّ على حساب زراعة الخضار والسواحل الطبيعية.

48 يقع قلب بلدة الصرفند التاريخية على تلة صخرية تطل على السهل الزراعي، حيث تخلت الحمضيات تدريجياً عن مكانها لصالح بساتين الموز الأكثر مردوداً. وقد كانت الصرفند، البعيدة عن منطقة الاحتلال الإسرائيلي وعن المناطق المختلطة، بمنأى عن القتال خلال الحرب. وقد أتاح هذا الوضع الآمن، بالإضافة إلى موقعها الوسيط بين المدينتين الرئيسيتين صيدا وصور، وجود أنشطة متنوعة (الحرف ومحلات صيانة السيارات ومحلات البيع بالمفرق ومصانع صغيرة... الخ.)، لاسيما كل ما يرتبط بحركة المرور بين المدينتين الكبيرتين المذكورتين.

49 ويوضح (الشكل 4-24) مدى توسّع العمران خلال سنوات الحرب، وحتى عام 2000. وهو يظهر ثلاثة أنواع من العمران التي يمكن أن نجدها على طول الساحل اللبناني. النوع الأول خطي ويتبع مسار الطريق الساحلي بين صيدا وصور. وقد زاد من حدة هذا النوع من النمو، الذي تسهله حركة المرور بين المدينتين، انتشار العمران العشوائي على الأملاك العامة البحرية نتيجة الاستيطان الكثيف للسكان النازحين إليها من مناطق أخرى. والنوع الثاني هو مركزي، أي يتمحور حول نواة مركزية وينتشر فوق الهضبة الزراعية العليا غير المروية، على العكس من السهل الساحلي الذي يعبره نهر الليطاني. ويتميز محيط القرية الآن بوجود طوق من الأبنية التي زحفت على الأراضي الزراعية. ويتعلق النوع الثالث بمشاريع مجمعات إسكان الشقق المفرزة الخاصة. وهي بشكل أساسي سكنية (عمارات أو فيلات)، ويمكن أن تتخذ في بعض الأحيان صفة «الأحياء المغلقة» ضعيفة الاندماج ببيئتها المحيطة، سواء كانت عمرانية أو زراعية أو طبيعية. وفي الصرفند تنتشر هذه المشاريع العمرانية في السهل الأعلى، ويسكنها المهاجرون العائدون إلى الوطن.

الشكل 4-24: النمو العمراني في الصرفند بين عامي 1963 و2002.

50 لقد أدت الحرب إلى تشريد أعداد كبيرة من السكان الذين فروا من مسرح القتال، أو من المذابح، باتجاه المناطق السكنية الأكثر أمناً، وجعلت من الصرفند واحدة من العديد من المحطات التي حط فيها هؤلاء السكان رحالهم. وقد سهلت الحرب سكن المهجرين، كأولئك الذين جاؤوا إلى الصرفند، في الأملاك العامة البحرية. مما أدى إلى تدهور المرافق السياحية التي كانت تشتهر بها الصرفند. وقد امتد عجز الإدارة المحلية حتى سنوات ما بعد الحرب، ولم يترجم فقط باستمرار الزحف العمراني على الأملاك العامة البحرية، وإنما أيضاً من خلال انتشار البناء والمجمعات الإسكانية دون الحصول على رخصة مسبقة من المديرية العامة للتنظيم المدني.

51 ولقد قلصت الحرب إلى حد كبير من نفوذ العائلات الشيعية القديمة لصالح قوى جديدة، مثل حركة أمل وحزب الله، بالإضافة إلى نخبة اجتماعية جديدة: الشيعة الذين أثروا في أفريقيا وعادوا إلى الوطن. كما أن بنية الملكية العقارية تبدو كعامل توضيح إضافي مفيد جداً ويسمح بإدراك هذه التحولات الاجتماعية بشكل خاص.

52 ويبين الشكل (4-25) العلاقة بين العمران وملكية الأرض. ففي الواقع، تعود ملكية قطع الأراضي الزراعية الكبيرة (ذات اللون الأخضر) الواقعة في السهل الزراعي الساحلي، في غالبيتها العظمى، إلى ملاك ليسوا من أهالي الصرفند: إنها عائلات شيعية ثرية تظل الزراعة المكثفة (الموز والخضروات ضمن البيوت البلاستيكية) بالنسبة لهم نشاطاً عالي المردود؛ وما زالت هذه الأراضي بمنأى عن العمران. أما القطع المبنية (ذات اللون الأصفر)، وهي أصغر وتقع على طول محاور الطرق وحول مركز المدينة، فتعود ملكيتها إلى مهاجرين من أهالي الصرفند. إنه المكان الذي تتركز فيه الأبنية الجديدة. والقطع ذات اللون الأرجواني هي من أنماط مختلفة: أراضي الوقف (الديني والعائلي)، وأراضي البلدية وأملاك دولة وأملاك عامة.

الشكل 4-25: العمران والملكية العقارية في الصرفند 2002.


TABLE DES ILLUSTRATIONS
Titre الشكل 4-1: تدمير المنازل، (أ) في لبنان و(ب) في بيروت الكبرى.
Fichier image/jpeg, 224k
Titre الشكل 4-2: هجرة السكان القسرية (1975-1987).
Fichier image/jpeg, 204k
Titre الشكل 4-3: المساكن الشاغرة في عام 1996.
Fichier image/jpeg, 228k
Titre الشكل 4-4: الاستقطاب الطائفي بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية في عام 1994.
Fichier image/jpeg, 272k
Titre الشكل 4-5 ب: حركة البناء أثناء الحرب (أ) وما بعد الحرب (ب).
Fichier image/jpeg, 220k
Titre انتشار العمران على حساب الأراضي الزراعية في البقاع
Crédits تصوير وليد باخوس، تموز 2002 ،
Fichier image/jpeg, 164k
Titre الشكل 4-6: الأبنية التي تزيد عن أربعة طوابق.
Fichier image/jpeg, 196k
Titre الشكل 4-7: الأبنية الجماعية.
Fichier image/jpeg, 212k
Titre الشكل 4-8: العمران والتضاريس (السفح الغربي لجبل لبنان).
Fichier image/jpeg, 196k
Titre الشكل 4-9: التوسع العمراني في الفترة 1963-1998.
Fichier image/jpeg, 248k
Titre الشكل: 4-10 (أ + ب): التوسع والزحف العمراني.
Fichier image/jpeg, 192k
Titre الشكل 4-11: المناطق الزراعية.
Fichier image/jpeg, 196k
Titre الشكل 4-12: المناطق الطبيعية.
Fichier image/jpeg, 196k
Titre الشكل 4-13: المناطق الملغّمة والمنزوعة الألغام.
Fichier image/jpeg, 240k
Titre الشكل 4-14 (أ + ب): المقالع في عام 1997.
Fichier image/jpeg, 180k
Titre الشكل 4-15: شبكة التصريف الصحي.
Fichier image/jpeg, 180k
Titre خليج جونية – تطور مدهش للعمران وللمنتجعات الساحلية المرتبطة بحركة السكان أثناء حرب لبنان
Crédits تصوير: كريستين ديلبال، تشرين الثاني 2002 (Christine Delpal)
Fichier image/jpeg, 276k
Titre الشكل 4-16: تلوث الساحل والمكبات الرئيسية.
Fichier image/jpeg, 256k
Titre الشكل 4-17: استخدام الأراضي في الشريط الساحلي.
Fichier image/jpeg, 228k
Titre الشكل 4-18: بناء الساحل: تآكل الساحل واحتلاله بالإسمنت (1962-2003).
Fichier image/jpeg, 184k
Titre الشكل 4-19: توزع الغابات في لبنان.
Fichier image/jpeg, 204k
Titre الشكل 4-20: الحرائق والعمران.
Fichier image/jpeg, 300k
Titre الشكل 4-21: بيروت وضواحيها.
Fichier image/jpeg, 280k
Titre الشكل 4-22: الإنفجار العمراني في فترة الإعمار (بيروت).
Fichier image/jpeg, 232k
Titre الشكل 4-23: نمط استخدام الأراضي في اللبوة (البقاع).
Fichier image/jpeg, 232k
Titre الشكل 4-24: النمو العمراني في الصرفند بين عامي 1963 و2002.
Fichier image/jpeg, 280k
Titre الشكل 4-25: العمران والملكية العقارية في الصرفند 2002.

Fichier image/jpeg, 263k

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق