التسميات

السبت، 31 أغسطس 2013

الحياة الاجتماعية في المدينة وجدوى المعالجات العمرانية ...

الحياة الاجتماعية في المدينة وجدوى المعالجات العمرانية
 
جريدة المدى : نجم عبد الكناني - خبير تصاميم

  لقد أدى تزايد التوجه نحو سكنى المدن وما تمخض عنه من نتائج مختلفة إلى ضرورة الاهتمام بدراسة الحياة الاجتماعية في المدينة المعاصرة وفهم المتغيرات التي تؤثر فيها وفحص مدى قدرة المدن الحالية على الارتقاء بساكنيها ضمن جدلية العلاقة بين الإنسان وبيئته . حيث ميز العلماء والباحثون ، على أساس البيئة التي تعيشها الجماعات ، بين نمطين من الحياة الاجتماعية ( حياة المدينة وحياة الريف ) ، وما يتبع ذلك من اختلاف في طبيعة الحياة الاجتماعية وشكل التفاعل الاجتماعي في كل منهما ، لذا فقد خضعت الحياة الاجتماعية في النمطين إلى البحث والمقارنة ،وأسهب بعض المختصين في ذكر ميزات وعيوب كل نمط والمفاضلة بينهما ، حيث توصف العلاقات في الريف بأنها عميقة وتتم وجها لوجه ،وهناك شبه اتفاق على وصف الحياة الاجتماعية فيه بالتماسك وقوة الروابط إلا أن الاختلاف والتضارب يأتي عند تقويم الحياة في المدينة ، حيث تتراوح بين ممتدح لتلك الحياة ومستاء يلصق بها شتى الأوصاف والنعوت.

  والحقيقة التي يجب تأكيدها في البداية أن الحياة الاجتماعية عموما وحياة مجتمع المدينة على وجه الخصوص ليست بالأمر السهل تحديده ، إذ لا يوجد اتفاق على شكل محدد لها، ولا يمكن القول بصلاحية نمط معين للإنسانية دون سواه ، وليس بمقدور أي من العلماء والمفكرين والباحثين تحديد حياة اجتماعية بإطار معين والادعاء بأنها تصلح لكل مدينة أو لكل مجتمع ، ومصدر الصعوبة يعود إلى أن المجتمع الإنساني عبر مراحل تطوره ومسيرته قدم نماذج متعددة وصياغات مختلفة للحياة تنسجم مع خصوصية المجتمعات ضمن السياق العام للزمان والمكان .

  والمدينة باعتبارها شكلا متقدما للتجمع البشري قد صاغت نمطاً للحياة يتماشى مع أساسها الاقتصادي وهيكلها العمراني وطبيعة النظام السياسي والديني ، يعد نمطا جديدا ومغايراً لما هو شائع في المجتمعات القروية السابقة ، ولكن على الرغم من ذلك ظلت المدينة في كثير من جوانب الحياة الاجتماعية فيها مجرد قرية كبيرة أو امتداد لحياة القرية ، وقد أسهم الموقع لقرية من القرى تمتلك مواصفات قرية رائدة بتأهيلها لتصبح مدينة تلقي بظلها على القرى المحيطة بها وتكون بمثابة نواة للنشاطات التجارية والسياسية والدينية ، والمدن العراقية في الجنوب والوسط خير مثال ودليل أكيد على أهمية دور ووظيفة المدينة وعلاقتها بالقرية .

  ومن المعروف في مجال تخطيط المدن ، أن شكل المبنى وعمارته لهما تأثير على شخصية الساكنين ، وهناك تفاعل بين الإطار العمراني والإنسان وكثير ما يتبادل الإنسان التأثير مع البيئة الفيزيقية التي يعيش فيها ، لذلك كانت اغلب المعالجات لحل مشاكل المدينة معالجات عمرانية ، والسؤال الذي يفرض نفسه :هل أن الحياة العمرانية محددة بإطارها العمراني ؟ آم أن تناول هذا الإطار هو الأكثر وضوحا وبروزا للعيان ، وبالتالي توضع المعالجات على أساس منه ، وهل نحن على حق في أن نرجع كل المشكلات في المدن إلى الإطار العمراني ونعتقد بان المعالجات في هذا الجانب كفيلة براب صدع العلاقات الاجتماعية ومعالجة مشكلات المدينة؟

  إننا لا نقصد بهذه الأسئلة الانتقاص من قدر المعالجات العمرانية أو من تأثير الهيكل العمراني ، لكن وضع المسألة بهذا الشكل فيه الكثير من النقص، ما يؤدي إلى تحميل المعالجات اكثر مما تحتمل ويحجب عنا نجاحها ، فلو كانت واضحة وعلى أساسها يتم قياس درجة النجاح أو الفشل ، لتم فهم تأثير الإطار العمراني على الإنسان في المدينة بشكل واضح ودقيق.

   فمن الممكن أن نلمس نجاح المعالجات العمرانية في إيجاد صيغة عملية للعلاقة بين استعمالات الأرض في مدينة معينة أو تقليل كثافة المرور وخلق انسيابية عالية في حركة السيارات وجوانب أخرى كثيرة ، ولكن على الرغم من ذلك تعجز المعالجات عن حل عدد من المشكلات الحضرية ولاسيما ما يتعلق منها بالجانب النفسي والاجتماعي ، ليس بسبب القصور الكامن فيها وحسب ، وانما أيضا لوجود خلل في المؤسسات الاجتماعية ، ما يكون من المتعذر استنباط حلول عمرانية لمشكلات المدينة . بل أن الإصرار على هذا النمط من الحلول يبعدنا عن أيجاد الحل المناسب، فيجب في هذه الحالة أن يتجه التفكير إلى علاج الخلل الذي يعتري المؤسسات الاجتماعية وقد تكون المعالجات العمرانية جزءاً من العلاج .

  ونتيجة لصعوبة عزل المشكلات على أساس جذرها الاقتصادي أو العمراني أو المؤسساتي ، فإننا لا نقترح إيجاد حلول لمشكلات الحياة في المدينة على أساس الفصل بين الجذور ،بل نؤكد أهمية الحلول الشاملة والمعالجات التخطيطية التي تحسب فيها كل المتغيرات العمرانية والاقتصادية والدينية والاجتماعية والنفسية والجمالية ، ثم فهم خصوصية كل مدينة ليتم تأطير المعالجات بهذه الخصوصية ، ولاشك في أن النظر إلى المشكلات الحضرية على ضوء هذا الفهم ومن زاوية هذه المتغيرات يعطي الحلو المقترحة إمكانية عالية في حل مشكلات الحياة في المدينة ولمديات ابعد واكثر عمقا .

  ولعل أن من أهم أسباب اقتصار المعالجات في الدول النامية عموما ( واغلب البلدان في مرحلة التحول الحضري) على الجوانب العمرانية ، التوسع الهائل للمدن وبسرعة كبيرة ما يجعل السلطات المحلية في هذه البلدان تواجه مشكلات جدية مثل الاتساع بمساحات المدن والإسكان ومد شبكات الطرق وتصريف المياه ، أن هذه المشكلات الفنية تحتاج إلى معالجات فنية وعمرانية ، ومما يزيد من صعوبة مواجهتها ضعف الإمكانات المادية وافتقار اغلب المدن إلى التمويل الكافي للإيفاء بالتزاماتها مما يضطر إلى مواجهة مشكلات جزئية تكون الآثار المترتبة على معالجتها مستقبلا آثاراً سلبية كبيرة ، فإذا أضفنا إلى ذلك إهمال دراسة الجوانب الاجتماعية تتضح لنا أبعاد المشكلة الحقيقية للمدن المعاصرة . أن الملاحظة الدقيقة المتبصرة لحياة سكان المدن تعطي انطباعا بفتور العلاقات الاجتماعية وشيوع الفردية وضعف المعرفة الدقيقة وانعدام المشاركة الوجدانية العميقة ، على الرغم من سعة الاتصال بين الأفراد والجماعات وما لهذا الاتصال من أهمية كبيرة في توسيع دوائر الاهتمام والمشاركة والولاء من حدودها الضيقة في الجماعة الصغيرة إلى حدودها الواسعة في المجتمع والإنسانية .

  وإذا كان هذا التشخيص يقترب إلى حد ما من الحالة التي عليها حياة المدينة ، فانه لا يشكل رغبة في العودة إلى الولاءات الضيقة أو الانكفاء بحدود الجماعات الصغيرة ، بل القصد هو الحرص على توافر قدر مناسب من التفاعل ضمن الوحدة الصغيرة في المدينة ( المحلة السكنية) بحيث يتحقق التوصل إلى حياة مشتركة مثمرة ومنسجمة من الناحية النفسية والاجتماعية ، وألا يؤدي توسيع دوائر الاهتمام والمشاركة إلى تجاوز أو تحطيم العلاقات في الجماعات الصغيرة .

  وهناك الكثير من المؤثرات التي تحدد طبيعة التفاعل ونوع العلاقات داخل الجماعة ، نذكر ثلاثة عوامل رئيسية منها هي :.

* طول المدة التي يقضيها الأفراد داخل الجماعة ، ففي الجماعة الصغيرة تشكل العلاقات ببطء ثم ما تلبث أن تتوطد بسبب التقادم .

* القرب المكاني ، إذ أن الوجود في مكان صغير محدد ييسر عملية الاتصال والتفاعل مع الآخرين وجها لوجه .

* صغر العدد ، فالجماعة الصغيرة ذات العدد المحدود تتيح فرصة اكبر لأعضائها في توثيق المعرفة الشخصية .

  ويؤيد (Festinger) الأثر الكبير للقرب المكاني وصغر العدد في تكوين الصلات عند دراسته لمنطقة سكنية صغيرة ، إذ يقول بان الارتباطات بالمنطقة السكنية تعمل كقنوات اتصال تجري فيها المعلومات والآراء ، وهذه العملية من شانها أن تجعل حياة الجماعة اكثر تماسكا ، كما يوجد افتراض عام في تخطيط المدن وبنائها ، وهو أن الاتصالات الاجتماعية الأولى وبالتالي نواة الحياة الاجتماعية تكون في المحلة السكنية ، وللمحلة تأثير كبير في تحديد خصائص الصلات ، لكون الإنسان يمضي وقتا طويلا من حياته في المسكن .

  ومن هنا تتجلى لنا أهمية الحفاظ على علاقات الجيرة وتنميتها عن طريق جعل الهيكل العمراني للمدينة والمنطقة السكنية يشبع الحاجات الإنسانية ، ولاسيما الحاجات الاجتماعية مثل الأمان والتماسك الاجتماعي والشعور بالمسؤولية إزاء الجماعة والمجتمع ، وإيجاد خصائص عمرانية واجتماعية مميزة للمناطق السكنية وان يتضمن تخطيطها محاولة إقامة جزء من الكل اقل تعقيدا من شانه تقديم الراحة للساكنين وتوفير إمكانية التفاعل المباشر ، لإعادة الشعور بالتعاون وروح الجماعة في الحياة الحضرية ، ومن الضروري أن تكون المعايير العمرانية التي نعتمدها في التخطيط الحضري ذات صفة دينامية ، وان تستند إلى الفهم العميق للمجتمع والتحولات الجارية فيه ، بحيث تكون ملبية لحاجات أفراده النفسية والاجتماعية ، وان تتعدى أهداف التخطيط مسالة تنظيم استعمالات الأرض إلى إقامة البيئات السكنية المدروسة والملائمة صحيا واجتماعيا واقتصاديا لفئات من الأفراد حيث تمكنهم من تأدية أدوارهم بنجاح ويساهم كل من موقعه في تقدم مجتمعهم ورقيه ، وان يقاس نجاح التخطيط في قدرته على عكس الأنماط الاجتماعية للمجتمع وأبرازها .

وبالنظر لأهمية المدينة في المجتمع الإنساني ولكثرة المشاكل التي تواجهها ونتيجة للاتساع في حجمها والاتجاه نحو سكنى المدن ، فلابد أن تأخذ الحياة الاجتماعية اهتماما اكبر من لدن المخططين والمهندسين والباحثين ، وان تتجه الدراسة إلى فهم المتغيرات التي تؤثر في المدينة ، وان تكون من أولويات التخطيط الحضري ،المساهمة في توجيه وتهذيب سلوك السكان وبناء شخصية الحضري , وفحص مدى قدرة المدن الحالية على الارتقاء بانسانها , ولكي نحقق ذلك علينا أن نعرف كيف يفكر ساكن المدينة المعاصرة وكيف يقيم علاقاته مع جيرانه وطبيعة تعامله مع الوقت وطلبه على السلع ومساهمته في تطوير ذاته واستثماره لأوقات الفراغ وممارسته للنشاطات الترويحية ومدى مشاركته بالنشاطات الاجتماعية ، بمعنى المشاركة الإيجابية لرفع مستوى الجماعة ، لتتسنى لنا على ضوء ذلك معالجة ما يمكن أن ينشا من مشكلات حضرية واجتماعية وتقليل التكاليف الاجتماعية لعملية التحضر السريع والواسع .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا