الإقليم الوظيفي لمدينة الرمادي
دراسة في جغرافية المدن
دراسة في جغرافية المدن
رسالة الدكتوراه - جامعة بغداد - كلية الآداب
قسم الجغرافيا
2006
قسم الجغرافيا
2006
حسن كشاش الجنابي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
حظيت دراسة المدن وأقاليمها باهتمام أكثر من اختصاص . إلا أن الجغرافي تميز عن غيره عندما نظر إلى المدينة على أنها كالكائن العضوي لا تستطيع الاستمرار ما لم تتعاطى مع من يجاورها أخذاً وعطاءاً . كما أنها تحتوي على تركيبة وظيفية تنمو وتتسع باستمرار عبر وحدتي الزمان والمكان ، مستفيدة مما موجود من إمكانات في المناطق التي تجاورها ، لتتفاعل مع المقومات التي تمتلكها المدينة ذاتها . وهذا يعني أنه لا يمكن النظر إلى المدينة على أنها تنمو من فراغ بدون أن تتفاعل مع محيطها القريب أو البعيد .
وبذلك فإن الجغرافي يتميز على غيره بالقدرة على تحليل حركة وظائف المدن واتجاهات نموها ، فضلاً عن المناطق التي تصل إليها خدمات هذه الوظائف . ومن هنا تأتي أهمية موضوع الدراسة الذي حمل عنوان ( الإقليم الوظيفي لمدينة الرمادي ) ، إذ تأخذ مدينة الرمادي من إقليمها وتعطي ، كما هو الحال في كل مدن العالم ، لتبرير اختيارها كمركز إداري لإقليم يتمثل بمحافظة الأنبار التي تضم ثمانية أقضية بضمنها تسعة نواحي . فمن خلال هذه التشكيلة الإدارية يقع على عاتق مدينة الرمادي إدارة مختلف شؤون إقليمها الإداري المترامي الأطراف ، فضلاً عن واجبها في إدارة شؤون مركز القضاء المتمثل بمدينة الرمادي والقرى المحيطة بها ، والقضاء الذي يحمل اسمها ، الذي بدوره يتكون من مركز القضاء وناحية الحبانية .
فمدينة الرمادي التي مارست دوراً إقليمياً ، منذ أن وجدت كمحطة على طريق القوافل التاريخي الموازي لنهر الفرات في عهود ما قبل الميلاد ، ثم ليتعزّز هذا الدور عندما وقع الاختيار عليها في أواخر العهد العثماني لتكون مركزاً إدارياً ، يمكّن القائمين عليه من تأمين طريق القوافل ، فضلاً عن تمكين القبائل التي كانت تهاجم القوافل التي تسير على هذا الطريق من الاستقرار في المناطق التي تحيط بالمدينة .
ولقد ساعد هذا الاختيار فيما بعد في أن يعطيها الفرصة لترسيخ دورها الإقليمي ، عندما ارتفع مستواها الإداري إلى مركز لواء ثم مركز محافظة ، الذي هيأ السبيل لها لتكون مركزاً للنشاطات الوظيفية والخدمية الأساسية ، فضلاً عن كونها مركز الثقل السكاني الرئيس في الإقليم . فهذه المعطيات أكدت مركزية المدينة باعتبارها مدينة مهيمنة تتقدم على سائر مدن الإقليم في تقديم الوظائف والخدمات لسكانها ولسكان إقليمها الإداري ولغيره .
فما هي هذه الوظائف والخدمات وإلى أين وصلت المساحات التي تُغطيها نشاطاتها ، وما هي أسبابها ومبرراتها ونتائجها . وكيف تؤثر العلاقات الإقليمية بوصفها علاقات مكانية متفاعلة في نمو وانتشار وظائف المدينة واتساع نطاق خدماتها في الحاضر والمستقبل . ولا شك في أن الإجابة على هذه التساؤلات تمثل الأساس الذي بُنيت عليه عناوين فصول الأطروحة وتفاصيلها .
مشكلة الدراسة :
لا ريب في أن فهم الباحث لكيفية تحديد مشكلة الدراسة والقواعد التي يرتكز عليها في فهمها ومعالجتها ، يمثل في جوهره أساس مصداقية البحث العلمي ، عندما يتناول كيفية البحث فيها من مختلف جوانبها ، لوضع الأسس اللازمة للحلول الواجب اتخاذها عند المعالجة . وإذا ما كانت المشكلة عبارة عن سؤال أو مجموعة أسئلة لابد لها من إجابة ، فإن الوسيلة المناسبة لتحديد مشكلة الدراسة هي في صياغتها عن طريق طرح الأسئلة الآتية :
1- من أين أتت المركزية التي تمتعت بها مدينة الرمادي ، ابتداء من تأسيسها وحتى الوقت الحاضر ، وهل فرضت هذه المركزية من تبعات إقليمية عليها ، باعتبارها مركزاً لإقليم إداري يتسع ليشمل محافظة الأنبار بأكملها .
2- تفرض مركزية مدينة الرمادي تواجد مجموعة من النشاطات الوظيفية التي تقدم خدماتها إلى سكانها وسكان المناطق المجاورة . فإلى أين يصل نفوذ تلك الخدمات ، وعند أية نقطة ينتهي . وهل شمل مساحة الإقليم الإداري بأكمله أم تعداه ، أم إنه يشمل مناطق معينة من هذا الإقليم . ولماذا يتسع النطاق الخدمي الإقليمي في جهة معينة وينحسر في جهة أخرى وما هي أسبابه ونتائجه .
3- يمتلك إقليم المدينة الإداري مجموعة مهمة من الموارد الطبيعية والاقتصادية . فهل تم استثمار هذه الموارد لتمتين العلاقات الإقليمية بين المدينة المركزية باعتبارها سوق الإقليم الرئيس ، فضلاً عن تنمية اقتصاديات الإقليم باعتبارها قوى إقليمية تساعد على تعزيز الأساس الاقتصادي لمدن الإقليم عموماً والمدينة المركزية بشكل خاص .
4- هل توجد في إقليم مدينة الرمادي الإداري مدناً أخرى تنافس المدينة المركزية فيما تمتلكه من وظائف وخدمات ، تجعلها في غنى عن مركز الإقليم الرئيس . وإذا كان الجواب بنعم فما هي العناصر والمقومات التي أدت إلى ذلك . وهل بالإمكان تفعيلها لتدفع باتجاه خدمة مدن الإقليم الأخرى .
5- الكشف عن مواطن الخلل والموازنة في الواقع الاستثماري للموارد الطبيعية والاقتصادية في الإقليم عموماً ، بهدف وضع أرضية يمكن أن تساعد مستقبلاً في التخطيط لتنمية مكانية متوازنة تسمح بنهوض جميع أجزاء الإقليم ومدنه خصوصاً .
حدود الدراسة :
تحددت منطقة الدراسة بالحدود الإدارية لمحافظة الأنبار ، التي تتم عملية إدارة شؤونها في مركز المحافظة الرئيس المتمثل بمدينة الرمادي . أما العناصر والمتغيرات الجغرافية التي ستعالج ، فهي ما تمتلكه أرض هذه المحافظة من مقومات بقدر تفاعلها مع استعمالات الأرض الرئيسة الموجودة في مركز المحافظة ، وما نتج عنها من أنشطة وفعاليات لترسيم حدود الأقاليم الوظيفية لتلك الأنشطة والفعاليات .
مبررات الدراسة وأهدافها :
لقد كان من أهم مبررات وأهداف الخوض في هذا الموضوع ، هو عدم وجود دراسة تأخذ بشكل نظامي وشمولي واقع التفاعل الاقتصادي والاجتماعي الحاصل بين إقليم المدينة الإداري ( المحافظة ) ومركز الإقليم الرئيس ، وما ينتج عنه من نشاطات وظيفية متبادلة ، تؤدي بالنتيجة بمركز الإقليم المتمثل بمدينة الرمادي ليكون محور النشاطات الاقتصادية والخدمية ، التي يصل نفوذها إلى أنحاء الإقليم ، أو قد يتجاوزه في بعض النشاطات .
فعلى الرغم من وجود دراسات قيمة تناولت إقليم المدينة ( المحافظة ) * من نواحي معينة إلا أنها لم تتطرق إلى طبيعة العلاقة الوظيفة الإقليمية بن مدينة الرمادي وإقليمها الإداري ، مع وجود دراسات أخرى تناولت مدينة الرمادي بالدراسة . لكنها لم تتطرق إلا إلى وظيفة واحدة من وظائف المدينة * دون التوغل في واقع التركيب الداخلي الوظيفي للمدينة ككل متكامل ، وما أفرزه من نشاطات وظيفية إقليمية ، قد يمتد نفوذها الإقليمي ليشمل إقليمها الإداري أو جزء منه أو يتجاوزه .
ولا يعني ذلك إن هذه الدراسة جاءت كرد فعل لما سبق من دراسات ، فكل دراسة تناولت إقليم المدينة أو المدينة ذاتها في جزئية معينة من الجزئيات التي أراد الباحث الخوض فيها ، إنما أرادت معالجة الموضوع قيد الدراسة .
وبناء على ذلك فإن من أهم المبررات والأهداف التي حفزت على اختيار الموضوع هي :
1- عدم وجود دراسة سابقة وبهذه الشمولية على مستوى بحوث الباحثين ، أو تقارير الهيئات الحكومية في العراق .
2- التعريف بما موجود في إقليم المدينة الإداري من موارد طبيعية واقتصادية مهمة . وما تم استثماره من هذه الموارد لتنمية الإقليم عموماً والمدينة خصوصاً ، بغية وضع إطار عام لواقع التنمية الموجود في الإقليم وطبيعة انعكاسه على مركز الإقليم بشكل خاص ومدن الإقليم الأخرى بشكل عام ، لكي يصار إلى رسم سياسة تحدد آفاق الكيفية التي من خلالها يمكن تطوير آليات العمل والاستثمار التي لا زالت في طور النمو .
3- يعتقد الباحث أن دراسة هذا الموضوع ستفيد في تشخيص واقع العلاقة الإقليمية بين أجزاء الإقليم ومركزه الرئيس . وهل إن العلاقة التي تربط بين مدينة الرمادي وأجزاء الإقليم هي إدارية صرفة ، أم إنها علاقة وظيفية صميمية تتعدى الإطار القانوني الرسمي ، يمكن تعزيزها في المستقبل بمزيد من الاستثمارات الاقتصادية والنشاطات الوظيفية المختلفة .
4- واجهت منطقة الدراسة حالها حال بقية محافظات العراق الأخرى مراحل نهوض وتراجع أثرت على الواقع الاقتصادي والاجتماعي للسكان سلباً وإيجاباً ، تحاول الدراسة الخوض فيها لمعرفة ما أدت إليه من نمواً وتدهور في النشاطات الاقتصادية والوظيفية ، لأجل دفع وتعزيز عوامل النهوض ومعاجلة عوامل التراجع والنكوص .
5- تقديم أرضية جغرافية للأجهزة التخطيطية والتنفيذية تشرح واقع النشط الوظيفي والخدمي الذي تقدمه مدينة الرمادي ( مركز الإقليم الرئيس ) لإقليمها الإداري ، ليُصار فيما بعد إلى تقوية هذه النشاطات ، وتدعيمها بما يتوفر من سبل لخدمة سكان المدينة والإقليم التابع ، فضلاً عن إشاعة روح النشاط الوظيفي في مدن الإقليم الأخرى ، لتخفيف الضغط الوظيفي والخدمي الحاصل على مركز الإقليم الرئيس .
فرضيات الدراسة :
لقد أمكن على ضوء أهداف الدراسة صياغة الفرضيات الأساسية الآتية:
1- تمثل مدينة الرمادي مركزاً وظيفياً رئيساً في إقليمها الإداري ، نظراً لوجود مقومات ذاتية وإقليمية تعتمد على ما يوجد في إقليمها من إمكانيات ، وما في المدينة ذاتها من مقومات . وقد ساعدت شبكة النقل الإقليمية في تسهيل عملية الاتصال بين المدينة والإقليم .
2- تتحدد مركزية مدينة الرمادي وأهميتها الإقليمية ، من خلال تعدد وتنوع الوظائف التي تقدمها لخدمة سكانها وسكان إقليمها الإداري ، مما يفرض حصول نوع من التناسب الطردي بين قوة نشاط هذه الوظائف ومجالات تأثيرها الإقليمية .
3- تتمتع مدينة الرمادي بالمرتبة الأولى في تسلسل الترتيب الحجمي الحضري على مستوى مدن إقليمها الإداري ، لينعكس عليها في تأدية وظائف وخدمات ذات رتبة أعلى . مما يسمح بامتداد نطاق خدمة وظائفها لمساحة أبعد من بقية مدن الإقليم .
4- تمثل الأقاليم الوظيفية لمدينة الرمادي التي تتحدد من خلال النفوذ الذي تصل إليه خدمات الوظائف الموجودة فيها ، حقيقة موضوعية ، يمكن من خلال متابعة ومعالجة عوامل النهوض والتراجع التي تؤدي إلى أتساعها أو انحسارها ، لدفع مساحة أي إقليم من الأقاليم الوظيفية ليصل إلى أبعد نقطة ممكنة . وهذا ما يمثل الاتجاه السليم في التخطيط لمستقبل متوازن لمدن وأرياف الإقليم ، فضلاً عن تنمية العلاقة بين إقليم المدينة الإداري بأكمله والمناطق المجاورة سواء كانت داخل العراق أو خارجه .
منهجية الدراسة :
اعتمدت الدراسة في فُصولها الخمسة على الإحصاءات السكانية الرسمية للمدة 1977-1987-1997 ، فضلاً عن بيانات الشركة العامة لتجارة المواد الغذائية فرع / الانبار عن أعداد سكان المحافظة لعام 2005 المعتمدة على البطاقة التموينية . كما أسهمت بيانات المؤسسات الإنتاجية والنشاطات الزراعية لعام 2002 في إعطاء صورة واقعية لمسيرة النشاطات الاقتصادية عموماً ، حيث يُمثل هذا العام عنصر ثبات نسبي في الإنتاج ، مقارنة بسنوات ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق الذي حصل في 9 / 4 / 2003 ، حيث تعطلت بعد هذا التاريخ نشاطات أغلب المؤسسات الإنتاجية ، فضلاً عن النشاطات الزراعية وغيرها ، باستثناء النشاط الخدمي الذي أمكن من خلال مراجعة مؤسساته والدراسة الميدانية الشاملة ، بناء قاعدة معلومات أسعفت في إتمام فصول الدراسة ، بعد استخدام الأساليب الآتية:
1- الاعتماد على خلفية فلسفية تم طرحها في الفصل الأول شكلت الأفق الذي تسير عليه خطة الدراسة ، إذ تم في هذا الفصل طرح المفاهيم والأفكار التي تتناول مفاهيم المدينة والإقليم وواقع التفاعل القائم بين وظائف المدينة وإقليمها ، وما ينتج عنه من نشاط استثماري لموارد الإقليم ليتفاعل مع ما تمتلكه المدينة من مقومات ، لينتهي بتواجد نشاطات اقتصادية وخدمية لها علاقات مكانية تتجاوز حدود المدينة لتصل إلى مناطق تتباين في مساحاتها اعتماداً على قوة النشاط الموجود والمسافة التي يصل إليها .
2- اعتماد المنهجين الشمولي والأصولي في الدراسة ، إذ أن الاعتماد على منهج شمولية الواقع الجغرافي Universe of Geographic Fact approach يعطي الإمكانية في النظر إلى المنطقة المدروسة نظرة شاملة ككل لا يتجزأ ، كمل حصل عند مناقشة مواضيع الفصول ( الثاني والرابع والخامس ) ، أما المنهج الأصولي ( التطوري )Vertical Treatment approach الذي يحاول التعرف على التغير الحاصل في الظواهر الجغرافية المدروسة ، بغية الكشف عن أسبابها وملابساتها ومن ثم صياغة المقترحات اللازمة لعلاجها أو دفعها باتجاه التطور والنماء . وفضلاً عن هذين المنهجين اعتمدت الدراسة على منهج التحليل المكاني Spatial Analysis Approach الذي أعان في دراسة توزيع النشاطات الاقتصادية في مناطق الإقليم المختلفة وإبراز الاختلافات المكانية بينهما ، للتعرف إذا ما كان هنالك من تكامل في الأداء الوظيفي لأجزاء الإقليم ، وإذا لم يحصل ذلك فلابد من وجود مناطق تميز الأداء الوظيفي فيها بأنه وصل إلى درجة متقدمة ، مما سمح لها بنشر أقاليم وظيفية ساعدت في تخفيف الثقل الوظيفي الواقع على مدينة الرمادي مركز الإقليم الرئيس .
3- تم استخدام أسلوب التحليل الإحصائي المعتمد على بعض النماذج الرياضية التي لها علاقة بالموضوع ، فضلاً عن المقاييس الإحصائية كالنسب المئوية والوسط الحسابي والفرق بين النسبتين . على ضوء ما تم جمعه من معلومات وبيانات وإحصائيات تتلاءم مع توجهات الدراسة . وقد استخدم هذا الأسلوب بطرق عديدة منها مراجعة سجلات المؤسسات التي على تماس مع أساسيات البحث للحصول على البيانات ، أو بالاستجواب المباشر لمسؤولي هذه المؤسسات وكذلك المترددين على المدينة من إقليمها الإداري ، فضلاً عن الملاحظات الشخصية الميدانية والعمل الميداني الجماعي ، بهدف الحصول على البيانات وتبويبها ثم تحليلها وتمثيلها خرائطياً وقد أعانت هذه الطريقة كثيراً في تحديد أقاليم المدينة الوظيفية . ولا سيما وأن الباحث وهو أحد أبناء المدينة حاول جهد إمكانه التعامل مع خدمة الوظيفة المطلوب قياس نطاقها الإقليمي ، من خلال احتساب مجتمعها الإحصائي المستفيد بالكامل طالما كان ذلك ممكناً ، كما حصل في تحديد أقاليم خدمات التعليم الثانوي والمهني والجامعي ، إذ بلغ مجموع المجتمع الإحصائي المدروس (19282) طالباً وطالبة ، دون اللجوء إلى العينة ، إلا إذا كان المجتمع الإحصائي المدروس فوق طاقة الدراسة ويحتاج إلى فريق عمل ووقت يتجاوز الوقت المسموح به ، وهذا ما حصل على سبيل المثال عند مناقشة إقليم المترددين إلى المدينة الذين يفدون إليها من أكثر من موقع ، فكان لابد من اعتماد عينة بلغت 10% من المجتمع الإحصائي المدروس * بهدف الخروج بنتائج منطقية يمكن الركون إليها .
الدراسات السابقة :
تناولت موضوع أقاليم المدن الوظيفية مجموعة من الرسائل والاطاريح الجامعية التي أخذت في بحثها لهذا الموضوع المستويين الآتيين :
1- المستوى المديني : الذي إما أن يعرض استعمال واحد أو مجموعة من استعمالات أرض المدينة ، ثم يتناول بفصل مستقل أنواع الأقاليم الوظيفية والخدمية التي امتدت إليها نشاطات الوظائف والخدمات ** .
2- المستوى الإقليمي : الذي تناولت فيه الدراسات بشكل تفصيلي الأقاليم الوظيفية لنشاطات الوظائف والخدمات الموجودة في المدينة بعد استعراض هذه الوظائف والخدمات في فصل مستقل يُبيَّن واقع توزيعها الجغرافي الفعلي في أرض المدينة ودور الإمكانات الموجودة في الإقليم في نمو وتطور هذه الوظائف التي يتم استعراضها في فصل مستقل آخر * .
هيكلية الدراسة :
لكي يتحقق الترابط الموضوعي لمحاور الأطروحة الأساسية ، فقد اشتملت على خمسة فصول ، فضلاً عن الاستنتاجات والتوصيات والملاحق وخلاصة البحث باللغة الإنكليزية . ناقش الفصل الأول الإطار الفلسفي النظري لموضوع البحث ، إذ تم عرض وتحليل المفاهيم التي على تماس مباشر بالمدينة وإقليمها الوظيفي ، ووظائف المدينة وأهميتها بالنسبة للمدينة والإقليم الذي تصل إليه خدماتها ، لتشكل أقاليم وظيفية تتباين في مساحاتها . مما يوصل إلى ضرورة التعرف على الطرق التي يمكن من خلالها تحديد الأقاليم الوظيفية للمدينة .
وخُصص الفصل الثاني لدراسة المقومات الجغرافية لإقليم مدينة الرمادي الإداري ، محاولاً تشخيص إمكانيات استثمار موارد الإقليم ، على ضوء تحليل الخصائص الطبيعية والبشرية والاقتصادية الموجودة ، وفضلاً عن ذلك فقد تطرق الفصل إلى طبيعة توزيع المستوطنات البشرية في الإقليم ونظام تراتب المراكز الحضرية الحجمي ، بهدف تحديد مكانة مدينة الرمادي في هذا النظام وأثر الإقليم في دعم وتعزيز نمو وتطور المدينة .
أما الفصل الثالث فقد تناول التركيب الداخلي الوظيفي لمدينة الرمادي ، مما تطلب البحث في نشأة المدينة ومراحل تطورها المورفولوجية ، ثم دراسة النشاطات الوظيفية والخدمية فيها . وتبرز أهمية الفصل من خلال تباين دور الإقليم في نمو وتطور المدينة وأثر هذا التطور في نمو فعالياتها لخدمة الإقليم .
وجاء الفصل الرابع ليتناول تحديد وتحليل أقاليم المدينة الوظيفية ، ومن ثم تمثيلها كارتوغرافياً ، لتكشف عن مساحة نفوذ كل نشاط من أنشطة المدينة . ليُصار فيما بعد إلى اتخاذ هذا الإقليم بوصفه كياناً وظيفياً يمكن عن طريق التخطيط المبرمج والمدروس استغلال الموارد الموجودة لتحقيق التنمية الشاملة للمدينة وإقليمها الوظيفي .
وهذا ما شكل محتوى الفصل الخامس الذي ناقش التوجهات المستقبلية لاتجاهات نمو السكان الحضر والريف والمستوطنات الحضرية وأريافها ، فضلاً عن مدينة الرمادي ذاتها ، وماذا سيفرز النمو السكاني من حاجة إلى استعمالات أرض إضافية ووظائف وخدمات ، وما يمكن أن ينهض بالإقليم عموماً اقتصادياً واجتماعياً . ليمثل توصيفاً لكل النتائج التي أسفر عنها تحليل ما تم التوصل إليه في ثنايا البحث وبما يمكَّن من تقديم رؤية مستقبلية لنموذج العلاقات المكانية ذات التأثير المتبادل بين أجزاء إقليم مدينة الرمادي الإداري .
وهذا ما شكل محتوى الفصل الخامس الذي ناقش التوجهات المستقبلية لاتجاهات نمو السكان الحضر والريف والمستوطنات الحضرية وأريافها ، فضلاً عن مدينة الرمادي ذاتها ، وماذا سيفرز النمو السكاني من حاجة إلى استعمالات أرض إضافية ووظائف وخدمات ، وما يمكن أن ينهض بالإقليم عموماً اقتصادياً واجتماعياً . ليمثل توصيفاً لكل النتائج التي أسفر عنها تحليل ما تم التوصل إليه في ثنايا البحث وبما يمكَّن من تقديم رؤية مستقبلية لنموذج العلاقات المكانية ذات التأثير المتبادل بين أجزاء إقليم مدينة الرمادي الإداري .
وفي الختام يأمل الباحث أن يكون قد حقق مساهمة متواضعة في مسيرة البحث العلمي في مجال الدراسات الجغرافية … والله تعالى هو المستعان … وهو ولي التوفيق …
________________________
________________________
* وهذه الدراسات هي :
- حسين علي عبد الراوي ، تحليل جغرافي لإمكانات الإنتاج الزراعي في محافظة الانبار ، رسالة ماجستير ، كلية الآداب ، جامعة البصرة ، غير منشورة ، 1984 .
- دحام حنوش حمد الدليمي ، الاستيطان الريفي في محافظة الانبار ، رسالة ماجستير ، كلية الآداب ، جامعة بغداد ، غير منشورة ، 1986 .
- وزارة التخطيط ، هيئة التخطيط الإقليمي ، ستراتيجية التنمية في حافظة الانبار لغاية عام 2000 ، 1987 .
- لطيف محمود حديد الدليمي ، إنتاج البطاطا في محافظة الانبار ، 1975-1985 ، رسالة ماجستير ، كلية الآداب ، جامعة بغداد ، غير منشورة ، 1987 .
- محمد طه نايل الحياني ، الصناعة وتوطنها في محافظة الانبار ، أطروحة دكتوراه ، كلية الآداب ، جامعة بغداد ، غير منشورة ، 1995 .
- حسين علي عبد الراوي ، تغير توزيع سكان محافظة الانبار ، وحركتهم المكانية للمدة من عام 1977- عام 1995 ، أطروحة دكتوراه ، كلية الآداب ، جامعة بغداد ، غير منشورة ، 1999 .
- إسماعيل عباس هراط ، التوزيع المكاني والحجمي لمدن محافظة الانبار ، رسالة ماجستير ، كلية التربية ، جامعة الانبار ، غير منشورة ، 2000 .
- إيناس محمد صالح الفهداوي ، التوازن السكاني – الغذائي في محافظة الانبار ، رسالة ماجستير ، كلية التربية للبنات ، جامعة الانبار ، غير منشورة ، 2000 .
- صبحي أحمد مخلف الدليمي ، التوزيع المكاني للصناعات الإنشائية في محافظة الانبار ، رسالة ماجستير ، كلية التربية ، جامعة الانبار ، غير منشورة ، 2003 .
* وهذه الدراسات هي :
- حسن كشاش عبد الجنابي ، الوظيفة السكنية لمدينة الرمادي ، رسالة ماجستير ، كلية الآداب ، جامعة بغداد ، غير منشورة ، 1984 .
- محمد طه نايل الحياني ، الوظيفة التجارية لمدينة الرمادي ، رسالة ماجستير ، كلية الآداب ، جامعة بغداد ، غير منشورة ، 1989 .
- أحمد حسن عواد الدليمي ، التحليل المكاني للخدمات التعليمية في مدينة الرمادي ، أطروحة دكتوراه ، كلية التربية ، جامعة بغداد ، 1999 .
- كمال عبد الله حسن ، الخدمات الصحية لمدينة الرمادي ، رسالة ماجستير ، كلية التربية ، جامعة الانبار ، غير منشورة ، 2000 .
- جمال حامد رشيد الدليمي ، استعمالات الأرض الصناعية في مدينة الرمادي ، رسالة ماجستير ، غير منشورة ، 2001 .
- حميد حسين فرحان الفهداوي ، الأساس الاقتصادي لمدينة الرمادي ، رسالة ماجستير ، كلية التربية ، جامعة الانبار ، غير منشورة ، 2003 .
- لطيف حسن عبد الله المحمدي ، التحليل المكاني لاستعمالات الأرض لأغراض النقل في مدينة الرمادي ، رسالة ماجستير ، كلية التربية ، جامعة الانبار ، غير منشورة ، 2005 .
* يكون حجم العينة 20% عندما يكون المجتمع الإحصائي المدروس عدة مئات و 10% لمجتمع أكبر (بضعة آلاف) و 5% لمجتمع كبير جداً تجاوز عشرات الآلاف . ولمزيد من التفصيل ينظر :
أحمد سلمان عودة وفتحي حسن ملكاوي ، أساسيات البحث العلمي في التربية والعلوم الإنسانية ، الطبعة الثانية ، مكتبة الكتاني ، أربد ، 1992 ، ص168 .
** من أهم هذه الدراسات :
- صباح محمود محمد ، مدينة الحلة الكبرى ، وظائفها وعلاقاتها الإقليمية ، رسالة ماجستير ، كلية الآداب ، جامعة بغداد ، 1973 .
- محسن عبد الصاحب المظفر ، مدينة النجف الكبرى ، دراسة في نشأتها وعلاقاتها الإقليمية ، رسالة ماجستير ، كلية الآداب ، جامعة بغداد ، 1973 .
- عبد الناصر صبري شاهر الراوي ، مدينة راوة ، تطورها وعلاقاتها الإقليمية ، رسالة ماجستير ، كلية الآداب ، جامعة بغداد ، غير منشورة ، 1989 .
- حسن محمد حسن ، المقدادية ، وظائفها وعلاقتها الإقليمية ، رسالة ماجستير ، كلية التربية ، جامعة بغداد ، غير منشورة ، 1989 .
- أحمد فياض صالح المحمدي ، مدينة الفلوجة ، وظائفها وعلاقاتها الإقليمية ، رسالة ماجستير ، كلية الآداب ، جامعة بغداد ، 1990 .
* وهذه الدراسات هي :
- صبري فارس الهيتي ، مراكز الخدمات في محافظتي بابل وأربيل ، رسالة ماجستير ، كلية الآداب ، جامعة بغداد ، غير منشورة ، 1974 .
- محمد علي مرزا ، الأقاليم الوظيفية وتأثير العلاقات الإقليمية في الاتجاهات المكانية للنمو في مدينة بعقوبة ، أطروحة دكتوراه ، كلية الآداب ، جامعة بغداد ، غير منشورة ، 1997 .
- أحمد فياض صالح المحمدي ، التركيب الوظيفي والعلاقات الإقليمية لمدن البادية الشمالية (رطبة ، كبيسة ، عين التمر) ، أطروحة دكتوراه ، كلية الآداب ، جامعة بغداد ، غير منشورة ، 1999 .
- جبر عطية جودة ، الإقليم الوظيفي لمدينتي الكوت والحلة ، أطروحة دكتوراه ، كلية الآداب ، جامعة بغداد ، 2003 .
أهتم الباحثون وجغرافيو المدن بدراسة المدينة باعتبارها ظاهرة بشرية تختلف عن باقي الظواهر الجغرافية ، من حيث المكونات الوظيفية والعمرانية التي تحتويها ، والتي جاءت كنتيجة لسلسلة التطورات الحضارية والتقنية التي مرت بها المجتمعات الحضرية.
ولما كانت المدينة قد مثلت على مر العصور مركزاً لتجمع سكاني كثيف تفاعل مع بيئته لينتج نماذج وظيفية استقطبت أعداداً من العاملين ، لتلبي متطلبات المستفيدين من داخل المدينة وخارجها . ولذا فإن هناك ضرورة تفرض نفسها للتعرض إلى استعمالات الأرض والوظائف التي نشأت وتطورت في مدينة الرمادي ، لتعطي بالنتيجة للمدينة تركيبها الداخلي الخاص بها . إلا أن هناك خطوطاً عامة تجعل من الممكن أن تتشابه المدن بعضها مع البعض في تراكيبها الداخلية . ففي كل المدن نجد الاستعمالات التجارية والصناعية والخدمية ، التي تمثل الجوانب المهمة في حياة المدينة . بينما يمثل الاستعمال السكني الاستجابة الحتمية لتلك الاستعمالات . ومدينة الرمادي واحدة من المدن التي ظهرت فيها هذه الاستعمالات وغيرها ، والتي لم تظهر إلا لتخدم سكان المدينة وإقليمها القريب أو البعيد ، الذي يشمل إقليم المدينة الإداري والمناطق التي تقع خارج حدوده .
نشأة المدينة
يذكر أسيدور الكرخي في كتابه (المنازل الفرثية ) المحطات التجارية التي كان يرعى حراستها الفرثيون عندما استولوا على العراق للمدة بين 248 – 124 ق.م على طريق القوافل التجاري البري المحاذي لنهر الفرات ، ومن ضمن المحطات التي ذكرها آنات (عنه) وايبولس ( آلوس) وأس (هيت) ثم بسيخينيا التي فيها معبد إله التناسل (أتركاتس) على مسافة 12 فرسخاً من هيت. فرجحت المستشرقة الفرنسية (الواموسيل) أن تكون هذه المحطة التجارية هي مدينة الرمادي وهذا ما يكاد يطابق المسافة بين المدينتين .
فمن المرجح أن تكون بسيخينيا هي الموضع القديم لمدينة الرمادي الحالية . ومما يدعم هذا الرأي هو انه عندما تم بناء المستشفى الجمهوري القديم عام 1954 ، عُثر على مقبرة دفن فيها الموتى في قبور فخارية تشبه إلى حد كبير ما اتبعه الفرثيون في دفن موتاهم . فوجود الآلهة والمقابر يعزّز استنتاج نستطيع من خلاله القول أنه كان هناك مجموعة من السكان عبدوا هذه الآلهة فـي ذلك الوقت ودفنوا موتاهم في هذا الموضع ، وفضلاً عن ذلك فإن هذا الموضع مثّل محطة نهرية على الطريق المائي لنهر الفرات ، الذي يبدأ من هيت لينقل القير والنورة باتجاه مدينة بابل منذ أقدم العصور. وولاسيما أن موقع مدينة الرمادي لا يبعد عن هيت عبر نهر الفرات سوى 63 كم . وهذه المسافة تقطعها السفن والزوارق في ذلك الوقت خلال 16 ساعة ، فهي إذن أول محطة نهرية بعد هيت تتوقف بها تلك السفن لتستفيد مما يقدمه موقع مدينة الرمادي من فرص الراحة والتزود بالمؤن بعد رحلة ليست بالقصيرة وسط النهر. وهكذا مثل موقع مدينة الرمادي محطة برية على طريق القوافل البري باتجاه بلاد الشام ، ومحطة نهرية على نهر الفرات ، إذ أن الانتقال عبر نظام المراحل جعل موقع مدينة الرمادي مؤهلاً لأن يكون إحدى نقاط التوقف على الطريقين البري والنهري وفق تقنيات النقل آنذاك . وهناك مسألة أخرى مهمة وهي أن موقع المدينة وبهذا المكان جعلها على مقربة من نهر الفرات الذي أعطاها الفرصة للاتصال بإقليمها الزراعي ، فبمجرد عبور النهر باستخدام الزوارق أو بالاتجاه البري شرقاً ، نجدها تجاور ريفها القريب . ولذلك فقد ظلت هذه الزوارق إلى عهد قريب توصل أهل الريف وما يجنوه في حقولهم من محاصيل باتجاه المدينة ، ليبيعوه ، ثم يقتنون ما يحتاجون من سلع وخدمات لا يجدونها في محيطهم .
على إننا لم نجد في كتب التاريخ القديم والإسلامي من تناول موضع مدينة الرمادي من قريب أو بعيد . ويعود ذلك حسبما نعتقد إلى صغر الموضع الذي نشأت عليه المدينة آنذاك والمرتبط بمنطقة التل الواقعة في الزاوية الشمالية الشرقية من محلة العزيزية ولاسيما وأن هناك إشارات تفيد بأن الموضع الأول الذي نشأت عليه المدينة هو موضع شبه تلي يرتفع عما حوله تجنباً لأخطار الفيضان ، التي كانت تتعرض لها المناطق المحاذية لنهر الفرات باستمرار .
لكن المدينة لم تظهر إلى الوجود كحقيقة قائمة بذاتها ، إلا عندما اختارها الوالي العثماني (مدحت باشا) في المدة ( 1869 – 1872 ) كمركز حضري ، ابتغى من خلاله توفير الأمن والاستقرار على طريق القوافل التجاري الآنف الذكر ، حيث أسس في المدينة مركز للشرطة ومستشفى ودائرة للكمرك ،كما مد خطاً للتلغراف بين بغداد والرمادي لترغيب القوافل التجارية بالسير على هذا الطريق ، الذي كان محفوفاً بأخطار الفيضانات وهجمات البدو .
وكان من نتيجة ذلك أن أخذت القوافل التجارية تغدو عليه ، لكونه أقصر مسافة من طريق الموصل – ديار بكر – حلب .
وعلى الرغم مما تركه مدحت باشا من لمسات حضارية لم تكن تعرفها المدينة من قبل . إلا أنها أُهملت بعد رحيله عن العراق عام 1872 ، فتدهورت على إثر ذلك الوظيفة التي تمارسها كمركز لتجهيز القوافل بالمؤن والخدمات نتيجة تردي الوضع الأمني على الطريق حتى سقوط الدولة العثمانية . لذلك ظل طريق بغداد – الموصل – ديار بكر – حلب ، الأكثر استخداماً رغم طول المسافة التي تقطعها القوافل مقارنة بطريق القوافل الفراتي .
مما يقود إلى الاستنتاج بان مدينة الرمادي ارتبطت عفوياً بهذا الطريق باعتبارها مدينة من مدن المراحل ما بين بغداد والشام فاصبح تطورها مرهوناً بهذا الطريق وما يتعرض له باستمرار من فيضانات وهجمات البدو ، وهذا ما كانت تتحاشاه القوافل . مما يدفعها إلى أن تبتعد عن مجرى نهر الفرات وتسلك طرقاً أخرى . ويبدو أن هذا الطريق كان غير مأمون ولا تسلكه القوافل حتى أوائل العهد الإسلامي .
موضع المدينة :
لقد تحدد موضع مدينة الرمادي بنقطة الالتقاء بين تكوينات أرضية مختلفة ، فعندما يدخل نهر الفرات المدينة ، يتحول مجراه من مجرى خانقي إلى مجرى نهر فسيح يجري في أرض منبسطة ذات تربة خصبة ، عندها يبدأ السهل الفيضي الرسوبي الذي تقع مدينة الرمادي في جهته الشمالية الغربية ، بينما تمثل مدينة بلد في محافظة صلاح الدين حدود السهل الشمالية الشرقية . ولقد أفاد التركيب الجيولوجي للسهل الرسوبي لموضع المدينة الأول في تهيئة السبيل للاستيطان المبكر في المدينة . أما الأراضي الواقعة إلى الغرب من المدينة عبر قناة الورار ( التي تشطر المدينة إلى شطرين ) فعندها تبدأ الهضبة الغربية .
ولغرض رسم صورة واضحة للوضع الطبوغرافي لمدينة الرمادي يمكن أن تفيد في إعطاء تفسير يُبرر إمكانيات نمو المدينة على هذا الموضع في الحاضر والمستقبل ، لابد من تقسيم المظهر الطبوغرافي العام لمدينة الرمادي إلى قسمين رئيسيين ، كما يظهر من خلال تحليل .
فالقسم الأول يشمل الشطر الشرقي من المدينة الذي يتراوح في ارتفاعه بين (46 – 53 م) فوق مستوى سطح البحر . أما القسم الثاني فيشمل الشطر الغربي بعد عبور قناة الورار ، حيث تتميز الأرض بالارتفاع التدريجي كلما اتجهنا غرباً ، وخاصة بعد اجتياز خط الارتفاع 60 م فوق مستوى سطح البحر ، وغالباً ما يكون سطح الأرض في هذا المكان متموجاً ويحوي بعض التلول الواطئة والمنخفضات ، التي ما أن تتعرض إلى مياه الأمطار حتى تتحول إلى مستنقعات ،ثم إلى سبخات عندما تجف مياه الأمطار ،كما هو الحال في المنطقة الصناعية الغربية .
يتراوح ارتفاع هذا القسم بين 50 – 70 م فوق مستوى سطح البحر ، وتكون التربة هنا رملية كلسية فقيرة في غطاءها النباتي ، إذ لا تستلم من الأمطار إلا ما يعادل 5 – 10 سم سنوياً . واستناداً إلى ما ذكر أعلاه فإن القسم الأول سهل للمدينة الاتصال بريفها المجاور عبر نهر الفرات الذي يقع إلى شمالها ، أو بالمستوطنات التي تجاورها من الناحية الشرقية مستفيدة من السداد التي تقع على كتوف النهر . مما عزز علاقات التبادل بين المدينة والقرى المحيطة والمدن المجاورة .
وعلى ضوء تحليل خصائص الإقليم الإداري الذي يتبع للمدينة فإن موضع المدينة أخذ موقعه في وسط إقليم زراعي كثيف عندما نتجه شمالاً وشرقاً ، حيث تنتشر القرى الزراعية القريبة من المدينة كما هو الحال في قرى طوي والسورة والصوفية والدشة وسطيح وزنكورة وحصيبة الشرقية والبو فراج والبو ذياب والبو عبيد والحامضية والبو عساف والملاحمة … الخ وهذه القرى تتبع إدارياً إلى مركز قضاء الرمادي وناحية الحبانية (قضاء الرمادي ) الذي يبدو من الخارطة إن أغلب قراه تتمحور على ضفتي نهر الفرات.
كانت المدينة في بداية تأسيسها عبارة عن قرية كبيرة تحيط بها البساتين من جهاتها الشمالية والشرقية والغربية ، تمارس وظيفتها كمركز للتسوق ومطعم يقدم الطعام والخدمات للمسافرين وسكان الريف ، ولذلك فقد انتشرت فيها الخانات التي يبيت فيها المسافرون على الطريق وسكان الريف ( مع حيواناتهم ) الذين يفدون إلى المستوطنة لغرض بيع المنتجات الزراعية والحيوانية . وقد ظلت المدينة تنمو بخطوات بطيئة . مما أنعكس على حجمها الصغير الذي لا يريد أن يغادر حدود الموضع الأول وأطرافه القريبة .
تميزت مساكن المدينة القديمة بصغر مساحتها وأنها ذات طابع شرقي ، مع وجود حالة من عدم انتظام مساحة واتجاه الشوارع والأزقة التي تطل عليها ، ونظراً لتعرض المدينة إلى الفيضانات المستمرة ، فقد تم حفر ترعة العزيزية عام 1910 غرب الجزء المعمور من المدينة ، ليوصل ما بين نهر الفرات ومنخفض الحبانية جنوب المدينة ، بقصد تخليصها من خطر الفيضان ، ثم أعقبها حفر مبزل الحفرية إلى الشرق منها. وقد أدت السيطرة النسبية على الفيضانات إلى ظهور أعداد من الدور ذات الصبغة الريفية في منطقة الحوز إلى الجنوب الغربي من موضع المدينة الأول ، مستفيدة من ترعة العزيزية في ارواء أراضيها الزراعية ، وهذا ما كان له دوره في ان يصطبغ سكنة المدينة في ذلك الوقت بصبغتين أساسيتين هما التجارة والزراعة . مع وجود ورش صناعية اجتمعت في سوق مسقوف خاص بها ، كان يسمى( سوق علي سليمان ) .
ضمت المدينة في هذه المرحلة محلتين سكنيتين هما محلتي القطانة والعزيزية اللتين التفّتا حول الجامع الكبير والسوق . وقد قدرت ( ألواموسيل ) عدد سكان المدينة عندما زارتها في عام 1912 بـ 1500 نسمة .
تميزت هذه المرحلة بظهور السيارة كواسطة نقل رافقها فتح طريق للسيارات عام 1923 ما بين بغداد ودمشق ماراً بمدينة الرمادي القديمة من طرفها الجنوبي .
ويعد افتتاح هذا الطريق نقطة تحول جديدة في البناء الوظيفي والعمراني للمدينة ، لأنه فتح المجال لها لأن تخرج من أسر موضعها الأول وتمتد باتجاه هذا الطريق وفي الوقت نفسه أعطاها هذا الطريق الفرصة في أن توطد علاقتها بإقليمها القريب المتمثل بالريف المجاور وإقليمها البعيد المتمثل بأطراف المحافظة ، باعتبار أن المدينة وهي مركز المحافظة الرئيس تتفاعل معها المدن والقرى التابعة إليها إدارياً بالأخذ والعطاء . ولذلك فإن هذه المرحلة لم تنتهي إلا والمدينة تشغل مساحة قدرت بـ 56.6 هكتاراً (13)، أي ما يعادل 1.5% من مساحتها الحالية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق