تكوينات مائية في النص التراثي الجغرافي
تحقيق : د.م بغداد عبد المنعم
الهيئة العامة السورية للكتاب ـ سلسلة إحياء التراث العربي- دمشق 2008 م
عرض : محمد بركة :
يرصد كتاب "تكوينات مائية في النص التراثي الجغرافي"؛
ويحلل تلك التكوينات المائية التي كانت أحد الأسس التي تحولت بها المدينة العربية
من الداخلية إلى الخارجية؛ ففي لحظات مهمة انتقلت بها من التأسيس المديني إلى
التصوير الحضاري، وهي بذاتها كانت هدفًا استراتيجيًا بعيدًا حين تم تأسيس الموقع
المائي لمدينة بغداد، فتشكلت بها المدينة الأولى في العالم القديم كله، خلال زمن
ابتدأ بإنشائها في النصف الثاني من القرن الهجري الثاني، أرخ النص التراثي
الجغرافي لتلك التكوينات المائية، ذلك التأريخ الاستراتيجي الذي رسم بين سطوره للمستقبل،
وأكدت نتائج البحث في هذا الكتاب بأنه مهما بلغت السرعات الحداثية؛ فلا يجب أن
تتجاوز هذه القرارات التراثية، حتى يكتمل تعريفنا للمدينة العربية المستقبلية.
هذا الكتاب للدكتورة المهندسة "بغداد عبد المنعم"، وصدر عن وزارة
الثقافة السورية في دمشق 2008، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، ضمن سلسلة
إحياء التراث العربي (166). والدكتورة "بغداد عبد المنعم" مهندسة مدنية،
حصلت على الدكتوراه عن بحثها "هندسة الموارد المائية في التراث العلمي العربي"
من جامعة حلب، وحصلت من الجامعة العربية على الجائزة العربية الأولى في "تحقيق
التراث للمحققين الشباب" عن تحقيقها ودراستها لكتاب "إنباط المياه
الخفية ـ القاهرة" عام 1997. من مؤلفاتها: حلب.. في أحاديث الماء والجمال،
وكتاب حلب مدينة أم أغنية، وكتاب الماء في التاريخ العربي الإسلامي ـ مقاربات
معاصرة.
في كتابها "تكوينات مائية في النص التراثي الجغرافي" ترى
المؤلفة أنه ضمن التوثيق المدني، الذي قدمته النصوص الجغرافية العربية، كان توثيق
الأنهار بحضور المدن عليها، وما يحمله ذلك من عطاءات ثقافية نوعية، وهي عطاءات مدينة عربية تجالس
الماء.. تدخل في تفاصيله فيدخل في كينونتها وهويتها. وتؤكد الكاتبة.. على أنه كان
في النصوص الجغرافية من الرصانة اللغوية، ودقة الوصف والغوص في تفاصيل المكان،
وأحداثه وتفاعلاته الحياتية ـ الحضارية ما أوحى للآخرين بأدبية هذه النصوص، غير أن
الدقة والأهداف التي كتبت بها تدخلها في دائرة الاستقصاء الجغرافي ـ العلمي.. حيث
صدر كل ذلك عن الجغرافيين العرب كعناصر حضارية عالمية راقية جدًا؛ لتوضح لنا أهمية
إستراتيجية الماء في حياة مدن عربية، حين الإنشاء وفي الاستمرار.
وتطرقت بغداد عبد
المنعم، إلى معنى كلمة نهر في اللغة العربية، والتي أطلقت على كل مجرى مائي سطحي
مهما كان مقطعه وتدفقه، ومنذ بدايات الفتح الإسلامي شرع أبو موسى الأشعري في عهد
عمر بن الخطاب إلى حل مشكلة تزويد مدينة البصرة بالمياه الصالحة للشرب، فبدأ مشروع
حفر نهر "الأبلة"، الذي تم في عهد عبد الله بن عامر سنة 657 م، وغيره من
مجموعة أنهار زودت المدينة بالماء اللازم. وأشارت الباحثة إلى نهري دجلة والفرات،
نظرًا لمدى أهميتهما خلال التاريخ الحضاري للمنطقة، ويعتبر التوثيق العلمي
والإنشائي عند الجغرافيين العرب لهذه الأنهار المهمة، من حيث مساراتها والمدن التي
أنشأت وتطورت على ضفافها، والمنشآت المائية المختلفة ثروة بأبعاد عديدة، وفي
السياق نفسه ذهبت المؤلفة إلى أن الوصف والمعلومات بلغا درجة عالية من الاستقصاء
والإحاطة، علمًا بأن الجغرافيين العرب كانوا قد طوروا إلى هذا الزمن علم "الكارتوغرافيا"،
أي فن رسم المصورات الجغرافية، فرسم معظمهم مسارات الأنهار والمدن، حتى إنهم وضعوا
صورة للأرض كلها. وعرضت الكاتبة بالتحليل والدراسة لهذا الوصف التوثيقي للأنهار،
عند كل من الأصطخري ـ ابن حوقل ـ المقدسي ـ ابن جبير.
وذكرت جميع هذه المصادر أن
منبع الفرات من داخل بلاد
الروم، وقد نفذت
مشروعات مائية ومشروعات مائية دقيقة ومستمرة على نهر الفرات فيما بين القرنين
الرابع والسابع الهجري؛ وذلك استنادًا إلى المصادر التاريخية المذكورة، وقد صنفتها
المؤلفة إلى قنوات فرعية، والتي مآخذها من الفرات حتى أطلق عليها اسم نهر، لأنها
تخرج من نهر، وليست ذات مصدر جوفي أو نبعي، وقد كانت كثيرة جدًا بحيث تم استثمار
الأراضي الزراعية على نحو كبير وشامل. وهكذا شقت هذه القنوات الأنهار بمقاطع
وتدفقات تتناسب ومساحات ومزروعات المناطق وقراها، فكان نهر "سورا" أكبر
فرع يأخذ من الفرات، وكانت تزود هذه القنوات الأنهار بسكور ودوال للتحكم بكميات
المياه وأوقاتها، وأيضًا رفع الماء إلى المناطق المرتفعة.
وترى عبد المنعم.. بأنه
تم تنفيذ الجسور الخشبية الضخمة لعبور الأنهار ذات العروض الكبيرة والقناطر، وكانت
كثيرة جدًا لعبور الأنهار الصغيرة، وكان لا بد من وصل المناطق بعضها ببعض بعد أن
كثرت الأنهار وتفريعاتها، وإقامة مشروع مسلمة بن عبد الملك الإروائي، وإنعاش
المناطق الزراعية في بالس (مسكنة) وقراها بسحب الماء من الفرات إليها مسافة 10 كم . ومن جهة أخرى تطرقت عبد
المنعم، إلى نهر دجلة حيث ذكرت المصادر التراثية السابقة معلومات غنية تتعلق
بالمنبع والمسار، أو المدن التي تقع عنده أو بقربه، والمنشآت المائية التي أقيمت
على هذا النهر وبتفاصيل جيدة لأن مثل هذه المنشآت ساهمت بشكل كبير في تفاصيل
الحياة اليومية وتطوراتها. وكان الماء والأنهار يشكل حواجز إما طبيعية، أو
اصطناعية تعرقل أو تعيق تقدم العدو، وقد تم الانتباه بشكل كبير إلى هذا الجانب حين
اختيار موقع عاصمة الخلافة، التي امتدت دولتها على مساحات كبيرة من العالم القديم «آسيا
ـ إفريقيا ـ أوروبا» وقامت على ضفات نهر دجلة مدنًا وبلدانًا مهمة هي (آمد ـ جزيرة
ابن عمرو ـ الموصل ـ الحديثة ـ تكريت ـ سامراء ـ بلد ـ السن ـ بغداد ـ المدائن).. وقد
نمت هذه المدن وتعاظمت على ضفاف دجلة، واكتسبت أدوارًا حضارية كبيرة فكان بعضها
مفاتيح للدولة العباسية على العالم، وشكلت الأنهار عاملاً أساسيًا ورئيسيًا في ذلك.
وسلطت المؤلفة الضوء على نهر النيل؛ حيث اعتبره الجغرافيون العرب نهرًا مباركًا،
وحاولوا فهم خصوصياته النهرية، كما وصفوا مساره بشكل دقيق ولا سيما نيل مصر، وأهم
المدن التي قامت على ضفافه، والمنشآت المائية كالخلجان والترع والمقاييس المائية. وتذهب
عبد المنعم، إلى أن النيل يأخذ مياهه من مصدرين رئيسين؛؛ الأول: إقليم البحيرات
الاستوائية، والثاني: الهضبة الإثيوبية.. ففي المجموعة الاستوائية حوض بحيرة
فكتوريا، وكذلك حوض بحيرة كيوجا التي تتجمع مياهها في نيل فيكتوريا.
ويعد النيل
الأزرق أعظم روافد النيل، ويلتقي نهر عطبرة بالنيل النوبي ـ الجزء الممتد من
الخرطوم إلى أسوان . واستعرضت الكاتبة مواصفات نهر النيل العالية، فهو أطول من
دجلة والفرات يبلغ طوله 6825 كم، وماؤه عذب أي قابل للشرب، صاف ونقي البياض، تنخفض
فيه نسبة الشوائب والأملاح، وهو يجري من الجنوب إلى الشمال، وتبدأ المدن على ضفتيه
من أسوان، وتتسع وتتكثف كلما اتجهنا شمالاً إلى الفسطاط (القاهرة)، ومنه تفرع ما
يسمى بالخلجان، ومنها تتفرع قنوات عديدة تسمى الترع . ومن ناحية أخرى تطرقت عبد
المنعم، إلى البرك والقنوات في المدينة العربية باعتبارهما التكوينان المائيان من
التكوينات الأساسية التي قامت عليها المدينة العربية والإسلامية، وكانت تنفذ وفق
خطط عمل تغطي احتياجات المدينة الزراعية والصناعية والمنزلية، فكانت البرك
والقنوات التي أضاف إليها المهندسون المائيون العرب عبر التاريخ؛ تقنيات هندسية
جديدة وتشريعات جديدة تتعلق بنظم استثمارها واقتسام مياهها.
وتؤكد المؤلفة على أن
أنهار دجلة والفرات والنيل من أهم ثلاث أنهار في المنطقة العربية، وكانت المنشآت
المائية عليهم جزءًا جوهريًا من عملية بناء حضارة شاملة، فكانت متماشية مع بناء
المدينة وتوسعاتها، وكذلك مع إغناء المناطق الريفية وسوق الماء إليها، عبر سواق
وأنهار وترع منشقة من الأنهار الأساسية. وقد كانت المنشآت المائية المدنية،
وتقنياتها من أهم التكوينات الحيوية والأساسية في المدينة العربية على مر التاريخ،
حيث لاقت اهتمامًا ماليًا وهندسيًا، وكانت تغطي مختلف تكوينات المدينة العربية،
وأوجه النشاط الصناعي والحرفي القائم فيها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق