التسميات

الخميس، 4 يناير 2018

الجغرافيا الطبيعية: المضمون والتطور والمنهج - د. جبريل أمطول ...


الجغرافيا الطبيعية: المضمون والتطور والمنهج

الدكتور جبريل أمطول
قسم الجغرافيا - كلية الآداب
 جامعة بنغازي


مجلة كلية الآداب - جامعة بنغازي - العدد 36 - 2012 - ص ص 201 - 220:

الجغرافيا الطبيعية: المضمون والتطور والمنهج
مـلخـص

يتناول موضوع الجغرافيا الطبيعية بالوصف والتفسير أشكال سطح الأرض وما يحيط به من غلاف جوي. كما تتميز دراساتها بالتركيز على مجموع العلاقات المتبادلة بين مختلف العمليات ذات التأثير في البيئة الطبيعية/الحيوية بدل التركيز على أي منها منفردا، إلى جانب أخذها في الاعتبار الدور المتمم لنشاط الإنسان ضمن البيئة الطبيعية الحيوية. 
وقد تطورت الجغرافيا الطبيعية خاصة خلال القرن التاسع عشر، بنمو الاهتمام بالكشوف الجغرافية وظهور أراء علمية جديدة كان لها أكبر الأثر في إعادة النظر في الأفكار القديمة والتي كان معظمها لا يرتكز على أسس علمية ، وبذلك أضيف الكثير إلى مادتها العلمية وتطور نهجها متأثرا بتطور غيرها من العلوم. وفي هذا الصدد يرى معظم المتتبعين لتطور الجغرافيا الطبيعية أن الفترة بعد منتصف القرن 19 شكلت أكثر سنوات عمر الجغرافيا الطبيعية تطورا، حيث ظهرت أفكار جديدة تبناها أشخاص مثل هاتون ودارون وأضافت الكثير إلى منهج الجغرافيا الطبيعية كما امتدت تأثيرات هذه الآراء عبر كتابات ديفز وغيره لتعطي الجغرافيا الطبيعية شخصيتها المميزة خلال تلك الفترة . توالت بعد ذلك التطورات فيما يعرف بالثورة الكمية في الجغرافيا وتبني تقنيات حديثة ضمن نهج الجغرافيا مثل الاستشعار عن بعد ونظم المعلومات الجغرافية.
 تهدف هذه الورقة إلى تعريف الجغرافيا الطبيعية وتحديد مضمونها والأساليب المختلفة في تناول موضوعاتها، وهي أفكار لا يمكن فهمها في معزل عن ظروف تطور الجغرافيا الطبيعية خاصة خلال الفترة من بداية القرن التاسع عشر وحتى الوقت الحالي. ولعل من أهم الدوافع وراء القيام بهذا العمل المتواضع ما لاحظته مع بقية زملائي المهتمين بتطور الفكر الجغرافي من قصور واضح لدى طلبة الجغرافيا في هذا الجانب . وفي الوقت الذي لا يمكن الادعاء بأن ما ورد في هذه الورقة من معلومات كافيا في هذا الموضوع ، فهي ليست أكثر من مقالة صغيرة في موضوع كبير، إلا أنني على يقين من أن طرق هذا الموضوع يمثل خطوة سوف تسهل الانطلاق نحو إعداد المزيد من الدراسات المتعمقة والتي بدورها سوف توفر المادة الكافية في هذا المجال.

مقدمة
هناك اعتقاد جازم بان تدنى مستوى كثير من البحوث من حيث النوعية يعود بالدرجة الأولى إلى عدم تمكن الباحث من مفاهيم العلم الذى يدرسه، فهو محتاج لتحديد موضوع هذا العلم حتى يضع المحتوى فى إطاره الصحيح وحتى يتبع طريقة معالجة تتناسب مع طبيعة دراسته والهدف منها. وانطلاقا من حقيقة أن أساس كتابة بحث علمى فى الجغرافيا الطبيعية هو المعرفة المسبقة بطبيعتها ومفاهيمها ومجالها، فان هذه الورقة تهدف الى التعريف بالجغرافيا الطبيعية وتحديد مجالها وطبيعتها ووظيفتها ومناهجها، وهى مفاهيم من الضرورى ان يحيط بها الباحث ليضمن سلامة مسار بحثه وعدم التعدى على كتابات غيره ويبتعد عن التقليد. ان تحقيق هذه الأهداف ولو بشكل جزئى سوف يساعد الدارس على إطلاق طاقات علمية كما سوف يعزز البحث العلمى فى هذا المجال .
فالجغرافيا الطبيعية فرع معرفى ينظوى تحت علم أوسع وهو الجغرافيا، ولم تتطور فى بداياتها كعلم مستقل بل تطورت ضمن الجغرافيا ككل ، حيث لم تظهر كفرع مستقل إلا خلال المائة والخمسون سنة الماضية، ولهذا لا مفر من تتبع تطورها وفقا لهذه الحقيقة. وكغيرها من فروع المعرفة الإنسانية، كان تطور الجغرافيا عبر تاريخ طويل من التجارب والخبرة الإنسانية ، كما كانت بداياتها الأولى وليدة دوافع مثل البحث عن الغذاء أو الحماية من الأخطار أو بدافع الفضول . وربما تطور البحث عن الغذاء الى تحديد مواقع بعينها تحوى غذاء أوفر أو أماكن يمكن الالتجاء إليها عند الخطر ، وربما كان الإنسان يستعين بمعالم معينة ومسالك محددة تسهل مغادرة هذه المواقع والرجوع اليها عند الحاجة، قد يكون  ذلك أساس فكرة الخريطة.
اهتمت الحضارات القديمة بموضوعات ذات طبيعة جغرافية غير أن الإغريق يأتون فى المقدمة كرواد فى هذا المجال، فالجغرافيا عندهم تعنى وصف الأرض أو رسم الأرض وهو مفهوم لازم الجغرافيا حتى عهد قريب. كما اهتم الإغريق بتحديد شكل الأرض وحجمها فى ما يعرف بالجغرافيا العلمية، أما الجغرافيا الطبيعية فلم تبرز عندهم كعلم واضح المعالم رغم أنهم اهتموا بظواهر تنظوى تحت الجغرافيا الطبيعية مثل المد والجزر والبراكين وغيرها. كما يعرف عن فلاسفة الإغريق أيضا اهتمامهم الشديد بفهم الطبيعة المكانية للمظاهر الطبيعية (الفيزيائية) البشرية على الأرض .
تعتبر الجغرافيا الطبيعية حديثة نسبيا، إذا ما قورنت بغيرها من فروع المعرفة ، حيث انبثقت من الجيولوجيا والفيزوغرافيا فى نهاية القرن التاسع عشر، بل استمرت تدرس ضمن موضوعات الجيولوجيا حتى وقت قريب. ومع توطد أقسام الجغرافيا فى كثير من الجامعات فى بداية القرن العشرين ، زاد الاهتمام بموضوعها كما زاد ابتعادها عن خلفيتها الجيولوجية.

2. مفهوم الجغرافيا الطبيعية
يتفق الكثير من الجغرافيين على أن الاهتمام الرئيسى للجغرافيا الطبيعية يتمحور حول الدراسة المكانية للظواهر الطبيعية، ودراسة عناصر الطبيعة التى ينتج عن تفاعلها هذه الظواهر. يعنى هذا أن الجغرافيا الطبيعية تهتم بالظاهرات المكانية للطقس والمناخ، التربة، النبات والحيوان ، الأشكال الأرضية والماء فى صوره المختلفة . كما تهتم أيضا بعلاقات الارتباط بين هذه الظاهرات وبين أنشطة الإنسان، وقد تطور الاهتمام بهذا الجانب الأخير فى السنوات الأخيرة مدفوعا بتزايد التدهور البيئى الناتج عن نشاط الإنسان. إذا مجال الجغرافيا ليس محددا بالدراسة المكانية للظواهر الطبيعية فقط بل يشمل أيضا الكيفية التى يؤثر بها الإنسان على الطبيعة.
يرى (Gregory (2000 ان الجغرافيا الطبيعية تهتم بوصف وتفسير مختلف الظاهرات فوق سطح الأرض وما يجاور هذا السطح من غلاف جوى، وبذلك يشمل موضوعها المناخ، الماء فى مختلف أشكاله، أشكال الأرض والتربة والنبات. مع الاهتمام بالاختلافات المكانية والتغيرات الزمنية  لفهم ما يتزامن معها او يعاصرها من بيئات الأرض. وتهدف الجغرافيا الطبيعية إلى فهم كيف ﹸتشكل البيئة الطبيعية للأرض أساس نشاط الإنسان وكيف تأثرت بهذا النشاط. البعض يرى أن الجغرافيا مركب من النظم الطبيعية والأنظمة البشرية ضمن الحيز المكانى. وبذلك هى دراسة النظم البيئية البشرية من وجهة نظر العلاقات المكانية والعمليات المكانية، والجغرافيا الطبيعية يجب ان تشدد على الخصائص المكانية للأنظمة الطبيعية، وبشكل خاص ارتباطها بالإنسان، (Kolars & Nystuen, 1975,p.1) . فالجغرافيا الطبيعية وفقا لذلك, علم مبنى على مجموعة هائلة من الحقائق التى لا تهدف فقط إلى تعميق فهم الإنسان بأسرار بيئته الطبيعية والبشرية بل وتهتم ايضا بمحاولة التلاؤم مع هذه البيئة او تغيرها، (البنا، 2003، ص17) .
من خلال ما تقدم يمكن الخروج بتعريف متجانس للجغرافيا فى ابسط صورها وهو أنها ذلك الحقل من المعرفة الذى يهتم بالكيفية التى تنتظم بها الظاهرات الطبيعية مكانيا، ولماذا لهذه الظواهر أشكال وتكيفات مكانية محددة. ولا تعنى دراسة المكان كصورة ساكنة بل كوضعية متجددة تلتقى فيها جميع العوامل المسؤولة عن تشكيل وجه الأرض بشكل مستمر، (منشل، 1995، ص140) .

3. مجال الجغرافيا الطبيعية
نظرا لأن ميدان الجغرافيا تتناوله علوم أخرى، أى أن جزء كبير من المادة الجغرافية شيء مشترك بينها وبين كثير من العلوم الأخرى، إلى جانب عدم وجود حدود واضحة لموضوعاتها، أصبحت الجغرافيا الطبيعية على اتصال بكثير من العلوم الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية، والتى استعارت منها حقائق وأفكار ووسائل بحث ووحدتها لتقدم البيئة الطبيعية بنظرة شمولية، كما وظفتها فى تفسير الظاهرة الجغرافية وهى ظاهرة تتصف بالتداخل والتفاعل مع عناصر البيئة ومكوناتها . لهذه الأسباب أصبحت الجغرافيا الطبيعية تصنف ضمن الدراسات الحدية، وهى دراسات غالبا ما توصف بأنها أكثر العلوم إثارة وخصبا. وبذلك فان الاعتقاد القائل بان الروابط القوية والتطابق الشديد مع هذه العلوم قد طمس الدور المميز للجغرافيا الطبيعية ليس اعتقادا صحيحا بل فيه الكثير من المغالطة والتجنى من قبل أناس لا يدركون طبيعة الجغرافيا وأهدافها، والصحيح أن هذا الاتصال زاد من تعميق فهم العلاقات المتبادلة بين المكونات المختلفة للبيئة الطبيعية. مع ملاحظة أن الجغرافيا الطبيعية لا تهتم بدراسة البيئة الطبيعية لذاتها فقط بل لأنها تمثل البيئة التى يعيش فيها الإنسان، وهى بذلك تختلف عن العلوم الجيوفيزيائية التقليدية (علوم طبيعة الأرض)  ولكونها تشدد على تناول جوانب العالم الطبيعى ذات التأثير على أنشطة الإنسان ، (Lookwood, 1978, p.3) .
رغم طابع العمومية الذى تتصف به الجغرافيا الطبيعية والناتج عن اتساع مجال اهتمامها، إلا أن دراسة موضوعاتها أكاديميا غالبا لا يكون بهذه العمومية ، فالمتخصص يحتاج إلى أن يجمع بين الإلمام العام بفروعها أو موضوعاتها المختلفة مثل الجيومورفولوجيا والتربة الجغرافيا الحيوية الهيدرولوجيا والطقس والمناخ ، والتخصص فى واحد منها. بالإضافة إلى أن هذه العناصر تمثل محتوى الجغرافيا الطبيعية فهى بدورها تحتوى على معلومات من علوم أخرى مثل الجيولوجيا والايكولوجيا والأقيانوغرافيا والكارتوغرافيا والفلك، وقد حتم هذا على الباحث الجغرافى المتخصص أن يلم الماما عاما بهذه العلوم ويستخدمها استخداما مختلفا ولهدف مختلف عن المتخصصين بها.
ورغم تعدد فروع الجغرافيا الطبيعية إلا أنها تدور حول دراسة البيئة الطبيعية كموطن للإنسان، غير أن تناول كل هذه الفروع فى دراسة واحدة يهدد الجغرافية الطبيعية بالسطحية وبالتالى ينادى البعض بالإغراق فى التخصص رغم محاذيره المتمثلة فى الانشقاق عن الجغرافيا والانضواء تحت علوم أخرى. ويتمثل الحل أن يوفق الباحث بين التعمق فى التخصص لضمان انجاز دراسات جادة ذات قيمة علمية وبين عدم الانجراف بعيدا عن ميدان الجغرافيا ، ويتطلب ذلك من الجغرافى أن يكون قادرا على الربط بين فروع الجغرافيا الطبيعية والعلوم التى تتصل بها ، على أن يظل الجغرافى أثناء هذا العمل محتفظا بوجهة النظر الجغرافية. فالجغرافيا الطبيعية هى أعمق من مجرد حصيلة لجمع المعلومات عن سطح الأرض بل هى علم يستهدف النتائج الأصيلة التى تتمشى مع المفهوم الحديث ، وبذلك تشمل توزيع الظاهرات وتعليلها وكذلك ربطها لتحديد العلاقات بين ظاهرة وأخرى. والجغرافى الطبيعى يسعى إلى سبر أغوار الظاهرة الجغرافية للكشف عن تفاصيل مكوناتها وطبيعة عملياتها لمعرفة الحقائق خلف العمليات المتحكمة فى الظاهرة سواء كانت مناخية ،أشكال أرضية، تربة أو أنظمة بيئية ، وهو فى ذلك لا يختلف عن أى عالم طبيعى يسعى لفك طلاسم التعقيد الذى يميز العالم الطبيعى.
ونظرا لأن معظم أنواع المعرفة الإنسانية يمكن دراستها من وجهة نظر مكانية، فان الجغرافيا الطبيعية تجمع بين العديد من المواضيع المتنوعة الى جانب موضوعاتها الرئيسية التى تشمل الأرصاد الجوية والمناخ والجغرافيا الحيوية والجيومورفولوجيا والتربة والهيدرولوجيا، بينما تتناول اهتمامات الجغرافيا البشرية موضوعات مثل مجتمع الانسان وثقافته ونظمه الحضرية. غير أن الطبيعة الشمولية للجغرافيا تفرض اتصال موضوعات من الفرعين فى كثير من الدراسات، مثلا يتطلب الفهم الكامل لما ينتج عن الاحتباس الحرارى من رفع لدرجة حرارة كوكب الأرض، تبنى منهج يضع فى الاعتبار العديد من حقول المعرفة، تتراوح فى هذه الحالة بين علم المناخ والأرصاد الجوية لفهم تأثير إضافة غازات الدفيئة على التوازن الاشعاعى للغلاف الجوى، وبين الكيفية التى تشارك من خلالها بعض الأنشطة البشرية فى إضافة غازات الدفيئة من خلال حرق الوقود الأحفورى (حقل الجغرافيا الاقتصادية)، اى انه لا يمكن تحقيق الفهم الشامل لأسباب حدوث هذه المشكلة البيئية دون الاستعانة بهذين الحقلين من المعرفة. يرى البعض أن الطبيعة الشمولية للجغرافيا تمثل جانب ضعف وجانب قوة فى آن واحد، تأتى القوة من أن الشمولية والاعتماد على خبرة الكثير من العلوم أعطاها القدرة على الربط بين علاقات متداخلة لا يمكن ملاحظتها فى حالة حقول معرفة ذات هوية محددة بشكل ضيق، بينما يبدو أهم جوانب الضعف مرتبطا بحقيقة أن الفهم الشمولى للأشياء غالبا ما يجعلها شديدة البساطة كما تضيع معه الكثير من التفاصيل المهمة، خاصة تلك المتعلقة بالأسباب والنتائج  (Pidwirny,2006 and King, 1980,p.2).

4. مراحل تطور الجغرافيا الطبيعية
لا يمكن دراسة تطور الجغرافيا الطبيعية بمنأى عن تطور الجغرافيا ككل، فالجغرافيا ظلت كيان معرفى موحد ليس لموضاعاته حدود واضحة وأبوابه مفتوحة أمام تطور وظهور ظاهرات جغرافية جديدة خاصة تلك الظاهرات التى يفرزها تفاعل الإنسان مع البيئة. وقد أدى تراكم الدراسات على مدى فترة زمنية طويلة والتى تناولت بعض عناصر البيئة بشكل مستقل الى ظهور الفروع المختلفة للجغرافيا الطبيعية. يمكن تتبع بعض أهم ملامح فى تطور الجغرافيا الطبيعية عبر مراحل تطور فيها الفكر الانسانى ككل ولكن كان تطور الجغرافيا خلالها أكثر وضوحا.

1.4 المرحلة المبكرة، مساهمات الحضارات القديمة
    يمتد تاريخ الجغرافيا كحقل معرفى عبر قرون عديدة، حيث انعكست الجغرافيا فى أقدم ما سجله الإنسان من ملاحظات حول العالم الطبيعى الذى يحيط به. وقد شكل الاستكشاف منذ فجر التاريخ المصدر الأهم فى توسيع معرفة الإنسان بالعالم، حيث ترك الإنسان المكان الذى يعيش فيه للغزو او للتجارة او لمجرد اشباع الفضول وصاحب ذلك بالطبع وصف لمختلف مشاهداته وتسجيل لخبراته وتجاربه ووضع خرائط لاماكن وأشكال تمت ملاحظتها أثناء الرحلة . جاءت الشواهد على ذلك من ما خلفته الحضارات الصينية والمصرية والفينيقية والإغريقية. وقد انبثقت الجغرافيا فى العالم القديم من ثلاثة مصادر هى الاستكشاف وما نتج عنه من جمع لحقائق حول سطح الأرض ، ثم رسم خرائط للمناطق المعروفة، وأخيرا تدبر أمر المعلومات التى جمعت، وكان هذا الأخير محتكراً من قبل اليونانيون،(تيلور،1974، ص.43). رغم قدم معرفة الإنسان بالخرائط إلا أن السبق فى استخدام الخريطة كوسيلة لتحديد ملامح المناطق التى سكنها الإنسان أو تجول فى أرجائها كان لعلماء الإغريق. ولم يكتف هؤلاء العلماء بالتعريف بشكل الأرض وحجمها وأبعادها، بل أنجزوا تمثيلا عقلانيا لسطحها بالاستعانة بقياسات فلكية واستخدام خطوط الطول والعرض ( كلوزيية ، 1982 ص.13). ويعد الإغريق أول من تناول الجغرافيا باعتبارها أكثر من مجرد رسم للخرائط، فكانوا مهتمون أيضا بمعرفة الطبيعة المكانية للأشكال البشرية والطبيعية على سطح الارض. كما أسس اليونانيون فروع الجغرافيا ، خاصة الجغرافيا الرياضية التى وضع قواعدها طاليس مرورا بانكسمندر وارسطو لتصل الى أوجها بفضل إراتوسثينس، وعرفوا كروية الأرض وحسبوا خطوط الطول والعرض واعدوا خرائط للعالم.
   أما الرومان فقد وظفوا المعرفة الجغرافية الإغريقية فى توسيع إمبراطوريتهم، بعد أن اظافوا إليها الكثير. ففى كتابه (جغرافيا) وضع سترابو (64 ق م- 20 م) ما اكتسبه من خبرة وما دونه من ملاحظات جغرافية خلال ترحاله المتواصل. وصف سترابو الجغرافية الثقافية للمجتمعات البشرية فى العالم المعروف فى زمنه، كما اقترح أن الجغرافيا تهدف الى وصف الأجزاء المعروفة من العالم المسكون لمعرفة أهمية أقاليمه وتحديد أوجه التباين بينها . كما كان لبطليموس خلال القرن الثانى الميلادى (100-178 م) العديد من الإسهامات الجغرافية المهمة، ففى كتابه ( دليل الجغرافيا  Guide to Geography) جمع ولخص معظم المعلومات الجغرافية الإغريقية والرومانية، وابتكر طرقا لإسقاط سطح الأرض على خريطة، وقام بحساب مواقع الإحداثيات لثمانية آلاف مكان على الأرض إلى جانب تطوير المفاهيم الجغرافية لخطوط الطول والعرض .
  لم تحظ الجغرافيا بكثير من التطور بعد العهد الرومانى ، فلو استثنينا ما قام به الفايكنج من كشوف فى أوربا، فان العصور الوسطى (من القرن الخامس حتى القرن الثالث عشر) ﹸتصنف كفترة ركود من هذه الناحية. أما فى الشرق الأوسط فقد حمل العرب لواء ترجمة الأعمال الجغرافية للأغريق والرومان الى جانب اكتشاف جنوب غرب آسيا وإفريقيا، وقد برزت بعض الأسماء المهمة مثل الادريسى الذى عرف بمهارته فى صنع الخرائط الى جانب ما كتبه فى الجغرافيا الوصفية . كما اشتهر ابن بطوطة وابن خلدون بما كتباه حول رحلاتهما المتعددة فى شمال إفريقيا والشرق الأوسط. ورغم الطبيعة الوصفية للجغرافيا العربية إلا أن مؤلفاتها لا تخلو من التطرق إلى موضوعات فى الجغرافيا الطبيعية، وتعكس الكتابات فى هذا الميدان فى مجملها تأثر الجغرافيين المسلمين بالأراء اليونانية والرومانية، كما كانت ذات صفة وصفية وليست تعليلية فى مجال المناخ ، أما فى حقل الجيومورفولوجيا فقد عالج الجغرافيون المسلمون بشكل عرضى بعض الجوانب النظرية ، (خصباك, 1975، ص 179). لم يقف المسلمون عند حدود المفاهيم الإغريقية بل تم تطويرها بالإضافات الكثيرة فى مجال الجغرافيا الطبيعية. ففى مجال الجغرافيا المناخية كتب المسعودى فى العوامل المؤثرة فى مناخ الإقليم بالإضافة إلى تقديم وصف دقيق للرياح الموسمية، كما شرح البيرونى بالتفصيل نظام سقوط الأمطار الموسمية وأثر امتداد جبال الهملايا فى غزارتها. وكتب اخوان الصفا العديد من الرسائل منها عن تكون الغيوم والأمطار والعلاقة بين ميل الأشعة الشمسية ودرجة الحرارة ودور سطح الأرض فى تسخين الهواء المحيط بالأرض، وجميع هذه الآراء والتفسيرات لا تختلف كثيرا عن التفسيرات الحديثة. أما فى حقل الجيومورفولوجيا فقد تطرق البيرونى واخوان الصفا والمسعودى الى موضوعات مثل نشأة السهول الرسوبية البحرية وتوزيع اليابس والماء عبر العصور وتكون الجبال الالتوائية . أما كتابات ابن سينا فقد اشتملت على ملاحظات جيومورفولوجية هامة، خاصة تلك التى تناول فيها عوامل تكون الجبال حيث قسم الجبال من حيث النشأة الى نوعين، جبال تكونت بسبب عوامل التعرية وأخرى نشأت بفعل حركات الرفع، وهو تصنيف لا يختلف كثيرا عن التصنيف الحديث للجبال. كما أكد ابن سينا على بطء عمليات النحت وآثارها الطويلة الامد، وبهذا يكون ابن سينا قد تحدث بأفكار تناقض الأراء الخاطئة التى سادت حتى القرن السابع عشر والتى تؤمن بمبدأ الطفرة أو النشأة والتغير السريع للتضاريس. 
  
2.4 المرحلة الوسطى، الكشوف الجغرافية وعصر النهضة
لعل من أهم ملامح عصر النهضة (1400-1600)  انتشار رحلات الاستكشاف بتمويل من الحكومات الأوروبية لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية ، ولكن وفرت هذه الرحلات أيضا فرصا للدراسات العلمية والاستكشاف وبالتالى تميزت بمساهمتها فى إثراء المعرفة الجغرافية. من المعروف أن الرحلات البرية والبحرية شاركت منذ عهد الفنيقين فى تطور الفكر الجغرافى من خلال زيادة معرفة الإنسان بالعالم إلا أن فضل هذه الرحلات فى توسع الأفق الجغرافى كان واضحا خلال عصر الكشوف الجغرافية، فقد اقترنت هذه الفترة بأشهر رحلات الاستكشاف التى قادها مكتشفون مثل كولمبس، دا غاما، ماجيلان، كارتيير فروبشير، دريك، كابوت وغيرهم. كما ارتبطت أيضا باختراع مارتن بيهام كرة ارضية ثلاثية الأبعاد ، وقد شكل هذا الاختراع نقلة كبيرة امكن من خلالها التعامل مع شكل الارض وما يوجد على سطحها من مظاهر بطريقة واقعية مقارنة بالخرائط المسطحة. 
خلال القرن 17، نشر فارينيوس كتابه )الجغرافيا العامة( والذى ظل أهم مصادر الجغرافيا لمدة قرن كامل. ميز فارينيوس فى كتابه بين جغرافية العالم وبين الجغرافيا الإقليمية كما استخدم ملاحظات مباشرة الى جانب قياسات أساسية فى تقديم كثير من الأفكار الجغرافية. كما اقترح أيضا تقسيم الجغرافيا الى ثلاثة فروع ، يختص الأول بشكل الأرض وأبعادها، ويتناول الثانى المد والجزر والتباين الوقتى والمكانى للمناخ، وقد شكل هذان الفرعان البدايات الأولى لما يعرف حاليا بالجغرافيا الطبيعية ، ويتناول القسم الثالث بالدراسة أقاليم مميزة على الأرض باستخدام الدراسات الحضارية المقارنة. جاء بعد ذلك ما ﹸصنف كأحد اهم الأحداث خلال نهاية القرن الثامن عشر بالنسبة للمعرفة الإنسانية ككل وللجغرافيا بوجه خاص وهو الاقتراح الذى وضعه الفيلسوف الالمانى (كانت) والقاضى بإمكانية تنظيم المعرفة الإنسانية باستخدام ثلاثة طرق، هى أن تصنف هذه المعرفة وتدرس بناء على طبيعة الموضوع قيد الدراسة ، مثلا علم النبات وعلم الحيوان والجيولوجيا، أو وفقا لبعدها الزمنى، مثل الدراسات التاريخية، أو أن تدرس الحقائق وتفهم من ناحية علاقاتها المكانية، وهو حقل المعرفة الجغرافية. كما قسم كانت الجغرافيا إلى فروع ثانوية مثل الجغرافيا الطبيعية والرياضية والسياسية والتجارية.

3.4 المرحلة الحديثة، تطور الجغرافيا الطبيعية بعد القرن التاسع عشر
مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، شهدت الجغرافيا تطورا كبيرا فى كل من أوروبا والولايات المتحدة وقد ارتبط هذا التطور فى معظمه بظهور العديد من الجمعيات المهتمة بالموضوعات ذات الطبيعة الجغرافية. كما برزت أسماء مثل همبولت وريتر وراتزل فى المانيا، الذين أضافوا مساهمات جوهرية فى مجال المعرفة الجغرافية. من أكثر هذه المساهمات أهمية كتاب كوزموس لهمبولت الذى نشر عام 1844 وتناول الجيولوجيا والجغرافيا الطبيعية للأرض، ويوصف همبولت بأنه جعل للجغرافيا الأصولية طريقة وكيانا، خاصة دراسة المناخ والجغرافية النباتية. كما ارتبط ظهور الجغرافيا العلمية الحديثة بما وضعه همبولت ورتر وغيرهم من أسس حددوا من خلالها مجالات البحث . فى عام 1877 نشرT.H.Huxley   كتاب Physiography  (فيزوغرافيا) ، والذى اعتبره كنج (King 1980) أكثر الكتب تأثيرا فى تطور الجغرافيا الطبيعية ، حيث حاول المؤلف تقديم رؤية موحدة للبيئة الطبيعية من خلال دراسة الفيزوغرافيا. بدأ هكسلى كتابه من المحلى والمألوف، معتمدا على الدراسة فى الحقل، وصولا إلى المألوف بدرجة اقل، فقد بدأ بالملاحظة ثم انتقل إلى التصنيف والترتيب المنهجى للحقائق التى سبق ملاحظتها، ومن هذه الحقائق المصنفة والمرتبة يمكن استنتاج قوانين وروابط عن طريقها يتم التعرف على الأسباب والنتائج  . (Gregory, 2000,p.32 and King, 1980,p.2) فى أواخر القرن 19 وضع راتزل نظرية مفادها ان البيئة الطبيعية أثرت بشكل كبير فى الطبيعة الحضارية وفى توزيع مختلف سكان الأرض، وقد عارض لابلاش هذه الفكرة فى ما بعد ورجح الرأى القائل بأن الإنسان يمثل القوة المهيمنة على تشكيل البيئة. قبل ذلك بسنوات كانت فكرة تغير البيئة الطبيعية بواسطة الإنسان موضوع اهتمام فى الولايات المتحدة فقد أشار بيركنز مارش سنة 1847 إلى الأثر الهدام لأنشطة الإنسان على الأرض خاصة من خلال قطع الغابات وتغير استعمال الأرض.
ترسخت الجغرافيا الطبيعية منذ منتصف القرن التاسع عشر كموضوع ضمن منهج المدارس الثانوية فى كثير من الدول الأوروبية، وتطورت بتأسيس الجمعيات الجغرافية  (Geographical societies) والكراسى الجامعية (University chairs) . وقد تجسد دور الجمعيات الجغرافية فى إبراز هذا الفرع من المعرفة من خلال تسهيل النشر وتطوير توجهات مميزة واهتمامات خاصة مثل الكشوف الجغرافية والتى كان لبعض الجمعيات فضل كبير فى النهوض بأعبائها، هذه الكشوف بدورها كانت احد أهم عوامل تطور الجغرافيا بوجه عام والجغرافيا الطبيعية بوجه خاص. دعم هذا الترسيخ أيضا عن طريق تأسيس الكراسى الجامعية والتى أعطت الجغرافيين الطبيعيين نفوذا وتأثيرا واضحين، ففى ألمانيا بين 1905 : 1914 حازت الفيزوغرافيا، وهى دراسة التضاريس، شهرة بتأثير A.Penck الذى شغل كرسى الجغرافيا المرموق فى جامعة برلين.  
ورغم أهمية تأسيس المجتمعات الجغرافية وأقسام للجغرافيا فى الجامعات كعوامل محفزة لتطور الجغرافيا الطبيعية، إلا أنه كان أيضا للمساهمات الفردية تأثير مميز على اتجاه ومعدل هذا التطور. فقد هيمنت مساهمات وليم موريس ديفز W.M.Davis (1934-1850) من بحوث ومؤلفات على الجغرافيا الطبيعية فى تلك الفترة. وقد ركز ديفز اهتماماته الجيومورفولوجية على إمكانية استخدام دورة التعرية العادية لتصنيف أى لاندسكيب وفقا للمرحلة التى وصل إليها فى هذه الدورة، كما قدم ثلاثية لفهم اللاندسكيب فيما يتعلق بالبناء والعملية والمرحلة التى وصل إليها فى دورة التعرية . بهذا جعل ديفز تتابع الأشكال الطبيعية خاضعا لقواعد ثابتة عن طريق الدورات النموذجية كما أعطى لها أسماء مناسبة بغرض وصف أشكال التضاريس وصفا تفسيريا. إلى جانب ان ديفز وضع اساس الجيومورفولوجيا وطرق البحث فيها من خلال ما كتبه من مؤلفات ومقالات، فانه أيضا فتح أمام الجغرافيين إمكانيات جديدة للبحث جعلت دراسة الأشكال التضاريسية تمثل الجزء الرئيسى من الجغرافيا، (تيلور, 1974، ص85) . استمر تأثير ديفز، متمثلا فى هيمنة الجيومورفولوجيا على بحوث الجغرافيا الطبيعية،  فترة طويلة من الزمن  وليس ادل على ذلك من انه خلال الفترة من 77/1997 هيمنت الجيومورفولوجيا على بحوث الجغرافيا الطبيعية بنسبة 40% و24% للدراسات المناخية واستحوذت القضايا البيئية على 12%، بينما تراجعت التربة والحيوية والاقيانوغرافيا والاستشعار عن بعد إلى 6% لكل منها. نظرا لعدم التناسب بين ما نشر من دراسات فى فروع الجغرافيا الطبيعية ذهب البعض إلى وصفها بأنها تعانى من عدم توازن داخلى، (Gregory, 2000, p.10). من أصحاب المساهمات الفردية أيضا ساورC.O.Sauer (1889-1975) الذى صنفه البعض كأعظم جغرافيى وقته، ورغم انه لم يكن من رواد الجيومورفولوجيا إلا أن آراءه رسمت الطريق الذى سلكه الكثير من الجغرافيين الطبيعيين.

1.3.4 عوامل تطور الجغرافيا الطبيعية بعد عام 1850
ظل الرأى القائل بان خلق الأرض كان فى سنة 4004ق.م سائدا حتى نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر، وبذلك من الضرورى ان تكون الأشكال الرئيسية فوق سطحها قد تكونت فى وقت قصير كنتيجة لأحداث سريعة .
عرف هذا الرأى بمبدأ الطفرة فى التشكيل catastrophism والذى كان محاولة لجعل معدل العمليات الأرضية يتفق مع الأفكار السائدة عن عمر الأرض. برزت بعد ذلك، وسط هذه الآراء حول أشكال سطح الأرض، أفكار هامة كان لها نفوذ وتأثير واضحين على التفكير العلمى، تمثلت هذه الآراء فى مبدأ الاضطراد اوالانتظام  uniformitarianismونظرية التطور evolution، وهى اراء دعمها فيما بعد ما توصلت اليه الكشوف الجغرافية. فقد رفضت نظرية الانتظام  (Hutton (1795 مبدأ الطفرة كمفسر للبيئة، ورأت ان تفسير تاريخ الارض يكون من خلال وجود عمليات متواصلة موحدة، كما أعلنت فكرة ان الحاضر يفسر الماضى،  والتى كانت خطوة هامة نحو اعتبار أن سطح الارض الحالى يمكن ان يوفر معلومات حول عمليات وآليات اللاندسكيب والتى بدورها يمكن أن تساعد على فهمنا للماضى، بمعنى ان حدثا سابقا أو مجموعة من أحداث متداخلة هى أصل الصورة الحالية. كان لهذه النظرية تأثير قوى على الجيولوجيا أولا ثم على الجغرافيا الطبيعية بعد ذلك. وكان لنظرية التطور اثر كبير على الفكر الجغرافى بوجه عام فقد تبنتها المدرسة الجغرافية الالمانية على يد ريتر وهمبولدت وراتزل. كما ذهب البعض إلى اعتبار أن اثر هذه النظرية كان كبيرا فى تحويل الجغرافيا من مجرد علم وصفى إلى علم يبحث عن الأسباب والعلل، ويربط بين الظاهرات المختلفة . أما فكرة التطور، والتى تقول بالتغير التدريجى نسبيا فى خصائص الأجيال المتتابعة لأنواع الكائنات، فقد تخللت الجغرافيا الطبيعية بشكل كامل بعد ان نشر تشارلز داروين Charles Darwin أصل الأنواع سنة 1859. انعكس تأثير نظرية التطور على الجغرافيا فى أعمال ديفيز، والذى جسد فكرة التطور المرحلى للأشكال الأرضية فى دورة التعرية التى وصفها بدورة الحياة، متأثرا بفكرة التغير. بالإضافة الى تأثير آخر مشابه فى جغرافية النبات والايكولوجيا، تمثل فيما اقترحه كلمنتس (Clements (1916 عن التعاقب او التتابع النباتى. من ابرز مظاهر تأثير داروين فى الجغرافيا فكرتى التغير عبر الوقت، والتى انعكست فى أعمال كل من ديفز وكلمنتس، والتنظيم (organization) والتى قادت إلى التركيز على العلاقات الداخلية والارتباطات بين الكائنات الحية وبيئاتها، وأوصلت فيما بعد تانسلى Tansley (1935) إلى فكرة النظام البيئى ecosystem.
شكلت عمليات الكشوف والمسح والتخريط مصادر مهمة لما أضيف للجغرافيا الطبيعية من معلومات، ولم تقتصر أهمية الكشوف على توسيع دائرة المعرفة بالعالم بتوفير معلومات عن مواقع شبه مجهولة وعلى تطوير صناعة الخرائط فقط بل سهلت الاتصال ببيئات لم تكن معروفة وبذلك حفزت ظهور أفكار جديدة أدت إلى تطور بعض فروع الجغرافيا الطبيعية مثل دراسة الجزر المرجانية كما مكنت من تفسير الأشكال الناتجة عن التعرية والإرساب الجليدى . وبتأسيس مصلحتى المسح والتخريط والمسح الجيولوجى (Ordnance Survey and Geological Survey)  توفرت مصادر جديدة لمعلومات أساسية للجغرافيا الطبيعية، وما تلى ذلك من تخريط لمظاهر أخرى من البيئة الطبيعية مثل دراسات مسح التربة والنبات واستعمالات الارض الى جانب التوسع فى انشاء محطات الأرصاد الجوية وقياس الأمطار والصرف النهرى. 
بعد عام 1850 اخذ الاهتمام يتنامى بصيانة البيئة والحفاظ عليها كنتيجة لتطوير الإنسان لأراض كانت طبيعية فى كل من الولايات المتحدة وأوربا ، وقد وردت أول الأفكار حول هذا الاتجاه عام 1864 فى كتاب (Man and Nature) للأمريكى   George Perkins Marshوالذى ﹸأعتبر أول مساهمة أكاديمية فى مجال المحافظة على البيئة . ورغم ما كان لهذا العمل من تأثير كبير على الطريقة التى يستخدم بها الإنسان الأرض، الا ان الجغرافيا الطبيعية لم تعط هذا العمل الرائد حقه وتستخدم ما ورد به من أفكار إلا بعد سنوات من نشره.
مع بداية النصف الثانى من القرن العشرين حدث تغير فى طرق البحث الجغرافى، حيث أخذ الجغرافيون فى تبنى نهج علمى يعتمد على التقنية الكمية . فى هذه الثورة الكمية أصبح القياس ، والذى أستخدم أساساً فى اختبار الفرضيات، يشكل الاهتمام الرئيسى لبحوث الجغرافيا الطبيعية. ارتبطت الثورة الكمية بتغير الطريقة التى تدرس بها الجغرافيا الطبيعية الارض وظواهرها المختلفة حيث تحول البحاث فى دراساتهم إلى التركيز على فحص العملية بدل الوصف المجرد للظاهرة الجغرافية. وقد ساد استخدام هذا النهج الكمى فى الوقت الحالى بسبب ما حظيت به تقنية برامج الحاسوب من تطور. إلى جانب الثورة الكمية، برز اهتمام كبير بدراسة العلاقة القائمة بين الإنسان والأرض، بعد أن أصبح تأثير نشاط الإنسان على الأرض ظاهرا، وقد توجه نتيجة لذلك الكثير من الجغرافيين الطبيعيين بدراساتهم إلى مجال تأثير الإنسان على البيئة ومن ضمن الاتجاهات البحثية التى سادت على هذه الأفكار تدهور البيئة واستغلال الموارد وتقييم أثر الكوارث الطبيعية واثر التوسع الحضرى وتغيير استعمالات الأرض على البيئة الطبيعية .
فى سنة 1964 اقترح ويليام باتيسون أن الجغرافية الحديثة تجمع بين أربعة تقاليد أكاديمية هى، التقليد المكانى (Spatial Tradition) حيث دراسة الظاهرة الجغرافية من وجهة نظر مكانية صرفة. ودراسة المنطقة أو المساحة (Area Study Tradition) وهنا تكون الدراسة لمساحة على المستوى المحلى او الاقليمى أو على مستوى العالم. أما فى تقليد الإنسان والأرض (Human-Land Tradition) فان التركيز يكون على تفاعلات الانسان مع البيئة. واخيرا تقليد علم الأرض (Earth Science Tradition) وفيه تدرس الظاهرة الطبيعية من وجهة نظر مكانية، قد تكون الجغرافيا الطبيعية النظرية ممثلة لهذا التقليد،(Pidwirny, 2006) .
لا تزال هذه التقاليد الأربعة مهيمنة على فروع الدراسات الجغرافية حتى الوقت الحاضر، مع اهتمام متزايد بمشاكل البيئة المرتبطة بنشاط الإنسان كنتيجة لنمو عدد السكان والحاجة للمزيد من استهلاك الموارد الطبيعية. وقد انعكس هذا الاهتمام فى العدد الكبير من الدراسات الجغرافية التى تناولت الكيفية التى يحور بها الإنسان البيئة. كما طور عدد من هذه الدراسات استراتيجيات تهدف إلى تقليل الآثار السلبيه لنشاط الانسان على الطبيعة. ومن الأفكار التى هيمنت على هذه الدراسات، التدهور البيئى للغلاف المائى والجوى والصخرى والحيوى، والأفكار المتعلقة باستخدام الموارد، الكوارث البيئية، تقييم الآثار البيئية، وتأثير التحضر وتغيير استعمال الأرض على البيئة الطبيعية.
من الاهتمامات التى تطورت كثيرا خلال العشرين سنة الأخيرة من القرن الماضى ذلك النمو السريع للجوانب التطبيقية للدراسات الجغرافية الطبيعية، خاصة فى الجيومورفولوجيا والدراسات المناخية وجغرافية التربة. يرجع هذا التطور إلى عدة أسباب منها تزايد المعرفة حول التغيرات المحتملة للبيئة الأرضية وبالتالى الحاجة إلى فهم الكيفية التى يمكن أن تتطور بها البيئة مستقبلا. هذا إلى جانب توفر مجالات عديدة تمكن من إجراء الدراسات الجغرافية التطبيقية مثل الأنظمة البيئية والعمليات البيئية والتغير البيئى وتحليل ومعالجة المشاكل البيئية المرتبطة بنشاط الإنسان . بمعنى أن الدارس يستخدم المعلومات النظرية من الجغرافيا الطبيعية ويوظفها فى حل المشاكل المرتبطة بالظواهر الطبيعية وفى وضع سياسات لإدارة البيئة بشكل صحيح. من الأمور التى ساعدت على تطور الدراسات الجغرافية التطبيقية استخدام تقنيات الاستشعار عن بعد (Remote Sensing) فى رصد وضبط الموارد الأرضية والبيئة، والأكثر استخداما فى هذا المجال هى تقنيات تتبع ورصد أحوال الطقس والتنبؤ بها. إلى جانب تزايد أهمية استخدام تقنيات نظم المعلومات الجغرافية Geographical Information Systems (GIS) خاصة فى مجال إدارة الموارد.
كان استخدام الاستشعار عن بعد معروفا فى الجغرافيا الطبيعية منذ سنوات، وذلك من خلال قراءة الصور الجوية واستخدامها فى تقييم الموارد الأرضية وايكولوجية اللاندسكيب والنظم الأرضية. تطورت هذه التقنيات بعد ذلك الى صور فضائية تلتقطها الأقمار الصناعية ، التى بدورها عززت البحث فى مجال الجغرافيا الطبيعية نظرا لما لهذه الأقمار من قدرة على مسح مناطق شاسعة من سطح الأرض وعلى إعادة تكرار مسح نفس المنطقة مرات عديدة، الأمر الذى سهل كثيرا من تتبع التغير البيئى. كما ساعدت هذه التقنيات فى حل المشاكل المرتبطة بجمع البيانات البيئية وقللت الحاجة الى اعادة الرصد والملاحظة. أما (GIS) فكان تأثيره عظيما على البحث الجغرافى خاصة ما يتعلق بجمع وتحليل وفهم المعلومات ذات الصلة بالبيئة. وقد زادت قيمة هذه التقنيات بالنسبة للبحوث والتطبيقات الجغرافية خاصة (GIS) بعد ارتباطها بثورة الكمبيوتر خلال الثمانينات من القرن الماضى، حيث استخدم الحاسوب فى البحوث والتطبيقات الجغرافية. أما على مستوى المتخصصين فى الجغرافيا الطبيعية فقد ساعدت هذه التقنيات على تبنى نظرة شمولية فى دراسة البيئة الطبيعية كما مكنت من المساهمة فى اقتراح حلول محددة لمشاكل ذات طبيعة مكانية إلى جانب دورهم فى مجال الاستشارات فى البحوث التطبيقية وعملهم ضمن هيئات ذات علاقة بإدارة البيئة (Gabler et al.,1975,p.6) .

5. منهج الجغرافيا الطبيعية 
إذا اتفقنا أن الجغرافيا الطبيعية هى دراسة ترتيب ظاهرات معينة على سطح الأرض ، فالسؤال هو كيف عالج الجغرافين هذا الموضوع , وهنا يجب التذكير بأن المقصود بالمنهج الوسيلة المتبعة فى معالجة محتوى المادة، علما بأن لكل موضوع مفاهيم منهجية تلائم أهدافه. بالنسبة للجغرافيا بوجه عام، والتى تعنى وصف الأرض ، اكتسب أسلوب الوصف أهمية خاصة، فكان الصفة السائدة للكتابات الجغرافية فى ما عرف بالجغرافيا الوصفية . وقد اعتمد الوصف على تسجيل ما تم مشاهدته أثناء الرحلات المختلفة أو سماعه من الغير حول الأرض والناس. كان لتجميع هذه المعلومات فضل كبير فى نمو المعرفة بالبلدان والمجتمعات فى أرجاء الأرض، كما شكلت دفعا قويا فى تطور الجغرافيا، حيث سهلت هذه المعلومات إدراك التباين بين أقاليم الأرض وتنوعها، وهو أمر قاد بعد ذلك إلى طرح التساؤلات حول أسباب ذلك التباين (منشل، 1995) . ظل أسلوب الوصف والاكتفاء بسرد التفاصيل وعرضها حول الحقائق المختلفة المنهج السائد لفترة طويلة من الزمن، وعندما بدأ وضع التساؤلات حول جوهر هذه الحقائق أصبحت الجغرافيا لا تكتفى بالوصف بل تهدف إلى البحث عن الأسباب والتعليل والتفسير للعلاقات بين الظاهرات الجغرافية الطبيعية والبشرية. وقد رافق الوصف فى الدراسات الجغرافية ، الملاحظة، وكما تطور الوصف من وصف ﺇستكشافى بسيط إلى وصف مرتكز على قاعدة واحدة وله هدف أساسى ، أيضا تطورت الملاحظة من ملاحظة بسيطة عابرة إلى ملاحظة موجهة مسبقا لغرض الكشف عن حقائق وجعل التفسير ممكنا وهو ما يتطلب فحصا دقيقا للظاهرة الملاحظة (موسى والحمادى، 1980، ص69).  
وبزيادة الإدراك بأهمية التفاعل بين أجزاء النظام الأرضى انصب جهد كبير على وصف الأشكال. فقد اهتمت الدراسات الأولى بالتركيز على وصف الجوانب الطبيعية للأشكال الأرضية كما هو فى الأشكال الجيومورفولوجية والدراسات المناخية حيث طور كوبن مخطط وصفى لأصناف المناخ على سطح الارض. أما وصف الأشكال الأرضية فقد تطور من وصف العامل المورفولوجى agent إلى وصف الشكل أو الصورة التضريسية form ثم وصف العمليات Processes التى أسهمت فى إبراز الصورة. ويقصد بالعامل الطاقة، والعملية الوسيلة التى تنفق فيها هذه الطاقة لإحداث تغير فى الوسط الذى تسرى فيه (بحيرى، 1979، ص12) . يعنى هذا انه فى الدراسات الجغرافية الطبيعية، عندما يستوفى الشكل نصيبه من الوصف فان المرحلة التالية هى فهم أسباب وكيفية تكونه وهو أمر يتحقق بدراسة العمليات المسؤولة عن تكون الشكل.  بناء على ذلك فان العوامل تشمل جميع الأدوات التى تشترك فى إظهار أشكال سطح الأرض عن طريق الإزالة أو التراكم أو كلاهما ، من أمثلة العوامل، المياه والتصدع والجاذبية والامواج , بينما تعنى العمليات آلية او كيفية التشكيل الذى تمارس العوامل بواسطته نشاطها لاعطاء الشكل الارضى صورته المميزة، وتأتى الرواسب والتجوية والانزلاقات الأرضية كأمثلة للعمليات التى تفسر كيفية التشكل. لا تعمل العوامل والعمليات منفردة بل عادة تشترك عدة عوامل ومجموعة من العمليات فى إظهار الشكل الارضى. رافق الاهتمام بدراسة العمليات تحول آخر تمثل فى طريقة تناول الموضوع بحيث يكون التركيز على مجمل النظام المرتبط بتشكيل بيئة ما، اى دراسة العمليات مع الاخذ فى الاعتبار أن هذه العمليات هى ضمن مكونات نظام بيئى شامل , ويرى بعض الدارسين انه بإتباع مثل هذه المناهج يسهل التنبؤ بالتغيرات البيئة كما يسهل أيضا الاستجابة لهذه التغيرات.
كانت الجغرافيا الطبيعية مهتمة دائما بالعملية والشكل (process and form) ، يقصد بالعمليات هنا الحركة وما تنتجه من أشكال، سواء كانت اللاندسكيب او مظهر السماء أو الغطاء النباتى، وكانت توصف بلغة رومانسية بينما كان يستدل على الحركات من ملاحظة الأشكال، وهو نهج يمكن الرجوع به فى الماضى إلى زمن فلاسفة الإغريق. فى الوقت الحالى أصبح الاهتمام أكثر تركيزا على العمليات ذاتها وجعل الفهم أكثر اعتمادا على دقة الملاحظة والقياس والتجربة المعملية بدل الاعتماد على الحدس أو الاستدلال. فقد اعتمد الكثير من الجغرافيين مثل هذا النهج العلمى الى جانب الربط المنطقى (العقلانى) للعملية والشكل فى مؤلفاتهم (1(Thompson, et al,1986,p.. كما تطورت تقنيات دراسة العمليات مثل إجراء القياسات عن بعد، قياس المسافات الكترونيا، نظام تحديد المواقع على الكرة الأرضية (GPS) Global Positioning System واستعمال الكاميرات الرقمية فى عمليات التخريط  وتقنيات تحديد أعمار الرواسب  وقياس معدلات التعرية وتقنيات النمذجة. كما أصبح الآن من الضرورى معرفة المزيد عن طبيعة العمليات المسؤولة عن تطور سطح الأرض فى الماضى (الهولوسين وما قبله) وفهم أهميتها بالنسبة للبيئات الحاضرة.
بذلك تحول الاتجاه الى دراسة العمليات بدل الوصف الصرف للبيئة، وليس أدل على هذا التوجه وهيمنته على الفكر الجغرافى من ظهور الكثير من المؤلفات التى تناولت العمليات فى مختلف فروع الجغرافيا الطبيعية وصدور العديد من الدوريات التى تهتم بالعمليات مثل، عمليات سطح الأرض والأشكال الأرضية Earth Surface Processes and Landforms والعمليات الهيدرولوجية Hydrological Processes. قبل أن يتطور الاهتمام باستخدام كل من منهجى النظم والنماذج فى الجغرافيا الطبيعية كان هناك حاجة لدراسة العمليات البيئية. ورغم أن العملية كانت ضمن ثلاثية ديفز الشهيرة (العملية والبناء والمرحلة أو الوقت) إلا أن معظم الاهتمام كان منصباً على المرحلة والقليل فقط على العملية. كما ظهرت فى تلك الفترة وجهات نظر أخرى تؤكد على أهمية العملية ، مثل الأهمية التى أعطاها جلبرت G.K.Gilbert لدراسة الأشكال الأرضية كمظاهر لفعل العمليات الجيومورفولوجية على المواد الأرضية ، غير انها لم تحظى بالاهتمام الكافى فى ظل هيمنة أراء ديفز. وقد ذهب ذلك بالبعض إلى اعتبار إهمال دراسة العمليات الجيومورفولوجية من قبل المختصين، يمثل سؤلاً محيراً فى تاريخ تطور هذا الفرع من المعرفة . لم يكن الاهتمام بالعمليات لتفسير الظاهرة الجغرافية على نفس المستوى فى كل فروع الجغرافيا الطبيعية، فقد أجريت دراسات تعتمد هذا التوجه فى موضوعات مثل التربة والجغرافيا الحيوية والمناخ غير أن الاهتمام الأكبر كان من نصيب العمليات الجيومورفولوجية حيث اعتمد البحاث فى تفسير أشكال سطح الأرض على قياس وتحليل العمليات. كانت البداية قد تمثلت فى وصف جلبرت (1877) لعمليات النحت ، وآليات العمليات المرتبطة بالمياه الجارية ، ونقل الحصى بواسطة الجريان المائي مرفقة بنتائج التجارب المعملية. وضع باجنولد بعد ذلك (1941) أسس العمليات فى المناطق الصحراوية بأعماله حول طبيعة حركة الرمال والكثبان الصحراوية.  كما جاءت بعض الآراء المهمة من اسكندينافيا كنتائج للدراسات الميدانية والقياسات المعملية حول خصائص الأنهار وعمليات تحرك المواد فوق المنحدرات ، ثم أضاف ستريلر N.Strahler إجراء قياسات على ما يحدث من عمليات فى القنوات النهرية وعلى المنحدرات وتحول بعد ذلك إلى طبيعة العمليات فى المناطق الساحلية. وهكذا أصبح الاهتمام بالعمليات البيئية ملازم لتطور الجغرافيا الطبيعية خلال النصف الثانى من القرن العشرين، وكان هذا الاهتمام بمثابة إعادة الحياة لأراء جلبرت.
من المفاهيم التى برزت أهميتها فى الدراسات الجغرافية مفهوم المقياس ، الزمانى والمكانى، خلال القرن التاسع عشر كانت الموضوعات ذات الأهمية الجغرافية على مستوى العالم، فيما عرف بالجغرافيا العامة أو جغرافية العالم التى تعنى بتوزيع الظاهرات الطبيعية والبشرية على مستوى العالم. ومع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين اتجه الاهتمام الى الجغرافيا الخاصة أو الإقليمية والتى فيها يمكن أن تدرس ظاهرة أو أكثر ضمن منطقة محدودة ، يعتمد هذا المنهج فى الحالتين على الوصف والربط والتعليل. اما فى الدراسات الحديثة، حيث أصبحت المعلومات والبيانات متوفرة بشكل كبير، بدأ الجغرافيون يضعون قيمة كبيرة للمقياس بنوعية المكانى والزمنى، اى حجم المساحة المدروسة والمدة الزمنية التى تشملها الدراسة. فالاختلاف فى حجم المساحة يخلق تباين فى طبيعة الظواهر فوق سطح الأرض وبالتالى طبيعة ما يثار من تساؤلات، ما يحتم اختلاف طرق الدراسة باختلاف الحيز. فى حالة البيئات ذات المساحات المحدودة، التى يمكن دراستها على خرائط ذات مقياس رسم كبير اقل من        1: 50.000، يمكن ان تكون الدراسة بصورة مباشرة باستخدام الوسائل الحقلية ومن ثم الحصول على معرفة مباشرة بها، كما أن العلاقات التى درست فى الحقل يمكن تطبيقها على مناطق آو مشاكل مشابهة. علما بأن وسائل الدراسة الحقلية تصنف فى الجغرافيا الطبيعية كأنسب التقنيات لدراسة البيئات ذات المقياس الصغير، والتى يفضل أن تكون دراستها على مدى فترات زمنية قصيرة. وبزيادة المساحة المدروسة يزداد طول الفترة الزمنية وحجم الظاهرة المدروسة ويكون الاعتماد فى الدراسة على الخرائط وعلى التقارير والصور الجوية وهنا عادة تكون العمومية الصفة السائدة (King, 1980, p.5).
يميل بعض الدارسين إلى إتباع المنهج التقليدى فى تقسيم دراسة الجغرافيا الطبيعية إلى فروع متخصصة منفصلة عن بعضها مثل الجيومورفولوجيا والهيدرولوجيا والمناخ والتربة وغيرها، واعتبار كل منها علما متميزا ومكتفيا ذاتيا، ورغم ما لهذا التقسيم من ميزة على مستوى الدراسات المتقدمة فهو يسهل من إجراء الدراسات المتخصصة والمتعمقة إلا انه يهمل أهم خصائص الظاهرة الجغرافية التى هى نتاج لعوامل متعددة ومتشابكة وبالتالى يستحيل فصلها عمليا، وبذلك تبقى مشكلة وضع الحدود الفاصلة بين هذه الفروع قائمة. كما أن هذا النهج المعتمد على دراسة مكونات البيئة كوحدات منفصلة لا يحقق التكامل الذى يجب أن يميز هذه الوحدات لتحقيق النظرة الشمولية وإظهار أهمية العمليات والعلاقات المتبادلة بين هذه المكونات. كما تقلل هذه التجزئة من أهمية التداخلات والدورات التى تمتد عبر مكونات البيئة الطبيعية، فالدورات القصيرة الأمد مثل الدورة المائية ودورة الطاقة ودورة المواد الكيمائية تتفاعل مع بعضها البعض لتعطينا البيئة الطبيعية.  لهذا يرى بعض الدارسين انه حتى تبقى التفاعلات والدورات التى تنتشر خلال البيئة الطبيعية محتفظة بأهميتها يجب اعتماد نوع التفاعل أو الدورة كأساس لتقسيم الجغرافيا الطبيعية إلى موضوعات، مثل الحركة فى البيئة الطبيعية وتشمل دورة الأرض ودورة الهواء العامة والدورة الهيدرولوجية (Lookwood,1976,p.v).
فى الوقت الحاضر كان على الجغرافيا الطبيعية، كغيرها من فروع المعرفة، مواجهة الكم الهائل من المعلومات والنشاط البحثى ، وكانت إحدى السبل للتجاوب مع هذا التطور ان يتبنى الجغرافى نهج يضمن تقليص اهتماماته، والذى يمكن أن يعنى أن الكثير معروف عن القليل, بمعنى إما أن يقلل الظواهر المدروسة أو يحصر المساحة المدروسة (عكس الجغرافيا العامة) وهو نهج يعنى أيضا غياب قضايا ومشاكل العالم الأساسية عن جدول أعمال الجغرافيا. والبديل هو ضرورة أن يكون الجغرافى مدركا لمجال الجغرافيا الطبيعية، إلى جانب تخصصه فى فرع منها، كما يكون مدركا للكيفية التى يجب أن يتطور بها موضوعها فى إطار من تقييم سليم للمشاكل الرئيسية فوق سطح الأرض والحاجة إلى تنمية مستدامة.  وحتى يتحقق هذا الفهم وضع جريجورى  Gregory (1978) طريقة بسيطة لتحقيق غرض وأهداف الجغرافيا الطبيعية باستعمال ما عرف بمعادلة الجغرافيا الطبيعية    F=f(P,M)dtوالتى لاقت قبولا لدى العديد من الجغرافيين. فالجغرافيا الطبيعية معنية بعناصر مورفولوجية او نتاج البيئة الطبيعية (F)، وعمليات ﹸتشكل البيئة الطبيعية (P) ومواد تعمل بها العمليات (M) على مدى فترة من الزمن (t) . وضعت هذه المعادلة لتوضح الطريقة التى تتناول بها الجغرافيا الطبيعية كيفية عمل العمليات (processes) على المادة (materials) عبر الوقت (time) محدثة نتائج، مثل الأشكال الأرضية. مثلا،  فى نظام التربة تعمل عمليات تكوين التربة مثل (التجوية) على مواد الأصل (الصخور) متأثرة بعوامل تكون التربة مثل (المناخ) لتنتج قطاع التربة أو المشهد الأرضي للتربة ((Gregory,2000,p. 18.
إلى جانب المعرفة النظرية  تشمل الجغرافيا الطبيعية أيضا العمل الحقلى وهو جانب يسمح للدارس باكتساب تلك النظرة الشمولية لوظائف النظم البيئية، كما أن البيانات المتحصل عليها من الدراسات الميدانية يمكن تحليلها معمليا ومن ثم تحويل البيانات حول العمليات إلى مادة كمية . تساعد الدراسات الميدانية على التنبؤ بما سيكون عليه الوضع وما يجب إجراءه من تعديل فى السياسات المتبعة لتحقيق وضعا مستقبليا أفضل مما هو قائم. أى أن الباحث يتمكن من خلال تبنى منهجا تطبيقيا فى دراسته تستخدم فيه البيانات والتقنيات المكتسبة فى محاولة لفهم أسباب المشكلات وتحديد آثارها واقتراح ما يناسبها من حلول . يمكن أن يضاف إلى ما تقدم أن العمل الحقلى فى الجغرافيا الطبيعية، يجعلها تشترك مع العلوم التطبيقية فى إعطاء الباحث ذلك الإحساس بالمشكلة وفى الإسهام فى صنع القرار وفى رصد خطوات العمل وتقييم الخطط وتوجيهها .
منذ ستينات القرن الماضى شهدت الجغرافيا الطبيعية تغير جذرى نتيجة تطبيق النظامين، النظرى والرياضى فى دراستها، وقد عرف ذلك بالثورة الكمية Quantitative Revolution، حيث تركز الاهتمام فى البحوث والدراسات على القياس خاصة فى اختبار الفرضيات. كما ارتبطت الثورة الكمية بالطريقة التى تدرس بها الجغرافيا الطبيعية الارض وما بها من ظاهرات وأصبح البحث الجغرافى يعتمد على تقنيات مثل نظم المعلومات الجغرافية والاستشعار عن بعد ويستخدم وسائل تعبير رياضية وإحصائية بدل تلك الوسائل اللفظية عند دراسة الظاهرة الجغرافية. وبتطبيق هذه الوسائل فى البحث الجغرافى تمكن الباحث من الوصول إلى نتائج دقيقة فى وقت قصير وبجهد اقل كما أمكن دراسة بعض الظاهرات المعقدة فى مكان ما والتنبؤ بإمكانية حدوثها فى مكان آخر وبالتالى استنباط الوسائل التى يمكن أن تساعد على تلافى ما يترتب عليها من أخطار. من أمثلة هذه الظاهرات, الانهيارات الأرضية وحركة الانخفاضات الجوية (موسى والحمادى, 1980).


خـــاتمة
تهتم الجغرافيا الطبيعية بدراسة مختلف الظاهرات فوق سطح الأرض وما يجاوره من غلاف جوى، وتهدف إلى فهم كيف تمثل البيئة الطبيعية أساس نشاط الإنسان وكيف تأثرت بهذا النشاط. وتتميز الجغرافيا الطبيعية باتصالها بالعديد من العلوم ، وقد زاد هذا الاتصال من فهم العلاقات المتبادلة بين مكونات البيئة الطبيعية كموطن للإنسان.
تطورت الجغرافيا عبر مسيرة الإنسان الحضارية، وكان الإغريق هم الأوائل الذين وضعوا قواعدها العامة لتنتقل بعد ذلك إلى الرومان ثم العرب. ونظرا لاهتمام الرومان بالجوانب العملية للعلوم فقد تحولت الجغرافيا عندهم إلى وسيلة لخدمة اهتماماتهم فى مسائل مثل الفتوحات الحربية وتوسيع الإمبراطورية. لم يمنع ذلك من ظهور أسماء حافظت على القيمة الحقيقية للجغرافيا وساهمت فى مجال تقدمها مثل سترابو وبطليموس. أما خلال العصور الوسطى، حيث ساد التأخر واعتماد العقيدة الدينية لا العقل كأساس للكتابات, لم تكسب الجغرافيا شيئاً كثيراً بل اضمحل شأنها حتى أحياها العرب بمساهماتهم فى رسم الخرائط وفى الرحلات والملاحة فضلا عن أرائهم القيمة فى مواضيع مثل المناخ والجيومورفولوجيا. إن ما ميز تلك الفترة بمراحلها المختلفة ، بقاء الجغرافيا ككيان معرفى موحد مرتكز على الأفكار والآراء الإغريقية، واقتصار وجود الجغرافيا الطبيعية على بعض الملاحظات حول بعض الظاهرات الطبيعية والتى كانت ترد فى كتابات الإغريق وكتابات من جاء بعدهم .
يمكن القول أن البدايات الأولى للجغرافيا الطبيعية تشكلت بنشر كتاب الجغرافيا العامة لفارينوس فى القرن السابع عشر، ثم عزز ذلك ما اقترحه (كانت) فى نهاية القرن الثامن عشر من طرق لتنظيم المعرفة اعتبر فيها الجغرافيا بفروعها، التى تشمل الجغرافيا الطبيعية، أحد ميادين المعرفة الإنسانية. مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، شهدت الجغرافيا تطورا كبيرا فى أوروبا والولايات المتحدة وقد ارتبط هذا التطور بظهور الجمعيات الجغرافية وتزايد نشاط الكشوف الجغرافية، حيث مهد ذلك إلى ظهور الجغرافية الطبيعية كميدان للمعرفة. مع بداية النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وفى وسط فكرى كانت تفسر فيه الظاهرات الكونية والطبيعية على أساس أسطورى، ظهرت أراء جديدة مكنت من إعادة النظر فى معظم الأفكار القديمة واستخدام العلم للمساعدة على تفسير غموض الطبيعة . كان لهذه الآراء الجديدة ابلغ الأثر على هذا الحقل من المعرفة، من هذه الآراء  فكرة الانتظام ونظرية التطور. فقد رفضت فكرة الانتظام مسؤولية القوى الكارثية عن الأوضاع الحالية للأرض، واقترحت عوضا عنها دور عمليات منتظمة ومتواصلة عن طبيعة سطح هذا الكوكب فى الماضى وفى الحاضر. أما نظرية التطور فقد نتج عنها أن أصبحت التفسيرات التطورية لمختلف الظاهرات الطبيعية أمر مسلم به عند العلماء، وقد تبناها العديد من الجغرافيين واعتبروا أن أثرها كان كبيرا فى تحويل الجغرافيا من مجرد علم وصفى إلى علم يهتم بالأسباب والعلل ويربط بين الظاهرات المختلفة.
أدى تقدم الكشوف الجغرافية وتطور عمليات المسح المختلفة إلى إقحام جميع فروع الجغرافيا الطبيعية فى هذه الأنشطة وكان نتيجة ذلك جمع الكثير من البيانات الأساسية والتى شكلت الأسس التى تنطلق منها هذه الفروع . كما برز الاهتمام بعلاقة الإنسان بالأرض وتأثير نشاطه على البيئة. مع بداية النصف الثانى من القرن العشرين وبعد تأثر الجغرافيا الطبيعية بالثورة الكمية، حدث تغير فى طرق البحث الجغرافى، حيث اخذ الجغرافيون فى تبنى منهج علمى يعتمد على التقنية الكمية. ترافقت هذه الثورة الكمية أيضا بالطريقة التى درس بها الجغرافيون الظاهرات المختلفة، فقد اخذ البحاث فى التركيز على فحص العملية بدل الوصف المجرد للظاهرة الجغرافية. وقد ساد استخدام هذا المنهج الكمى فى الوقت الحالى بسبب ما حظيت به تقنية برامج الحاسوب من تطور. من التوجهات الحديثة للجغرافيا الطبيعية التطور المتواصل للجغرافيا الطبيعية التطبيقية فى مجال تحليل وتصحيح المشاكل البيئية ذات العلاقة بنشاط الإنسان، فقد استخدم الاستشعار عن بعد فى مراقبة الموارد الأرضية والبيئة، فضلا عن استخدام تقنيات نظم المعلومات الجغرافية وهى تقنيات ازدادت أهميتها خاصة فيما يتعلق بإدارة الموارد.
المراجع العربية
 البنا،على (2003) الجغرافية التطبيقية المضمون التطور المنهج، القاهرة : دار الفكر العربى.
 الفرا، محمد (1980) علم الجغرافيا: دراسة تحليلية نقدية فى المفاهيم والمدارس والاتجاهات الحديثة فى البحث الجغرافى، (رقم 22) نشرة يصدرها قسم الجغرافيا : جامعة الكويت.
بحيرى، صلاح الدين (1979) أشكال الأرض، دمشق:دار الفكر العربى.
تيلور، جريفث (محرر) (1974) الجغرافية فى القرن العشرين، دراسة لتقدمها وأساليبها وأهدافها واتجاهاتها، ترجمة محمد السيد غلاب ومحمد مرسى ابوالليل، القاهرة:الهيئة المصرية العامة للكتاب.
خصباك، شاكر (1986) الجغرافية عند العرب، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
كلوزييه، رينيه (1985) تطور الفكر الجغرافى، ترجمة عبد الرحمن حميدة ، دمشق: دار الفكر .    
منشل، روجر (1995) الجغرافيا الحديثة ، ترجمة محمد السيد غلاب و دولت احمد صادق، القاهرة:
موسى، على ومحمد الحمادى (1980) فلسفة الجغرافيا،  دمشق : مكتب الأنوار. مؤسسة شباب الجامعة. 
المراجع الأجنبية
Gabler, R.E., Sager, R ., Brazier, S., Pourciau, J. (1975)  Introduction to Physical Geography. Rinehart Press, USA.
Gilson Peter, M.A., (1980) Success in Geography: Physical and Mapwork. John Murray, London.
Gregory, K.J. (2000) The Changing Nature of Physical Geography. Arnold, London.
Gregory, K.J. (1978) A  Physical Geography Equation. National Geographer 12, 137-41.                                                     
King, A.M. (1980) Physical Geography. Blackwell, Oxfor
Kolars, J.F and Nystuen, J.D.(1975) Physical Geography: Environment and Man. McGraw-Hill, New York.
Lockwood, G. (1976) The Physical Geography of the Tropics: An Introduction. Oxford University Press, London.
Pears, N., (1993) Basic Biogeography. Longman, London.
Smithson,P. Addison,k. and Atkinson,K. (2008) Fundamentals of The Physical Environment . Routledge, London.
Summerfield, M.A., (1992) Global Geomorphology: An introduction to the study of landforms. Longman, England.
Thompson, R.D., Mannion, A.M. , Mitchell e, C.W., Parry, M. and Townshend, J.R.G. (1986) Processes in Physical Geography. Longman, London.  
White, I.D., Mottershead, D.N. and Harrison, S.J. (1989) Environmental System       An Introduction. Unwin Hyman, London.
مراجع شبكة المعلومات
Pidwirny,M., (2006) 






تحميل 

 



تحميل من قناة التليغرام







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا