الجغرافيا بين المفهوم والمصطلح
د. عبد الله العبودي - أستاذ الجغرافيا البشرية بالمدرسة العليا للأساتذة تطوان :
سنحاول في هذا العرض تقديم بعض الملاحظات العامة المتعلقة بمدى حضور المفهوم والمصطلح في الجغرافيا.
هل يمكن الحديث عن مفهوم خاص بالجغرافيا؟ وهل يمكن الإقرار بمصطلح خاص بالجغرافيا؟.
إن الإجابة عن هذين السؤالين تفرض علينا:
- تحديد مفهوم الجغرافيا بشكل عام
- علاقة الجغرافيا بالعلوم الأخرى
- المفهوم في الجغرافيا
- المصطلح في الجغرافيا
- حدود استعمال المفهوم أو المصطلح في الجغرافيا
- اقتراحات عامة.
1- تحديد مفهوم الجغرافيا :
أول ما يثير الانتباه هل لفظة "جغرافيا" مصطلح أم مفهوم؟ فالكلمة في الأصل كلمة يونانية وتعنيGéographie : Geo هيالأرض وgraphieهي الوصف بمعنى أن الجغرافيا علم وصف الأرض. إننا نتعامل مع مصطلح غريب عن العربية منذ آلاف السنين، حتى أصبحنا نعتبر أن كلمة جغرافيا هي من ابتكارنا وأن هذا الاصطلاح عربي وهذا طبعا يتنافى مع الصواب، فالجغرافيا يمكن أن تكون مصطلحا ويمكن أن تكون مفهوما ولتفسير هذه الإشكالية لابد من الوقوف على بعض الأسس التي تحدِّد المفهوم وتلك التي تحدد المصطلح. قبل ذلك يمكن تلخيص المفهوم العام الذي تتناوله الجغرافيا في النقط التالية :
* دراسة علاقة الانسان ببيئته الطبيعية وأساليب تفاعله معها
* دراسة نتائج التفاعل في أفق فهم وتحديد الميكانزمات والقوانين المتحكمة فيها،
* دراسة التوزيع المجالي للعناصر الطبيعية والبشرية بالاعتماد على المشاهدة والوصف في مرحلة أولى ثم التحليل والتعليل بعد ذلك.
إن الصعوبة التي تعيق الجغرافيا هي أنها علم لا يمكن دراسته بمعزل عن العلوم الأخرى، فهناك فريق يقول أن تداخل الجغرافيا مع باقي العلوم يعطيها قوة معرفية وبالتالي شخصية واضحة. و هناك فريق آخر يقلل من أهميتها العلمية باعتبارها عديمة الشخصية لا ترتكز على أسس علمية خاصة بها، وأنها مادة معرفية تصلح فقط لشحن ذهن المتلقي بأفكار جاهزة يمكن للوسائل السمعية والبصرية الحديثة توفيرها بسهولة.
2- ماهي العلاقة الموجودة بين الجغرافيا والعلوم الأخرى؟
لا شك أن إشكالية التدقيق في المصطلحات والمفاهيم من الإشكاليات الحساسة المطروحة على الباحثين في مختلف العلوم، وقد نالت الجغرافيا قسطا وافراً من الاهتمام من أجل جعلها مستقلة تنفرد بمنظومة مفاهيم ومصطلحات خاصة بها، ورغم هذا فإنها ما زالت تستعمل مصطلحات ومفاهيم اقتبستها من علوم أخرى (شبكة فرينان وروب) مما يجعل أغلب مفاهيمها تبقى مفتوحة الشيء الذي يجعل عِلميتها نسبية بالمقارنة مع العلوم الحقة لأخرى.
فما هي إذن إشكالية المفهوم والمصطلح في الجغرافيا؟
3-3-1المفهوم الجغرافي:
المفهوم هو أفكار جد دقيقة وتصورات عن الواقع في الذهن وتكون محسوسة أو مجردة، انطلاقا من هذه النتيجة نتساءل إلى أي حد يمكن الحديث عن المفهوم الجغرافي؟ لا ريب أن المفهوم في أي علم من العلوم يكون ملازماً له وبالتالي فتطور المفهوم يؤدي إلى الإسراع في تطور العلم والعكس صحيح. ومن خلال هذا تتضح لنا أهمية المفهوم في الفكر الجغرافي الذي لازمه منذ نشأته. إلا أنه بقدر ما تطور المفهوم الجغرافي بقدر ما تطور معه المحتوى الجغرافي وهنا لا بأس من التذكير بتقسيمNorman Gravesالمتعلق بسُلم متدرج للمفاهيم الجغرافية حيث قسمها إلى فئتين :
الفئة الأولى: هي المفاهيم الجغرافية التي تقوم على الملاحظة والوصف وهي بالتالي من المفاهيم المحسوسة مثل الظواهر والأشكال الطبيعية والبشرية القابلة للملاحظة والمشاهدة العينية مثلا التضاريس : جبال، هضاب، سهول، أو نشاط بشري أو اقتصادي: زراعة، مدينة، معمل...
إن هذه الفئة من المفاهيم الوصفية كانت ملازمة للفكر الجغرافي منذ ظهوره رغم كونها عرفت تطورات عبر الحضارات، فمفهوم الأرض مثلاً عند البابليين: ذات شكل منبسط، والمصريون القدامى اعتبروها طويلة الشكل تبعاً لطول وادي النيل إلى غير ذلك من الأمثلة.
الفئة الثانية : وهي مفاهيم تقع في مستوى أعلى من التجريد بالنسبة للمفاهيم الأولى وتحاول أن تعطي مجموعة من التفسيرات والتعليلات لمجموعة من العلاقات التي تميز المفهوم وذلك تمشيا مع التطورات التي عرفها الفكر الجغرافي، فظهور النظرية المادية لكانط وديكارت اللذين أدخلا مبدأ السببية في العلوم الحقة، وظهور نظرية التطور لداروين وكذلك الاكتشافات الجغرافية الكبرى ساهم وبشكل مباشر في تطور المفهوم الجغرافي وجعله مسايراً للتطورات الحديثة.
إذن المفهوم في الجغرافيا الحديثة اعتمد على التفسير والتعميم فالتفسير يقتضي البحث عن الأسباب التي تؤدي إلى وجود ظاهرة مجالية من حيث مورفلوجيتها ومكانها وحركتها. أما التعميم فيتجلى في تعميم المفاهيم ومبادئ وقوانين ونظريات التفسير عبر بناء "مفاهيم ومبادئ وقوانين ونظريات من أجل الرفع من مردودية الجغرافيا" ومن خلال هذا نريد أن نشير إلى أن الجغرافيا قد أخذت بعض المفاهيم من العلوم الأخرى خاصة العلوم المتشابهة سواء من العلوم الطبيعية، العلوم الاجتماعية أو الاقتصادية.
وبهذا أصبحت تتوافر الجغرافياعلى بعض المفاهيم المختلفة باختلاف هذه الفروع العلمية، مما أدى إلى انقسامالجغرافيا بصفة عامة إلى جغرافيا طبيعية وجغرافيا بشرية وهذه الأخيرة بدورها تفرعت إلى مجموعة من الفروع كل فرع مستقل بمنظومة مفاهيمية خاصة.
3-2 المصطلح الجغرافي :
المصطلح تعبير لفظي دقيق، ويجب أن يحظى هذا اللفظ باتفاق الباحثين ويتكون من كلمة أو عبارة أو رمز، وهناك مصطلحات خاصة وأخرى عامة.
المصطلحات العامة : هي التي نجدها مشتركة بين مختلف العلوم، فلا ريب أن نجد الجغرافيا توظف مجموعة من المصطلحات التي توظفها هذه العلوم، فمنها ما تتوافق في الاستعمال اصطلاحا ومفهوما كالديمغرافيا بالنسبة لعلم السكان، المردودية في الإنتاجية في علم الاقتصاد، الزمن الجيولوجي بالنسبة للجيولوجيا. ومنها ما يتوافق في الاستعمال اصطلاحا لكن يختلف من حيث المفهوم مثل مصطلح "مجال" الذي يختلف توظيفه في الجغرافيا عن الأدب أو الرياضيات، أو مصطلح بنية الذي يختلف توظيفه كذلك حسب العلوم.
أما المصطلحات الخاصة فهي التي تهم علماً معينا ومن هنا يمكن طرح السؤال التالي : إلى أي حد استطاعتالجغرافيا أنتؤسس مصطلحات خاصة بها؟ فإذا كانت هناك اجتهادات على المستوى العالمي منذ القرن 18 في موضوع توحيد المصطلحات الجغرافية فإن هذه الاجتهادات تبقى جد محتشمة على مستوى الدول العربية؟
بصفة عامة الفكر الجغرافي لا يخرج عن الازدواجية المشار إليها سابقا (المصطلحات العامة والمصطلحات الخاصة)، إلا أن المشكل الذي يطرح نفسه بالنسبة لهذا الفكر هو تعدد المرجعية اللغوية لهذا المصطلح، بحيث نجد أن هناك مصطلحاً معرباً - مصطلحاً مقتبساً - ومصطلحاً أصيلاً. فبالرغم من بعض التجاوزات، يبقى المشكل الأساسي في الوطن العربي هو المصطلح المعرب. هل هناك قواسم مشتركة يجب احترامها للوصول إلى مصطلح معرب موحد. فأسباب اختلاف المصطلحات في الوطن العربي ترجع بالأساس إلى اختلاف المصادر المعتمد عليها، ونتيجة لذلك نجد اختلال"مدلول المصطلحات الجغرافية باختلاف الأقطار العربية". فهناك أقطار عربت مصطلحاتها عن الأصل الإنجليزي، وأخرى قامت بتعريب مصطلحاتها عن الأصل الفرنسي. فكيف يمكن أن نوحد المصطلح في الوطن العربي، ونحن منقسمون إلى منظومة لغوية فرنسية وأخرى إنجليزية. كما أن عدم الالتزام بما تصدره المجامع والمؤسسات العربية من مصطلحات، ونخص بالذكر مكتب تنسيق التعريب بالرباط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، مجمع اللغة العربية ببغداد. كل هذه المؤسسات لا تتوفر على سلطة لفرض نتائجها، وتبقى هذه المجهودات معلقة.
4- حدود استعمال المصطلح الجغرافي الموحد :
تطرقنا سابقا إلى المرجعيةاللغوية الاستعمارية التي تحد من إيجاد مصطلح موحد. فإذا تصفحنا المصطلحات الجغرافية المنشورة الصادرة عن مختلف المؤسسات العربية، يمكننا إصدار حكم مفاده أن هناك فَبْرَكَة للمصطلحات الجغرافية، حيث نجد أغلبها ثقيلة على الأذن لا يمكن للمتلقي أن يتداولها بسهولة عادية، والأمثلة على ذلك كثيرة:
كمأة،تَرْفَاص : باللغة المحلية المغربية | la fruffe |
مكأة - المكان الذي تزرع فيه | la truffière |
تنافس | transfluence |
الشرشور | purson |
الخرافيش | piez |
الشخاريب | - |
وبصفة عامة نجد، نحن المهتمين بالجغرافيا، سهولة استعمال المصطلح الفرنسي، في فهمه وتطبيقه (المرجعية اللغوية الاستعمارية المؤثرة في تكويننا الأساسي والثانوي) لأن هذا المصطلح يحترم الاشتقاق اللغوي للكلمة مثال:
الهجرة | Migration |
نزوح | Emigration |
توافد | Immigration |
تراقص أو هجرة تراقصية | migration
pondulaire
|
قلع الأشجار | deboisement |
غرس الأشجار | reboisement |
الاجتثاب أو حرق الأشجار | defrichement |
إزالة الحشائش | debrouissouillage |
العدن، أو إزالة الأحجار | Depienement |
وبصفة عامة فالمصطلح الموحد في الجغرافيا يبقى أملاً منشوداً نتمنى أن يتحقق وفق منظور شمولي يحترم الخصوصيات العامة للبلدان العربية، فبدون استدعاء المتخصصين في المادة لا يمكن اطلاقا الوصول إلى مصطلح جغرافي علمي موحد، ونسوق في هذا العدد مثالين:
حين نريد تعريف مصطلحespace هناك مرادفات كثيرة منها : الفضاء- المعمور -المكان - المجال.
فعدم الإلمام بالمحتوى العلمي لكلمةEspace يجعلنا نقابله بفضاء أو مكان أو معمور. والفضاء يختلف عن المكان لأنه، حسب ابن منظور في لسان العرب، هو المكان الخالي من الأرض، في حين المكان هو مصطلح تجريدي، كما أن المعمور هو المجال المسكون فقط تبقى الكلمة المناسبة ل Espaceهي المجال. ولماذا المجال وليس الفضاء لأن دارس الجغرافيا يعرف أن المجال الجغرافي تضبطه قواعد جغرافية واضحة.
- التوطين
- التمييز
- التعقيد
- الإحساس
- كما أنه مجال مُعيشEspace vecu
المثال الثاني كلمةville يقابلها في اللغة العربية مدينة. والمدينة تضبطها قواعد لا يعرفها سوى المتخصص.
فالمدينة حسب ابن منظور مشتقة من مَدَن بالمكان أي أقام به وجمعها مُدُن ومدائن (زهرة المدائن) وأصل الكلمة آرامية وتعني القاضي والعادل. وما علاقة القاضي والعادل بالمدينة؟ هي علاقة جغرافية أي أن مكان القاضي أو الحاكم لا يمكن أن يكون إلا في المدينة دون القرية.
كما أن كلمة مدينة تختلف من حضارة إلى أخرى والبعد الجغرافي يميز كل عنصر على حدة
- فالمدينة الإغريقية لا يمكن الحديث عنها إلا بوجودAGORA
- المدينة اليونانية لا يمكن الحديث عنها إلا بوجودFORUM
- المدينة المصرية لا يمكن الحديث عنها إلا بوجودالمعبد
- المدينة الإسلامية لا يمكن الحديث عنها إلا بوجودالمسجد الجامع
- المدينة العصرية أو الأمريكية لا يمكن الحديث عنها إلا بوجود C.B.D Centre Business districtمركز تجاري كبير
ونختتم هذه المداخلة المتواضعة ببعض الاقتراحات التي نراها مساعدة لتوحيد المصطلح الجغرافي.
- أن نأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المحلية لكل بلد عربي من الناحية الجغرافية.
- أن لا نهمش اللهجات المحلية من أمازيغية وسواها لأنها تحمل مصطلحات لها دلالات قوية وواضحة مثل أملو- أسمار- أزغار.
- أن نبتعد شيئا ما عن الأصل اللغوي لأن من شأنه أن يجعلنا نضيف أو نزيل حرفاً ويصبح المصطلح ثقيلاً ومشوهاً.
- أن يساهم المتخصص في إنتاج هذا المصطلح
- أن تخصص شروح كافية للمصطلح ولا نكتفي بالمقابلات الفرنسية أو الإنجليزية.
المراجع
ابن منظور : لسان العرب، دار صادر بيروت
- زكي بدوي : معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان، ط 1986.
- عبد اللطيف فضل الله ومحمد بلفقيه : المصطلحات الجغرافية معجم فرنسي عربي.الدار البيضاء 1983.
- علي وهبة : الجغرافيا البشرية. المؤسسة الجامعية للدرسات والنشر والتوزيع 1986 طبعة 1.
- محمد بلفقيه : الجغرافيا : القول فيها والقول عنها طبعة 1991 الرباط.
- مجلة اللسان العربي : مكتب تنسيق التعريب 1966 عدد 22 1984 مجلد 19 سنة 1980.
- Pierre George : Dictionnaire de la géographie.3ème édition.PUF.1984 Paris
- Alain Rey : la terminologie : Noms et notions.que suis-je. PUF.1979.Paris.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق