التسميات

الخميس، 2 نوفمبر 2017

حلايب وشلاتين.. القصة من البداية للنهاية - يوسف أيوب


حلايب وشلاتين.. القصة من البداية للنهاية

يوسف أيوب

حلايب وشلاتين.. القصة من البداية للنهاية 1 - 4

اليوم السابع - السبت، 20 مايو 2017

  فى مايو 1997، عقد معهد البحوث والدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة ندوة «مثلث حلايب رؤية تنموية متكاملة»، التى أعتقد أنها من أهم الندوات التى تناولت وضع مثلث حلايب بشكل متكامل، حتى الآن، طارحة وضع المثلث تاريخياً وسياسياً، فضلاً عن الوضع الجغرافى والاجتماعى لسكان هذه المنطقة، وفقاً لما انتهت إليه بعثة ميدانية أرسلها المعهد للمثلث قبل عقد الندوة بعدة أسابيع، حيث مكثت البعثة هناك أسبوعا، واطلعوا على الطبيعة وعلى مشاكل المنطقة المتعلقة بالتنمية، كما عقدوا حينها لقاءات مع عدد كبير من سكان المنطقة، تعرفوا خلالها على مشاكلهم ورؤاهم للحل، وأيضاً كيف ينظرون لمطالب السودان «غير المشروعة» بضم المثلث.

   رغم مرور 20 عاماً على هذه الندوة، لكن ما دار فيها من نقاش والموثق فى كتاب صادر عن المعهد، يعد وثيقة تاريخية يمكن لأى باحث عن حقيقة مثلث حلايب وادعاءات السودان الرجوع إليها، لأنها جمعت كل ما يمكن أن يقال بشأن المثلث، على لسان أساتذة كبار فى كل التخصصات، قانون دولى وتاريخ وجغرافيا، وغيرهم من المرتبطين بهذا الملف، وآخرين كانوا حينها أعضاء فى لجنة التفاوض المصرية مع السودان.

ولأهمية هذه الندوة وما قيل فيها، فقد عدت إليها، مستدعياً ما قاله المشاركون فيها، خاصة بعدما دأب النظام السودانى الحالى الحديث عن حلايب دون أن يتعظ من دروس الماضى، فما يصدر عن النظام السودانى فى 2017 هو نفس ما صدر عنهم فى 1992 و1958، كلها ادعاءات واحدة لا علاقة لها بالواقع مطلقاً، أخذاً فى الاعتبار أن الحدود المصرية السودانية تمتد على شكل خط مستقيم، وهو خط عرض 22 شمالا من العوينات حتى ساحل البحر الأحمر، وتحدد هذا الخط وفقاً لاتفاقية 1899، ويبلغ طوله 1280 كلم، ووفقاً لهذا الخط، فإن مثلث حلايب هو مصرى، ويدخل ضمن الحدود المصرية.

  قبل الحديث عن حلايب، فإننى أود الإشارة إلى ما ذكره الدكتور عبدالله عبدالرازق إبراهيم، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، فى الندوة تحت عنوان «الجذور التاريخية للحدود السياسية بين مصر والسودان»، حيث قال: إنه بدأ اهتمام مصر بالجنوب فى العصر الحديث، بعد تولى محمد على السلطة عام 1805، وتوسعه إلى الجنوب لكشف منابع النيل فى الجنوب، وكانت رحلاته فى 1822، وتأسيس مدينة الخرطوم بداية اهتمام والى مصر بجنوب وادى النيل، وظلت هذه السياسة تتوسع تدريجياً وتنتقل من إقليم لآخر حتى نجح إسماعيل باشا فى تأسيس إمبراطورية كبرى فى قلب أفريقيا، وسيطر على أوغندا، كما توسع شرقاً ووصل إلى مقديشو بالصومال، وكان هذا التوسع المصرى من العوامل التى أزعجت بريطانيا، والتى رسمت سياستها فى أوائل القرن التاسع عشر على التوسع فى أعالى النيل ومنع أية دولة من الاقتراب من هذه المناطق، حتى يتسنى لها مد خط السكك الحديدية من شمال القارة إلى جنوبها، فيما أطلق عليه خط حديد الكيب- القاهرة.

  وفى المقابل سجل البريطانيون أول وجود لهم على الساحل الشرقى لأفريقيا، عندما حاصرت وحدة بريطانية سواحل الصومال فى الفترة من 1825 حتى 1833 بسبب قيام بعض البرابرة بالاعتداء على بحارة الباخرة الأمريكية مارى أن، ونظرا لأهمية موقع عدن فقد احتلتها عام 1839 لاستخدامها كمحطة لتموين السفن، وأيضاً لحماية الطرق المؤدية إلى الهند، وحاولت بريطانيا إحكام قبضتها على النيل، واعتمدت على إيطاليا حتى تتفرغ من مشكلات الاحتلال البريطانى لمصر عام 1882، لكن إيطاليا انهزمت فى معركة عدوة 1869 أمام الأحباش، وانهارت كل آمال بريطانيا بعد أن بدأ التقارب بين إمبراطور الحبشة منليك، من خلال حملات فرنسية وحبشية من الشرق والغرب، ونجح الفرنسيون فى الوصول إلى أعالى النيل، ورفع مارشان العلم الفرنسى على قرية فاشودة، وأسرعت بريطانيا بإرسال قواتها نحو دنقلة لتخفيف الضغط على الإيطاليين، وفى نفس الوقت تقدمت القوات المصرية حتى تم القضاء على الدولة المهدية فى معركة جديد فى نوفمبر 1899، ورفع كتشنر العلم المصرى إلى جانب العلم الفرنسى، وأعلن أنه جاء لاسترداد أراضى الخديوى، وكادت أن تحدث مشكلة بين كتشنر ومارشان، لكن صدرت تعليمات بانسحاب مارشان، وعاد كتشنر ليرفع العلم البريطانى إلى جانب العلم المصرى، إيذانا ببدء الحكم الثنائى للسودان عام 1899، وتم توقيع اتفاقية الحكم الثنائى بين بريطانيا ومصر، باعتبارهما حاكمى السودان فى هذا الوقت، لكن نظراً لأن القبائل الرعوية فى شمال شرق السودان وجنوب شرق مصر كانت ولا تزال ذات حركة مستمرة بحثاً عن الماء والكلأ فقد تم تقديم بعض التسهيلات الإدارية لتخفيف قيود الحركة والتنقل لهذه القبائل الرعوية، وظلت السيادة المصرية على هذه المنطقة رغم بعض التصرفات التى كانت تبديها بعض نظم الحكم السودانية، كما حدث عامى 1985 و1991، والمتعلقة بمشاكسات سودانية تدعى ملكية حلايب.

  أما منطقة حلايب، فهى تعد من المناطق المهمة فى مصر، لموقعها الاستراتيجى الفريد فى الركن الجنوبى الشرقى من البلاد، وتطل المنطقة على البحر الأحمر، ولذلك تعتبر المنفذ الشرقى «وبوابة العبور» نحو السودان وأفريقيا، وتبلغ مساحتها حوالى 12.500 كلم، وتبدو على شكل مثلث قاعدته خط عرض 22 درجة شمالا، وهو الحد الدولى بين مصر والسودان، وفقاً لاتفاقية 19 يناير 1899 التى تعد السند القانونى لتحديد الحدود الدولية بين مصر والسودان، وتنص فى مادتها الأولى على أنه «تطلق لفظة السودان فى هذا الوفاق على جميع الأراضى الكائنة إلى الجنوب عرض 22 درجة شمالا، وهى الأراضى التى لم تدخلها قط الجنود المصرية منذ سنة 1882، أو الأراضى التى كانت تحت إدارة الحكومة المصرية قبل ثورة السودان الأخيرة وفقدت منها وقتياً، ثم افتتحتها الآن حكومة الملكة والحكومة المصرية بالاتحاد أو الأراضى التى قد تفتتحها بالاتحاد الحكومتان المذكورتان من الآن فصاعداً».

حلايب وشلاتين.. القصة من البداية للنهاية «2 - 4»

اليوم السابع - الأحد، 21 مايو 2017 

  استكمالًا للنقاش الذى دار فى ندوة «مثلث حلايب رؤية تنموية متكاملة»، التى عقدها معهد البحوث والدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة فى مايو 1997، فقد كان الحديث كله منصبًا على أن اتفاقية 19 يناير 1899 ما بين مصر وبريطانيا، باعتبارهما حكام السودان فى هذا الوقت، هى التى حددت بشكل واضح ولا لبس فيه حدود مصر والسودان.

  والغريب وفقًا للكثير من المصادر التاريخية أيضًا أنه لم يكن هناك سودان بمعنى السودان، الدولة التى نعرفها الآن قبل اتفاقية 1899، والدليل أن الفرمان الصادر من الباب العالى لمحمد على فى 1841 كان يقول إن له حكم مصر وكردفان ودارفور والنوبة، إذن لم تكن هناك دولة وإنما ممالك متعددة، وبمقتضى فرمان 13 فبراير 1841 ظهرت على الخرائط أول حدود بين مصر والسودان، وكانت نقطة الحدود تبدأ عند خليج «راوى» على الساحل الغربى للبحر الأحمر، وتحديدًا عند خد عرض 21.5 شمالًا، واستمرت منطقة وادى حلفا حتى عقد اتفاقية 1899 داخله ضمن نطاق أراضى «مصر الأصلية» كما كانت تسمى وقتها، فلما عقدت هذه الاتفاقية زحزح خط الحدود المصرية السودانية إلى خط 22 شمالًا.

  الأخوة فى السودان يعتمدون فى ادعاءاتهم على بعض القرارات الإدارية التى صدرت عن الحكومة المصرية، ويقولون إنها نقلت السيادة فى حلايب من مصر للسودان، وهو بالطبع ادعاء باطل وكاذب أيضًا، لأن هذه القرارات لم يكن الهدف منها التنازل عن السيادة المصرية، وإنما إجراء بعض الترتيبات فى المنطقة لتسهيل عملية انتقال القبائل الرعوية بين مصر والسودان، ومن هذه القرارات الصادر فى 26 مارس 1899 من ناظر الداخلية المصرى، الذى قرر إقامة حدود إدارية إلى الشمال من وادى حلفا، فحينما تم تحديد الحدود بخط عرض 22، وجد أن هذا الخط يمس مدينة وادى حلفا إلى شمالها، فالظهير الزراعى لمدينة وادى حلفا الذى يقع إلى الشمال منها، شمال خط عرض 22، وترتبط حياته وحياة سكان حلفا بهذا الشريط، ويضم عشرة قرى، رؤى لحسن الإدارة أن تشرف عليها حكومة الخرطوم، وكانت مصر مشاركة فى حكم السودان لتيسير الإدارة فى هذه المنطقة، لأن خط عرض 22 لم يكن صالحًا لحياة الناس فى وادى حلفا والقرى العشر التى تقع إلى الشمال منه.

وهذه القرى كانت مساحتها حوالى أربعة آلاف فدان، فضلًا عن أنها كانت تضم ما يقرب من 72 ألف نخلة، والنخل هو الثروة الوحيدة لهذه المنطقة، وكان عدد سكان وادى حلفا وقتها حوالى 13 ألف نسمة، ثم صدر قرار مماثل لناظر الداخلية المصرى فى 4 نوفمبر 1902 شأن مثلث حلايب أو مثلث جبل علبة، وما جرى لوادى حلفا جرى أيضًا للمثلث، حيث وجد أن القبائل التى تعيش على جانبى خط عرض 22 هى قبائل رعوية لا تعرف الاستقرار، وتنتقل شمالًا وجنوبًا ولا تعرف ما يسمى بالحدود السياسية، وهذه القبائل هى العبابدة والبشاريين، فأصدر ناظر الداخلية قرارًا لصالح الإدارة فى 4 نوفمبر 1902 بإقامة حدود إدارية إضافة إلى الحدود السياسية، وهذه الحدود تجعل لحكومة الخرطوم التى كانت مصر طرفًا فيها أن تدير وتشرف على إدارة هذا المثلث.

  ولما كانت السودان خاضعة فى هذا الوقت للإدارة المصرية، فلم يكن هناك أى قلق من إصدار أى قرار إدارى داخل إقليم مصر والسودان، لأن الإدارة واحدة، لذلك استقر الوضع فى المثلث إلى أن نال السودان استقلاله فى أول يناير 1956، وانتهى الحكم الثنائى وبدأ السودان يمارس حكم بلاده، وكانت أول إثارة لمشكلة الحدود عام 1958، أى بعد الاستقلال بعامين، وقد نجح الإنجليز طوال فترة الحكم الثنائى فى بث الشقاق بين المصريين والسودانيين، وزرع الكراهية والحقد بينهما.

  وفى رده على الادعاءات السودانية، قال الدكتور مفيد شهاب، أستاذ القانون الدولى، ورئيس جامعة القاهرة وقتها، والذى كان ضمن فريق تفاوضى مع السودان، ضم بجانبه الدكتور محمد السيد غلاب، والدكتور يونان لبيب رزق، وعدد من المسؤولين بوزارة الخارجية والأجهزة الأخرى المعنية، قال الدكتور مفيد فى افتتاح هذه الندوة، إن القاعدة الثابتة أنه عندما تحدد الحدود باتفاق دولى لا تتغير أبدًا، حتى لو حدثت حروب بين الدولتين، فالحدود لا تتغير، فهناك أنواع للمعاهدات، فإذا حدثت خلافات سياسية تنتهى المعاهدات السياسية والاقتصادية، واذا حدثت حروب تنتهى المعاهدات السياسية وتتوقف المعاهد الثقافية، لكن هناك نوع واحد من الاتفاقيات الدولية لا تتغير أبدًا إلا برضى الطرفين، وهو معاهدات الحدود، لأن الحدود تتميز بأنها تحدد ويسودها عدة مبادئ هى «مبدأ استقرار الحدود»، و«توثيق الحدود»، و«نهائية الحدود»، حتى تتمتع حدود كل دولة بالاستقرار والديمومية، فهذه هى حدودنا منذ 1899.

  الدكتور مفيد يقول أيضًا «صحيح أن ثمة قرارين صادرين من وزير الداخلية «مصطفى باشا فهمى آنذاك»، بتحديد بعض النقاط ليصبح هناك نوع من الإدارة فى السودان، لوجود بعض القبائل السودانية التى تنتقل إلى شمال مصر، ومن الممكن أن تنتقل وتتعايش فى شمال الحدود المصرية، وأيضًا القبائل المصرية تعبر الحدود السودانية، وهذه عملية تنقل وتسهيلات إدارية لا تنال أبدًا مما نسميه فى القانون بالسيادة، فالسيادة شىء والإدارة شىء آخر، والسيادة شىء، وممارسة السيادة أو عدم ممارستها شىء آخر، فقد يكون هذا الإقليم مصريًا ولكن مصر لا تمارس عليه السيادة لسبب أو لآخر، وهناك مناطق معينة تتركها الدولة تحت إشراف دولى معين، أو منطقة منزوعة السلاح أو تكون منطقة لا تتواجد فيها قواتها إلا بنسب معينة، أو بقواعد معينة، أو لا تقوم فيها بتدريبات عسكرية وإنما تكون فيها شرطة مدنية فقط، أو شرطة عسكرية فتحرر من الدولة بإرادتها أو رغمًا عنها، من أن تباشر بعض مظاهر السيادة وهذا أمر وارد جدًا، ولكن يبقى الإقليم خاضعًا لسياداتها، فإذا كانت مصر قد سمحت لاعتبارات عملية بإعطاء تسهيلات إدارية فى هذا المثلث لقبائل سودانية وبتواجد إدارى فى داخل هذه الأراضى، فلا يعنى هذا أبدًا أن مصر قد تنازلت عن هذا الجزء».

حلايب وشلاتين.. القصة من البداية للنهاية «3 - 4»

اليوم السابع - الاثنين، 22 مايو 2017 

   كانت الحدود المصرية السودانية مستقرة، ومعتمدة على اتفاقية 1988 الموقعة بين مصر وبريطانيا، باعتبارهما أصحاب الحكم الثنائى على السودان، إلى أن بدأت الأزمة فى 1958 عندما أعلنت الحكومة السودانية عن ترسيم الدوائر الانتخابية للبرلمان السودانى التى كانت ستجرى فى 27 فبراير 1958، وشمل هذا التقسيم مثلث حلايب وشلاتين، فضلًا عن لسان حلفا، حيث أدخلوهم فى تحديد الدوائر الانتخابية السودانية.

  الحكومة المصرية اعتبرت أن هذا التقسيم مخالف لاتفاقية 1899 فأرسلت مذكرة للحكومة السودانية فى أول فبراير 1958 تلفت نظرها لذلك، ولم ترد الحكومة السودانية على هذه المذكرة، فقدمت مصر مذكرة أخرى فى 13 فبراير لاستعجال الرد، كما أوضحت أن ظروف الاستفتاء المصرى على قيام الوحدة المصرية السورية وانتخاب رئيس الجمهورية المحدد له 21 فبراير 1958 تقتضى إنهاء هذه المسألة بسرعة حتى يتمكن المواطنون من الإدلاء بأصواتهم، وللمرة الثانية لم ترد الحكومة السودانية، مما دفع القاهرة للتقدم بمذكرة ثالثة فى 16 فبراير تحيط فيها حكومة السودان علمًا بأنها سترسل لجانًا للاستفتاء إلى هذه المناطق والذى سيجرى فى 21 فبراير، ومعها نقطة بوليس حدود.

   وبينما كانت القاهرة تبحث عن البدائل التى تحاول من خلالها تجنب أى صدام مع الأشقاء فى السودان، كانت الخرطوم تسير عكس الاتجاه، خاصة أنه كان يرأس حكومة السودان آنذاك عبدالله خليل، سكرتير عام حزب الأمة، المعادى لمصر، فوجد ضالته المنشودة بتحقيق مكسب سياسى فى الانتخابات السودانية فى مواجهة الحزب الوطنى الاتحادى، فصعد مشكلة حلايب وشلاتين قبل الانتخابات بأيام قليلة، حيث أذاع مجلس الوزراء السودانى بيانًا، تحت عنوان «تدخل الحكومة المصرية فى الحدود السودانية»، وأعلنت الحكومة السودانية فى بيانها أنها ستدافع عن أراضيها، ثم بدأت الأزمة تأخذ بعدًا آخر، وهو التدويل، فلجأت الخرطوم إلى مجلس الأمن وقدمت مذكرة للأمم المتحدة، واستجاب مجلس الأمن لطلب الخرطوم، وعقد اجتماع طارئ فى 21 فبراير 1958 لمناقشة الطلب السودانى، وفى المقابل رفضت القاهرة الانجراف خلف السودان التى اختارت الاستفزاز أسلوبًا للتعامل مع مصر، وقرر جمال عبدالناصر، وقتها تهدئة الوضع، وبالفعل منذ أن عقد الاجتماع الطارئ لمجلس الأمن فى 21 فبراير تجمد الأمر، ولم يتحرك ثانية إلا فى 1992.

  وبعد أكثر من 34 عامًا من الهدوء عادت القضية مرة أخرى للواجهة، وتحديدًا فى 1992، بعدما وقعت حكومة السودان مذكرة تفاهم مع شركة كندية بشأن التنقيب على البترول فى أغسطس 1991، وتم توقيع عقود التنقيب فى 17 ديسمبر 1991، وذلك ضمن امتياز للشركة الكندية للتنقيب على البترول فى منطقة تمتد من جنوب خط عرض 22 شمالًا لتضم منطقة امتياز مثلث حلايب بالكامل شمال خط عرض 22، وعلى ضوء ذلك كلفت وزارة الخارجية المصرية، السفير المصرى بالعاصمة الكندية، أوتاوا، بالتواصل مع الشركة الكندية.

   وفى الأسبوع الأول من يناير 1992 اتصل السفير بالشركة الكندية فى فانكوفر، وأخطرها بأن الاتفاقية الموقعة بينها وبين الحكومة السودانية تمتد خارج الأراضى السودانية، وفى جزء من الأراضى يخضع للسيادة المصرية، كما قدم احتجاجًا رسميًا للشركة على توقيع الاتفاق فى منطقة لم تسوء أوضاعها القانونية بعد، وكان الاحتجاج مصحوبًا بطلب مصرى بإلزام الشركة الكندية بسحب آلاتها ومعداتها من المنطقة، وقدمت للشركة وثائق وخرائط تثبت حق مصر فى منطقة حلايب.

   وفى القاهرة والخرطوم جرت اتصالات مصرية سودانية عبر وزارتى البترول فى البلدين، والسفارة المصرية فى الخرطوم والسفارة السودانية فى القاهرة حول المشكلة، وقدمت مصر مذكرة احتجاج رسمية للحكومة السودانية حول قيامها بمنح الشركة الكندية امتياز التنقيب عن البترول فى منطقة حلايب، لكن الخرطوم لم ترد على الاحتجاج المصرى بدبلوماسية أو بالطرق المعتادة، لكنها قررت البدء فى حرب التصريحات من جانب مسؤوليها ضد مصر فى الإعلام، واستمر الهجوم الإعلامى السودانى على مصر، إلى أن زار القاهرة اللواء الزبير محمد صالح، نائب رئيس مجلس قيادة الثورة ونائب رئيس الوزراء، ووزير الداخلية السودانى تلبية لدعوة رسمية وجهت له من الجانب المصرى، وتم الاتفاق على تشكيل لجنتين مشتركتين بين البلدين، الأولى على المستوى الوزارى للسياسة والإعلام وتضم الوزراء المعنيين فى البلدين لبحث التنسيق فى الشؤون السياسية والإعلامية والأمنية، والثانية مؤقتة لبحث الحدود المشتركة بين البلدين وتسويتها وكان يرأس هذه اللجنة من مصر الدكتور أسامة الباز، ومن السودان محمد عثمان ياسين وكيل أول وزارة الخارجية السودانية.

  وفى 16 مارس 1992 عقدت اللجنة أول اجتماع لها فى الخرطوم وتأجل اجتماعها الثانى الذى كان مقررًا عقده فى القاهرة فى إبريل، وفشلت اللجنة فى عقد اجتماعها الثانى، ونشبت أزمة سياسية بين البلدين، ولم تستأنف اللجنة اجتماعها إلا فى 27 أكتوبر 1992 بالقاهرة، وصدرت تصريحات على اتفاق اللجنة على الحل الودى لقضايا الحدود، لكن السودان كعادتها قررت الخروج عن إطار التفاوض والحوار، ولجأت إلى التدويل مرة أخرى، حيث قدمت شكوى إلى مجلس الأمن فى 27 ديسمبر 1992.

  وقامت مصر بالرد على المذكرة التى رفعتها حكومة الخرطوم فى 3 يناير 1993، واستمرت الأزمة على نفس المنوال حتى نهاية 1993، وأرسلت حكومة الخرطوم العديد من المذكرات إلى مجلس الأمن، وشهدت العلاقات بين البلدين الكثير من التوتر كان من بينها إغلاق قنصليتى السودان بالإسكندرية وأسوان، وقنصليتى مصر بالأبيض وبور سودان فى 22 يونيو 1993، وزادت العلاقات توترًا بعد محاولة اغتيال الرئيس الأسبق حسنى مبارك فى أديس أبابا فى يونيو 1995، والمتهم بالوقوف خلفها النظام السودانى.

حلايب وشلاتين.. القصة من البداية للنهاية «4 – 4»

اليوم السابع - الثلاثاء، 23 مايو 2017 12:00 م

  النقاش الذى دار فى ندوة «مثلث حلايب رؤية تنموية متكاملة»، التى عقدها معهد البحوث والدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة، فى مايو 1997، انتهى إلى أن المبدأ الأساسى الذى كانت ولا تزال تسير عليه مصر هو أنه لا يجب أن تكون الحدود بين مصر والسودان عامل انفصال، لأن الحدود لم تعد الآن من عوامل الانعزال بين الدول، وإنما وظيفتها تحديد الإقليم حتى نعرف الدولة المسؤولة عنه، وهو الأمر الذى عبر عنه بشكل واضح فى هذه الندوة الدكتور مفيد شهاب، أستاذ القانون الدولى، ورئيس جامعة القاهرة وقتها، والذى كان ضمن فريق تفاوضى مع السودان، وضم الفريق بجانبه الدكتور محمد السيد غلاب، والدكتور يونان لبيب رزق، وعددًا من المسؤولين بوزارة الخارجية والأجهزة الأخرى المعنية.

 هذا الفريق الذى كان يضم قامات لها تاريخها المهنى والأكاديمى، دخل فى تفاوض مع الخرطوم لعدة سنوات، وكانت مصر قد عملت على توثيق علاقتها بالسودان، لكن للأسف وبتوجيهات ظالمة من الجانب السودانى توقفت المفاوضات بين البلدين فى حينها، ووفقًا لما قاله الدكتور مفيد شهاب وبقية أعضاء اللجنة وقتها، يتحمل مسؤولية هذا التوقف الجانب السودانى، بعدما تعمد أن يأخذ مواقف حادة متعنتة ليعلن بطريقة ضمنية أنه لا يريد استكمال التفاوض، خاصة بعدما نجح الوفد المصرى فى عرض الجوانب التاريخية التى تثبت أحقية مصر فى هذا المثلث بشكل علمى، وأيضًا الجوانب القانونية، والرد على كل الحجج التى كانت تقدم من الجانب السودانى، وحينها توقفت المفاوضات لأن الجانب السودانى شعر بضعف موقفه.

  المهم فى هذه الندوة أنها رصدت الادعاءات السودانية حول حلايب وردت عليها بشكل علمى وتاريخى ومنطقى أيضًا، ومنها على سبيل المثال ادعاء الخرطوم أن القرارات الإدارية التى صدرت عن وزير الداخلية المصرى نقلت إدارة المثلث من مصر للسودان، مما تنتقل معه السيادة، وهو فهم قاصر وخاطئ أيضًا، لأن القاعدة الثابتة كما قال الدكتور مفيد شهاب، أنه عندما تحدد الحدود باتفاق دولى لا تتغير أبدًا، حتى لو حدثت حروب بين الدولتين، وهناك نوع واحد من الاتفاقيات الدولية لا تتغير أبدًا إلا برضى الطرفين، وهو معاهدات الحدود، لأن الحدود تتميز بأنها تحدد ويسودها عدة مبادئ هى «مبدأ استقرار الحدود»، و«توثيق الحدود»، و«نهائية الحدود»، حتى تتمتع حدود كل دولة بالاستقرار والديمومية، فهذه هى حدودنا منذ 1899، ورغم أن هناك قرارين صادرين من وزير الداخلية «مصطفى باشا فهمى آنذاك»، بتحديد بعض النقاط ليصبح هناك نوع من الإدارة فى السودان، لوجود بعض القبائل السودانية التى تنتقل إلى شمال مصر، ومن الممكن أن تنتقل وتتعايش فى شمال الحدود المصرية، وأيضًا القبائل المصرية تعبر الحدود السودانية، وهذه عملية تنقل وتسهيلات إدارية لا تنال أبدًا مما نسميه فى القانون بالسيادة، فالسيادة شىء والإدارة شىء آخر، والسيادة شىء، وممارسة السيادة أو عدم ممارستها شىء آخر، فقد يكون هذا الإقليم مصريًا ولكن مصر لا تمارس عليه السيادة لسبب أو لآخر، وهناك مناطق معينة تتركها الدولة تحت إشراف دولى معين، أو منطقة منزوعة السلاح أو تكون منطقة لا تتواجد فيها قواتها إلا بنسب معينة، أو بقواعد معينة، أو لا تقوم فيها بتدريبات عسكرية وإنما تكون فيها شرطة مدنية فقط، أو شرطة عسكرية فتحرر من الدولة بإرادتها أو رغمًا عنها، من أن تباشر بعض مظاهر السيادة وهذا أمر وارد جدًا، ولكن يبقى الإقليم خاضعًا لسياداتها، فإذا كانت مصر قد سمحت لاعتبارات عملية بإعطاء تسهيلات إدارية فى هذا المثلث لقبائل سودانية وبتواجد إدارى فى داخل هذه الأراضى، فلا يعنى هذا أبدًا أن مصر قد تنازلت عن هذا الجزء.

  ما يؤكد حديث الدكتور مفيد شهاب أيضًا، أن هذا التنازل إما أن يكون فى اتفاقية دولية تعلن فيها مصر أنها تنازلت عن الإقليم أو قامت من خلال تصرفاتها الصريحة التى يفهم منها أنها تنازلت، لكن مصر لم تتنازل صراحة ولا ضمنًا عن هذا الإقليم، ولا وجود لأى ورقة أو وثيقة رسمية بهذا الشأن.

أمر آخر وهو أن الجانب السودانى يتحدث عن أنه اكتسب السيادة على المنطقة بالتقادم، لكن هذه المسألة غير موجودة فى القانون الدولى، وإنما قد تكون ممكنة فى القانون الخاص، عندما يأتى إنسان ويأخذ أرض إنسان آخر ويعيش فيها لمدة 15 عامًا فهنا يحق له أن يقول أخذتها بوضع اليد، وهذا لا يوجد فى القانون الدولى، لأن الحدود وأرض الدولة جزء من سيادتها، والسيادة لا تنتهى إلا بإرادة الدولة أو بتنازلها الصريح.

  الشاهد فى كل ذلك أن الجانب السودانى هو الذى اختلق هذه المشكلة، ويحاول أن يشرعنها رغمًا عن الجميع، رغمًا عن مصر والقانون الدولى والاتفاقيات وكل شىء، دون أن يدرى الحقيقة المهمة وهى أننى من الممكن أن أسمح لك بالتنقل وأسمح لك بالتواجد وأسمح لك بأن تعيش معى وربما أن تباشر مظاهر السيادة الخاصة بى، لكن أن تدعى بأن السيادة الكاملة انتقلت لك فهذا هو الخطأ بحد ذاته غير المقبول من مصر ولا من المجتمع الدولى بشكل كامل، كما أنه ليس مقبولًا أن يدعونا الأخوة فى السودان للذهاب إلى التحكيم الدولى فى هذه القضية، لأن الأمر لا يمثل نزاعًا من الأساس، فالأرض مصرية، والتاريخ والجغرافيا يؤكدان ذلك، كما أن الحكومة السودانية مقتنعة بذلك تمامًا، لكنها ترغب فى استغلال هذا الملف فى كل أزماتها السياسية الداخلية، لتحقيق مكاسب فى الداخل السودانى حتى وإن كان على حساب العلاقة مع مصر.

  القضية محسومة منذ البداية لكن الأشقاء فى الخرطوم لا يريدون تصديق ذلك، لأن المنطق عندهم تحكمه اعتبارات سياسية وليست قانونية أو مرتبطة بعلاقات الأشقاء التى يجب أن تقوم على مبدأ الحوار والتكامل وليس البحث عن العداوة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا