من إشكاليات التنمية الجهوية والمحلية
عمر بالهادي
كلية العوم الإنسانية والاجتماعية جامعة تونس
تونس في 08 مارس 2011:
تطرح التنمية الجهوية والمحلية عدة إشكاليات مما يحتم علينا التعرض إلى المفهوم أولا لكي نستطيع بعد ذلك التطرق إلى مختلف جوانب المسألة وكيف تمت معالجتها منذ الاستقلال وما هي التحديات التي تطرحها بالنسبة إلى مستقبل البلاد خاصة وأنها كانت أحد الأسباب العميقة التي أفضت إلى ثورة جانفي 2011.
1 – المفاهيم
لا بد من التعرض إلى مفهومي التنمية أولا كمفهوم عام لنتخلص إلى المفهوم الثاني المتمثل في الإقليم أو الجهة.
أ – التنمية الترابية
التنمية الترابية، قطرية أو جهوية أو محلية، هي عملية أو صيرورة داخلية (endogène) لجماعة ترابية (collectivité territorialee) تنطلق من الداخل لها أربعة مقومات تتمثل في النمو والتقدم والاعتماد على الذات والاستدامة.
فالعنصر الأساسي الأول هو مادي وكمي يتمثل في النمو (croissance) من خلال تطور الثروات وتراكمه ونمو الإنتاج المادي واللامادي وللاقتصاد ككل يفضي حتما إلى تغيير نوعي وهيكلي على المستوى المادي والذهني يتمثل في التحديث والحداثة وما نسميه التقدم (le progrèss) من خلال التحسن النوعي لظروف الحياة وإطار العيش تشمل كل جوانب الحياة تشمل الحاجات الأساسية من غذاء وسكن ولباس وصحة وتعليم وعمل وثقافة وترفيه وبدأت تتوسع تدريجيا لتضم حقولا أصبحت أساسية في يومنا كالحرية والديمقراطية والمشاركة في الحياة العامة والمواطنة. هذا التطور النوعي يرتبط ويتلازم مع الاعتماد على الذات والاستقلالية الذاتية (autonomisation)، التدريجية والنسبية، للجماعات الترابية تضمن بدورها الاستدامة من حيث النسق والدينامية والاتجاه والنتائج وهو ما نسميه اليوم « التنمية المستدامة »، ولو أن مفهوم التنمية في حد ذاته يقتضي حتما الاستدامة.
فالتنمية الجهوية أو المحلية تستوجب وتتجاوز النمو المادي والمرافق والخدمات ولا تقتصر على هذين المقومين الأساسيين لتتعدى إلى ما هو هيكلي وبنوي أي النهوض بالجهة أو بالمنطقة من الداخل وجعلها تقوم بدور فعال على المستوى الوطني بشكل متكافئ مع الجهات الأخرى لتسهم في صيرورة البلاد والوطن ولا يتم ذلك إلا من خلال تمكين الجهة من آليات وإمكانات الاعتماد على الذات ولو نسبيا وبدرجة محدودة تبعا لإمكاناتها وخصوصياتها ومعوقاتها: أي تمكين الجهة من مقومات الاستقلالية الذاتية والاستدامة.
فالتنمية الجهوية هي إذن آلية داخلية (endogène) بالأساس ولو أن انطلاقها ودفعها في البداية يمكن أن يكونا من خارج الجهة وبواعز من الدولة خاصة بالنسبة للجهات الفقيرة، تتطلب تواجد فاعلين محلين (اجتماعيين، اقتصاديين، ثقافيين، وسياسيين) لهم صلة وثيقة بالجهة بحكم الانتماء والهوية والاستشراف المستقبلي والمصلحة كذلك. هؤلاء الفاعلين المحليين قادرون على النهوض بالجهة من حيث هي إمكانات يجب استغلالها، وإطار عيش وجب تحسينه وانتماء ترابي تؤسس للهوية يتحتم تلميع صورتها لتكون منطقة جذب السكان والإطارات والمستثمرين بدأ بأصيلي المنطقة وليس منطقة تنفير لا تستطيع حتى شد سكانها لعدة توفر الشغل. فلا وجود لتنمية جهوية أو محلية دون وجود فاعلين جهويين أو محليين، يأخذون على عاتقهم عملية التنمية بالإضافة طبعا إلى الفاعلين الخارجيين سواء كانوا من الوطن أو من خارجه وتدخل الدولة التي تعتبر من أهم الفاعلين مهما كان النظام السياسي والاقتصادي المتبع وذلك لمساعدة الفاعلين المحليين إن وجدوا وخلقهم إن فقدوا.
فالتنمية الجهوية أو المحلية لا تتمثل في سياسة الهبة والإعانة التي تتمكن فعلا من حل ظرفي ونسبي يكمن في خلق بعض مواطن الشغل المحدودة أو توفير جزء من رأس المال يتمثل في الأغنام أو الماعز أو في كمية من المواد الأولية كالصوف أو غيره. ولا تقف كذلك عند تحسين ظروف العيش أو بعث بعض المرافق كالمدارس أو مراكز الصحة الأساسية أو المسالك الريفية أو التنوير أو مد السكان بالماء… هذا الجانب الاجتماعي طبع جل البرامج التنموية التي تهدف إلى التنمية كالتنمية الريفية أو التنمية الريفية المندمجة أو البرامج الجهوية للتنمية أو المجالس الوزارية المتميزة للتنمية الجهوية التي كان يشرف عليها الرئيس السابق والتي تمثل خليطا من البرامج، تتميز بالتشتت التقني والمجالي ولا علاقة لها ببعضها البعض إلا تواجدها في نفس الولاية؟ هذا الجانب الاجتماعي الطاغي ساهم بقدر كبير في خلق و تدعيم عقلية التواكل والإعالة والترقب والسلبية وهي عناصر مكبلة للتنمية ولا تخلق الفاعلين.
فالتنمية إذن، لا تقف عند التشغيل ولو أن الشغل يمثل، وبدرجة كبيرة، أحد مقوماتها من حيث خلق الثروة للمجموعة وللأفراد ومن حيث كونه مورد رزق للمواطن يمكن من الكرامة الإنسانية ولهذا جاءت هذه الثلاثية (شغل – تنمية – كرامة) مترابطة، متلازمة ومتدرجة في الزمن ومن حيث تطور المطالب أيضا في صيرورة الثورة التونسية. فالتشغيل يعتبر العنصر المركزي وأحد المقومات الأساسية في التنمية وليس هدفا في حد ذاته، فهي لا تقف عنده. فهو يمكن فعلا من تحقيق الجانب الكمي والنوعي من خلال توفير الشغل والدخل وكذلك تحسن ظروف العيش للتنمية لكن لا يرتقي إلى العنصرين الثالث والرابع الذين يتمثلان في الاستقلالية والاستدامة.
فالتنمية الجهوية أو المحلية لا تقتصر على خلق مواطن شغل أو بعث بعض المشاريع أو المرافق وإن تمثل كلها أركان أساسية متلازمة. فهي تتمثل أساسا في نفس الوقت في توفير الشغل وإنشاء التجهيزات الأساسية والاقتصادية وبعث المرافق الاجتماعية
ب – الإقليم أو الجهة
الجهة أو بالأصح الإقليم هي وحدة مجالية تتكون من عدة ولايات، تمثل المستوى الأول للتقسيم الترابي للقطر لها من الحجم والتنوع ما يضمن لها الفعالية والنجاعة والتكامل والاندماج الداخليين. تتميز بوجود عاصمة إقليمية أو جهوية تؤمن التأطير الترابي من خلال تلبية حاجيات المستهلك والمواطن وتوفير الخدمات من مستوى جهوي وذلك عبر شبكة حضرية متراتبة ومتكاملة. وتتمتع بحياة سياسية فعلية تتمثل في وجود حد أدنى من السلطة الجهوية بمقوماتها المؤسساتية والمالية.
وفي هذا الصدد، نجد أن جل الدول الديمقراطية تتميز بتنظيم إقليمي (جهوي) وبوجود سلطة جهوية تمثل السكان من جهة وتقوم بدور السلطة المضادة تعدل من طغيان السلطة المركزية وزيغ أي سلطة كانت تجد نفسها منفردة أو تستفرد بها أمام غياب السلطة المضادة وضعف المجتمع المدني.
من هذا المنطلق فإننا نلاحظ أن الجهة أو الإقليم، بهذا المفهوم، لا وجود لهما في الواقع أو في المخيال التونسي حتى أن الجهة أصبحت هي الولاية في أغلب الحالات وهذا خلط كبير ربما كان مقصودا[1] بين الجهة والولاية وحتى المستوى المحلي أحيانا. فالولايات تسمى باسم المدينة-المركز (ولاية نابل، ولاية قفصة، ولاية قبلي…) ولا نجد ولاية واحدة تحمل أسما يشمل كامل تراب الولاية[2]. في هذا الإطار، لابد من الملاحظة أن من لا اسم له، لا وجود له أصلا ؟
2 – بناء الدولة وتغييب الجهة
كانت الأولوية في الحركة التحررية تتمثل في بناء الدولة الحديثة ولم شتات القبائل التي كانت متنافرة ومتخالفة لها ولاءات للباي أو للاستعمار في دولة ناشئة يكون فيها الانتماء أولا وأخيرا للوطن قبل الجهة والقبيلة والفرقة والعرش.
أ- الجهة كامتداد للسلطة المركزية
كان للحركة التحريرية في البداية ولبناء الدولة الحديثة بعد الاستقلال دورا أساسيا في القضاء عل كل ما هو سلطة خارجة عن الدولة أو من شأنها أن تقتسم السلطة معها، بما في ذلك الأسرة والعائلة والعرش والقبيلة والجهة. ومن هذا المنطلق تم القضاء على السلطة التقليدية لما تمثله من خطر على الدولة الناشئة بصفة تدريجية وممنهجة[3]. فتم تغيير التقسيم الترابي للقطر بشكل يقطع غالبا مع التقسيم القبلي والاستعماري على السواء. كما تم حذف اسم الجهات وجعل الولاية بمثابة المقاطعة التابعة لمركزها بما أن الوالي هو ممثل رئيس الدولة في ولايته. هذا التمشي يفتح الباب إلى حذف وفسخ البعد الإقليمي والجهوي للانتماء ويمكن بالتالي من تغيير حدود الوحدات الإدارية ويرسخ البعد الإداري للإنتماء والهوية.
فالوالي هو قبل كل شيء ممثل السلطة المركزية في الولاية وكذلك المعتمد من خلاله وأخيرا العمدة الذي عوض الشيخ سنة 1969 والذي كان يقع اختياره من بين ثلاثة أعيان يتم اقتراحهم من طرف أهالي المشيخة. أما مجلس الولاية الذي أنشأ سنة 1963 فيرأسه الوالي ويضم أساسا ممثلي المصالح الجهوية. في سنة 1989 أنشأت المجالس الجهوية والمحلية لكنها بقيت في الواقع تمثل السلطة المركزية والحزب الحاكم ومن لف لفه من خلال رؤساء البلديات ونواب الولاية في البرلمان وكلنا نعرف مدي مصداقية هذه الانتخابات البلدية والبرلمانية. فالجهة إذن كسلطة هي امتداد للسلطة المركزية ولا تمثل في شيء سكان الجهة وعندما تفتقد التمثيلية تنعدم التنمية بفقدان ركن أساسي يتمثل في السلطة الترابية.
ب – التعديل المنقوص للتفاوت
في البداية كانت الدولة والحزب الحاكم يفتقدان تماما لخطة تنموية واضحة المعالم ولم يكن هناك إلا الاتحاد العام التونسي للشغل آنذاك الذي وضع برنامجا متكاملا أعده بمناسبة مؤتمره سنة 1956. وكان آنذاك التفاوت بين الشمال والجنوب من أبرز المعالم والتي ركز عليه التقرير: الشمال الذي يضم الأراضي الخصبة بحكم الموارد الطبيعة والزراعة العصرية الاستعمارية وكانت العاصمة آنذاك تمثل أهم مركز اقتصادي (صناعة – خدمات) في حين كان الجنوب يرزح تحت النظام العسكري وكان الوسط ميدان الرعي والبدو وتربية الماشية الممتدة باستثناء الساحل ومنطقة صفاقس أو بعض الضيعات المحدودة.
وما تجدر الإشارة إليه، هو الأزمة التي وقعت مع نهاية الخمسينات والتي أدت إلى اعتماد التخطيط والخطوط الكبرى لبرنامج الاتحاد من خلال أمينة العام السابق أحمد بن صالح الذي عين كاتب دولة للتخطيط. وتم وضع الخطة العشرية 19622-1971 التي تنص على بعث أقطاب تنموية جهوية من شأنها أن تضمن التكامل والتنمية من خلال تعميم التعليم ونشر المدارس وإنشاء مراكز صناعية مؤهلة أن تلعب دور الأقطاب مثل مصنع السكر بباجة، مصنع ورق الحلفاء بالقصرين والصناعات المكانيكية بالساحل ومواد البناء بجمال والحامة والنسيج بقصر هلال والحاجب… كما أن أزمة بنزرت ومعركة الجلاء فرضتا إعادة التوظيف (reconversion) لكل من بنزرت ومنزل بورقيبة (صناعة الفولاذ – الصناعات المعدنية – تكرير النفط…) في حين فرض الجلاء تأميم الأراضي الفلاحية وبعض الصناعات الأساسية بتونس العاصمة (Sicoac, Al Anabib, Stec…) والفوسفاط بصفاقس كصناعات تعويضية للواردات. لكن الجانب المؤسساتي كان مهملا في تلك الفترة وحتى الأقطاب التي بعثت تتنزل في إطار وطني أساسا ولو أن العمل على الحد من التفاوت الجهوي كان موجودا من خلال هذه الأقطاب وبعث ديوان تونس الوسطى ودواوين الأحياء (مجردة – السواسي…) واساسا من خلال نشر التجهيزات التعليمية والصحية تكاد تكون آلية على مستوى مراكز الولايات والمعتمديات.
بالإضافة إلى ذلك، تم اللجوء إلى تنمية السياحة في أواخر الستينات للقيام بعملية التصنيع التي تحتاج إلى تمويلات هامة وإلى العملة الأجنبية ووقعت دراسة وبرمجة عدة مناطق سياحية كانت ساحلية (جربة – الحمامات، المنستير…) ولاتزال.
هذه العملية التي تزامنت مع تعميم التعاضد في النصف الثاني للستينات[4] أدت بصفة جلية إلى تدعيم المناطق الساحلية بشكل جعل الهجرة تنصب على العاصمة بالخصوص والسواحل بدرجة ثانية مما استدعى اللجوء إلى إجبار النازحين على الرجوع إلى مواطنهم الأصلية.
ج – الانفتاح والتفاوت الجديد
مع الفترة الليبرالية تدعم هذا التوجه من خلال الصناعات التصديرية لقانون 1972 وتدعيم السياحة بدرجة كبيرة وتطور الزراعات السقوية وخلق أحواض لإنتاج الحليب واللحوم الحمراء والبيضاء والبيوت المكيفة بالإضافة إلى إنشاء المركب الكيمياوي بقابس ثم المناطق الحرة لكل من جرجيس وبنزرت والمحطات السياحية لكل من القنطاوي وطبرقة وما تطلبه ذلك من تجهيزات كبرى من مطارات، مواني، طرقات سريعة، جلب المياه للشرب وللري، تدعمت أخيرا بالأقطاب التكنولوجية وخلق الجامعات مما دعم أكثر فأكثر المناطق الساحلية مما جعل البلاد التونسية تنشطر إلى إثنين : مناطق دينامية وجاذبة مؤهلة للاندماج في العولمة وبالتالي وحب إعدادها لذلك ومناطق داخلية مهمشة قدرها أن تعيش بالهبات التي تمنحها لها الدولة وهو ما ورد بوضوح في المثال المديري للتهيئة الترابية الوطنية سنة 1997.
فالمناطق الساحلية تمثل ما يقارب 51 بالمائة من المناطق السقوية، 60 بالمائة من الصادرات الفلاحية و63 بالمائة من الإنتاج الفلاحي، 95 بالمائة من الإنتاج والتشغيل الصناعي(94 بالمائة من المؤسسات المنشأة سنة 2010) والسياحي و67 بالمائة من السيارات وما يناهز 75 بالمائة من القيمة المضافة ونسبة كبيرة من الثروات ومن المداخيل و86,4 بالمائة من نوادي الاعلامية، فحتى على مستوى البرامج الجهوية للتنمية نلاحظ أن المناطق الساحلية تمثل 82 بالمائة.
فنسبة النمو الديمغرافي تتجاوز المعدل الوطني الذي يساوي 1,21 بالمائة بين 1984-2004 باستثناء الجنوب الشرقي. أما المناطق الداخلية فنسبة النمو كانت دون هذا المعدل. هذه الدينامية المتفاوتة تفسر النزعة المتناقضة بين المجال الساحلي الذي تعززت مكانته الديمغرافية منذ الاستقلال حيث مرت من 64,7 إلى 68.4 بالمائة بين 1956 و2004 في الوقت الذي تراجع فيه الوزن الديمغرافي للمناطق الداخلية من 35,3 إلى 31,6 بالمائة بين 1956 و2004.
فالوسط الغربي أصبح يمثل منذ نهاية التسعينات أول منطقة مهجرة من حيث عدد المهاجرين ومن حيث نسبة الخروج التي تصل إلى حدود 4 بالمائة بين 1999 و 2004. فقد كان الشمال الغربي يحتل هذه المرتبة قبل ذلك نتيجة الاستعمار الزراعي وبعد ذلك تجربة التعاضد. فمستوى الانفاق أصبح كذلك يحتل الدرجة الدنيا بعد الشمال الغربي الذي كان يحتل آخر المراتب في السبعينات والتسعينات؟
1975
|
1990
|
2005
| |
الشمال الغربي
|
242
|
509
|
1138
|
الوسط الغربي
|
229
|
501
|
1416
|
القطر
|
475
|
1007
|
2390
|
فالعاصمة مرت بين 1956 و2004 من 16 إلى 23 بالمائة من السكان وهي تمثل ثلث سكان المدن (32.6 بالمائة) رغم كل الإجراءات التي اتخذت للحد من تضخم العاصمة لفائدة الواجهة الشرقية أساسا. فهي لا تزال تمثل 43 بالمائة من الطلبة، 52 بالمائة من مخابر البحث، 47,5 بالمائة من نوادي الإعلامية، 35,5 بالمائة من الشغل الصناعي سنة 2010 و 56 بالمائة من المؤسسات الناسئة سنة 2009.
د – من الاختلال إلى الانحصار المجالي
لقد مرت البلاد التونسية منذ استقلالها من اختلال توازن بين الشمال والجنوب في الخمسينات والستينات نتيجة المعطيات الطبيعية والتاريخية بما في ذلك الاستعمار أساسا إلى اختلال بين السواحل والدواخل خلال السبعينات والثمانينات نتيجة الانفتاح والاندراج في العولمة مما انجر عنه سوحلة المجال. ومنذ التسعينات نلاحظ عملية انحسار المجال الاقتصادي النشيط والدينامكي في مثلث حول العاصمة ويضم الشمال الشرقي والوسط الشرقي حول سوسة وأحواض الشغل. كما أن المشاريع الحديثة التي تتمثل في ميناء ومطار النفيضة والمحطات السياحية بهرقلة والسلوم ساهمت في الوصل بين هاتين الجهتين لتكون واجهة بحرية نشيطة ومستقطبة لنسبة هامة من الأنشطة الاقتصادية حيث تمثل ما يناهز 90 بالمائة من المؤسسات الصناعية المصدرة ومواطن الشغل. أما باقي المناطق فهي تقتصر على الفلاحة الممتدة والتشغيل في القطاع العمومي أساسا والقطاع المهمش ونسب بطالة مرتفعة مما يجعل المنطق الطاغي هو منطق البقاء.
فالواجهة الشرقية (الشمال الشرقي والوسط الشرقي) تمثل 75 بالمائة من السكان و59 بالمائة من الناتج الداخلي الخام.
الشمال الشرقي
|
الوسط الشرقي (صفاقس)
| |
السكان
|
50
|
25,6 (9,4)
|
الناتج الداخلي الخام
|
37
|
22 (9)
|
كما أننا إذا اعتبرنا 26 المدن الأولى في الساحل والداخل نجد أن 23 مدينة تتجاوز نسب نموها المعدل العام في الوقت الذي نجد العكس في المناطق الداخلية. فأهم المدن ساحلية وأن أول مدينة داخلية في المرتبة العاشرة؟
3 – كيفية طرح المسألة الجهوية : أزمة البداية وأزمة النهاية
لقد طرحت مسألة التنمية الجهوية في مرحلتين وذلك في إطار الدولة الراعية لكن بتوجهات مختلفة :
– الأولى في الستينات في إطار التوجه الاشتراكي والتجربة التعاضدية باعتماد برنامج إتحاد الشغل، كما سبق أن ذكرنا ذلك، في شكل أقطاب تنموية وبعث ديوان تونس الوسطى ونظرية الصناعة التعويضية مع استغلال الموارد المحلية والجهوية.
هذه التجربة لم تعمر طويلا إذ تم إنهاؤها بفشل التوجه الاشتراكي والتجربة التعاضدية واعتناق التمشي التحرري مع بداية السبعينات.
– الثانية مع بداية الثمانينات مع اندلاع أزمة قفصة والأزمة مع إتحاد الشغل وذلك من خلال تخصيص فصل كامل في المخطط الثامن[5] للمسألة وإنشاء المندوبية العامة للتنمية الجهوية وثلاثة دواوين التنمية الجهوية بكل من الجنوب والوسط الغربي والشمال الغربي. وقد بادرت المندوبية العامة للتنمية الجهوية بوضع خارطة أولويات التنمية وإعداد مخططات التنمية الجهوية وتقييم برنامج التنمية الريفية[6] وكذلك وضع برنامج التنمية الريفية المندمجة سنة 19877. وقد وقعت برمجة عدة مشاريع هيكلية آنذاك ساهمت الدولة بنسبة هامة بالاعتماد على الاستثمار الخارجي. كما تم إدماج جل البرامج ذات الطابع الجهوي وتشمل كل المناطق في برنامج واحد : البرامج الجهوية للتنمية.
في هذه الفترة تم إعداد المثال المديري للتهيئة الترابية على المستوى الوطني و كذلك الجهوي سنة 1985 على أساس التوازن الإقليمي وتدعيم المراكز الجهوية والشبكات الحضرية على أن تستجيب كل منطقة لحاجيات سكانها من حيث الشغل وأن يقع استغلال الموارد والطاقات الجهوية.
في هذا الإطار تم سنة 1989 بعث المجالس الجهوية والمحلية للتنمية وكذلك المجالس القروية في محاولة لتشريك الجهات في عملية التنمية من خلال توسيع المهام وتشريك رؤساء البلديات وأعضاء الولاية في مجلس النواب.
لكن الأزمة التي اندلعت مع منصف الثمانينات أدت إلى اعتماد برنامج التعديل الهيكلي وجعل الدولة تتخلى عن المسألة الاقتصادية وتدخل الخصخصة من بابها العريض مع عقد الشراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1996 وإعداد الاقتصاد التونسي لذلك على مدة 12 سنة (1996-2008). في هذا الإطار تم التخلي تماما عن جل المشاريع المهيكلة والتي تمت برمجتها خلال المخطط الثامن. بتوازي مع هذا التوجه، تم إعداد المثال التوجيهي للتهيئة الترابية سنة 1996-1998 واعتماد الاندماج الاقتصاد التونسي في العولمة مما حتم تقسيم البلاد إلى نصفين: تونس الساحلية أين تتجلى الدينامية الاقتصادية وهي الوحيدة القادرة على الاندراج في النظام العالمي مع الحوضرة (تعزيز المدن الكبيرة لتكون عواصم إقليمية كضفاقس، سوسة، قابس…) والتنافسية (مع الواجهة المتوسطية) والمناطق اللوجستية (اندماج وسائل النقل). أما تونس الداخلية والتي لا تملك الموارد ولا الكفاءات فقدرها الإعانة عن طريق مساعدة الدولة للسكان على تحسين أوضاعهم الحياتية عبر آلية إعادة التوزيع. ومن حسن الحظ أنه لم تقع الموافقة على المثال بصفة رسمية لكن وقع في الواقع اعتماد أهم اختياراته.
ففي ظرف عشرية واحدة تم الانتقال من الشيء ونقيضه : التنمية الجهوية المتوازنة والانفتاح الكلي والاندراج في العولمة
في الحالتين، انطلقت العملية نتيجة أزمة اجتماعية وسياسية وتلاشت وتم التخلي عنها من جراء أزمة أخرى مما يدل على أن الاختيارات كانت ظرفية ومحدودة في الزمن ونفعية أساسا وليست مبدئية وان البعد التقني كان السائد في تصور التنمية الجهوية والمحلية إن لم يكن الطابع الاجتماعي والسياسي. في الحالتين لم تشمل التجربة الجانب المؤسساتي ولا التمويلي وهي أهم المقومات تضمن الديمومة والاستقلالية للعملية التنموية. وحتى المجالس التنموية كانت بمثابة ذر الرماد على العيون وتأطير الجهات من طرف السلطة بدعوى أن الديمقراطية لا تكون إلا بصفة تدريجية وأن ما أنجز هو بالشيء الكثير[7].
فالبرامج الجهوية كانت دائما وليدة أزمة عامة على المستوى الوطني في كل مرة : في الستينات 1961-1964 أدت إلى اعتماد الأقطاب التنموية، مع نهاية الستينات وبأزمة التعاضد وبداية السبعينات تم بعث برنامج التنمية الريفية سنة 1973، أما بين 1978 و1984 فقد تم بعث المندوبية العامة للتنمية الجهوية وتخصيص فصل كامل للمسألة في المخطط السادس (1982-1986). في الفترة الأخيرة تتالت الأزمات الجهوية والمحلية انطلاقا من أزمة الخوض المنجمي إلى القصرين وبن قردان… والثورة أخيرا.
هذه البرامج الجهوية للتنمية كانت محدودة جدا بالإضافة إلى تميزها بالنثر وعدم الاندماج. فهي لا تتجاوز 11 بالمائة من الاستثمار العمومي و5,2 بالمائة من حجم الاستثمار الاجمالي؟
الطابع القطاعي وعدم الادماج
كما أن الطابع القطاعي كان سائدا من خلال تجزئة المسألة ومعالجتها بصفة قطاعية وبعيدة كل البعد عن الاندماج. فالطابع الفلاحي كان طاغيا من خلال دواوين وشركات الإحياء أولا والتنمية الريفية، التنمية الريفية المندمجة، دواوين المناطق السقوية والإحياء الفلاحي في السبعينات والثمانينات. نجد ذلك من خلال تخفيف التركز أو ما يسمى باللامحورية (déconcentration) واللامركزية (décentralisation) الصناعية منذ منتصف السبعينات (قانون 1977 – قانون 1981 و1987 وتطوير السياحة الداخلية والصحراوية واللامركزية الإدارية (الإدارة الجهوية) والجامعية (الكليات والمعاهد ثم الجامعات والدواوين الجامعية) ومن خلال إعداد مجلة الاستثمارات (1993) والنصوص الترتيبية المرتبطة بها التي ميزت بين المناطق ومكنت من تشجيع الاستثمار في المناطق ذات الأولوية.
كما أن عدم الاندماج كان السمة الطاغية على مختلف هذه البرامج رغم التطور المنجز في هذا الاتجاه منذ السبعينات. ويبدو ذلك واضحا في برامج المجالس الجهوية الممتازة التي كان يترأسها الرئيس السابق بصفة دورية لمختلف الولايات مستغلا في ذلك المناسبات (الانتخابات) والأزمات كما هو الشأن بالنسبة إلى القصرين أو قفصة مثلا إثر أحداث الحوض المنجمي سنة 2008. حيث كانت بمثابة مجموعة من المشاريع المتنوعة تتسم بالتشتت المجالي لتشمل كل أنحاء الولاية وعدم الترابط الاقتصادي والتقني تتدرج من رياض الأطفال إلى الحديقة وصولا إلى المصنع أو المعهد العالي سعيا وراء تلبية مختلف الأطراف والمعتمديات ؟.
4 – التنمية المحلية
في ظل تراجع الدولة الراعية وتنامي العولمة كان لزاما أن يتراجع البعد الجهوي نظرا إلى أن الأولوية أصبحت التعديل الهيكلي و إعادة التأهيل والخصخصة وتأمين أعلى نسب النمو الاقتصادي على المستوى الوطني. في هذا الإطار، بدأ البعد المحلي يكتسي مجالا هاما وحيزا متناميا بدعم من المؤسسات المالية العالمية (البنك الدولي – صندوق النقد الدولي) والمؤسسات غير الحكومية. فكانت المجالس المحلية للتنمية والجمعيات للتنمية المحلية وتجمعات التنمية الفلاحية وتشجيع الجمعيات التنموية من خلال البنك الوطني للتضامن.
في الواقع تشكو التنمية المحلية من نفس النقائص والمعوقات حيث تفتقد إلى ركيزة تمثيلية للسكان المعنيين والتأطير الحزبي. فالمعتمد يرأس المجلس المحلي للتنمية الذي يظم رؤساء البلديات والعمد وممثلي المصالح المحلية؟.
كيف نتحدث عن تنمية محلية لا يمثل فيه المستشار البلدي السكان بصفة فعلية وديمقراطية يستمد منهم شرعيته ويمثلهم لدى السلط المركزية؟ كيف نتحدث عن تنمية لا تتحكم فيه البلدية في تهيئة ترابها؟.
5 – الحصيلة
يمكن حوصلة التجربة التونسية في ميدان التنمية الجهوية والمحلية في بعض النقاط الأساسية:
أ – تطور مختلف الجهات منذ الاستقلال على مختلف الأصعدة وبنسب هامة أحيانا لا يمكن أن ننكرها مثل التجهيزات الأساسية والتمدرس والصحة والسكن والطرقات والدخل وهذا طبيعي جدا خلال فترة تجاوزت اليوم نصف القرن. لكننا نلاحظ مفارقة أخرى لا تقل أهمية تتمثل في أن التفاوت الجهوي بقي على حالة أو يكاد. فباستثناء بعض الحالات المعروفة والمحدودة في الواقع نجد نفس التراتب الجهوي. فالمناطق التي كانت محضوضة في البداية هي التي انتفعت أكثر من غيرها من دولة الاستقلال وبالتالي حافظت على نفس المعاملة ونفس الرتبة وأحيانا انتقلت من مناطق متأزمة منفرة إلى مناطق جاذبة. ومعنى ذلك أنه رغم المجهودات التي بذلت فإن التركيبة أو البنية المجالية لا تزال على حالها، غير متوازنة وزادت انخراما.
أما التفاوت بين المدن والأرياف فقد تراجع في ميادين عديدة على مستوى التجهيزات الأساسية والمرافق العامة لكننا نلاحظ كذلك أن التفاوت تدعم بالنسبة لبعض المؤشرات مثل الإنفاق الأسري خيث النتقل الفارق بين 1,81 و1,87 بين 1985 و2004. فحجم الانفاق العام للمدن مر من 62,2 إلى 72,6 بالمائة بين 1975 و2004 في الوقت الذي تمثل فيه المدن 52,5 و64.9 على التوالي.
فالإنصاف يقتضي منا اليوم وقفة تفكير وتقييم لإنارة العمل المستقبلي ولتعديل الكفة لكي نجنب تونس الانزلاقات الخطيرة إذا واصلنا في نفس الطريق واكتفينا بترقيعات تقنية وجزئية كانت العمل في كل أزمة منذ الستينات.
ب – ضعف نتائج سياسات التخفيف من التركز واللامركزية رغم كل القوانين التي وضعت منذ السبعينات (1977، 1981، 1987، 1993) والمجهودات التي بذلت من حيث التجهيزات( مطارات…) والمناطق الصناعية التي بقيت فارغة أو تكاد والسياحية الداخلية (السياحة الصحراوية، مطار توزر، مطار قفصة…) أو حتى على الواجهة الساحلية الشمالية (منطقة طبرقة عين دراهم).
فبالنسبة للصناعة مثلا نجد أن الشريط الوسيط هو الذي استفاد أكثر من المناطق الأخرى من الامتيازات الممنوحة. فالمناطق الطرفية و الحدودية خاصة لم تستقطب إلا نسبة محدودة جدا تكاد لا تذكر حتى على مستوى الصناعات العادية كالنسيج رغم تطور وجود المناطق الصناعية وتطور الاتصالات وفك الانحباس، فما بالك بالصناعات المتطورة.
– الشريط الساحلي يمثل نسبة هامة من الإنتاج : 95 بالمائة من الصناعة والسياحة و60 بالمائة من الفلاحة و75 بالمائة من القيمة المضافة؟ العاصمة تمثل ما يقارب النصف؟
– لقعد تم الانتقال في تونس من اختلال توازن شمال- جنوب خلال الخمسينات إلى اختلال جديد بين السواحل والدواخل. هذا الاختلال هو وليد الاستقلال والجري وراء تحقيق أعلى نسب النمو الاقتصادي الوطني على حساب التوازنات الجهوية والقطاعية والهيكلية. كل المؤشرات اليوم تعكس عدم التكافؤ بين السواحل والدواخل رغم وجود مجالات مهمشة على الساحل وكذلك مجالات دينامية محدودة يالمناطق الداخلية.
فالتوازن التام والمطلق غير واقعي و غير مرغوب فيه قطعا لأنه يمنع التراكم الاقتصادي وبالتالي النمو. وما هو مطروح ومطلوب هو ليست المساوات بقدر ما هو الإنصاف أي القبول بتفاوت نسبي محدود لا تجاوز ذلك الخط الأحمر الذي يمثل نوعا من الاتوازن المقبول، الذي تقبل به المجموعة الوطنية وكذلك الجهوية في إطار خطة تنموية تقر بها الأغلبية وتقبلها وهو ما يطرح مسالة الديمقراطية عامة والديمقراطية المحلية بالخصوص. فالإنصاف بين الناس يمر حتما من خلال الإنصاف بين الجهات والمناطق، فهو لا يتجزأ والديمقراطية كذلك.
ج – لقد بينت الدراسات العلمية وجود ارتباط وثيق بين ثلاثية عضوية[8] لا بد من الانتباه إليها:
1- بين مستوى التنمية بمختلف أبعادها والاستثمار على مستوى حجم الاستثمار وخاصة كثافته (الاستثمار/السكان).
2- بين الاستثمار ومختلف المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية من تحضر وتعليم ومستوى الدخل وتوفر المرافق المنزلية والصحة والتشغيل والفقر… الخ. كما أن الدراسات في العالم تبين علاقة وطيدة بين مستوى التنمية والمستوى المعيشي للسكان ومدى مشاركتهم في الحياة العامة (الجمعيات، الأحزاب…).
3- بين الاستثمار الخاص والعمومي حيث أن الاستثمار الخاص يتبع دائما الاستثمار العمومي أي الدولة ويستغل التجهيزات الأساسية والامتيازات الممنوحة ويختار أنسب المواطن التي توفر له الربح الأوفر. هذا الارتباط يجعل الدولة في صلب إشكالية التنمية الجهوية والمحلية مهما كانت درجة تخليها عن الحياة الاقتصادية بصفة مباشرة وتعويض الدولة الراعية بالدولة الموجهة.
فالإستثمار يمثل الركيزة الأساسية في عملية التنمية ومن هنا ندرك أهمية الدولة والقطاع العام لدفع التنمية في المناطق الفقيرة والداخلية وحث الاستثمار الخاص. فالاستثمارات كانت تتركز بنسبة 80 بالمائة في السواحل حتى في الستينات التي تميزت بإحداث الأقطاب الصناعية وذلك من جراء أزمة بنزرت وتأميم بعض الصناعات وبعث المناطق السياحية. فأعلى النسب التي تمتعت بها المناطق الداخلية هي الثمانينات رغم ما يبدو في الظاهر وذلك نتيجة المشاريع التي تم بعثها آنذاك مثل المحطة السياحية بطبرقة أو مصنع السيارات بالقيروان أو المشاريع التي أنشأت بالداخل: مصنع الاسمنت بأم الكليل والسكر ببوسالم… وقد بلغت نسبة الاستثمار بــ 34 بالمائة بالمناطق الداخلية في هذه الفترة.
6 – المفارقة المجالية : من ثنائية إلى أخرى : منطلقات وتداعيات الثورة
لقد تمفصلت الثورة التونسية حول عنصرين هامين من حيث انطلاقها وصيرورتها وتداعياتها تمثلا في ارتباطها بثنائية مجالية كانت منطلقها ولاتزال تلازمها وربما ستؤثر حتما في تداعياتها وتبعاتها :
1- انطلاقها من المناطق الداخلية الفقيرة والمهمشة والتي تتميز بارتفاع نسبة البطالة عامة ولدى حاملي الشهائد العليا خاصة والذين تحولوا بحكم أوضاعهم إلى مبحرين مناضلين في مناطق تشكو من الهشاشة الاجتماعية والتهميش الاقتصادية جعلتهم في معركة دائمة في سبيل الشغل والكرامة وهو ما يفتح باب النضال الاجتماعي والاقتصادي. هذا الوضع جعل المناطق الداخلية حساسة أكثر إلى الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية كالبطالة والفساد والتهميش والفقر والتنمية والكرامة. فالتهميش كان اجتماعيا واقتصاديا في هذه المناطق وهذا ما يفسر منطلقات الثورة وما يكتسيه البعد المجالي من أهمية بالغة.
2- المناطق الساحلية التي تميزت منذ الاستقلال بتحسن هام في الأوضاع الاجتماعية وتركز هام للأنشطة الاقتصادية العصرية والمستقطبة وارتفاع نسب التحضر وتطور المرافق والتجهيزات مما جعل نسب البطالة منخفضة نسبيا وجعل الفئات المتوسطة تحتل حيزا رغم تحييدها نوعا ما وتهميشها على المستوى السياسي مما يبوئها إلى لعب دور هام على مستوى المطلبية السياسية. فالتهميش السياسي كان المنطلق والعامل الأساسي في .
لقد انطلقت الثورة من المناطق الداخلية عامة والوسط الغربي أساسا وهي المنطقة التي تحتل المراتب الأخيرة في كل شيء إلا الخصاصة والفقر والبطالة من منطلق اجتماعي واقتصادي لتنتشر في ربوع البلاد من خلال الشبكات الاجتماعية وتتدرج إلى أن تصبح ذات صبغة سياسية بالأساس في السواحل والمدن الكبيرة تحمل هموم النخب الحضرية وطموحها المقموعة إلى الديمقراطية والحرية أفضت بدورها إلى تجذير الانتفاضة لتصبح ثورة بأتم معنى الكلمة .
هذه الثنائية نجدها حتى في صيرورة الثورة التي تجذرت وتبلورت مطالبها من خلال من خلال اعتصامي القصبة ولولاهما لما وقعت القطيعة ولما حدث التجذر في المطالب والتنظيم. هذه العتصامات انطلقت بدورها من المناطق الداخلية والأحياء الفقيرة بالعاصمة بدورها والتحقت بها بعد ذلك المناطق الأخرى المتوسطة أو الميسورة نوعا ما وتساهم بحكم طبيعتها في تأطيرها وربما في الاستحواذ عليها لاحقا. ففي الحالتين نجد التهميش يمثل المنطلق ويحدد طبيعة المطالب والأطراف المتدخلة في كل مرجلة.
لا لتهميش البعد الترابي
المتمعن في الحوارات والنقاشات الجارية حاليا يدرك أنه وقع تهميش، مقصود أم لا، الجانب المجالي من النضال لفائدة الجانب السياسي الذي طغى ولا يزال يطغي على الخطاب السائد في وسائل الإعلام والأحزاب والنخب بمختلف أنواعها واتجاهاتها بما في ذلك الهيئة العليا والحكومة المؤقتة. فالمواضيع المطروحة تتمثل في الانتقال الديمقراطي والتعددية والديمقراطية والمجتمع المدني والتناصف والقانون الانتخابي… أما الحوار على المسألة الاقتصادية والترابية والتنمية الجهوية والتي كانت منطلق الثورة فهو لا يزال محتشما جدا إن لم يكن غائبا تماما. فالتنمية الجهوية والمحلية ينظر إليهما وكأنهما مسألة فروق بسيطة وجب تقليصها أو مواطن شغل يتم خلقها أو مسألة اجتماعية بحتة تتطلب التدخل الظرفي والمعونة مما يجعلهما تطرح بشكل مغلوط تماما.
هناك إذن حيف مزدوج تمثل في التوظيف السياسي من جهة ومن خلال حدة المطلبية المهنية المؤطرة أو الموجهة التي سادت البلاد وخاصة المؤسسات الاقتصادية من جهة أخرى. هذا الوضع أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي من خلال ارتفاع نسب البطالة وغلق العديد من المؤسسات في الوقت التي انطلقت في الثورة بسببها حيث أن عدد العاطلين عن العمل ارتفع بعشرات الآلاف منذ جانفي 2011 في حين أن النقاشات تمحورت أساسا على المستوى السياسي-الإيديولوجي : اللائكية، علاقة السياسة بالدين، التناصف…
من جهة أخرى، فإن قوافل التضامن والاعتراف لقافلة الكرامة والحرية لم تكن في نفس المستوى وكانت دون التوقعات : فالحكومة المؤقتة لم تقم إلا بتدعيم المبالغ التي كانت مخصصة لهذه الجهات في إطار البرامج الجهوية للتنمية (251 مليون د) وتغيير مقاييس التوزيع المجالي في شكل تمييز إيجابي يجعل المناطق الداخلية تستقطب 75 بالمائة من هذه المبالغ.
فالحكومة الانتقالية لا يمكن لها أن تحدد معالم تلاختيارات المستقبلية بحكم طبيعة مهمتها لكنها في نفس الوقت هي مطالبة باتخاذ إجراءات تهدئة اجتماعية وسياسية ودفع للإقتصاد الوطني لكن المجتمع المدني مطالب هو كذلك بدفع الحوار لتناول المواضيع الأساسية التي كانت منطلق الثورة.
6 – أهداف ومقومات التنمية الجهوية
هناك عدة أهداف للتنمية الجهوية يمكن أن نذكر أهمها وتتمثل أساسا في الإنصاف والنجاعة والتوازن والتضامن.
أ – تمكين الجهة من أن تقوم بذاتها على المدى البعيد حسب الموارد الذاتية والطاقات المحلية والخصوصيات المحلية لكي لا تبقي في إعالة تامة من طرف الجهات الأخرى أو الدولة وفي تبعية كاملة تترقب الإعانات وذلك عن طريق عملية إعادة التوزيع التعديلي على غرار التوزيع الاجتماعي والقطاعي لفائدة الفئات الفقيرة أو القطاعات الهشة أو المأزومة ولو أنها تشكل عملية لا مفر منها ولا غنى عنها وذلك من خلال خطط تنموية جهوية ومحلية على المدى المتوسط والبعيد تمكن الجهات والمناطق من تركيز اقتصاديات متنوعة، متوازنة، متكاملة، قادرة على أن تقوم بذاتها ولو بنسبة محدودة وذلك في إطار اختيارات وطنية واضحة تساهم فيها كل الأطراف وخاصة الجهوية منها.
فالعديد من المناطق لا توجد بها من مواطن الشغل إلا ما توفره الوظيفة العمومية؟ فأزمة الحوض المنجمي سنة 2008 مثلا يرجع النصيب الأوفر في اندلاعها إلى هذه المعضلة والتي تمثلت في تراجع أهم المشغلين في الحوض منذ الاستقلال وهما الوظيفة العمومية وشركة الفوسفاط التي تراجع التشغيل فيها من 12000 على ما دون 5000 موطن شغل منذ السبعينات نتيجة تعصير الاستخراج.
ب – الاستغلال الأمثل لكل الموارد والطاقات الموجودة بمختلف الجهات والمناطق بصفة ناجعة دون إسراف أو تبذير تبعا لمتطلبات التنمية المحلية التي تعتمد أساسا على الموارد المحلية بشكل يستجيب للاستدامة لنترك للأجيال القادمة مقومات التنمية. كما أن مفهوم الطاقات والكفاءات يجب يتغير، فهو لا يكتفي بالإطارات والتكوين العالي والمهني والتقني فقط وإنما يرقي إلى خلق أفراد أو مجموعات فاعلة، قادرة على أخذ المبادرة وتغيير الواقع المحلي والجهوي وبالتالي لا بد من تغيير للعقليات وانعتاق للحريات ليتم خلق فاعلين جهويين ومحليين بتشجيع من الدولة.
ج – التنمية المنصفة لكل الجهات والمناطق والتي تصب في باب الإنصاف بين الأفراد، والتي تحتمها المواطنة. يمكن أن يتم ذلك من خلال العمل على الحد من التفاوت الجهوي والمحلي عبر مراحل يتم ضبطها تتحدد فيها الأهداف والآليات والاستراتيجيات والأطراف المعنية.
فالمطلوب الآن ليس عكس الآية ووضع حد للدينامية الاقتصادية التي تميز بعض المناطق والولايات والتي ساهمت ربما في إنقاذ الوضع العام في ضل الأزمة الحالية وإنما العكس حيث يتوجب المحافظة عليها لإنقاذ الاقتصاد الوطني في هذا الوضع المتردي وللحفاظ على حد أدنى من النمو الاقتصادي لتلبية الحاجات المتزايدة وتعويض ما وقع إتلافه أثناء الأحداث الأخيرة. من جانب آخر يجب العمل على الحد من الفوارق الجهوية والمحلية وذلك بإعطاء الأولوية للمناطق المحرومة من خلال، ولما لا، التمييز الإيجابي (ségrégation positive) مع وضع برنامج طويل المدى يتمثل مثلا في تقليص الفوارق بنسبة محدد خلال كل عشرية ( بنسبة 50 بالمائة مثلا) مثلا وذلك على كل المستويات : الدخل والتجهيزات والمرافق والبطالة على غرار الأهداف الألفية للتنمية على المستوى العالمي.
فالتوازن الجهوي يمثل عنصرا أساسيا في نحت مجال وطني متوازن يضمن التنمية المستدامة التي لا تقوم إلا ببنية مجالية وترابية متوازنة وإمكانية التكيف والتأقلم مع الظرف الاقتصادي والسياسي العالمي منه (الاستقطاب العلمي، أوروبا) والجهوي (المتوسط، المغرب العربي، العالم العربي). فالتوازن الجهوي يصب في اتجاه المصلحة الوطنية حيث يجنب البلاد الهزات ويمكن الاقتصاد من التأقلم مع الظرفية الاقتصادية العالمية والجهوية ويتجنب حدة الأزمات الجهوية.
هـ – التضامن الترابي يمثل ركيزة أساسية لمفهوم الوطن ويؤسس للمواطنة التي تنطلق من الانتماء (الماضي والحاضر) في اتجاه المستقبل المشترك. لهذا الانتماء ثلاثة أبعاد على الأقل : محلي وجهوي وقطري. فلا يجب أن يطغى الواحد على البعدين الآخرين وإلا وجدنا أنفسنا في الجهوية المقيطة أو المركزية المشطة التي تنفي وجود الجهة أو المحلية الضيقة التي ترتبط بولاءآت مصلحية أو عرقية ؟
كما أن المواطنة تقتضي كذلك بعض الحقوق والواجبات نجد من بينها التضامن كحق وكواجب عل كل فرد وجهة وليس من باب الشفقة والمن والسخاء التي تدخل في باب آخر يمس الوجدان والأخلاقيات.
المقومات
للتنمية الجهوية عدة مقومات يمكن أن نقتصر على أهمها : الحجم المناسب والتنوع اللازم والبنية المجالية والسلطة الجهوية الممثلة والإمكانيات المالية التي تتناسب والمهمة المناطة بعهدة الجماعة الجهوية أو المحلية.
أ – الجهة تمثل المستوى الأول للتنظيم الترابي والسياسي للقطر وتضم عدة ولايات لكي تتمكن من أن تمثل سوقا اقتصاديا مناسبا على الأقل بالنسبة للمؤسسات الصغرى وحتى المتوسطة وبالتالي يتطلب ذلك حجما يفوق المليون نسمة.
هذا الحجم وما يتبعه من المساحة والحاجيات (السكان والمؤسسات) يمكن بدوره من استغلال مقتصدات الحجم والتجاور لتدعيم المراكز الحضرية وإنشاء شبكات حضرية متراتبة وتركيز عواصم إقليمية وجلب الخدمات ذات المستوي الإقليمي.
ب – التنوع الجهوي : لا بد من أن تكون الأنشطة الاقتصادية تتسم بحد أدنى من التنوع يضمن التكامل والاندماج الداخلي لمختلف مناطق الجهة. فالتنمية الجهوية لا تقوم على التخصص. فكل الأقاليم المتخصصة تدخل في أزمة مهما طالت الفترة ونذكر هنا مثلا الحوض المنجمي، السياحة منذ اندلاع الثورة، الأحواض المنجمية ومناطق الغراسات الكبرى في العالم،… فبقدر ما يكون التخصص إيجابيا ومطلوبا بالنسبة للمستوى المحلي نظرا لصغر المساحة الترابية المعنية بقدر ما يكون التنوع هو القاعدة بالنسبة للجهة والإقليم تبعا لخصوصيات كل منطقة وبحثا عن التكامل المنشود للاقتصاديات المحلية في إطار خلق ترابط لمختلف شبكات النقل والاتصال والعمل على خلق اقتصاد يعتمد على مقتصدات الجوار والترابط ونظم الإنتاج الترابي وشبكات الانتاج.
ج – وجود شبكة حضرية : تتوفر الجهة على عاصمة جهوية تؤمن التأطير الترابي وتوفر الخدمات الاقليمية لمجموع سكان الجهة. هذه العاصمة تشع على نظام حضري متراتب يوفر مختلف المستويات الحضرية. وهذه عملية تتطلب عدة سنين في الواقع لكن بداية الغيث قطر ولا بد من الشروع في عملية البناء منذ الآن مهما كانت الفترة المتطلبة لذلك.
د – الحياة السياسية للجهة : تقتضي التنمية الترابية وجود فاعلين محليين وكذلك توفر حد أدنى من السلطة الجهوية والمحلية مما يتطلب تمكين الجهة والمنطقة والبلدية من مجالس ممثلة منتخبة تدير شؤونها بنفسها وتسهر على تصور خطط التنمية والتهيئة وعلى تنفيذها ومراقبتها ومتابعتها.
فبجانب الديمقراطية على المستوى الوطني التي تسمح بالتعددية والتداول على الحكم وفسح المجال للحريات العامة وأمام المجتمع المدني، لا بد من تمكين الجهات من حياة سياسية تضمن الديمقراطية المحلية على عدة مستويات وتمثل في الوقت نفسه سلطة مضادة تعدل نزعة التركز والانفراد بالسلطة. هذه الديمقراطية يمكن أن تكون على مستوى البلدية والمعتمدية والولاية وكذلك الجهة التي يحب خلقها.
هـ – تمويل التنمية الترابية : لا تستقيم أي عملية تنموية دون توفر التمويل المناسب مما يستوجب إرساء آليات وإنشاء مؤسسات للتمويل في شكل بنوك وشركات تنمية جهوية وبعث صندوق للتنمية الجهوية ولما لا المحلية لتجنب التداخل بينهما وتحوير المجلة الجباية العامة والمحلية لتمكين الجهة والمناطق الفقيرة من موارد مالية مناسبة تبعا لمبدء التضامن المواطني الذي ذكر سابقا. فالمناطق التي تضم عدة أنشطة اقتصادية كالصناعة والسياحة تتمتع بموارد مالية جد مرتفعة متأتية من الجباية المحلية في الوقت التي تعاني فيه المناطق الفقيرة من نقص فاحش في الموارد تجعلها عاجزة حتى على القيام بالخدمات الأساسية كالإنارة والحدائق العامة وجمع الفضلات المنزلية. فباسم التضامن المواطني من واجب المناطق الثرية أن تساعد المناطق الفقيرة ومن حق هذه الأخيرة كذلك أن تطالب بالإعانة من منطلق حق المواطنة وليس من باب الشفقة والهبة والسخاء.
كما أن خلق هذه الهيئات الترابية يتطلب تدعيمها بموارد مالية مناسبة للدور الذي ستقوم به وبالتالي لا بد من تخصيص جزء محدد من الموارد الجبائية لتمويل مخططات ومشاريع الجماعات الترابية بمختلف مستوياتها.
و – فك الانحباس الترابي (désenclavement) وربط الشبكات الجهوية ببعضها مما يضمن الاندماج الداخلي للجهات والارتباط بالمناطق المجاورة اعتمادا على مقتصدات الجوار (économie de proximitéé) ومقتصدات الترابط (connectivité) مما يمكن من إرساء أنظمة إنتاجية ترابية (système de production local, SPL)وخلق شبكات إنتاجية (filières) تبعا لأحواض التشغيل(bassins d’emploi) …
ز – إعادة النظر في اللامركزية واللامحورية : تطرح مسألة التنمية الجهوية إشكالية اللامكزية واللامحورية والحوافز الممنوحة (الجبائية والمالية والسياسية…) والآليات المعتمدة في ذلك. فهل هي كافية لتحفيز المستثمرين وجعلهم يتوطنون في المناطق الداخلية؟ وهل هي في مستوى تطلعات المستثمر والسكان على السواء؟ ما هي الصورة الذهنية لدى المستثمر وكيف يجب تغيير الصورة الذهنية لهذه المناطق لدى المستثمر والشباب والمواطن بصفة عامة سواء كان من أصيلي الجهة أو من خارجها؟ لقد آن الأوان أن نقوم بدراسات تقييمية معمقة لسياسة اللامركزية بعد أربعين سنة للوقوف عند الهنات لتفاديها والايجابيات لتدعيمها؟
كما أن المركزية المشطة جعلت المؤسسات التي تركزت في الجهات محدودة جدا تعد على أصابع اليد الواحدة وأن المصالح التجارية بقيت بالعاصمة مثل شركة فوسفلط قفصة أو المجمع الكيمياوي أو شركة الأثاث « موبلاتكس ». أما على مستوى الإدارة فإن المركزية لا تزال مشطة وأن الإدارة الجهوية لا تملك حرية القرار.
ح – الحوكمة الترابية : تتمثل الحوكمة الترابية أو الحكم الرشيد الترابي (géogouvernance) في التشريك الفعلي والايجابي لكل الأطراف المعنية بعملية التنمية الترابية وتوزيع الأدوار بينها وتمكين المواطن من المشاركة في الحياة العامة التي تهم الحي والمدينة والمنطقة والولاية والجهة من خلال توظيف التكنولوجيات الحديثة للاتصال في شكل مواقع وبوابات تفاعلية تهم مختلف المستويات لخلق مواطن جديد يسهم في نحت معالم المجال و إطار العيش الذي يطمح ويتطلع إليه .
بهذه الكيفية تكون جل الأطراف المعنية بعملية التنمية الجهوية وكذلك المحلية لها ارتباط ترابي بالمنطقة تدعم الانتماء والارتباط الوجداني وتسهم في تنمية المنطقة وتضمن الاستدامة. بهذا التمشي تستطيع الجهة أن تمثل سلطة ترابية ممثلة للسكان وليس للسلطة المركزية تساهم في إرساء الديمقراطية المحلية وتشكل في نفس الوقت سلطة مضادة تساهم في تعديل السلطة المركزية وتساهم في الحد من زيغها والنزعة الاستبدادية لكل سلطة.
ففي الإطار العام للانفتاح والعولمة، من الصعب جدا أن يقع الآن العدول عن بعض الاختيارات التي اتبعتها البلاد التونسية لكننا في نفس الوقت لا يمكن أن نواصل معاملة الجهات بنفس المنطق والطريقة. فالتمشي لا بد أن ينعكس تماما من خلال التركيز على الإمكانات وليس على الضغوطات والمعوقات. فالتنمية يجب أن توظف لفائدة الإنسان على مستوى الحاجيات والتطلعات والحقوق، أي المواطنة لكي نتجنب الانحرافات الكامنة في المطالبة بالتنمية الجهوية الضيقة تتمثل في الانزلاق نحو الجهوية المقيطة التي تؤدي إلى الانغلاق والانحباس والتقوقع في الهويات المحلية والقبلية والجهوية…
ففقدان الديمقراطية يؤدي حتما إلى الدكتاتورية والظلم والمسألة الجهوية لا تمثل الاستثناء في هذا الباب ولا تخرج عن القاعدة. فالديمقراطية الإبحارية تؤسس للحوكمة الترابية التي تمكن المواطن من متابعة والمساهمة في شؤون الحي أو البلدية أو الجهة والتأثير على القرارات بصفة مباشرة بواسطة التقنيات الحديثة للاتصال. هذا التمشي يفضي إلى تنمية ترابية وفاقية وتهيئة ترابية تتماشى مع تطلعات المواطن وتعدل من عدم التكافؤ وتؤمن بنية مجالية مستدامة. فالمطلوب هو القطع مع الحكم العمودي والمسقط من أعلى (Top-Down) إلى الحوكمة أو الحكم الرشيد والنابع من القاعدة (Bottom-Up) والتشاركي.
1 – وضع المسألة الترابية في صلب الطرحات والحوارات والبرامج السياسية لمختلف الاحزاب والمترشحين لتهيئة أعضاء المجلس التأسيسي منذ الآن بمختلف التصورات والاختيارات وذلك لخلق الجهات وتمكينها من الآليات الضرورية على المستوى القانوني والمؤسساتي والمالي لتلعب دور السلطة المضادة وتمكن من تعديل النزعة الاستبدادية للسلطة المركزية.
2 – الانتقال من سياسة التعويض والتعديل وإعادة التوزيع الترابي إلى سياسة التنمية الترابية الذاتية والمتوازنة والمتأقلمة مع معطيات كل منطقة وخصوصياتها.
3 – اعانة الجهات على التصور والاستباق لتحديد المشاكل وإعداد البرامج من خلال تحديد الفاعلين وإعانتهم على الاضطلاع بدورهم في الجهة بتقديم الخبرات الضرورية لذلك.
4 – تحديد الأهداف الجهوية مع خارطة الطريق لإنجازها عبر مراحل واضحة ومحددة بالنسبة للفوارق : تخفيض الفوارق بنسبة 50 بالمائة كل خمس سنوات مثلا.
5 – تحديد الأولويات على المستوى المحلي والاجراءات الاستعجالية.
6 – اعتماد الشكل التعاقدي والتشاركي تسهم فيه كل الأطراف : الدولة، الجهة، البلدية، الخواص…
7 – تطوير شبكات التضامن الاجتماعي والمجالي من خلال الارتباطات التقنية والمجالية ومنظومات الإنتاج الترابي (SPL)…
8 – الحد من معوقات المناطق والجهات واستغلال الإمكانات الجهوية في إطار قانون توجيهي للتنمية والتهيئة الترابية يحدد الأهداف .
_______________
[1] – وقع التفكير في الثمانينات في خلق الجهة خاصة للعاصمة تونس حيث كانت تضم 3 ولايات لكن وقع العدول عن الفكرة لأسباب سياسية.
[2] – في البداية كانت هناك ثلاث ولايات تحمل أسماء الجهة لكن وقع تغيير الإسم بعد مدة فصرة جدا: الجريد – نفزاوة – الوطن القبلي
[3] – نذكر هنا حركة هامة لتغيير أسماء العديد من المناطق والمدن وكذلك حملة اللقب العائلي التي سعت إلى القطع مع كل ما هو سلطة موازية وكل ما من شأنه أن يذكر بها وذلك بإسم الحداثة والنجاعة والشفافية
[4] – تم تأميم الأراضي الفلاحية التي كانت لدي المستعمر والتي تمثل أغنى الأراضي وقد قع في البداية بعث التعاضديات المثالية حول وعلى هذه الأراضي
[5] – تم اجتماع اللجنة الوزارية للتهيئة الترابية لأول مرة سنة 1979 وقامت بعدة توصيات في هذا الباب (A Belhedi 1972 – L’aménagement du territoire en Tunisie. FSHS, Tuniss)
[6] – كنا قد شاركنا في إعداد الدراستين الأخيرتين
[7] – تم إثر الانتخابات البلدية الأخيرة لسنة 2010 الانتقال من 7 إلى 22 بالمائة بالنسبة للمعارضة التي نجحت في الانتخابات في حركة لإعطاء صبغة تمثيلية لهذه المجالس الجهوية وذلك في جويلية 20100.
[8] – أنظر الدراسة التي قمنا بها والدراسات التي تالتها : A Belhedi – 1992 : Espace, société et développement. FSHS, Tunis
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق