المكان واللامكان
إدوارد رلف
Place and Placelessness
Edward C. Relph
ترجمة أ. د. منصور البابور - المكتب الوطني للبحث والتطوير بنغازي 2005 - الجمعية الليبية للتخطيط والتنمية المستدامة :
مقدمة الكتاب :
هذا كتاب في الجغرافيا الإنسانية يبحث في مفهوم المكان واللامكان في رحابة الخبرة الإنسانية الحسية والتي يعتبرها المؤلف جانباً أساسياً من وجود الناس في هذا العالم. كيف يمكن تمييز طبيعة الخبرة بالأماكن وفرزها ؟ وما طرائق اكتسابها ووصفها ؟ ما دلالات الأماكن ومعانيها ؟ وماذا تعني هذه الدلالات والمعاني للمنتمين إلي الأماكن؟ وماذا تعني لغير المنتمين منهم ؟هل تواجه الأماكن المتميزة التي يزخر بها العالم وتعكس التنوع في الخبرة البشرية طمساً، بل تدميراً وابادة قد يصعب تفاديهما ؟ هذا نوع الأسئلة التي يطرحها الكتاب الفريد في موضوعه الناقد في منهجه .
يناقش المؤلف هذه الأسئلة من خلال العلاقة بين الفضاء والمكان مبينا أنواع الفضاءات التي يختبره الشخص عادة وعلاقة هذه الخبرات بإحساسه بالمكان .
تشكل الأماكن بالنسبة لرلف مزجاً بالنسبة للنظام الطبيعي والبشري مراكز ذات دلالة لخبراتنا المباشرة بالعالم … تعرف بتركيز الخبرات والمقاصد علي مواضع معينة انها ليست أشياء مجردة أو مفاهيم بل ظواهر تختبر مباشرة من عالم الادارك الحسي ، أي العالم المختبر . تزخر الأماكن بالمعاني والدلالات وتعج بالأفعال والنشاطات المستمرة ، ولهذا فهي لا تختبر في الحياة العادية باعتبارها وجوداً مستقلاً بل تحس من الفرد والجماعة بمزيج من الجلاء والقتمة في المحيط واللاندسكيب والشعائر والروتين والناس الآخرين والخبرة الشخصية … وضمن سياق الأماكن الأخرى ينفرد كل إقليم بجغرافيته الذاتية وصفاته الطبيعية والبشرية الذاتية .
وكل مكان صغيراً كان أو كبيراً ، له روح راعية مختلفة، لذلك فالكتاب مؤسس علي افتراض أن النظر إلي الأمور بموضوعية في العلوم لطبيعية والإنسانية أدي إلي تحويل كل شيء بما في ذلك لأشخاص إلي أشياء منفصلة خالية من المعني .
إذن يعد هذا الكتاب نقطة تحول رئيسية في البحث الجغرافي من التام شبه تام بالتنظيم المكاني وتحليل اِلأنظمة كما كان شائعاً منذ عقد الستينات إلي توجيه الاهتمام إلي خبرات الناس المباشرة في حياتهم العادية.
تدور فصول هذا الكتاب حول مفهوم المكان ، المحور التقليدي للدراسات والبحوث الجغرافية ولكن هذه المرة بنظرات مختلفة ، مستمدة من الفينومينولوجيا والوجودية وغير ذلك من مذاهب الفلسفة النقدية ، بهدف استجلاء جوهره ورسم هويته ولكن الحس بالمكان غير قابل للتحليل العلمي ، لأنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحياة ومجرياتها المختلفة ، الشيء الذي ربما يفسر إعراض العلماء عن سبر أغواره . وفي حقيقة الأمر فأن ظاهرة المكان لم تحض قبل صدور هذا الكتاب سنة 1976 بدراسة مفصلة من الباحثين وها هو رلف يتصدى لمثل هذه المهمة ويتحفنا بتفاصيل مشوقة عن ظاهرة المكان ونقيضها اللامكان .
وفي سبيل تطوير منهج بديل لفهم البيئة والمكان يدعوا رلف إلي التخلي عن النماذج المجردة والنظريات ، وحصر الاهتمام بالعالم المختبر أي بالمحيط والأوضاع التي يعيش فيها الفرد ويعرفها ويختبرها مباشرة أثناء حياته العادية . يقول رلف في مستهل كتابه أنه قلق بشأن الكيفية التي تعالج بها المسائل البيئة وغير راض عنها ما تكون آلية ومجردة، تنزع إلي تبسيط العالم إلي بني أو نماذج يسهل تمثيلها ولكنها غافلة عن كثير من تفاصيل الخبرة العادي ودلالاتها ….. (و) لأن هذه البني المبسطة عادة ما تستخدم أساساً لمقترحات تخطيط البيئات وتشكيل الناس والأماكن في أنماط يفترض أن تكون أكثر كفاية . جرت العادة أن تصاغ هذه البحوث بلغة العلم _ الموضوعية والحقيقة والنظرية _ التي يبدوا انه أصبح مسلماً بها علي نطاق واسع علي أنها اللغة الوحيدة الصحيحة والدقيقة الصالحة لتفسير المشاكل لبيئية وحلها ” .
الأساس الفلسفي لهذا الكتاب نابع من الفينومينولوجيا التي تستمد مادتها الأولية من الظواهر خبرة المباشرة بالأوضاع التيس يعيش فيها الناس ، سعياً الي توضيح هذه الظواهر بدقة متناهية عن طريق الملاحظة والوصف المتأنين لمعانيها ورموزها .
يشكل عمل رلف ، إذن تطبيقا للأساليب الفينومينولوجية علي ظاهرة المكان ومحاولة جادة لتطوير منهج بديل مبني علي أسس فلسفية وطيدة لدراس البيئة والتعرف علي الطرائق المتنوعة ” التي تكشف بها الأماكن عن نفسها في خبراتنا أو في وعينا بالعالم المختبر ، وبالمقومات المميزة والأساسية للمكان واللا مكان كما تفصح عنه اللاندسكيب ” .
طور رلف عدة محاور رئيسية استعرض من خلاها العلائق بين أشكال الفضاء والمكان وتحديد العناصر المختلفة للخبرة بالمكان ودرجة شدتها حيث يري وجود ارتباطات نفسية عميقة بين الناس والأماكن التي يعيشون فيها ويحسون بها ‘ كما حلل طبيعة هوية الأماكن وهوية قاطنيها من خلال انطباعاتهم الذهنية،وقدم العديد من الأمثلة التي تشهد علي أن الحس بالمكان والارتباط به هو ما يوجد المكان ويشكل اللاندسكيب . يورد رلف مدي واسعا من المعاني والدلالات للفضاء والمكان ، الفضاء غير ملموس ولا شكل له ولايمكن وصفه وتحليله بشكل مباشر . ولكنه يوفر المحيط الذي توجد فيه الأماكن وبالتالي فهو يسقي معناه من أماكن معينة . هنالك فضاء الفضاء الواقعي أو الفطري “،وهو فضاء السلوك الغريزي وأحاسيس اللاوعي الذاتي الذي نعمل ونتحرك فيه عادة من غير تفكير . يقابل ذلك فضاء الإدراك الحسي الناشيء عن الوعي الذاتي ، وهو فضاء ذو بنية واضحة ومعني ولايمكن فصله عن خبرات الإنسان ومقاصده ، وهذا النوع من الفضاء هو الذي يتحول إلي أماكن تحمل دلالات شخصية معينة ، بينما يشكل الفضاء الوجودي البنية الداخلية للفضاء كما تبدو لأفراد الزمرة الثقافية في خبراتهم لحقيقية بالعالم .
يتميز هذا النوع من الفضاء بأنه مقبول من كل أفراد الجماعة لأنهم تأهلو اجتماعياً طبقاً لمجموعة مشتركة من الخبرات والرموز والدلالات.
ينقسم الفضاء الوجودي إلي فضاء مقدس حافل بالرموز والمراكز المقدسة والأشياء ذات المعني وآخر جغرافي له اسم ويؤهله وللناس فيه وفرة من المعاني والدلالات إذ يعبر عن معارفهم الأساسية بالعالم ويعكس خبراتهم وروابطهم المقصودة مع بيئاتهم يواصل رلف مناقشته للأماكن في الفضاء الوجودي ويخلص القول أنه يمكن فهم الأماكن في الفضاء الوجودي علي أساس أنها مراكز للمعاني أومحط نوايا وغايات وليس من الضروري أن تكون المعاني والوظائف المحددة للأماكن هي نفسها متشابهة عند كل الجماعات الثقافية ولا أن تكون المراكز محددة بوضوح بواسطة ظواهر مادية ولكن يجب ان يتوغؤ لها جزء باطني يمكن خبرته بوصفه شيئا مختلفاً عما هو ظاهري.بالنسبة لكثير من الناس المتدينين الأماكن مقدسة وداخلة ضمن فضاء رمزي وقدسي غامر بالنسبة للأوربي أو الأمريكي المعاصر فأن فحوي المدلول الرمزي للأماكن أضعف من ذلك بكثير فهي تحدد في الغالب بالمعاني أو الدلالات الملصقة بالمباني وبأشكال الأرض أو بمناطق في مواقع معينة . ولكن في الحالتين كلتيهما تشكل الأماكن مراكز اختبار ذات معني ضمن نطاق الفضاء المختبر للحياة الاجتماعية العادية .
الأنواع الأخرى من الفضاءات التي يوردها رلف تشمل فضاء العمارة الذي يضمن معالجة متعمدة لإحداث الفضاءات ويمتاز بتنوع التعبير من خلال تصميم المباني الفردية وهو بذلك يعتمد كثيراً علي عبقرية مبدعة وأفكاره المجردة وفضاء التخطيط وهو وثيق الصلة بفضاء العمارة .
يذكر رلف أيضاً فضاء الإدراك العقلي ويصفه بأنه فضاء متجانس متساوي القيمة في كل مكان وفي كل الاتجاهات انه فضاء متماثل وحيادي ، فضاء إحداثي ، فضاء الهندسة والخرائط ونظريات التنظيم المكاني . وهو نوع من الفضاء الذي يستوجب التفكير الجدي ، الذي قد تكون دلالته قليلة للخبرة المباشرة لولا حقيقة أن الأشكال الهندسية والخرائط والنظريات كثيراً ما تكون أساساً للمخططات والتصميمات .
آخر أنواع الفضاء التي يشير إليها رلف هو الفضاء المجرد الذي هو فضاء العلاقات المنطقية التي تمكننا من وصف الفضاء من غير أن نجسد بالضرورة هذه الأوصاف في مشاهدات علمية . انه إبداع حر للخيال الإنساني وبهذه الصفة فهو انعكاس مباشر لما يحققه التفكير الرمزي حيث تهمل كل الاختلافات العينية المدركة بخبراتنا الحسية …. الأماكن في مثل هذا الفضاء مجرد نقط، رموز تشكل عنصر واحداً فقط ضمن نسق كلي من العناصر المجردة تتنوع معاني الفضاء والمكان ودلالتهما بتنوع أنماط الخبرة والوعي بهما فالأماكن تختلف في تفاصيلها الدقيقة وفي دلالتها بقدر اختلاف الخبرات الإنسانية ومقاصدها : هكذا تتباين أشكال الفضاء التي ندركها بوصفها أماكن لأنها جذبت مقاصدنا وركزتها، وهذا التركيز هو ما يميزها عن الفضاء المحيط بينما تبقي جزءاً منه . ولكن معني الفضاء وبالتحديد الفضاء المختبر ينبثق من الأماكن الوجودية والادراكيحسية للخبرة المباشرة .
يقول رلف بين هوية الأماكن كما يراها قاطنوها وبين هويتها كما تبدو للغرباء عنها . يستخدم لهذا الغرض مفهوم الانتماء واللاانتماء ويحدد لكل منهما مستويات مختلفة مفترضاً أنه كلما نجحت البيئة في إيجاد حس قوي بالانتماء تأهلت أكثر لأن تصبح مكاناً أو بتعبير آخر كلما أحس الفرد بأنه راسخ في باطن المكان تأصلت بذلك هويته مع ذلك المكان .
تندرج مستويات الانتماء من انتماء وجودي كامل يكون فيه الحس بالمكان في أشد صوره إلي انتماءات متعاطفة وسلوكية وأخري غير مباشرة ،علي نقيض ذلك ، قد يكون الفرد معزولاً أو منفراً من المكان ما وصفه رلف بالانتماء .
تتدرج مستويات الانتماء من عرضية إلي سلوكية ووجودية .وممالا شك فيه أن مثل هذا التصنيف النوعي لأشكال الانتماء واللاانتماء يساعد كثيرا في توضيح مواقف السكان المقيمين بالأماكن ومواقف الغرباء عنها وهذا يتفق مع هدف رلف في التحري الكامل للإدراك الحسي لدي الأفراد واستخلاص الصور الذهنية الناتجة عن هذا الإدراك . كما نه من خلال المستويات المختلفة للانتماء واللاانتماء تكتسب الأماكن المختلفة هويات مختلفة تظهر براعة رلف في استخدامه لمفهوم اللامكان نقيضاً لحس المكان ويقصد به لاستئصال غير المكترث للأماكن المميزة وأحداث لاند سكيب قياسية نتيجة لعدم المبالاة بمغزى المكان وأهميته. ولتحديد المواقف المؤدية الي حالة اللامكان وشواهده في اللاند سكيب يستعير رلف مفاهيم من الفينومينولوجيا والوجودية للتفريق بين الأماكن التي تحس عن أصالة والتي تحس عن غير أصالة يبين رلف أن الموقف الأصيل من المكان أو الحس الأصيل به هو الخبرة المباشرة الحقيقية بكامل مركب هوية الأماكن الذي لا يأتي بطريق غير مباشر ومحرف من خلال سلسلة من العادات الاجتماعية والفكرية المبنية علي الأهواء الشخصية حول ما يجب أن تكون عليه تلك الخبرة ولا بإتباع تقاليد نمطية .
يزعم رلف أن حالة اللامكان تحصل من القبول غير الحذر للأشياء المبتذلة والرخيصة التي تندرج ضمن سقط المتاع وأيضاً من المغالاة في تحقيق الكفاية كغاية في حد ذاتها تظهر أثار ذلك من خلال وسائل الإعلام والثقافة الجماعية ونفوذ الشركات متعددة الجنسيات والسلطات المركزية ، والمخططين غبر المنتمين ، مما يؤدي في النهاية إلي تقويض أهمية المكان بالنسبة للأفراد والثقافات معاً ، والاستبدال السطحي بلا مبالاة للأماكن المتنوعة ذات الدلالة في العالم بفضاءات مجهولة وبيئات قابلة للمبادلة.
يحذرنا رلف من العبث بالأماكن المميزة والمنوعة والتي يرتبط بها قاطنوها ارتباطاً وثيقاً يماثل علائقهم الحميمة مع غيرهم من الناس منبها إلي مالا يحمد عقباه إذا ما تجاهلنا المعاني التي يحملها المكان لقاطنيه عند تخطيط اللاندسكيب وتحويرها .
ويري في مآسي من صودرت أملاكهم ورحلوا عن أراضيهم أبلغ دليل علي ذلك .
يمكن وصف جهود رلف بأنها تندرج ضمن تيار فلسفتي ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية ، حيث تهتم الأولي مباشرة بالتغيرات الفعلية في المجتمع وتداعيتها ، بينما تعتبر الثانية نقداً للمعرفة الحديثة المكتسبة عن طريق وسائل الاتصال الجماعية وتشكك في التفسير البنيوي الرأسمالي والماركسي علي حد سواء ،كما تؤكد ضرورة الفهم النصي للنص واللغة وأهمية التفكير الذاتي .
لقد بشر رلف بهذين الضربين من التفكير النقدي عندما أسهب في التنبيه إلي خطر تجاهل الأماكن المتميزة وحذر من استفحال ظاهرة اللامكان ، كما أوعز إلي النقد الذاتي لأساليب البحث العلمي والمراجعة المتأنية لخبرات الناس وأفكارهم ومعتقداتهم وسلوكهم والظر وف التي يعيشون فيها ويخبروها .
يشير كثير من النقاد إلي الأهمية الكبيرة التي أضافها الكتاب علي مفهوم المكان ويعتبرونه كتاباً ملهماً علي درجة عالية من الابتكار والتأثير العلمي , كما يدين له كثير من البحاثة في العلوم المختلفة الذين وجدوا فيه إطارا مرشداً لتنظيم معارفهم عن المكان وتطويرها ولاسيما ما يتعلق منها بأشكال الانتماء واللاانتماء المختلفة ، لقد ألهمت منهجيته في النظر إلي اللاندسكيب والتأمل فيها ووصفها الباحثين علي التفكير في اللاندسكيب بشكل مغاير تماماً لما ألفوه والنظر إليها بعيون مختلفة تستجلي الانتماء واللاانتماء وتبحث عن الأصالة وعوزها ، وإذا ما كان الكتاب ينحو نحو البساطة كما يقر بذلك المؤلف نفسه في نقد ذاتي نشر في عدد خاص من مجلة :
ENVIRONMENTAL AND ARCHITECTURAL PHENOMENOLOGY
احتفالاً بمرور عشرون عاماً علي صدور الكتاب إلا أن البساطة لا تعتبر شيئاً سلبياً بطبيعة الحال أنها تتضمن وضوح الفهم وادراكوهو ما سعي إليه رلف في منهجيته التي تعتمد علي مقابلات مبشرة للمفاهيم التي يستخدمها : مقابلة المكان واللامكان , الفينومينولوجيا والوضعية ، العمارة التقليدية والعمارة الحديثة ، التنوع والتماثل ، الأصالة واللاأصالة .
لقد تعالت أصوات كثيرة تنادي بالمحافظة علي الأماكن المميزة وصونها منذ صدور هذا الكتاب في طبعتها الأولي عام 1976 ولكن تبقي دعوة رلف المبكرة نسبياً منعطفاً قائماً بذاته ومنهجاً مبتكراً للبحث في الجغرافيا الإنسانية والأخذ بأساليب الفينومينولوجيا لتقصي الخبرة في الأماكن في صورها المتعددة .
لشراء الكتاب neelwafurat
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق