الجغرافيا العربية المعاصرة. بين سندان الحصار و مطرقة البحث عن الذات
الألوكه الثقافية - مولاي المصطفى البرجاوي
أظنُّ أنَّ هناك أسئلةً تتبادر إلى ذهن أغلب طلبةِ شُعبة الجغرافيا في الوطن العربيِّ مِن قبيل:
• هل يُمكن الحديثُ عنِ الجغرافيا كعِلمٍ مُستقلٍّ بذاته، بعد تزايُدِ الأصوات التي تنظر إليها بعينِ الحقارة.
• منذُ الفِكرة التي لفَظَها المتخصِّصُ في علوم "الأبستومولوجيا التكوينية" الفرنسي جان بياجي، الذي اعتبرها "لقيطة العلوم"، ولكن في المقابل ألاَ تُشكِّل الجغرافيا المنبعَ لكلِّ المعارف والعُلوم، أو "ملتقى الطرق" (Carrefour)، الذي تتقاطع فيه كلُّ العلوم؛ على حدِّ تعبير أبي الجغرافيا الفَرنسي بيير جورج (Pierre George)؟ وقبل ذلك، أَلَمْ تكنِ الجغرافيا موظفةً بشكلٍ في غزوات رسولنا الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - من خلال التَّعرُّف على المَنطقة (تضاريسيًّا وديمغرافيًّا..) من خلال ما يُسمَّى بالحملات الاستكشافيَّة (السرايا)؟.
• السؤال الثَّاني: هلْ يُمكن الحديثُ عن وجود الجغرافيا التَّطبيقيَّة في الوطن العربيِّ، رَغمَ المجهودات المبذولة من طَرَفِ أهلها (الجغرافيِّين العرب)، أمْ مُعْضِلةُ اجترار الأطروحات الغربيَّة وآلياتها هو السَّائد؟
• مفهوم الجغرافيا والمجال الجغرافي:
تُعدُّ المعرفةُ، أو نظريةُ المعرفة - كما يُطلَق عليها في الأوساط الفلسفيَّة - قضيةً كبرى، مِحوريَّة في كلِّ اتِّجاهٍ ومذهبٍ، ونِحلةٍ وعِلمٍ؛ إذ بسببها يُمكن أن نَحْفِر في جذور كلِّ مذهبٍ فكريٍّ، وعِلمٍ من العلوم؛ لاستخراج مبادئِه المَنطقيَّة ومنطلقاتِه الفلسفية؛ ليَسهُلَ بعدَ ذلك تصوُّرُه والحكم عليه، فهي مِن المعرفة بمنزلة الأُمِّ، ومن العلوم بمنزلة الجَذْر.
وسعيًا منَّا إلى الأخذ بالمنهج العِلميِّ في تَتبُّعِ الإطار والسِّياق العام للجغرافيا، يكون مِنَ الأَوْلى الوقوفُ على جملةٍ مِنَ المفاهيم الجغرافيَّة، وأهم تقاطعاتها المجاليَّة:
• تعريف الجغرافيا:
تعدَّدت تعاريفُ الجغرافيا، لو أحصيناها لوجدْنا العشرات، ولكنْ نسوق التَّعريفَ الواردَ في الطبعة المختصرة مِنَ الموسوعة البِريطانيَّة، التي تُعرِّف الجغرافيا على أنَّها: "العِلم الذي يَصِفُ ويُحلِّل التَّحولاتِ المكانيةَ للظواهرِ البشريَّة، والطبيعية على سطحِ الأرضِ، وتَرتبط الجغرافيا بالأرضِ وعُلومها، كما تَرتبطُ أيضًا بالعلوم الإنسانيَّة".
• مفهوم المجال الجغرافي وأهم تقاطعاته:
بقراءةٍ مُتأنِّيةٍ لأغلب البحوث المنجزة، والدِّراسات العربيَّة التي تَمَّ تأليفُها، نجدها تَدورُ رَحاها حولَ التَّعريفات التَّالية للمجال الجغرافيِّ:
1- عرَّفه جون تريكار (J.Tricart) بسطح الأرض برُمَّتِه.
2- وهناك تعريفٌ محدودٌ، وضَعه ماكس صور (Max Sorre)، حيث أطلق المجالَ الجغرافيَّ على المناطق المُستغلَّةِ مِن طَرَف السُّكَّان، ويَستثني بعضَ المناطق غير المستغلَّة استغلالاً كافيًا؛ مثل المناطق القُطبيَّة، والغابات الاستوائيَّة، وبعضِ الصَّحاري.
3- وهناك تعريفٌ ثالثٌ أكثرُ ضيقًا للجغرافيِّ (J.Gottman)، وهو: المجال المأْهول بالسُّكَّان.
بالرغم مِن تَعدُّد التَّعاريف، فالمجال الجغرافيُّ: "هو الإطار الماديُّ، والقاعدة الأرضيَّة الملموسة التي تَدور عليها البَشريَّة، وتُنظِّم فوقَه العَلاقاتِ في انسجامٍ مُنظَّمٍ مع الأنظمة البِيئيَّة".
• المجال الجغرافي مجال بحث مشترك:
هذا المجالُ مجالُ بحثٍ مُشترَكٍ بينَ علومٍ بشريَّة وطبيعيَّة، وإذا تركْنا – جانبًا - العلومَ الطبيعيَّة والبيئيَّة التي تَأخذُ المجالَ الجغرافيَّ مَيدانًا لها، نجد العلومَ الإنسانيَّة والاجتماعيَّة التي تَهتمُّ بهذا المجال تَتطوَّر، ويزدادُ عددُها بشكلٍ مستمرٍّ، وقد وجدتُ الجغرافيا نفسَها مُضطرَّةً إلى تغيير أُسلوبها، ومُرغَمةً على التَّفتُّح والمجابهة؛ ذلك أنَّ علومًا أخرى أصبحتْ تُنافسها مُنافسةً شرسةً وقَويَّةً داخلَ ما كانت تَعتبرُه مَيدانًا خاصًّا بها، ومِن أَهمِّ مُنافسيها - نذكر بالدِّرجة الأولى -: عِلم الاقتصاد، وعِلم الاجتماع.
وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ علماءَ الاقتصادِ استطاعوا أن يَفرِضوا مجالَهم، بعدَما تَبيَّن عجزُ الجغرافيِّين عن تَهيئة وتَحديدِ إطارٍ إقليميٍّ يُرضيهم، ويُرضي التَّحليلَ الاقتصاديَّ الحديث.
ويتَّخذُ المجالُ الاقتصاديُّ أشكالاً مختلفةً حسبَ الهدف الذي يَرمي إليه الباحث، فتارةً بـ "مجال التخطيط"، وتارةً يُدعى بـ "المجال المستقطب"، وهو المجال الذي يدورُ النَّشاطُ فيه حولَ قُطبٍ اقتصاديٍّ، أو جُغرافيٍّ مُعيَّنٍ (مثلاً: مؤسَّسة اقتصاديَّة، مدينة...)، بعكس المجالِ الجغرافيِّ الذي يَتميَّز بتبايُنِ تركيباتِه وبنياته؛ نتيجةَ عمل الإنسان، فإنَّ المجال الاقتصاديَّ لا يستحقُّ أيَّ اهتمامٍ، إذا كان لا يُلبِّي حاجياتِ الإنسان الضروريَّةَ، ولا فائدةَ في تنظيمه إذا كانتْ إنتاجيتُه ضعيفةً، أو منعدمةً؛ معنى ذلك أنَّ المجالَ الاقتصاديَّ لا يدرس المجال إلاَّ إذا كانتْ هناك نَفعيَّة وإنتاجيَّة، فهو مجالٌ يأخذ بعينِ الاعتبار ما يُمكن تقييمه ماديًّا حسبَ توزيع الأسواقِ، وقوانين الإنتاجِ والاستهلاكِ، وتنظيم المبادلاتِ التي لا تَعرِف أيَّ عقباتٍ سوى تلك التي تَضعُها أمامَها الأسعارُ ونفقاتُ الإنتاج.
أمَّا عنِ المجال الاجتماعيِّ، فهو كذلك ناتجٌ عنِ الكشفِ الذي قام به الجُغرافيُّون في المَيدان الاجتماعيِّ، وأهمُّ إطارٍ تَبلوَّر فيه اللِّقاء في المجال لَدَى الجغرافيِّين وعلماءِ الاجتماع هو نِطاقُ ما نُسمِّيه بالعَلاقات الرِّيفيَّة - الحَضريَّة؛ وهي عَلاقاتٌ يطغى عليها الطَّابع الاجتماعيُّ (المجتمع الرِّيفيُّ يختلف عن المجتمع الحضريِّ، والزِّراعيُّ يختلف عن المجتمع الرَّعويِّ...). وكلُّ مجال جغرافيٍّ يَستغلُّه الإنسانُ يُعتبر عندَ علماء الاجتماع إطارًا للعيش.
وهكذا استطاع علماءُ الاجتماع - بفضلِ هذه المفاهيم - أنْ يفرضوا اتجاهاتِهم النَّظريَّةَ على الجغرافيِّ، الذي لم يجدْ بدًّا مِن مسايرتِهم، ومحاولة التَّعايُش والتَّكامُل في مجالٍ لم تستطعْ أَيَّةُ مادَّةٍ عِلميَّة منفردة أن تُسيطر عليه؛ ذلك أنَّ تنظيمَ المجال الجغرافيِّ يتطلب مُساهمةَ كلِّ العلوم التي لها عَلاقةٌ بالإنسان، والطَّبيعة، والاقتصاد، والمجتمع، وغيرها...
من هنا يأتي سؤالٌ يَفرض نفسَه بقوَّةٍ: هل تُشكِّل الجغرافيا – فعلاً - إطارًا للتَّكامُل، أمْ تتطفَّل على مجالاتٍ علميَّةٍ أخرى؛ لِتُكَوِّن لنفسِها عِلمًا مستقلاًّ؟
• الجغرافيا بين إشكالية العلم والوجود:
تَتبَّع الجغرافيُّ المغربيُّ فضيلةُ الدكتور محمد بلفقيه آراءَ وتَصوُّراتِ الحاقدين على الجغرافيا، الذين أنكروا عليها صِفةَ العِلم، ونعتوها بِلَقيطةِ العلوم، وصَوَّروها في شَكلِ ثوبٍ مُرقَّعٍ رتقته أيادي التَّقليد، يأتي في طليعة هؤلاءِ - كما ذكرتُ - جان بياجي مؤسس" الأبستومولوجيا التكوينية"، ثم الجغرافيُّ الفَرنسيُّ جيل سوطير Gilles Sautter":
فالأَوَّل: يَعتبر الجغرافيا مجرَّدَ موضوعٍ معرفيٍّ، تَقتصِر مهمَّتُه على وصفِ الأرض ومَن عليها؛ ولكن الأدْهَى من ذلك جُرأة بياجي في إقصاءِ الجغرافيا مِن لائحة الأبستومولوجيا (المَعرِفيَّة) لتصنيف العلوم؛
يعني هذا في رأي بياجي: أنَّه لا يُمكن أن تكونَ للجغرافيا أبستومولوجيا خاصَّة، ما دامت تعتمد على أبستومولوجيا التَّخصُّصات التي تتعامل معها وتُوظِّفُها.
• أما جيل سوطير في كتابه: "إشكالية الجغرافيا المجال الجغرافي"، فقد كتب مقالاً لاذعًا، استهلَّه بما يلي: " لم يَعُدْ للجغرافيا وجودٌ، لقد قُضي عليها، وبشكلٍ غريبٍ، بأمر السُّلطة العِلميَّة، وأيّ سُلطة؟ سُلطة عالِمٍ ذاع صيتُه، وصار مَرجعًا للمثقَّفين الجُغرافيِّين، ثم استطرد قائلاً: "أمَّا اليوم، فالجغرافيا تُلغى بموجب مرسومٍ إداريٍّ..."
لكنَّ الجغرافيَّ الكويتيَّ الدكتور محمَّد علي فرا لم يقفْ مكتوفَ اليدين، حيثُ أبدى غَيْرتَه على الجغرافيا، ودافع عنها قائلاً: " فالبعض ممَّن يُنكر على الجغرافيا صِفةَ العلم، ويعتقد أنَّها موضوعٌ معرفي، مهمَّته تزويدُ النَّاس بالثَّقافة العامَّة، وما يَحوي مِن ظواهرَ عديدةٍ؛ كالبُلدان والمُدن، والأنهارِ والجبال، والهضاب والسُّهول، ونحوه وحتَّى نُدرك مدى المغالطةِ في مِثل هذا القول، ومقدار التَّجنِّي على عِلمنا مِن قِبَلِ أُناسٍ يَجهلون طبيعةَ الجُغرافيا وأهدافَها وغاياتِها، وجدْنا من الأنسب أن نبدأَ هذا البحثَ بمقدِّمةٍ عن ماهية العِلم، ومفهومه، ومناهجه، ومقاصده؛ ليتأكَّدَ منها كلُّ مَن يُريد التَّأكُّدَ بأنَّ الجغرافيا عِلمٌ طالما التزمت بالمنهجِ العِلميِّ الذي تسير عليه كلُّ فروع العِلم العام".
هنا يُطرح سؤالٌ من جديدٍ: إلى أيِّ حدٍّ هذا الطَّرحُ صحيح؟
ثم مِن جهةٍ أخرى: هل ما زالَ فضيلةُ الدكتور متشبِّثا برأيه، خاصَّةً بعدَ النَّكسات التي عرفتْها الجغرافيا في الوطن العربيِّ، وللإشارة: هذه المقولة تعود إلى سنة 1980 في مقاله المشهور لَدى أغلب الجغرافيِّين العرب: علم الجغرافيا، دراسة تحليلية نقديَّة في المفاهيم والمدارس والأبحاث الحديثة في البحث الجغرافيِّ، ما إنجازات الجغرافيِّين العرب في حلِّ مشكلة الجغرافيا؟ هل مهمَّتُها ستبقى - فقط - التُّعرُّف على مميزات البُلدان المختلفة جغرافيًّا؟ أَم أنَّ هناك عواملَ أخرى مختلفةً ساهمت في تكريس الأزمة التَّعلميَّة - التَّعليميَّة لهذا التَّخصُّص؟
• الجغرافيا التَّطبيقيَّة في الوطن العربي: النُّخبة التابعة:
تُعدُّ الجغرافيا - أو بالأحرى الجغرافية التَّطبيقيَّة - في الوطن العربيِّ من الموادِّ التي فَقدتْ بريقَها، وسُحِب البساطُ من تحت أقدامها، وبدأتْ تنحني بين الفَينة والأُخرى لعاصفة الإقصاءِ خشيةَ اقتلاعِها، وتنتظر أنْ يُدَّق آخِرُ مِسمارٍ في نعشها، ليس هذا قدحًا في الجغرافيا وآلياتها، أو أحكامًا مطلقة؛ ولكنَّ دورَها الهزيل في الميدان يُثبت ذلك؛ من خلال – مثلاً - دراسةِ أيِّ مشروعٍ، أو القدوم على دراسةِ أي مَنطقةٍ جغرافيَّة، ما نجد حاضرًا بقوَّةٍ سوى ميكانيزمات وآليات العلوم الأخرى، وقِسْ على ذلك علومَ العمران والسوسيولوجيا، وعلمَ الإحصاء والتَّهيئة المجاليَّة والتَّخطيط، ولا يكاد يظهر دَورُ الجغرافيا البسيط، إلاَّ في الوصف، وهذه الآلية البالية/القديمة تكاد هي الأخرى تكونُ مشتركةً، أو صنيعة الموادِّ الأدبيَّة، ولا علاقةَ للجغرافية بها.
وهو موقف عبر عنه Antoine S.BAILLY وزميله Jean Bernard Racine في كتابه LES Géographes ont-ils jamais trouvé le Nord?: "الجغرافيا مادة لا أبستومولوجيا لها ولا إشكالية واضحة، ولا نظريةَ ولا مُسلمة، وربَّما بدون مشروعٍ... مادة ستفقد قريبًا مستمعيها بعدَ أن فَقدتْ قُراءَها، وليس بقريبٍ ذلك اليوم الذي نتلقَّى فيه التَّهنئة على قدرة ترويجنا لكتاب الجغرافيا؛ كما توفق في ذلك بعض المُؤرِّخين،فمتى تُباع الجغرافيا في محطَّات القطار؟ ألا يكون اهتمامُ الجغرافيِّين بالوصف قد صدَّهم عن العمل؟ فلو تَدبرتَ الأمرَ لوجدتَهم لم يبتكروا شيئًا، غير علمٍ لا يَنفع، وجهل لا يَضرُّ... فهل يُساعدنا هذا الوعيُ بما أصابنا مِن وهنٍ على الخروج مِن هذه العُزلةِ، والاندراج من جديدٍ في الواقع الاجتماعيِّ؟ وهل يعثر بعدَ ذلك تلاميذُنا على وظائفَ بسهولةٍ؟".
من خلالِ قراءةِ هذه المقولةِ الرَّقراقة، واستحضارٍ للواقع المُزري للجغرافيا، أو بالأحرى الضَّعف والهَوان الذي تَتخبط فيه الأُمَّة العربيَّة، نستشفُّ ما يلي (وكأنها قراءةٌ استشرافيَّة لواقع جغرافيتنا في الوطن العربيِّ/ للإشارة، فقد تمَّ تأليف هذه الموسوعة منذ 1978):
• التَّهميش المطبق من قبل وزارات التربية والتَّعليم في العالَم العربيِّ لهذه المادَّة "العِلميَّة" في الوظائف العموميَّة والخاصَّة.
• قِلَّة اهتمام باقي القطاعات الاقتصاديَّة بها، في هذا المِضمار نجدُ التَّركيز مُنصبًّا على مادة الاقتصاد والمحاسبة.
• أمَّا في العلوم العسكريَّة التي كان مِن الأَوْلى الاستعانة بها لتحديد المواقع، فالتَّهميش فيها حَدِّث عنه ولا حرجَ، (للتوسع في الموضوع: الرجوع لكتاب الجغرافي والمؤرخ الفرنسي YEVES Lacoste: La Géographie ça sert d’abord à faire la guerre)
• المشكلة الكُبرى بالنِّسبة لهذه المادة، وخاصَّة في بُلدان المغرب العربيِّ، من خلال السَّيرورة التَّعليميَّة - نجدُها تُدرس باللُّغة العربيَّة في المستويات المتدنِّية والمتوسطة؛ لكن في حالة الرَّغبة في متابعة الدِّراسة العُليا يطرح "مشكل عويص"، يتمثل في جَهْل بني جِلدتنا من النُّخبة التَّعليميَّة باللُّغة الأُمِّ، وانقضاضهم على اللُّغات الأجنبيَّة؛ ممَّا يُعرِّض شريحةً واسعة من الطلبة غير المفرنسين؛ للاقتصار على المستويات المتوسطة المعرَّبة.
والسُّؤال المطروح في هذا الباب:
هلْ هي خطَّةٌ "مفبركة" مِن قِبَلِ النُّخبة الجغرافيَّة العربيَّة للظُّهور بمظهر التَّعالُم؟ أم هو العجزُ عن تدارك الموقفِ من خلالِ تعريب الجغرافيا، وخاصَّةً في هذه المرحلة التي أصبحْنا عالةً على الغرب في كلِّ شيءٍ، حتَّى في ثقافته؟
من جهةٍ أخرى: لماذا لا يَتمُّ الاقتداءُ بالأُنموذج السُّوري البارع في مَيدان الطب؟!
• انصياع وغياب حُريَّة الإبداع الجغرافيِّ عندَ النخبة الجغرافيَّة العربيَّة، وذلك بتبنِّي ما يُسمَّى في علوم التربية "بالنقل الديداكتيكي "، ويظهر ذلك جليًّا في الكتب المدرسيَّة العربيَّة التي تعتمد التَّرجمة الحرفيَّة للمراجع والكتب المدرسيَّة الغربيَّة.
السُّؤال المطروح: مَن الذي يَحول دونَ ابتكارِ الآليات الجغرافيَّة التي تتماشى وطُموحاتِ الأُمَّة العربيَّة التي تتوق إلى غدٍ أفضلَ، تنعدم فيها التَّبعيَّة المُطلقة للغرب؟.
إنَّ انعدام الوعيِ بذواتنا، وأَزمة فُقدان الثِّقة بقدراتنا على الفعل، والتَّغيير لما هو آتٍ من الضَّفة الأخرى .
• يجعل قُدرتَنا على الفعل والمشاركة الإيجابيَّة في صُنع القرارِ، وإحداثِ برامجَ تعليميَّةٍ جديدةٍ وطموحة.
• ضعيفةً ومُغلَّفة بالانتظاريَّة، وقد تساءَل غوستاف لوبون في كتابه "حضارة الهند": كيف استطاع البريطانيُّون ببضعة آلاف من الجنودِ أن يستعمروا الهندَ ذاتَ الملايين العديدة؟! وأجاب: عند تشريح جُمجمة الهندي لا نراها مختلفةً عن جُمجمة الانجليزي؛ ولكنَّ الفرق هو الإرادة: الثَّبات والعَزْم في قَومٍ، والضَّعف والاستكانة في آخرين.
بعبارةٍ موجزةٍ: إنَّ الأُمَّة التي تعيش، وتَقتاتُ على فُتات موائد الغَير، لا يُمكن أن تصنع نصرًا، أو أن تبنيَ مِصرًا؛ بل ستظلُّ أُمَّةً ضعيفةً هزيلةً، تابعةً، لا متبوعة. ورحم اللهُ الشَّاعر العربيَّ إذ يقول:
وَلاَ يُقِيمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِه
إِلاَّ الأذَلاَّنِ عَيْرُ الْحَيِّ وَالْوَتِدُ
هَذَا عَلَى الْخَسْفِ مَرْبُوطٌ بِرُمَّتِهِ
وَذَا يُشَــــجُّ فَلاَ يَرْثِي لَهُ أَحَـــــــدُ
|
• لكنَّ الأدْهَى والأمَرَّ لهذا التَّخصُّص الفريد مِن نوعه في الوطن العربيِّ هو تفريخُ العَطالة، أو قُلْ: جيوش من الكفاءات المُعطَّلة، خاصَّة في تَخصُّص الجغرافيا التي تَتناسل يومًا بعد يومٍ، ولا تجد مَن يَحتضنها.
وهنا نعاود الكرَّةَ من جديدٍ: مَن السَّبب، وما السَّبب في هذا التَّخافُت والتَّلاشي؟ هل البرمجة التَّعليميَّة لمادة الجغرافيا غير المتوازنة (الوسائل التَّعليميَّة العتيقة المُوظَّفة في تدريس المادة)؟ أَمْ غِياب تَكافؤ الفُرص؟ أمْ أنَّ الجغرافيا في العالَم العربيِّ لا تتناسب مع المحيط السوسيو اقتصادي للبُلدان العربيَّة؟ (وهنا أفتح قوسًا؛ لأُشيرَ أنَّه في الولايات المتحدة الأمريكية واليابان، وبعض دُول الاتِّحاد الأوربي، هناك طريقةٌ فريدةٌ وعملاقة في تدريس مواد الجغرافيا؛ وذلك بالجمع بينَ النَّظريِّ والتَّطبيقيِّ، ليس على مستوى الأوراق في الفَصل، ولكن في المَصنع والمجتمع و"السوكوسوشات" اليابانيَّة (مصانع عائمة)، هاهنا، يُمكن الحديثُ عن الجغرافية التَّطبيقيَّة) أمْ...
لكن يظلُّ هذا مجرَّدَ رأيٍ شخصيٍّ، قابل للتَّصويب والمُناقشة، ولكلٍّ وجهةٌ هو مُولِّيها، ولكلٍّ شاكلتُه في الموضوع، وأترك للقُرَّاء الكِرام الكلمةَ للتَّعقيبِ، والتَّقويم لهذه المداخلة التي لا تخلو - بطبيعة الحال- كأيِّ عملٍ بشريٍّ من بعض الهفوات، والله المُوفِّق للصَّواب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق