التسميات

الأربعاء، 23 مايو 2018

الآثار الاجتماعية للتوسع العمراني: المدينة الخليجية أنموذجا - د. عبدالله بن ناصر بن عبدالله ...


الآثار الاجتماعية للتوسع العمراني: المدينة الخليجية أنموذجا




الدكتور عبدالله بن ناصر بن عبدالله




مركز البحوث و الدراسات في قطر سلسلة كتاب الأمة 



العدد 136



ربيع الأول 1431هـ



تقديم 
عمر عبيد حسنه 
    الحمد لله، الذي جعل التفاهم والتعاون والتعايش والتسالم هو سبيل بناء الحضارة الإنسانية، وغاية التنوع البشري، وعلة الاجتماع والعمران، ووسيلة الفقه الحضاري وتحقيق التقوى والكرامة الإنسانية، التي تشكل السياج السليم للنسيج الاجتماعي بعيداً عن النـزعات العنصرية، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (الحجرات: 13). 
  فمعيار الكرامة الإنسانية في الرؤية الإسلامية، الذي يرتكز إلى التقوى هو العاصم الحقيقي من كل ألوان الصراع القائم على الجنس والعنصر واللون والجغرافيا والمكانة الاجتماعية والطبقية، الموصل إلى السلام والتحقق بالإنسانية السعيدة والمجتمع الآمن
     والصلاة والسلام على رسول الإنسانية جمعاء، يقول تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (الأعراف:158)، الذي جسد القيم الإسلامية الإنسانية في مجتمع النبوة، ليكون أنموذجاً للاقتداء في التعاون والتفاهم والتعايش والتسالم، وأقام المؤسسات الاجتماعية وفي مقدمتها عقد المآخاة بين المهاجرين والأنصار وبناء المسجد، محور الحياة والنشاط الاجتماعي، وكتابة الوثيقة التي مثلت عقداً اجتماعياً ودستور التعايش والتسالم في المدينة، عاصمة المسلمين الأولى
وبعد
    فهذا «كتاب الأمة» السادس والثلاثون بعد المائة: «الآثار الاجتماعية للتوسع العمراني.. المدينة الخليجية أنموذجاً» للدكتور عبد الله بن ناصر السدحان في سلسلة «كتاب الأمة»، التي تصدرها إدارة البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، في محاولتها الدائبة لاسترداد الوعي، وبيان أبعاد الرؤية الإسلامية للكون والحياة والحضارة والإنسان، هدفها وركيزتها، وتقديم نماذج من الاعتبار والتدبر في القراءتين، في كون الله المنظور وكتاب الله المسطور، للحياة المعاصرة، بفلسفتها ورؤاها وإنتاجها، على الأصعدة المتعددة
    إن هذا التدبر يجعل الإنسان قادراً على القراءة بأبجدية صحيحة للحياة والأحياء، ويمكنه من أن يحدد مكانه، ويقدّر فاعليته بدقة، ويدرك أبعاد رسالته في واقع الحياة، في ضوء استطاعته، آخذاً في الاعتبار الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة، مستصحباً المنهج السنني في التغيير وحسن التقدير، بعيداً عن المجازفات والشعارات الكبيرة وقرع طبول الحرب، دون إعداد واستعداد، وشعارات الحمـاس والتعبئة، دون دراية وتخطيـط، الأمر الذي لم يُورثنا إلا مزيداً من التخلف والتراجع الحضاري وتبصير عدونا بنا، وتعريفه بجوانب ضعفنا، وإثارة عنصريته وتعصبه وأحقاده
   وفي تقديرنا أن تلك الحـال ما تزال تحـكم حركتنا؛ لأننا ما نزال في مرحلة التخـلف والوهـن الحضـاري وحياة القصعة، ندع ما يقع ضمن اسـتطاعتنا من اكتـشاف دوائر الخير والتوسع فيها إلى التطاول إلى ما لا نستطيع؛ التطاول إلى القضايا الكبيرة ظناً منا أنها تُحل وتعالج بالشعارات والصراخ والحماس وسماكة الحناجر وضخامة الأصوات، وقرع الطبول، واستمرار الندب، فتُهدر بذلك إمكاناتنا، ويُضلُّ سعينا، وقد نظن أننا نحسن صنعاً؛ حالنا كحال من افتقد بوصلة الهداية فاختلطت عليه الأمور وتحديد الجهات فمشى مكباً على وجهه
   والمحزن حقاً أنه لم يبق لنا من الإيمان، إلا من رحم الله، إلا التلفظ بالشهادتين وممارسة عادات تحت مسمى العبادات
    ولعل أول الطريق إلى تغيير الحال يبدأ من الإحاطة بعلم بأنفسنا وإمكاناتنا، وتحديد مواطن الخلل فينا، ومن ثم الإحاطة بعلم الواقع من حولنا؛ ونقصد بالواقع الحال، التي عليها الأمة المسلمة الآن وحال خصومها وأعدائها والظروف التي تحيط بها
   وليس ذلك فقط، وإنما اكتشاف نقاط التقاطع والالتقاء والتشارك في ما بين معطيات الرؤية الإسلامية ونواتج الحضارة المعاصرة، التي تحيط بنا من كل جانب، بعين متخصصة بصيرة، والتعرف الدقيق على أن الحضارة المعاصرة ليست شراً مطلقاً ولا خيراً مطلقاً، وإنما هي من هذا وذاك، والعاقل هو القادر على التمييز، العارف ماذا يأخذ وماذا يدع، المدرك لدوره في هذا الواقع ورسالته في الحياة والمجتمع وما يتطلبه ذلك من آليات وخطط وأعمار وآجال وحتى أجيال
   ذلك أن الحضارة الإسلامية، التي توقفت شرايينها عن التدفق ونسغها عن الامتداد والعطاء والقيام بوظيفة الاستخلاف والعمران من قرون عديدة، الأمر الذي يعني التراجع الحضـاري، وفسح المجال لامتداد الآخر في فراغنا، لا يمكن أن تخـتزل تلك الفجـوة الحضـارية بسـاعات وأيام وسنيـن، كما لا ينفع معها التعالج بالبكاء على أطلال الماضي وامتداد الافتخار بإنجازاته لمعالجة مركب النقص في كثير من الأحيان، وبذلك يتحول النواح على الماضي من دافع ومحرك ورافع ومحرض حضاري إلى مانع ومعوق ومعطل ومكرس للعجز ومخرب للوعي ومؤد إلى الغيبوبة الحضارية ووهم العافية
   ولا مندوحة من الاعتراف بأننا على حالٍ متخلفة لا نُحسد عليها، حيث تحيط بنا أخطاؤنا، وتحاصرنا معاصينا من كل جانب، الأمر الذي أسقطنا في ارتهان حضارة (الآخر)؛ وليس ذلك فقط، وإنما في استمرار اتساع الفجوة الحضارية التي تزداد كل يوم، بل كل ساعة تقريباً بيننا وبين (الآخر)، لدرجة من الهوان أصبحنا معها ميدان تجارب ووسيلة إيضاح لنمو وتقدم (الآخر). 
    ولا تقتصر هذه الإصابات على أصحاب الشأن السياسي، الذي نكاد نحملّه عادة كل الأوزار لإعفاء أنفسنا، وإنما باستطاعتنا القول: إن أصحاب الشأن الديني والشأن التربوي والشأن الثقافي ليس أحسن حالاً وأقل مسؤولية من أصحـاب الشأن السياسي في هذا الجانب، إن لم نقل: إن الشأن السياسي إنما هو ثمرة ونتيجة للخلل والإصابات الخطيرة في تلك الجوانب جميعاً
    والناظر في حال الأمة على الأصعدة المختلفة، الديمغرافية والاقتصادية والسياسية والتربوية واللغوية، قد لا يجد في الواقع المعيش ما ينتسب إلى مرجعيتها أو يشير إلى تواصلها الحضاري، حيث تقيم حاضرها على أصول وقيم حضـارة أخرى؛ لقد انتهينا إلى الحـالة الذي ذكرها القرآن من التقطّـع في الأرض، سياسياً واجتماعياً ولغوياً، حيث تقطعت الأمة أمماً: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمْ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الأعراف:168). 
   إن ملامح واقع الأمة اليوم، بشكل عام، يشير إلى أن هذا الواقع جاء ثمرة ونتيجة لحضارات غازية وثقافات مهيمنة تكاد تأتي على مقومات الأمة جميعاً بحيث باتت تغيب معها قسمات هوية الأمة وتاريخها وتواصلها الحضاري
   لقد تجاوز الحال، التي نحن عليها، عملية التبادل الثقافي والمعرفي والشراكة الحضارية الموهومة، الحال الطبيعية بين الأمم والشعوب والحضارات، إلى الاستلاب الحضاري والتنميط ضمن سياقات الحضارة الغالبة، وذلك على الأصعدة المتعددة، السياسية والثقافية والتربوية والتعليمية واللغوية والسياسة السكانية والفنون العمرانية؛ لقد تحولنا إلى أرقام معطلة المعنى والفاعلية، لدرجة أصبحت معها تلك الأنماط أو هذا الحال من التنميط أشبـه بعقود إذعـان تسـلب إرادتنا وتعطل اختيارنا في كل مجالات الحياة وحركتها
    وقد يكون أحد وجوه الإشكالية أنه بعد أن تقطعت الأمة أمماً تقطعت ثقافتها، ومُزقت رقعة أفكارها، وهجنت لغتها، وعجمت ألسنتها، وتبعثرت مرجعيتها، واهتزت كلياتها، واختلّت أولوياتها، وأصبحت كل أمة من هذه الأمم شظية تعيش حبيسة مرحلة معينة من الماضي تتقولب فيها (!) لقد سقطت في فخاخ ذلك الماضي وفتنه ومشكلاته، وهي ما تزال تقيم المعارك ولا تقعدها بغير عدو حقيقي، وتغرق في النظرات الجزئية، التي تعميها عن رؤية المشكلات الأساس بشكل صحيح وتحول دون القدرة على التحقق بالرؤية الشاملة، التي تمكِّن من رؤية الحاضر، وتستصحب عبرة الماضي، التي تحقق لها العبور وصناعة المستقبل السليم
    فهل يحقّ لنا أن نقول: إن ذلك بسبب افتقادنا المعيار ودليل الهداية ووسيلة الاقتداء؟ أم نقول: لقد اختلطت علينا الأمور، وعُمِّيَّت علينا الأشياء، إلى درجة أصبحنا معها نُقدِّس المدنس وندنِّس المقدس، ونقبل الضار ونرفض النافع المفيد؟ وهل السبب في ذلك منتجات الحضارة وسياساتها وثقافتها وفضاؤها؟ وهل هذا هو الذي شل إرادتنا وعطل ذهنيتنا وأخرجنا من مرجعيتنا فتحولنا إلى زبائن أغبياء لا نحسن حتى التقليد والمحاكاة، لا تلامذة أذكياء متعلمين؟ 
     إن الحضـارة المعـاصرة بآلتها وجبروتـها تحيط بنا من كل جانب، كما أسلفنا، في البيت، والشارع، والمركب، والمشرب، والملبس، والمدرسة، والنادي، والجامعة، والمسرح، والمعرض، والمكتبة، والدائرة، وطرز البناء والعمران، تحاول تنميطنا وقولبتنا وفقاً لمقاييسها حتى ولو كنا نختلف عنها قيماً، وتاريخاً، وعادات، وتقاليد، وموروثات حضارية، ومعادلات اجتماعية، وعمر حضاري؛ إنـها تمارس التخـلية، بمعنى التفريغ، من كل ما يختلف عنها، وتحشد لذلك العلماء والخبراء من كل اختصاص، وتحاول الإمساك بعقول النخب السياسية والثقافية والتربوية والفكرية، تجندها في محاولة لنخرب بيوتنا بأيدينا؛ لقد أصبحنا، وإلى حد بعيد، نمثل رجع الصدى لها، على كل المستويات، حتى ولو كنا نقاد إلى حتفنا بظلفنا
    لقد بدأت الإصابات تترى وتتوالى علينا، في السياسة والثقافة والتربية والتعليم والسياسات السكانية وطرز البناء والعمران، وتوثق بمعاهدات دولية تمثل بالنسبة لنا ارتهاناً وعقود إذعان؛ لقد تمحورت معظم السياسات المستَهْدفِة حول الأسرة، في محاولة لإيقاد الصراع بين أفرادها، والدعوة والإغراء بالتمرد والصراع على قيمها تحت شعارات «الحرية الشخصية» وفلسفات «صراع الأجيال» والحق في «حرية الاختيار»، ومواجهة التمييز ضد المرأة، والحد من الاغتصاب الجنسي، حتى في نطاق الحياة الزوجية، والمطالبة بالحقوق المتساوية في الإرث والسفر والإقامة والقوامة، وذلك شأن كل الفلسفات التي تدعو إلى الخلاص من سلطة الأبوين وإسقاط مجتمعات الأبوة بإطلاق؛ وليس ذلك فقط وإنما إيقاد الصراع أيضاً بين الرجل والمرأة، ومحاولة إلغاء الفوارق العضوية والنفسية والتخصصية والوظائف الاجتماعية، والدخول إلى أخص الخصوصيات، والتدخل في العلاقات الزوجية بأدق دقائقها، الأمر الذي أدى إلى تفكك الأسرة في عالمنا الإسلامي، التي كانت ولا تزال تعتبر الحصن الأخير للتربية والخلق والثقافة والعادات
      لقد وُضعت الفلسفات للتحول من الأسرة الممتدة، بكل عطائها وروابطها ونسيجها الاجتماعي وما تحققه من التوارث الاجتماعي والتجانس بين الأجيال، إلى الأسرة النووية، التي تقتصر على الأب والأم والأولاد، التي تقطِّعت معها الأوصال، وقُضي فيها على صلات الأرحام، وأدت إلى تمزق النسيج الاجتماعي للأمة، والعبث بقيمها وتاريخها
   وبالإمكان القول: إن ذلك كان سبيلاً إلى عملية تدمير كامل للحياة الاجتماعية، بكل أبنيتها، بما في ذلك الأسرة النووية، ويمكن لنا بنظرة بسيطة ومستعجلة أن نبصر المصير الذي انتهت إليه الأسرة النووية من التباعد والتفكك والصراع بين الأزواج والزوجات والأبناء والبنات؛ ولو طرحنا سؤالاً: كم من الأسر النووية المعاصرة استطاعت الصمود والامتداد؟ لأجابتنا معدلات الطلاق بما يُبلسنا والغاوين؛ ولو عقدنا مقارنة بسيطة بين أسرنا السعيدة في التاريخ الإسلامي وماذا أنجبت وأنتجت من العلماء والقادة والأبطال وأسرنا التعيسة المعاصرة وماذا تنتج من المأزومين والانهزاميين والمغرورين والفاسدين بشكل عام، لعرفنا ببساطة إلى أين نسير، وماذا يحمل لنا المستقبل(!) لكن يؤسفنا أن نقول: إن العاقل يعتبر بغيره وخطأ نفسه، والأحمق من يكون عبرة لغيره
        إن أسرتنا المعاصرة فقدت الروح الجماعية، التي تربي العواطف، وتقوي الأواصر، وتدرب على التعاون والإيثار والوفاء والإخلاص والحب والرحمة واحترام الكبير والعطف على الصغير
       لقد أصبح أفراد معظم أسرنا المعاصرة أشبه بنـزلاء الفنادق، لكلٍ غرفته وطعامه ومنامه واهتمامه وممارساته لشأنه الشخصي، حتى ولو جمعتهم أحياناً غرفة أو مجلس واحد؛ فالتلفزيون لبعضهم هو أمه وأبوه وأخوه وأخته، وحديثه وأنيسه فهو مشدود إليه، يعيش بجسمه فقط في الأسرة؛ ومنهم من ينكفئ على الكمبيوتر يحاكي من يريد ويستدعي ما يريد؛ ومنهم من يغرق في بحر الإنترنت بكل أطيافه ومخاطره؛ ومنهم من قد يمضي وقته كله خارج المنـزل ويعود منهكاً إلى فراشـه وكأن لا علاقة له بغيره؛ وكثير من النساء المتحضرات المتحررات يغادرن البيوت إلى وظائف مُنهِكة قد لا تمت إلى وظيفتها الاجتماعية والعضوية بنسب، فتكسب دريهمات بخسة قد تدفع بها إلى التمرد والانكفاء وعدم الانسجام الأسري، ومحاولة الاستقلالية الخادعة، دون استشعارٍ لأهمية دورها في التربية، وكأن تربية الأولاد والسهر على الأسرة عبثاً من العبث وليس عملاً(!) 
      وحتى بعض المتدينات، لسن أحسن حالاً، من اللواتي بدأن يخرجن باسم الدعوة والنشاط الديني، حتى ولو كان ذلك على حساب الزوج والأولاد وسعادة الأسرة وتأمين متطلباتها والقيام باستحقاقاتها، وكأن رعاية الزوج وتربية الأولاد وغرس الفضائل والرعاية الصحية وبناء العواطف وتمتين الأواصر الأسرية في البيت ليست من الدعوة إلى الله (!) لكن المشكلة تصبح أكثر تعقيداً وأشد خللاً إذا لم تدرك المرأة أبعاد مهمتها في الأسرة والدور المنوط بها، فيصبح مُكثها في البيت ذا إشارة سلبية ويشكل عبئاً عليها وعلى أسرتها، وبذلك تخسرها الأسرة وتخسرها الأمة.. وهكذا يستغرقنا الاعوجاج حتى في فهمنا لقيمنا الدينية وتطبيقاتها على الواقع
    وليس ذلك فقط، وإنما بالإمكان القول: إن نمط وطرز العمران وشكل البناء وهندسته المقلدة لحضارة (الآخر) ضاغط ودافع إلى تفكيك الأسرة واختصار حجمها، والوصول إلى الأسرة النووية، والانخلاع من الأسرة الممتدة؛ وليس ذلك فقط أيضاً وإنما يمثل ضاغطاً ودافعاً لأفراد الأسرة، وخاصة المرأة، للخروج إلى الشوارع والمجمَّعات والشُرفات والأسواق والمطاعم
لقد كان طراز البناء ثمرة واستجابة للرؤية الشرعية، بكل استحقاقاتها وأبعادها وحدودها الشرعية، في الحل والحرمة؛ كان معواناً للأسرة على الاضطلاع برسالتها، ومكملاً ومساعداً على الالتزام بأخلاقها.. 
    كان طراز البناء وفن المعمار قائماً على الستر والراحة والمتعة؛ كان يسهّل النظر في الكـون، والاتصال بالسمـاء، والتأمل في آلاء الله؛ كانت البيوت (الدور) تتمتع بفسحة سماوية، وتحتوي على حديقة مملوءة بالزهور والأشجار المثمرة، محاطة بغرف ومرتفقات من دورين تأخذ المرأة فيها حقها من المتعة والحرية وكأنها في غرفة نومها، فجاءت الأنماط الحديثة تحاصر المرأة، تحجبها عن السماء وتحبسها في غرفة كأنها السجن أو العلبة تضغط عليها، وتدفعها دفعاً للخروج إلى الشرفات والحدائق، الأمر الذي قد لا يمكنها كل خرجة من ارتداء اللباس السـاتر، الذي نتساهل فيه شيئاً فشيئاً، هذا إضافة إلى ما يحمله هذا الخروج من استكمال المظاهر واللباس والتزين والمفاخرة (!) 
    لقد انقلبت الآية، فخـرجت الزينة إلى الشـوارع، وتحولت البيوت إلى مستودعـات لأدوات زينة الشوارع، فالشارع محل الزينة والبيت مخزنها، هذا إضافة إلى ما يحمل تقابل الأبنية والنوافذ من كشفٍ للعورات وانكشافٍ يتطلب من المرأة المسلمة أن تكون في بيتها بكامل لباسها وكأنها في الشارع، الأمر الذي سوف لا يستقيم ولا يمتد، حيث لا بد أن يخرجها شيئاً فشيئاً
     والعلة ليس فقط في طراز ونمط البناء، الذي يقطع الإنسان عن الاتصال بالسماء وينكِّس رأسه إلى الأرض، وإنما بالتدخل أيضاً بتكوين الأسرة ومحاولة استيراد سياسيات سكانية عجيبة وغريبة على ديننا ومجتمعنا وواقعنا الديمغرافي؛ سياسات تتناسب مع حضارة العمران وطرز البناء المستوردة أيضاً، تدخل علينا متدثرة بثوب العلم والمعرفة ومستصحبة التجارب والدراسات الرعيبة عن خطورة الزواج المبكر والذي باتت تُحشد له الدراسات الوهمية حتى ولو صادم الفطرة، وفتح المجال أمام الرذيلة والعلاقات المشبوهة، من مثل أهمية تنظيم النسل والمباعدة بين الولادات بدل أن يقولوا تحديد النسل، ومحو الفوارق بين الجنسين، واختراع مصطلح جديد (الجندر) حتى يصدق على الذكر والأنثى، دون معرفة الجنس، وإشاعة وتفشي الزواج خارج نطاق الأسرة، وتشريع قوانين الحماية له، والتقنين لزواج المثليين،... وإلى آخر هذه القائمة الدنسة
    إن هدم الأسرة الممتدة، وتقطيع صلات الأرحام، وإلغاء الذاكرة الأسرية والتوارث الاجتماعي المتواصل بين الأجيال، ومحاولة تجاوز التقاليد والأعراف بدعوى الاقتصار على الأسرة النووية، في فلسفة للحياة الاجتماعية، والرؤية الحضارية الاجتماعية، وإقامة العمران وتخطيط البيوت والمدن وطراز الأبنية في ضوئها، شكَّل في الحقيقة بداية الطريق لإلغاء الأسرة كلياً، سواءً في ذلك الممتدة والنووية معاً
  لقد أصبحت الحياة الاجتماعية تعني -فيما تعني- أزواجاً بلا زوجات، وزوجات بلا أزواج، وآباءً بلا أبناء، وأبناءً بلا آباء، وزواج متعة وصداقة، وزواجاً خارج إطار الزوجية، وزواجاً بشرط عدم الإنجاب، وزواجاً مثلياً.. لقد انتهت الأسرة في الحضارة المهيمنة بكل أشكالها، فهل ندرك غايات ومرامي تلك الفلسفات قبل فوات الأوان؟ 
    يأتي ذلك كله في الوقت الذي تشكو فيه بلادنا، وخاصة مجتمعات الخليج، من قلة السـكان الأصليين وخطورة غلبة الوافدين إليها من كل أنحاء الأرض
والمؤسف، أشد الأسف، ما يمارسه بعض الخبراء القادمين من الخارج، الذين يسرقون أموالنا في النهار ويعبثون بحياتنا: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ (النساء:89) من تقديم واقتراح خبرات عجيبة وغريبة، من تطبيق قوانين وسياسات المجتمعات الأخرى، التي تشكو من التخلف وزيادة السكان وقلة الموارد وضيق الأماكن، يأتوا بهذه الخبرات ليطبقوها على مجتمعات تختلف في طبيعتها وعقيدتها وتاريخها وإمكاناتها..... إلخ
     وما أزال أذكر أننا كنا في بعض بلداننا العربية الإسلامية نناقش قضية التربية والتعليم والأبنية المدرسية ومتطلباتها من التوسع وأهمية التخطيط لهذه الأبنية بشكل موازٍ لنمو الطلبة وبمعدلات مدروسة، فاقترح أحد المشاركين، وقد يكون من الخبراء(!) أن يُجعل الدوام في المباني الموجودة على ثلاث دفعات، فتصبح المدرسة تستوعب ما تستوعبه ثلاث مدارس؛ ولما حاولنا مناقشة ما يترتب على ذلك من سلبيات ضياع الأوقات والتسكع في الطرقات، وزحمة الشوارع، وانعكاس ذلك على البيئة ووسائل النقل، وانتقاص حق الطالب من المعرفة، كان جوابه (المقنع) طبعاً بأن في دولة الصين خمس دفعات تتتابع في المبنى الواحد.. وهكذا تتم المقارنات المحزنة بين بلد يبلغ عدد سـكانه المليار إنسان وبلد لما يصل عدد سكانـه إلى المليون أو بعض المليون(!) فكيف يمكن أن نطبق تلك القوانين التي جاءت ثمرة لكثافة سكانية معينة على بلد يشكو الفقر السكاني؟ وهكذا مع الأسف تدار الأمور وتوضع الخطط (!) 
   وقد تكون الإشكالية كلها في أننا نستورد المشكلات، التي تعاني منها المجتمعات الأخرى، ونفترض وجـودها عندنا، وبالتـالي نبرر استيراد الحـلول والخـبراء لمعالجة المشكلات المفترضة أو الموهومة، ونضيِّع بذلك أمـوالنا وأوقاتنا ومجتمعاتنا ولا نواجه المشكلات الحقيقية التي نعاني منها
فالسياسات السكانية المستوردة، واستراتيجيات التنمية، ودراسات ومعاهدات التمييز ضد المرأة، ودراسات معالجة ظواهر العنف الأسري، وتأليب أفراد الأسرة على بعضهم تحت شعارات ومسميات خادعة، وتسليط أفراد الأسرة بعضهم على بعض بدأ يُنذر بنتائج خطيرة هنا وهناك، وهذا يمكن أن يشكل الملامـح الجديدة المعاصرة والقادمة لبلاد العالم الإسلامي عامة: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ (البقرة:109) 
    وهذا الرد والإخراج من الدين لم يعد بالوسائل المباشرة، التي قد تحدث عكس مفعولها فتؤدي إلى استشعار التحدي والاستفزاز وتعمل على تجميع القوة والنفرة إلى المواجهة، وإنما تحوّل إلى ألوان أخرى من التسلل واستخدام القوى الناعمة المتدثّرة بثوب العلم؛ تحملها إلى العالم الإسلامي المتخـلف والعـاجز والمـؤهل لتقبل كل شيء دون فحص أو اختبـار؛ ولو كان مؤهـلاً للفحـص والاختبار والبصارة الحقيقية لما يأخذ وما يدع لما كان متخلفاً وعاجزاً، لذلك أصبح محلاً لنفايات الحضارات والثقـافات الأخرى، تحت شعارات المشاركة والحوار والتفاعل والتفاهم والعولمة
      والإشكالية الاجتماعية قد تكون أكثر وضوحاً في دول الخليج والجزيرة العربية، مهبط الوحي، حيث كانت الأسرة بما تمثل من التقاليد الاجتماعية السليمة والمؤسسات الاجتماعية والتوارث الاجتماعي والروابط الاجتماعية تشكل الحصن الأخير للأمة المسلمة
      لقد بدأ يصلها هذا الوباء الاجتمـاعي، وإن كانت المناعة والاسـتجابة ما تزال تختلف من مكان إلى آخر، فالتفكك الأسري بدأت نذره، والعزوف عن الزواج أصبح ظاهرة، وزيادة معدلات الطلاق صار مرعباً، والتحول إلى الأسرة النووية وتقطيع الأوصال الاجتماعية يسير بسرعة رعيبة
    والأخـطر من ذلك كله المشـكلة الديمغرافية، الألغـام الاجتماعية أو الألغام البشرية التي تزرع بزيادة الوافدين وتناقص سكان البلد الأصليين، حيث بلغت نسبة الوافدين من جنسيات مختلفة ما يقارب 80% من السكان في بعض بلدان الخليج، بعاداتهم ولغاتهم ومشاكلهم وجرائمهم، حتى بات يصدق فينا قول المتنبي
ترى الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان 
  ذلك أن المشكلة الاقتصادية هي الأهون على كل حال، أما المشكلات الاجتماعية والثقافية والأمنية والجاسوسية فهي أشبه بالألغام الموقوتة، التي بدأت تنفجر هنا وهناك
   لقد بدأت المدينة الخليجية تفتقد هويتها وملامحها وقسماتها إلى حد بعيد، فإذا نظرت إلى طراز البناء، أو نظرت إلى سِحَن الوجوه في الشوارع والدوائر، أو نظرت إلى طرز اللباس والمأكل والمشرب فيصعب عليك تحديد الجغرافيا التي تعيش فيها
وبعد
    فإن الكتاب الذي نقدمه تمحور حول إشكالية بدأت تأخذ أبعاداً خطيرة، إلى حدٍ بعيـد، وهي الهجـرة من الريف إلى المدينة ومن البداوة إلى الحضارة وما يترتب عليها من مخـاطر وسلبيات؛ إنه يشكل صوت النذير ويقرع جرس الإنذار، ويقدم بعضاً من الآثار السلبية لهذا الاغتراب ونماذج لهذا التقطع في الأرض، ويشير إلى ضريبة ما يسـمى (التحضر)، وانفلات الذمام، والخروج عن الانضباط والتخطيط، الذي قد ينتهي إلى الاستلاب الاجتماعي ويستدعي خبرات (الآخر) وينتهي إلى الاختلال الحضاري والعمراني
    إن ظاهرة الهجرة الكبيرة من البادية إلى الحاضرة، أو من حياة البداوة إلى حياة الحضارة في المدن، وما يترتب عليها من آثار سلبية وعمران عشوائي غير متجانس، وتبعثر اجتماعي، وتطاول في البنيان من رعاة الشاة، على الرغم من كل الاختلالات المدنية والعمرانية والاجتماعية، التي يورثها، يعتبر من بعض الوجوه مؤشراً ودليلاً وعلامة على اقتراب الساعة حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل، عليه السلام: «أَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا»، قَالَ: «... أَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ» (أخرجه مسلم)، ذلك أن هذا الاختلال الاجتماعي والعمراني مؤذن بالخراب العميم؛ وانتهاء الحياة على الأرض
   وقضية أخرى قد يكون من المفيد أن نشير هنا إليها وهي أن تفكيك المدن والأحياء وإعادة تنميطها باسم التنظيم قد يقصد في كثير من الأحيان إلى بعثرة تماسكها، والقضاء على تجانسها وتعارف أهلها، الذي كان يحول دون اختراق أي غريب أو اختفاء أية جريمة
       إن هذا التفكيك هو بلا شك أحد أهداف أنظمة الاستبداد السياسي ومتطلبات الأجهزة الأمنية حتى يسهل زرع أَزِمة الثقة وتحقيق إمكانية السيطرة عليها وتسليط بعض السكان على بعض؛ كما أنه أحد أهداف الاستعباد وأنظمة الهيمنة الدولية، التي تسعى اليوم إلى تفكيك الدول وخلخلة المجتمعات بإثارة العنصرية والإثنية والقـومية والطائفية، حيث قد لا يوجد بلد مسلم اليوم إلاّ ويعاني من هذا التدخل وهذه التشظيات المرسومة القادمة
      إن المدن والأحيـاء وأنماط البنـاء والعمران كانت أشبه بحصون وقلاع تحمي أهلها، وتمتن الأواصر بينهم، وتحمي أعراضهم وأخلاقهم وأمنهم؛ فهي كالإهاب للجسد الواحد، أما الآن في الأنماط العمرانية الجديدة فلا يعرف أحدٌ أحداً، ويبقى كل أحد مصدراً للشك والريبة والتجسس على الآخر
     وفي تقديري أنه لا بد في ضوء ذلك من التفكير بإعادة النظر في تشكيل المؤسسات الاجتماعية، وبناء رسالتها، وعدم الاكتفاء بالتشخيص، دقيقاً كان أو غير ذلك
    وقد يكون بدء الإحساس بإشكالية ما ظاهرة إيجابية تمهد الطريق لوعيها وإدراك مخاطرها، هذا الإدراك الذي يمثل بحد ذاته المحرض والمحرك المتحدي والمستفز لاستشعار الخطر ومن ثم تلمس سبيل الخروج قبل أن تتحول الظواهر إلى كوارث، لكن الخطورة، كل الخطورة، أن تبقى الأمة عند عتبة الإحساس والشكوى والتأوه والتبرم، حتى يصبح ذلك، بحد ذاته، عملاً بدل أن يدفع للعمل
     ولعلنا نقول هنا: إن العقود المتطاولة، التي تمر بنا وتحمل لنا المشكلات اقتصرت في كثير من الأحيان، عند إعلاميينا ومفكرينا وخطبائنا... إلخ، عند حدود التشخيص للمشكلة، هذا إن كان التشخيص صحيحاً ودقيقاً، واْعتُبِرَ ذلك عملاً، دون القدرة على التجاوز ووضع الحلول الناجعة للإصابات الواقعة، وما تزال تزداد فينا دفقات الحماس والتوثب والانفعال، وترتفع نبرة الخطاب، إلى درجة قد تدفعنا إلى بعض الممارسات الطائشة وغير المدروسة والمـأمونة، التي لا تزيد حياتنا إلا خبالاً، وواقعنا إلا تعقيداً
    وفي الحال التي عليها الأمة الآن من الاستلاب العمراني والديموغرافي، والاغتراب الفكري، والتفكك الأسري، وبدء غياب المشروعيات الكبرى ومعاني الوحدة الجامعة والتفاعل الصحيح نحتاج إلى العزيمة الصادقة وأخذ الكتاب بقوة، نحتاج إلى إدراك وإخلاص؛ نية وعزيمة، إيمان واستقامة، فكر وفعل؛ نحتاج إلى إعادة تشكيل وتفعيل المؤسسات الاجتماعية التي أنتجت المجتمع الأول، والقيم التي ضبطت مسـيرته، والأخلاق التي حكمت علاقته، ليبعث الحياة فينا من جديد
    كم نحن بحاجة في هذا الاغتراب الاجتماعي والاختلاط الديموغرافي والتنميط العمـراني، حيث نُحارب بالحجر والبشر لنخرج عن قيمنا، كم نحن بحاجة إلى إعادة النظر بوظيفة المسجد الجامع، سفينة الإنقاذ، بكل معانيها وأبعادها ليتحول المسجد إلى رئة اجتماعية تساهم في إعادة النسيج الاجتماعي، وإحياء حقوق الأخوة بكل متطلباتها، تشيع قيم المحبة والإحسان والعفو والإيثار والرحمة والتعاون والتعارف
      لقد وُجـد المسجد ليشكل محلاً للالتقاء والعبادة والجماعة، والتعرف على أفراد الجماعة ومشكلاتهم وحاجاتهم، وتحقيق التكافل الاجتماعي بكل معانيه
      إن المسجد اليوم، مع الأسف، أخذ يتحول من بناء جماعة متلاحمة متماسكة متضامّة إلى ضم مجمـوعة أفراد يصطفـون ويفتـرقون، وقد لا يعرف بعضهم مجرد اسم (الآخر)؛ عُطِّلت وظيفتُه، إلى حد بعيد، وقُلص وهُمش دوره، ولم يعد المسلم يشعر بفارق عملي كبير بين صلاته منفرداً وصلاته في جماعة، حيث الدافع للجماعة فضلها وثوابها عند الله فقط، أما وظيفة المسجد الاجتماعية فتكاد تغيب تماماً(!) 
   والحل الوحيد العودة إلى عِمارة المساجد، واستعادة كل المعاني الغائبة، واسترجاع دورها، ليصبح المسجد الملاذ الأمين من هذا الاغتراب، ويعيد لحمة الأمة، ويبعث الروح في المعاني والأحكام الشرعية، ليستشعر المسلم أنها دين من الدين
     فصلات الرحم، وكل الآداب والأحكام التي تشرعها، وتحض عليها، وحقوق الأخوة، وأحكام الأسرة والزواج، ونظام النفقات، وأحكام الإرث، والعلاقات بالكبار واحترامهم، والعطف على الصغار ورحمتهم... إلى آخر منظومة هذه القيم الاجتمـاعية، التي تشكل المانع من الذوبان، والدافع إلى التمسـك، وتربط ذلك بأمر الدين هي السبيل إلى الحماية والمواجهة واستعـادة العافية، أما التهـاون بها تحت أي ظرف من الظروف أو فلسـفة من الفلسفات فذلك يعني الحالقة، التي تذهب بريح الأمة
    لـذلك فإن استرداد رسالة المسجـد الجامـع، وإدراك أبعـادها، واختبـار جـدواها، وتطوير وسـائلها قد تكون من أهم الأمور، التي بها نكون أو لا نكون

ولله الأمر من قبل ومن بعد.

تمهيد 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد، 
       فإن ظاهرة التحضر تُعْدُ من الظواهر القديمة في العالم، وكانت أشكال التحضر تتناسب مع واقع تلك العصور، حيث حاول الإنسان العيش في المدن منذ آلاف السنين؛ ولقد ظهرت في بداية الأمر القرى ثُمَّ تطورت إلى قرى كبيرة ثُمَّ مدن ومراكز حضرية.. كما تُعْدُ ظاهرة اتساع المدن ظاهرة عالمية وليست خاصة بمنطقة دون أخرى، إلا أن عملية التحضر في الخليج العربي تتصف بخصائص جعلتها تختلف عن غيرها، إذ تعيش المدن في الخليج العربي عهداً مختلفاً من النمو، من حيث السرعة الهائلة التي يمر بها هذا النمو عمرانياً، إذ تضاعف نمو الكثير من المدن الخليجية في العقدين الماضيين بشكل ملفت وواضح للعيان، حيث يستطيع الزائر لأي مدينة خليجية أن يلحظ الفرق التمددي للمدينة خلال فترة وجيزة قد لا تتجاوز السنوات.
      ويمكن القول: إن دول الخليج العربي شهدت تحولات مهمة تزامنت مع اكتشاف النفط ومن ثُمَّ تزايد عائداته، حيث كان هو الشريان المغذي لعمليات التحول في المنطقة بشكل عام، مما أدى إلى نهضة اقتصادية وعمرانية وبشرية شاملة، فضلاً عن التزايد في عدد السكان الناجمة عن الزيادة الطبيعية وعن موجات الهجرة من الريف ومن البادية إلى المدينة الخليجية لاعتبارات عدة أبرزها البحث عن عمل أو التعليم، وكل ذلك أدى إلى دفع عملية التحضر بشكل سريع وعشوائي أحياناً وإن كانت هذه السرعة تتباين من دولة إلى أخرى
     وهذا التسريع في عملية التحضر أفرز تغيرات أخرى مصاحبة في البناء الاجتماعي للمجتمعات الخليجية، بمعنى أنها بدأت تؤثر في طبيعة العلاقات التي تنشأ بين الأفراد في الأسرة الواحدة، وبين الفرد والمجتمع، وبين الجماعات فيما بينها، وبالتالي تزعزع الكثير من القيم، والعادات، والمفاهيم لتلك المجتمعات، ويصاحب ذلك ظهور قيم ومفاهيم جديدة لها تتواكب أحياناً مع هذه التغيرات وتتصادم معها أحياناً أخرى، نتيجة لتلك التغيرات السريعة والعشوائية، مما يولد عدة صعوبات ومشكلات اقتصادية، واجتماعية، وبيئية، وإدارية، في بنية المدينة الخليجية، وحينئذ تزول روح الترابط، والتكامل، والتنسيق المتوازية في كل عمل سليم بين نمو المجتمعات من جانب ونمو العمران من جانب آخر. إلا أنه مما يلاحظ ندرة الدراسات الاجتماعية التي ترصد مثل هذه التغيرات الاجتماعية التي مرت بها منطقة الخليج جراء هذه الطفرة النفطية، وهذا ما يشير إليه أحد المختصين بقوله: «هناك ظواهر أخرى حدثت في مجتمعات المدن الخليجية، ولم نجد من الباحثين الاجتماعيين، أو غيرهم قد تطرق لها بأي تحليل، أو بحث، يستخلص لنا هذه القوانين التي سيرت تعامل أبناء هذه المنطقة مع هذه الظواهر والمتغيرات، وهل هي نفس الظواهر والمتغيرات التي سيرت المجتمع العربي في ليبيا، أو في الجزائر أيضاً، وهما بلدان نفطيان، أم هناك اختلافات؟ إن هذا الجانب من تطور المجتمع، لا يزال كنـزاً غارقاً ينتظر الكثير من المهتمين، والباحثين للتنقيب عنه»( ). 
       إن ردود الأفعال التي تقوم بها المجتمعات جراء التغيرات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية المتواصلة التي تصيب المجتمعات بشكل عام تختلف آثارها بحسب قدرة هذه المجتمعات على التعامل مع تلك التغيرات بصورة عملية وبقدرة فائقة على استيعابها بشكل حضاري.. ومما يعزز قوة أي مجتمع للتعامل مع هذه التغيرات هو مدى وجود رصيد حضاري وثقافي وعقدي قوي يمتلكه أفراد المجتمع وعمومه ليكون هو المرجعية في التعامل مع هذه التغيرات الجديدة، وهذا ما يميز المجتمع الخليجي إلى حـد كبير، وذلك لما يتصف به من تمسك بدينه الإسـلامي، وعـاداته العربية الأصيلة، وهذا ما يجعل التعامل مع هذه التغيرات وتلقيها بشكل حضاري ومن ثمَّ صهرها في صورة متزنة تتواءم إلى حد كبير مع قيم المجتمع وعاداته العربية الأصيلة مسألة لا تبدو صعبة بشكل كبير خاصة إذا كان هناك استعداد علمي وعملي مسبق لهذه العملية برمتها، وتنسيق مبرمج بين التخصصات العمرانية والاجتماعية( ). 
    وفي العقد الأخير من القرن شهدت المدن الخليجية عملية تحولية كبيرة اتصفت بمظهرين أساسين: أولهما ديموغرافياً، ويتمثل في تزايد عدد سكان هذه المدن الخليجية بشكل كبير وسريع جداً( )، وذلك نتيجة عوامل عدة مترابطة ومتداخلة، نتج عن ذلك المظهر الثاني من مظاهر التحول الكبرى، وهو التوسع في بنية المدينة ذاتها وتمددها رأسياً في بعض الدول الخليجية وأفقياً في بعضها الآخر بحسب الإمكانات المكانية والقدرات الفنية لكل مدينة من المدن الخليجية، وهذه التحولات ظاهرة للعيان ومشاهدة لكل ساكن أو زائر لها، إلا أن هناك مظاهر تحول لا يراها إلا القلة من المختصين ويستشرفون شكلها القادم، وهي التحولات الاجتماعية التي لا تأخذ شكلها النهائي أو البارز للعيان إلا بعد عقود من الزمن، وإن كان الناس في المدينة يتعايشون معها وقد يتأثرون بها ويتعاملون معها ولكن آثارها بشكل عام تحتاج إلى تجييش القدرات العلمية للتعامل معها بشكل عقلاني وتقليل أثرها إلى الحد الأدنى منه
    وفي هذه الدراسة سيكون الحديث عن ظاهرة اجتماعية تتصاحب عادة مع التوسع العمراني، والتمدد الأفقي، والرأسي لأي مدينة معاصرة، ومحور هذه الظاهرة يدور حول العلاقات الاجتماعية بين الناس، أفرادهم ومجموعاتهم، في ظل هذا التباعد المكاني بين الأفراد في المدينة الواحدة من جانب وبين التباعد الاجتماعي من جانب آخر بين سكان المدينة الواحدة، بغض النظر عن طبيعة القرابة أو الحميمية التي تنشأ بينهم، سواء كانت دائمة أو مؤقتة، ففي ظل التنامي العمراني الملحوظ للمدينة الخليجية وتزايد عدد سكانها بعد أن كانت هذه المدن صغيرة نسبياً وسكانها لم يفدوا عليها بعد من الأرياف والبوادي واستقرار الكثير من السكان في المدينة إذ أصبحت في فترة وجيزة مركز جذب قوي للسكان من الداخل وكذلك من الخارج، وتجمع هذه المجموعات البشرية بكل ما تحمله من ثقافات وقيم وعادات موروثة، أفرز العديد من الآثار والمشكلات الاجتماعية، كما أوجد شكلاً جديداً آخر من طبيعة العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والأفراد، وبين الأفراد والجماعات في المدينة الواحدة
    وحين الحديث عن هذه الظاهرة لابد من الإشارة إلى جانب مهم في هذا الموضوع، فقد كان من أسباب هذه الظاهرة الاجتماعية، المصاحبة لتوسع المـدن، طبيعـة تخطيط الأحياء السكنية، حيث غاب عن المخطط - وللأسف - البعد الإنساني العام للحي السكني، فلم يستطع الوصول به إلى بيئة مواتية لازدهار النشاط البشري وتحقيق التفاعل الاجتماعي بين سكان الحي الواحد، وهذا ما حدا ببعض أمانات المدن الكبرى في بعض الدول الخليجية إلى إعادة النظر في تصميم الأحياء بشكل جذري لإضفاء الروح الاجتماعي على التخطيط العمراني للحي، وما ذلك إلا شعور من المخططين أن هناك ثمة ثغرة اجتماعية في نسيج المجتمع أوجدها التخطيط السابق، الذي غاب عن باله البعد الإنساني والجانب الاجتماعي وهو يخطط للأحياء الجديدة في المدن في أثناء توسعها في العقود السابقة( ) . 
     ومما يسهل الحديث عن هذه الظاهرة الاجتماعية على مستوى المدن الخليجية بدرجة متناقصة من الاختلافات بينها هو أن منطقة الخليج العربي والجزيرة العربية بشكل عام تُعْدُ كياناً جغرافياً واحداً، وبخاصة أنها تمتلك جذوراً تاريخية وحضارية مشتركة، وخصـائص اجتماعية وثقافية متماثلة أو متقاربة إلى حد كبير، فقد كانت القبائل والعشائر والعائلات على صلات وروابط متميزة، ولا تزال كذلك، كما أن النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية لدول المنطقة وشعوبها متشابهة نسبياً وبشكل كبير، إضافة إلى أن مصالحها، ومصيرها، ومستقبلها السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والجغرافي مرتبط بمدى النجاح الذي يمكن تحقيقه فيما بينها بأقصى درجات التنسيق والتكامل على كل الأصعدة فيما بينها
    لقد كان الاهتمام بالإنسان في الدول الخليجية كبيراً باعتباره الركيزة لأي تنمية ونهضة شاملة، فلا يتصور نهضة حضارية بدون الركيزة الأساسية وهي الإنسان؛ وتحقيق بناء الإنسان الخليجي بشكل متكامل يتطلب رعايته الرعاية الشاملة ذات الأبعاد الثلاثة الأساسية وهي: تعليمه ليكون متسلحاً بالعلم الصحيح القائم على النهج القويم؛ والركيزة الثانية تحقيق صحة بدنية وعقلية له لكي يتمكن من المساهمة في نهضة وطنه ومنافسة الدول المتقدمة بقوة؛ والركيزة الثالثة تقديم الرعاية الاجتماعية إليه بشكل متكامل، بدءاً من مولده وحتى عجزه أو وفاته
        ومن المعلوم أن هناك العديد من المقاييس التي ينظر إليها حين رصد تطور أيٍّ من المجتمعات، إضافة إلى التعرف على مدى تناغم عدد من المجتمعات، المتجاورة أو المنضوية تحت مظلة واحدة، ومن هذه المقاييس مستوى التعليم، والصحة، والرعاية الاجتماعية، ومدى قربها أو بعدها وتنافرها وتجاذبها لبعضها بعضاً، ولئن كان الحديث في هذه الدراسة سيتركز في المجال الاجتماعي، إلا أنه لا يمكن عزل أحدها عن الآخر، فكل واحد منها يؤثر في الآخر تأثيراً مباشراً وغيرَ مباشر، ويزداد قوة وضعفاً بقدر نظرتنا لها وليس حسب واقعها، فالحديث عن الجانب الاجتماعي من باب تحديد مجال الدراسة ومنعه من التشتت وإلا فلا يمكن بحال تصور أحد هذه المجالات دون الآخر
       ومن هنا تأتي هذه الدراسة لإلقاء الضوء على جانب من جوانب المجتمع الخليجي من خلال التعرف على العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد في المدينة الخليجية، ومحاولة إعادة ترتيبها وتنشيطها وصولاً إلى تحقيق المزيد من الترابط والتكاتف، فإنه على الرغم من وجود العديد من الدراسات التي تناولت الدول الخليجية ومجتمعاتها إلا أن الملاحظ على أغلب تلك الكتابات والدراسات تركيزها على الجانب التاريخي والسياسي والاقتصادي، ثُمَّ يأتي التركيز على الجانب العلمي والثقافي في المرتبة الثانية من حيث الاهتمام والتدوين والرصد، فالدراسات الاجتماعية عن المجتمع الخليجي أبان فترة التحولات الكبرى التي مرّ وما يزال يمر بها المجتمع الخليجي قليلة جداً، وذلك قبل أن يصل إلى مرحلة تتصف إلى حد كبير بالاستقرار السياسي والاقتصادي
     إن المتخصص يجد صعوبة في رسم صورة اجتماعية للمجتمع الخليجي في المراحل التاريخية السابقة، وهي الفترة السابقة لاكتشاف النفط والمرحلة التي تلت ذلك مباشرة سوى ما يجده من خلال بعض الدراسات التي حاولت رسم ملامح الحياة الاجتماعية في كل دولة بشكل منفرد - وهي قليلة - أو في كتب الرحالة الذين زاروا بعض المناطق في الخليج، حيث يغلب على دراسات الرحالة التركيز على الوصف الجغرافي والأرض وتاريخ المنطقة، أو بعض العادات( )؛ من ذلك كله يمكن القول: إن الجانب الاجتماعي من التاريخ الخليجي لايزال ينتظر تلك الالتفاتة من المختصين، فتاريخ المنطقة لا يزال في حاجة إلى دراسات كثيرة يركز فيها على الجوانب الاجتماعية شريطة أن تكون ذات حدود زمانية ومكانية محدودة
وتحاول هذه الدراسة الإجابة عن تساؤل رئيس يتمثل في السؤال الآتي: ما الآثار الاجتماعية الناتجة عن التوسع العمراني في مدن الخليج ؟ ومن ثُمَّ التساؤلات الفرعية المنبثقة عنه، وهي
 - ما طبيعة العلاقة بين أفراد المجتمع قبل التوسع العمراني؟ وما خصائص هذا المجتمع؟ 
 - ما مظاهر التوسع العمراني في دول الخليج العربي؟ 
 - ما الآثار الاجتماعية الناشئة من التوسع العمراني؟ 
 - ما طبيعة العلاقات الاجتماعية في ظل التوسع العمراني؟ 
 - ما الحلول العملية لتجاوز تلك الآثار والمشكلات الاجتماعية الناشئة من التوسع العمراني في المدينة الخليجية؟ 
     كما تنبع أهمية هذه الدراسة كونها تمثل جزءاً من دراسة المجتمع الخليج في تلك المرحلة الزمنية التي تتسم بالنقص الشديد في الدراسات الاجتماعية عنه، وطبيعته وخصائصه، وستتم هذه الدراسة وفق المحاور الآتية

أولاً: المجتمع الخليجي من خلال
 - واقع المجتمع في تلك الفترة وخصائصه
 - العلاقات بين أفراد المجتمع وكيف كانت
ثانياً: مظاهر التوسع العمراني في دول الخليج العربي
ثالثاً: الآثار الاجتماعية الناشئة عن التوسع العمراني
رابعاً: العلاقات الاجتماعية في ظل التوسع العمراني
خامساً: مقترح عملي لتجاوز المشكلات الاجتماعية الناشئة عن التوسع العمراني

والله الموفق

أولاً: المجتمع الخليجي خصائصه وواقعه 
مدخل
      إن علاقات أفراد المجتمع تتكون عبر عدد من الوظائف والأدوار الاجتماعية، التي يقوم بها أفراد المجتمع الواحد في عمليات مترابطة ومكملة لبعضها بعضاً لتتوحد في محصلة نهائية يطلق عليها البناء الاجتماعي، ومن المفيد في هذا المجال تصور المجتمع كبناء اجتماعي يتألف من أنساق، وكل نسق يحوي أفراداً يشغلون مركزاً اجتماعياً داخل النسق، ولهم مكانة اجتماعية على مستوى المجتمع ككل، كما يقومون بأدوار تتلاءم مع مراكزهم ومكاناتهم، حيث يساعد ذلك كثيراً في تحليل العلاقات الاجتماعية وتصور مساراتها، كما يترتب على تلك العلاقات نشوء قيم ومعايير معينة تحدد الأدوار التي يجب على كل فرد أن ينصاع لها ويتقيد بها، وبخاصة أن هذه العلاقات ليست جامدة، بل هي متغيرة من وقت لآخر، وتختلف سرعة التغيير ودرجته من حين لآخر
       وتتعدد الأنساق الاجتماعية التي تكون محط اهتمام الباحثين المتخصصين في دراسة أي مجتمع من المجتمعات، وذلك لأن النسق الاجتماعي في أبسط تعاريفه هو: وحدة اجتماعية تؤدي وظيفة، أو هو مجموعة معينة من التفاعلات بين الأشخاص الذين بينهم صلات متبادلة( ). ويأتي النسق الأسري أحد هذه الأنساق في المجتمع الخليجي المرتبط مع الأنساق الأخرى، ويشمله ما يشمل الجوانب الاجتماعية الأخرى في مجتمع تلك الفترة من ضعف في التغطية العلمية له، دراسة وتحليلاً، وتحاول هذه الدراسة أن تكشف جانباً من جوانب المجتمع الخليجي فيما بعد مرحلة التوسع العمراني وأثر ذلك على الحياة الاجتماعية
اتصف الواقع الاجتماعي في دول الخليج في بدايات القرن الرابع عشر الهجري بالضعف العام متأثراً بمختلف الجوانب العلمية والصحية والثقافية والمادية التي كانت سائدة، وقد كان لطبيعة المنطقة الصحراوية والعزلة التي تعيشها بعض دوله الأثر الكبير في هذه الحالة، مع تفاوت لا يخفى بين الدول الخليجية آنذاك، إضافة إلى انشغال أهلها بالبحث عن الرزق، والتنقل من مكان إلى آخر في البيئات الرعوية أو الغوص والبحث عن اللؤلؤ، وعدم الاستقرار السياسي في بعض المناطق، وما نتج عن ذلك من تردٍ في الأحوال الاقتصادية إثر ما كان من اضطرابات سياسية
        ولئن كانت الوقائع السياسية والاقتصادية أو التعليمية يمكن رصدها بالتاريخ الزمني المحدد فمما لا يمكن تحديده زمنياً التحولات الاجتماعية، فالتغيير الاجتماعي يحتاج إلى عقود من الزمن حتى تتضح هذه التحولات في المجتمع، إلا أنه يمكننا القول: إن تاريخ اكتشاف البترول في دول الخليج يعتبر بداية تغير اجتماعي حقيقي، فالتجمعات البشرية حول هذا المورد الاقتصادي الجديد يمثل منطلق كل حضارة وتنمية، فكان نشأة بعض المراكز الحضارية هنا وهناك وبشكل كبير ومختلف عما سبق، ليبدأ منها التحول الاجتماعي في المجتمع الخليجي انطلاقاً من نشوء المراكز الحضرية والمدن بشكلها الحالي
     وقبل الحـديث عن الأوضاع الاجتمـاعية في دول الخـليج لا بد من الإشـارة إلى أن هناك عوامـل اجتمـاعية كثـيرة تعتبر حقائق مشتركة تعين على دراسة أي مجتمـع وبالتالي معرفة وضعه، ونظمه وتقاليـده وطباعـه، ومن أبرزها عقيدة المجتمع التي يدين بها، فهي التي تجعل أفراد المجتمـع ينتظـمون في مجمـوعة مترابطة، ثم اللغة على أساس أنها وسيلة مهمة لوضع قواعد مشتركة للتفاهم بين أفراد المجتمع وصياغة ثقافته في منظومة واحدة
      إن مما يمتاز به مجتمع الخليج عقيدته الإسلامية، وهي دين جـميع أفراد الشعب، ثمّ لغته العربية الموحدة. ولقد أثر هذان العاملان بشكل بيّن وواضح في جميع مناحي حياة المجتمع، كما سنرى، ولقد كان المجتمع ينقسم إلى قسمين أساسين مع تداخل بينهما، والقسمان هما: بادية وحاضرة، فالبادية تعتمد على الترحـال، ويجـوبون الصحـراء بحثاً عن الماء والكلأ، وغالباً ما كانت حياتهم غير مستقرة، وهذا أثر بدوره على جوانب عدة في حياتهم، بخلاف الحاضرة الذين فضلوا عيش الاستقرار فبنوا البيوت وأنشأوا التجمعات المدنية في القرى والبلدان، وعملوا في الزراعة والتجارة أو الغوص والبحث عن اللؤلؤ، فضلاً عن محافظتهم على قدر معين من الثقافة والتعليم، ومن هنا نجد أن كلاً من القسمين يعتمد على الآخر، ويغذي كل منهما الآخر باحتياجاته
      كما أثر التباين الجغرافي بين دول الخليج في اختلاف الحرف والمهن، والأدوار الاجتماعية للأفراد في كل منطقة، فالمناطق الساحلية منها عرف عنها ما اشتهرت به من انفتاح على العالم من خلال استقبالها للسفن التجارية والقوافل التجارية، وأصبحت مناطق جذب سكاني، في حين نجد المناطق الداخلية انتشرت بينهم الزراعة والرعي والتجارة على أنها حرفة رئيسة، وهكذا فكل منطقة لها تميزها الحرفي والمهني الخاص بها، مما يترتب عليه رسم الصورة الاجتماعية للحياة اليومية لأفراد المجتمع بناء على هذا التفاوت الجغرافي والتباين الاقتصادي والمهني، وما يترتب على ذلك من اختلاف في بقية مناحي الحياة اليومية ومنها العلاقات التبادلية بين أفراد المجتمع الواحد
       ويمـكن القـول: إن الحياة السـكنية لأفراد المجتمـع كان يغلب عليها البساطة في مظاهرها العمرانية بدءاً من البناء وحتى الأثاث المنـزلي، فلقد كانت طريقـة البناء متمـاشية مع ظروف العصر وخاماته، فالمنازل طينيـة أو حجـرية يراعى فيهـا أن تكون ساترة من الخارج منفتحة على صحن الدار من الداخل، ويغلب على مجموع البناء في القرية أو المدينة الجانب العسـكري، وذلك بوضع سـور للبلـدة يحميها من أي عدوان خارجي أو حصون تحيط بـها، وهذا كان قبل الاستقرار السياسي لدول المنطقة،كما انعكس النمط العمراني السائد سابقاً على الجوانب الاجتماعية بين أفراد المجتمع، وبخاصة العلاقات القرابية في الجيرة، والترابط الاجتماعي بشكل عام بين أفراد المجتمع
       أما ما يتعلق بالحالة المادية لأفراد المجتمع وللدول آنذاك فقد كانت ضعيفة بشكل عام سوى ما وجد من طبقة التجار الذين يعملون في مجال البيع والشراء في بعض المجتمعات حتى بدأ تدفق النفط في المنطقة بكميات تجارية، ومنذ ذلك التاريخ، أصبح للدول مورد مالي ثابت يتنامى بازدياد، وهذا المورد المالي هو المحرك الرئيس لاقتصاد الدول، وهو أحد العوامل الرئيسة في النهضة التي عاشتها المنطقة، وأثر بدوره في الجوانب الاجتماعية، وهذا التحسن النسبي في الجانب الاقتصادي على مستوى الدولة وعموم المجتمع يُعْدُ عنصراً مهماً فيما نحن بصدده في هذه الدراسة حيث يترتب عليه التأثير في الحياة العمرانية والاجتماعية تبعاً لذلك

أ- خصائص المجتمع الخليجي
      من خلال الاستعراض السابق عن المجتمع الخليجي بشكل عام، يمكن إيراد أبرز معالم المجتمع آنذاك على النحو الآتي

 -1هناك عوامل اجتماعية كثيرة يعدُّها علماء الاجتماع حقائق مشتركة تعين على فهم أي مجتمع وبخاصة في مجال معرفة نظمه وتقاليده وطباعه، ومن أبرز هذه الحقائق الدين، فهو الذي يجعل أفراد المجتمع ينتظمون في مجموعة مترابطة، ثم اللغة على أساس أنها وسيلة مهمة لوضع قواعد مشتركة للتفاهم بين أفراد المجتمع وصياغة ثقافته في منظومة واحدة( )، ومما يمتاز به مجتمع الخليج عقيدته الإسلامية، وتُعْدُ منطقة الخليج من المناطق النادرة في العالم التي يعتنق جميع سكانها ديناً واحداً وهو الإسلام بنسبة (100%) تقريباً؛ وهذه الوحدة الدينية في الواقع هي نقطة القوة الكبرى في بناء الوطن وتماسـك المجتمعـات، كما أن اللغة العربية هي اللغة الوحيـدة والرسمية في المنطقة؛ ومن هنا بقيت لغة المجتمع هي اللغة العربية صافية سليمة النسيج، وصارت وسيلة واضحة للتفاهم بين السكان ونقل أفكارهم وترابطهـم والتعبير عن آمـالهم وطموحاتـهم، ويزداد المعنى السياسي وضـوحاً لميزة اللغـة عند مقـارنة مساحة منطقة كبيرة مثل منطقة الخليج بنظيراتـها من المناطق الأخرى التي يمثـل فيها تعدد اللغـات واللهجـات أحد الفتائل المفجرة للقلاقل والنـزاعات الداخـلية، ولقد أثر هـذان العاملان - الدين الواحد واللغة الواحدة - بشكل كبير في مجرى حياة المجتمع الخليجي وكانا عاملين قويين لترابط المجتمع وتماسكه  
 -2تأثير الدين الإسلامي في جميع مناحي الحياة في المجتمع وانصباغ المجتمع بصفة التدين العام في تلك الفترة ومايزال - ولله الحمد - إلا أنه في تلك الفترة كان أظهر، وبخاصة أن الإسلام يمثل العامل الأول الذي انبثق منه المجتمع وساهم في استقراره، فالدين الإسلامي ساهم في صهر كافة شرائحه في بوتقة واحدة، كما ساعد على القبول الجماعي لمرئيات وقرارات السلطة نحو قضايا التنمية، كما أن مجريات الأمور الخاصة والعامة تتقاطع بشكل واضح مع مواعيد وأوقات وفترات أداء الواجبات الدينية من الصلوات والصيام والحج، كما أن عادات الملبس والمأكل والمشرب وكذلك مراسم الزواج والمناسبات العامة لا يمكن فهمها بعيداً عن المعاني والمقاصد الدينية... فثقافة المجتمع ذات الطابع الديني والإسلامي تنعكس بشكل واضح على تفاعلات الناس في حياتهم اليومية( )، الأمر الذي يؤكد أن العمليات الصغرى للحياة اليومية في المجتمع الخليجي قد تحددت وتشكلت في ضوء البناء الديني للمجتمع.. وعلى كل حال فهذا المظهر العام للمجتمع ينطبق تماماً على العلاقات التبادلية بين أفراد المجتمع الواحد بطبيعة الحال، فلا يمكن تصور تلك العلاقة أن تتم بعيداً عن هذا المظهر العام المتدين للمجتمع، وحث الإسلام على الجيرة والإحسان للجار والتزاور والتهادي فيما بينهم، إضافة إلى صلة الرحم والتكاتف بين أفراد المجتمع بشكل عام، إضافة إلى شيوع قيم التراحم والتواد من منطلق حديث المصطفى الذي يرويه البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ»
 -3مما يلاحظ في الفترة السابقة لاكتشاف النفط هو غلبة الحياة البدوية على عامة السكان، ويقسم الكتّاب الاجتماعيون المجتمع في تلك المرحلة إلى فئات، منها عدة فئات أخذت أسماءها من واقعها الاقتصادي كالبدو الرعاة العاملين في الرعي، والبدو أشباه الرعاة، وهم رعاة وجناة محصول عند نضوجه، والحضر القرويين الذين يعيشـون في القرى ويعملون في زراعة الأراضـي، والحضر الذين يعيشـون في المدن وأشباه المدن ويعملون في التجارة والحرف، ومن المؤكد بحكم طبيعة الحال أن البدو أكثر عدداً من الحضر( )، وذلك قبل أن تشهـد البوادي حـركة نزوح أشبـه ما تكون بالتفريغ السكاني منها إلى مناطق إنتاج النفط والتجمعات الحضرية الرئيسة، في حين نجد هناك من لا يفرق كثيراً بين فئات مجتمع تلك الفترة، فالسكان ينتمون إلى مجتمع مزدوج وخليط من البداوة المتأثرة بالبيئة الحضرية، وبيئة حضرية متأثرة إلى حد ما بالبداوة ولم تكن حضرية محضة تتصف بخصائص الحياة الحضرية، وعلى كل حال فالصفة الغالبة على المجتمع بعمومه أو غالبيته في الفترة السابقة أنه أقرب إلى الحياة البدوية من الحياة الحضرية أو من التحضر، وهذه الصفة للسكان لها تبعات عدة من الناحية الاقتصادية ومن ثمَّ من الناحية الاجتماعية والتواصل بين السكان وطريقة المعيشة والاعتماد المتبادل، فحياة البادية أكثر بعداً عن حياة الترف أو حتى الميل إلى الترف، لذا نجد ابن خلدون يقرر «أن البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم العاجزون عما فوقها، وأن الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم، ولاشك أن الضروري أقدم من الحاجيّ والكمالي وسابق عليه؛ ولأن الضروري أصل والكمالي فرع ناشئ عنه فالبدو أصل المدن والحضر وسابق عليهما؛ لأنّ أوّل مطالب الإنسان الضروري ولا ينتهي إلى الكمال والترف إلا إذا كان الضروري حاصلاً»( ). وهذا القانون الاجتماعي الذي يقدمه عالم الاجتماع ابن خلدون يمكن تصوره على واقع فئات كثيرة من المجتمع الخليجي قبل وكذلك في أثناء بدايات اكتشاف النفط، فالبداوة غالبة عليهم والتحضر فيهم قليل، لذا كان الواقع يفرض وجود الترابط بشكل كبير بين أفراد المجتمع بحكم الاحتياج للبعض من جانب ولاعتبارات اجتماعية وأمنية من جانب آخر
 -4انشغال أفراد المجتمع بطلب الرزق وتأمين ضروريات المعيشة، وغلبة الحياة الجادة عليه، وبما أن الغالب على ممارسات المجتمع العمل في الزراعة أو الرعي أو التجارة أو الغوص فقد كان أفراد كل أسرة بمجموعهم يكرسون جل وقتهم للعمل، فتتكاتف جهودهم للمهمـة الأساس وهي تأمين الرزق( )، فقد أملت طبيعة الحياة القاسية وقلة الموارد الاقتصادية والتقاليد الاجتماعية المحافظـة قبيل اكتشـاف النفط على الفرد، سواء كان رجلاً أو امـرأة شاباً أم طفلاً أن يكرس جل وقته للعمل المنتج من أجل تأمين ضروريات المعيشـة له ولأسرته... ونتج عن نظام العمل وانهماك كامل أفراد الأسرة في العمل اليومي عدم توفر وقت فـراغ يمكّن من مـزاولة هوايات أو نشـاطات متميزة... مما نتج عنه قلة اهتمام السكان بمزاولة الهوايات الفردية أو الجماعية في مختلف نواحي الترفيه، فقد كان من المعتاد أن ينام الفرد بعد أداء صلاة العشاء بقليل؛ لأن عليه أن يبدأ يوم عمله الجديد بعد صلاة الفجر مباشرة( ). وهذا الانشغال الحياتي أوجد نوعاً من الترابط الاجتماعي فرضته الحاجة للتكامل ونقص الإمكانات والموارد مما يستدعي استـكمالها من الآخرين، مما يوجد ذلك الترابط المنشود بين أفراد المجتمع

ب- واقع المجتمع الخليجي
        يمكن تصور واقع المجتمع الخليجي من خلال الإطلاع على أحدث الإحصاءات الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة، وهي على كل حال مستقاة من الدول نفسها في الغالب، فيوضح الجدول الآتي خصائص المجتمع الخليجي وكيف تطور، وذلك من خلال التطورات العمرية للسكان في الدول عبر عدد من المتغيرات والمؤشرات على النحو الآتي( ): 
  
جدول رقم 1 
تطور السكان وفئاتهم في دول الخليج 

الدولة   إجمالي السكان بالملايين نسبة السكان دون 15 سنة    نسبة الذين أعمارهم 65 سنة وأكثر 
1975م 2004م 2015م 2004م 2015م 2004م 2015م 
المملكة العربية السعودية 7.3 24 30.4 37.8% 32.3% 2.9% 3.5
الإمارات العربية المتحدة 0.5 4.3 5.6 22.4% 19.8% 1.1% 1.4
دولة الكويت 1 2.6 3.4 24.5% 23.2% 1.7% 3.1
مملكة البحرين 0.3 0.7 0.9 27.5% 21.7% 3 % 4.4
قطر 0.2 0.8 1 22.2% 21.8% 1.3% 2
سلطنة عمان 0.9 2.5 3.2 34.9% 30.6% 2.5% 3.4
جميع دول الخليج العربي 10.2 34.9 44.5 28.2% 24.9% 2.1% 3
الدول العربية 144.6 310.5 386 35.8% 32.5% 3.8% 4.4
العالم 4073 6389 7219 28.5% 25.9% 7.3% 8.4

     ومن الواضح القفزة الكبيرة في عدد السكان على مستوى جميع دول العالم والعالم العربي وكذلك الدول الخليجية بمفردها وبمجموعها الكلي؛ فبعد أن كان عدد السكان يصل في الدول الخليجية إلى قرابة العشرة ملايين في عام 1975م، ارتفع عدد السكان إلى قرابة الخمسة والثلاثين مليوناً في عام 2004م، ويتوقع أن يصل عددهم إلى قرابة الخمسة وأربعين مليوناً بعد عشر سنوات تقريباً من الآن، أي في عام 2015م
     وبناء على تقديرات علم السكان فسيكون في مقابل التزايد في عدد السكان في دول الخليج تباين في النسب بين فئات المجتمع العمرية، فسيتناقص عدد السكان الذين تقل أعمارهم عن الخامسة عشر على مستوى دول الخليج بشكل عام خلال السنوات العشر القادمة، وإن كان هناك تفاوت بين الدول ذاتها، ويقابل ذلك بطبيعة الحال تزايد في إعداد كبار السن بين المجتمعات الخليجية بشكل عام، وهذه وتلك مؤشرات إلى احتمالية طول عمر السكان مما يُحتم ضرورة الاستعداد لطول العمر بين السكان والاستعانة بوسائل عملية للتعايش معها، وإيجاد آليات للتواصل بين الأجيال الشابة والأجيال كبيرة السنّ، ولا يتوقف الأمر عند هذا الأمر فحسب بل أن طبيعة ومكان سكن هؤلاء اختلفت عبر المراحل الثلاث من حيث السكن في الريف أو المدن، وسيتضح ذلك جلياً في الجزء التالي من الدراسة
    ولعله من المناسب إيراد عدد من الخصائص التي كانت الأسرة الخليجية تتسم بها بشكل عام، فذلك مما يسهل تصور الآثار الاجتماعية التي حدثت جراء التوسع العمراني للمدينة الخليجية، فمن ذلك( ): 
 - كانت الأسرة مستقرة اجتماعياً ونفسياً - بوجه عام - على الرغم من الظروف الصعبة وقسوة الحياة المادية، فلم يكن هناك مجال حاد للطموحات المقلقة والمسببة لصور الصراع المعاصر
 - كانت الأنماط السلوكية في داخلها تتسم نسبياً بالاستقرار، حيث إنها كانت تنتمي لمجتمع متجانس إلى حد ما، ومن شأن هذا التجانس وطبيعته تحقيق التوافق والتآزر وكافة صور التعاون التي تحدث شعوراً بالأمن الاجتماعي
 - كان النظام الغالب على الأسر هو نظام الأسر الممتدة، وكانت السلطة تعتبر مطلقة لرب الأسرة، الذي غالباً ما يكون الجد
 - كانت وسائل الترفيه المتبعة في هذه الأسر يغلب عليها الطابع الشعبي، وكانت تؤدى بصور بسيطة وغير متكلفة، ويشارك فيها جميع أفراد الأسرة، وكذلك معظم أفراد الحي كل حسب عمره الزمني
 - لم تعرف الأسر في ذلك الوقت صوراً من الإسراف والمبالغة في الكماليات والاهتمـام بالمظـاهر، بل لم يكن هناك دوافع حقيقة للتفاخر أو المباهاة
 - كان مسكن غالبية الأسر من المساكن البسيطة، سواء من حيث البناء أو الأثاث، علاوة على أن الأدوات المستخدمة في داخله تعتبر من الأدوات الضرورية البسيطة لأداء متطلبات الحياة.

ثانياً: مظاهر التوسع العمراني في دول الخليج العربي 

       إن ظـاهرة التركز الحضري تكاد تكون عامة في المجتمعات العربية، فقد توسعت المدينة العربية توسعاً هائلاً في العقود الأخيرة، وهي لم تكف عن التغير قبل هذا التاريخ، غير أن العشرين عاماً الأخيرة شهدت تغييراً ملحوظاً في ملامحها.. ويمكن توزيع السكان بين الريف والحضر، وتصنيف المجتـمعات العربية إلى ثلاث مجمـوعات، الأولى: دول تزيد فيها نسبة سكان الحضر عن الريف، وبفروق ملموسة وصـلت إلى مثـلين أو ثلاثة أمثال في بعض الدول العربية، ومن بين دول هذه المجموعـة الدول الخليجية في المرتبـة الأولى، إضافة إلى الأردن، وليبيا، وتونس؛ ومجمـوعة أخرى تزيد فيها نسبة سـكان المجتمعات الريفية عن الحضرية زيادة ملموسة تصل إلى ما بين مثلين وثلاثة أمثال، وتكاد تكون اليمن هي النموذج الأكثر وضوحاً في هذه المجموعة، وتأتي الصـومـال وجيبوتي وموريتانيا وجزر القمر ضمن هذه المجموعة كذلك؛ والمجموعة الثالثة تتقارب فيها نسب سكان الريف والحضر، مع بعض الفروق اليسيرة جداً ومن هذه الدول سوريا والمغرب( ). 
   وبناء على ذلك، فإن مستويات التحضر بدول مجلس التعاون الخليجي من أعلى المستويات، ويمكن تفسير هذه النسبة العالية بعاملين رئيسين سبقت الإشارة لهما، وهما: العمالة الوافدة، والنـزوح والهجرة من الأرياف والبوادي إلى المدن( )، وإن كان هناك من يرى أنه يمكن تصنيف المدن الخليجية من حيث توسعها إلى ثلاثة أصناف رئيسة على النحو الآتي

 -1مدن تقليدية توسعت بسبب التوسع العام في الاقتصاد وليس بسبب الصناعة النفطية مباشرة، ومن ذلك مدن من أمثال مدينة الرياض وجدة، أما الرياض فقد توسعت لأنها أصبحت العاصمة السياسية ومركز جذب للمستوطنات البدوية المحيطة بـها، وأما مدينة جدة فلـكون موقعها مدخلاً للحرمين الشريفين وكميناء تجاري للمملكة العربية السعودية
 -2مدن تقليدية توسعت بسبب تأثير النفط مباشرة، وهذا النوع يشمل غالبية المدن الكبرى المطلة على الخليج العربي مثل مدينة: الكويت، والدوحة، والمنامة، و أبو ظبي، ودبي، ومسقط، فهذه المدن كانت موجودة ورئيسية ولكن مع إمكانات حضرية محدودة؛ أما مع اقتصاديات النفط والحاجة الماسة لاستقرار إعداد متزايدة من العمال والخبراء والعاملين في قطاع صناعة النفط فقد أدى ذلك إلى التوسع في التخطيط العمراني واتساع رقعة تلك المدن
 -3مدن جديدة تمّ استحداثها بسبب صناعة النفط أو للتقليل من الازدحام أو معدلات التحضر العالية في المدن التقليدية الأخرى النامية، ومن أمثال هذه المدن: الخبر والظهران والدمام والخفجي ورأس تنورة والجبيل في السعودية وكذلك مدينة عيسى في البحرين(  . 
       وعلى كل حال فإنه يمكن وضع العديد من المدن الخليجية في الصدارة من حيث حجم التوسع العمراني والسكاني بين العديد من المدن العربية، وكذلك شكل العمارة ومن ثـم الملامح، حتى إن زائرها في مطلع الثمانينيات الميلادية قد لا يتعرف اليوم بسهـولة على شوارعها وبناياتها.. وفي بعض مدن الخليج العربي كان هذا التوسع مطلباً ملحاً لترسيخ شكل الدولة الحديثة ومتطلباتها، وقد تشاركت الدول والقطاع الخاص وبخاصة تجار الأراضي في إحداث هذه المتغيرات التي كان لها أثر واضح على العلاقات الاجتماعية لسكان المدن، إضافة إلى ظهور مشكلات اجتماعية أخرى لسكان المدن
     إن النظر لهذه الظاهرة في الجزيرة العربية والدول الخليجية يلحظ أن هذه المنطقة قد عاشت لفترة طويلة من الزمن حياة بسيطة قوامها الريف والصحراء وظلت بعيدة عن حياة المدينة والتحضر بأبعاده المختلفة، ولكن هذا التغير حدث تبعاً لما حبا الله عز وجل به هذه المنطقة من أمن واستقرار مقترن بنمـو اقتصـادي متـلاحق بدأت ذروته بعد ارتفاع أسعار النفط في منتصف السبعينيات الميلادية، وقد أثر هذا كله على معيشة السكان وحياتهم، فازدادت الهجرة نحو مراكز الاستيطان - المدن - حيث فرص العمل المتوفرة والخدمات الميسرة وبريق المدينة الخلاب مقارنة بقسوة الصحراء وبطء حيـاة الريف مما حقق نمواً مطرداً للمدن بمستوياتـها المختلفة، وتراجعاً ملحوظاً لمعدلات البداوة وحياة الريف، وليس هذا فحسب بل إن التطور الاقتصادي والنماء غيَّر ملامح بعض القرى والمستوطنات الريفية الكبرى فجعل منها مدناً صغرى أو متوسطة الحجم، وعلى العكس من ذلك تلاشت مكانة كثير من التجمعات السكانية الريفية الصغرى بشكل مطرد مما كان له الأثر في تغيير معالم المشهدين الحضري والريفي في المنطقة( ). 
    ويشير أحد المختصين إلى إمكانية تحديد عدد من الخصائص لشكل التحضر الذي تمّ في المدينة الخليجية، من خلال مجموعة من السمات المشتركة إلى حد كبير، ومن ذلك
 - تزايد عدد السكان وتنوعهم، فهم مزيج من الأصول والإثنيات
 - غربة سكانية أنتجت غربة مادية عن المحيط والبيئة مما أنتج غربة عاطفية
 - تطور سكني سريع نتج عنه إسراف في التخطيط العمراني، يتصف بعماراتها الهائلة والضخمة وطابعها التجاري
 - اضطراب سلوكي، خاصة لدى فئة الشباب، وخروج عن المألوف، واهتزاز السلطة داخل الأسرة، وتراجع بعض القيم الأسرية، ومزاحمة جهات أخرى للأسرة في التربية
 - المعاناة داخـل المدينة الحضرية الخليجية المشابهة لمعاناة المدن الكبرى في العـالم الصناعي مثل: التلوث، الضجيج، الازدحام، أزمة السكن، اختناق المرور
 - انتهت بعض المدن إلى أن تصبح مدناً باهتة بلا ملامح ولا شخصية، ولا تميز( ). 
         إن من أبرز مظـاهر التوسـع العمراني في المدن الخليجية هو تزايد عدد سكانها بشكل مطرد، وأحياناً أخرى في صـورة قفزات إحصائية ملفتة، وهناك أسباب لذلك، منها ما هو داخـلي كتزايد نسبة النمو الطبيعي بين السـكان أو الهجرة الداخـلية، وهـذه تمثـل العامل الأكبر في هـذه الزيـادات، فعـلى سبيل المثال يمثل النازحون من الريف إلى مدينة الرياض ثلثي حجم النمو لسكانها خلال خمس سنوات فقط (1991-1996م) ( )؛ ومنهـا ما هـو خارجي مثل تزايد القـادمين إليها من خارج الدولة بعقود العمل أو للبحث عن عمل أو للسياحة والتسوق كما في بعض المـدن الخليجيـة
     ويوضـح الجدول الآتي تزايد عدد السـكان في المدينة الخـليجـية من خـال رصـد إحصـائي لثلاثة عقـود سابقة وتوقع للعقـد القـادم من خـلال التعرف على تطـور سـكان المناطـق الحضرية في دول الخليج( ): 
  
جدول رقم 2 
تطور نسبة سكان المناطق الحضرية في دول الخليج 
الدولة سكان المناطق الحضرية في دول الخليج العربي بالنسبة إلى جملة السكان 
1950م 1975م 2004م 2015م 
المملكة العربية السعودية 9 % 58.4 % 80.8 % 83.2
الإمارات العربية المتحدة 25 % 83.6 % 76.7 % 77.4
دولة الكويت 51 % 89.4 % 98.3 % 98.5
مملكة البحرين 71 % 85 % 96.2 % 98.2
قطر 50 % 88.9 % 95.3 % 96.2
سلطنة عمان 3 % 34.1 % 71.5 % 72.3
جميع دول الخليج العربي 34.8 % 73.2 % 86.5 % 87.6

     وكما يتضح من الجدول النقلة الكبيرة جداً في تحضر سكان دول الخليج العربي، فبعد أن كانت نسبة سكان المناطق الحضرية في عام 1950م تصل إلى حدود ثلث السكان فقط، نجد أن النسبة أخذت في التزايد بشكل كبير جداً لتصل إلى قرابة (86.5%) من جملة السكان، ويتوقع لها التزايد في الأعوام العشرة القادمة، وإن كانت نسبة التزايد لن تكون كبيرة، وذلك بسبب استـقرار الوضع إلى حد كبير في المدن الخليجية. وعلى كل حال فإن المقصود من تزايد نسبـة سكان المناطق الحضرية هو ما يقابله من تناقص في سكان الريف والمناطق المحيطة بالمدن، فهو نمو في المدن على حساب الريف والمناطق المحيطة به، ومن هنا فقد يحدث أن تنمو المدن دون أن يكون هناك تزايد في التحضر نتيجة لتزايد النمو كذلك في سكان الأرياف وبشكل يتناسب طردياً مع التزايد في سكان المدن، وبالتالي لا يقال إن هنـاك تزايداً في التحضـر على الرغم من تزايد عدد سكان المدن وبشكل كبير، كما في دول آسيـا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية( ). وهذا بطبيعة الحال ما لم يحدث في الدول الخليجية وفي مدنها، فقد كان التوسع حضرياً بمعنى الكلمة، من حيث تزايد سكان المدن على حساب سكان الريف والبوادي
    ولاشك أن أسباب ذلك التزايد في عدد السكان في المدن الخليجية بشكل عام يعود إلى جملة من الأسباب يمكن إيجازها في الجوانب الآتية، مع ملاحظة أن تزايد عدد السكان يستلزم بالضرورة توسع المدن ونموها

أ - العوامل الاقتصادية والتحسن في المستوى المعيشي للسكان، بعد اكتشاف البترول وتوجه الدول الخليجية إلى تحقيق الرفاهية الاجتماعية لمواطنيها، فضلاً عن اتجاه خطط التنمية الوطنية لكل دولة نحو التصنيع، الأمر الذي يعطي التنمية طابعاً حضرياً وليس ريفياً، وهذا أدى إلى النـزوح إلى المدن والاستقرار فيها
ب - انحسار ما يسمى بالأسرة الممتدة، والمقصود بها سكن الابن بعد زواجه مع أبيه، وكذلك بقية الإخوة الذكور، حيث تضم الأسرة الوالدين، والأبناء وزوجاتهم وأبناء الأبناء، وبروز ظاهرة الأسرة النووية، وهي استقلال الأبناء مع زوجاتهم وأبنائهم في مساكن مستقلة بعيدة عن والديهم، خلاف الوضع سابق، مما يعني تفتت الأسرة، وهذا يتطلب المزيد من المساكن، وبالتالي التوسع في المدينة كنتيجة طبيعية لذلك الطلب المتزايد على المساكن المستقلة
ج- التقاليد المجتمعية وأنماط السكن، وهي قد تكون السبب الرئيس، فالمواطن الخليجي بشكل عام يميل إلى السكن المستقل، فنجده يحرص على السكنى في بناية مستقلة، وعدم الرغبة في الإقامة في شقة ضمن عمارة، ويحـرص على ذلك أشـد الحرص ما لـم يجـد خلاف ذلك، لذلك كان هذا العامل الاجتمـاعي سبباً من أسباب توسع المد بشكل كبير، وذلك نتيجة لتشييد المساكن في أطراف المدن هرباً من ارتفاع الأسعار داخل الكتلة السكنية( ). 
د- سياسـات الدول والاتجاهات العامة نحو إنماء المدن من خلال توفير المسـاكن للمواطنين في المدن ومنح الأراضي وما يستتبع ذلك من تقديم قروض ميسرة من قبل الحكومات للمواطنين لبناء المسكن في معظم الدول الخليجيـة، فضـلاً عن المشروعات الإسكانية والمجمعات السكنية التي تقيمها الدولـة لبعض منسوبيها من العسكريين أو بعض القطاعات الحكومية. وقد أدى التوسع في سياسـة منح الأراضي للسكن، ومنح القروض الميسرة للمواطنين إلى انحسار الأراضي الصالحة للسكن داخل المدن، مما استدعى التمـدد الأفقي في أطراف المدن ومنح الأراضي للمواطنين، وهذا بطبيعة الحال أدى إلى التوسع الجغرافي للمدينة، وبخاصة أن التوسع في ذلك «المنح» كان من نصيب المدن الكبرى على حساب المدن الصغرى، أو الأرياف
هـ- سياسات بعض الدول في عدم تنوع التنمية وشمولها لمختلف مناطق الدولة، فيكون التركيز على المدن الكبرى في المشاريع التنموية الكبرى كالمستشفيات والجـامعـات، والمدن الصناعية، وإهمال الأطراف، أو المناطق الريفية، مما أدى بالضرورة إلى تتبع المواطنين لهذه المشاريع للاستفادة منها، سواء في العمل أو من الخدمات التي تقدمها، وهذا أدى بدوره إلى تزايد الهجرة الداخلية إلى المدينة
و- تواصل الهجرة من الريف أو من البادية إلى المدينة بحثاً عن فرص العمل أو مواصلة الدراسة؛ ففي المدينة تتوفر الفرص الوظيفية بسبب النهضة التي تعيشها المدينة الخليجيـة لجملة من الأسباب الاقتصادية، وقد تكون هذه الهجرة إلى المدينة مؤقتة في بدايتها لأي سبب من الأسباب المذكورة آنفاً، لكنها تطول، وقد تستمر طوال حياة المواطن. وقد أثبتت بعض الدراسات أنه كلما طالت مدة الهجرة قلّ احتمال عودة المهاجرين إلى مواطنهم الأصلية( ). 
ز- العمالة الأجنبية الوافدة والتي ترافقت مع النهضة العمرانية والاقتصادية التي عاشتها المدن الخليجية في عملية محورية تبادلية، أي عملية قدوم العمالة ومساهمتها في زيادة عدد السكان وبالتالي توسع المدينة من جهة ونمو المدينة لأسباب داخلية من جهة أخرى، يتصاحب مع ذلك استقرار بعض هذه العمالة وتوطنها مع مرور الزمن، وليس ذلك فحسب، بل دعوة غيرهم من بلدانهم الأصلية ليحذوا حذوهم لما يتوفر من فرص عمل قد لا تكون موجودة في بلدانهم الأصلية
ح- الزيادة الطبيعية للسكان، وقد لا يكون لها الأثر الأكبر في الزيادة ولكن لها دور لا يمكن تجاهله وبخاصة أن النمو في الدول الخليجية يُعدُ من المعدلات المرتفعة على مستوى العالم بشكل عام
ط- محدودية المساحة الجغرافية لبعض دول الخليج مما يجعل التركز والتوجه الحضري للمدينة الرئيسية كما في دولة الكويت ومملكة البحرين ودولة قطر على سبيل المثال، حيث تمثل عواصم تلك الدول أكبر مراكز التركز السكاني والتوسع انطلاقاً من ذلك المركز والتمدد من خلاله
    ومن هنا يمكن القول: إن تزايد السكان في المدينة يُعْدُ المؤشر الأول والأبرز في ظاهرة التوسع في المدن الخليجية، فالانتقال من الريف إلى الحضر يعني التوجه إلى المدينة والاستقرار بها، والدراسات تظهر أنه كلما طالت مدة بقاء المهاجر تناقصت رغبته في العودة إلى بلده الأصلي بشكل واضح. وسنة بعد أخرى تتزايد الأعداد المهاجرة أو المستقرة جراء الهجرة إلى المدينة، مما يتطلب إنشاء الجديد من المساكن لاستيعاب هذه الأعداد القادمة، ومن هنا فإن لم تبادر الحكومات بإنشـاء المباني وتنظيمها فإنه سيخرج في المدينة ما يسمى بالأحياء العشوائية ومدن الصفيح في الأطراف لتستوعب المهاجرين الجدد، الذين يستقرون في الأحياء العشوائية أو مدن الصفيح في أطراف المدن( )، فالعديد من الدراسـات الميدانية تؤكد أن غالبية المهاجرين يسكنون أطراف المدينة حال وصولهم ويحولون هذه الأطراف إلى ما يشبه القرى التي قدموا منها( ).. وبالإضافة إلى هذه الجموع المتزايدة من السكان التي تأتي إلى المدينـة بحثاً عن فرص عمل أو الدراسة الجامعية أو العلاج، هناك علاقة بين هذه الاحتيـاجات للسـكان ونمو أي مدينة من المدن، وإن كان مكمن الخطورة الأكبر يتمثل في وجود هذه الأحياء العشوائية حول المدن، حيث تفتقر إلى الخـدمات، والمرافـق وتتحول بمرور الوقت إلى جيوب للفقر، فضلاً عن تهيئتها للبيئة المناسبة للجريمة، وانتشار المخدرات، وتصنيـع الخمور وترويجها، وانحراف الأحداث والفتيات، وانتشار الأمية، والفساد الأخلاقي المتولد جراء الظروف السكنية والبيئة والثقافية السائدة في تلك الأحياء العشوائية، مع ضرورة الحذر من ربط تلك الانحرافات بالفقر وحسب، فهو عامل من العوامل يتعزز بتوافر البيئة والظروف السيئة
      إن الاستمرار في تضخم المدينة الخليجية سيجعلنا نرى مجتمعات مختلفة السمات، وتسيطر عليها مشكلات التفكك الاجتماعي، حيث لا يرى الأخ أخاه ولا يعرف الجار جاره وتبرز مشكلات التوسع العمراني المعروفة من الازدحامات المميتة والتلوث البيئي والبصري والسمعي والجريمة بأنواعها، وقد تعجز السلطات آنذاك عن التحكم فيها، إضافة إلى مشكلات عدم القدرة على توفير البنية التحتية ومتطلبات الحياة الأساسية من خدمات المياه والكهرباء والاتصالات والصرف الصحي.. وهذا الأمر ليس بالجديد على العالم، فقد ظهرت نذره في تجارب مدن أخرى من العالم حيث إن نمو المدن فوق طاقاتها أو ما تملكه من مقومات يعتبر من أكبر وأبرز المشكلات التي تواجه المدن الكبرى في العالم
      إن ظاهرة تضخم المدن وما يستتبع ذلك من مشكلات عدة ليست جديدة، بل إنها إحدى قواعد علم الاجتماع التي أكدها العالم الفرنسي «دوركايم» في نظريته لكيفية تماسك المجتمع، حيث يرى أن مجتمعات المدن تمر بنوعين من المجتمعات: النوع الأول هو المجتمعات الميكانيكية: وهي المرحلة الأولى، حيث يعيش الناس ببساطة لمرحلة ما قبل المجتمع الصناعي، حيث يربطهم بعضهم ببعض التجانس والتساوي والقيم الاجتماعية وصلة الرحم (المجتمـع الريفي). والنوع الثـاني هو المجتمعـات العضوية، وهي مجتمعات المدن وهي معقدة تمثل عصر الصناعة، وتكون مبنية على الاحتراف المهني، والاختلافات بين الناس والطبقيات، وتجزئة أنواع العمالة، واعتماد كل منهم على مهنة ووظيفة الآخر، أو الاعتماد المشترك، ويحكمها القانون والشرطة والقيود والأنظمة الاجتماعية والمدنية، التي إذا خالفها سيعاقبه المجتمع، وأن الناس تتجمع ليس على مبدأ التساوي بل على اختلاف المهن والأنشطة التخصصية( ). 
ولكن ماهو الحجم المعقول لمدينة ما، قبل أن تصاب بالأمراض الاجتماعية والعلل الاقتصادية المستعصية ووقف النمو أو الضمور؟ ولاشك أن المعـادلة المطـلوبة في ذلك هو أن يتوازى حجم الخدمات التي تقوم عليهـا المدينـة مثل: شبـكات الميـاه والكهرباء وشبكة الهاتف والصرف الصحي، وبنوكها وأسواقها ومرافق الترفيه، أن يتوازى كل ذلك مع عدد السكان فيها، فإن لكل من هذه الخدمات طاقة وحجماً معقولاً، يجب أن لا يزيد عدد سكانـها عنه لتكون مدينة حضارية وإلاّ أصبحت وبـها العـديد مـن بؤر الأمـراض والعلل الاجتمـاعيـة والصـحية والاقتصـادية، وغـدت صعبة على الإدارة، ولهذا يلجأ المخططون إلى تكوين الضواحي حول المدينة لتبقى بحجم معقول سهلة الإدارة وتعطي الفرص لمنطقة أُخرى لتنمو وتصبح مناطق حضـرية جديدة ونواة لمدن جديدة تنمو بنمو عدد السكان بشكل متزن ومتوازن مع الخدمات المطلوبة لكل تجمع بشري
     وعلى كل حـال، فإنه لا بد من التنبيه إلى خطورة التوسـع العمـراني الكبير دونمـا استعـداد مسبـق له أو في حالة تجاوز أي مدينة طاقتـها وحـدودها؛ وقـد حـذر عـالم الاجتمـاع (فيبر) قبل مائة عام من النمو العمـراني غـير المخطط للمـدن، وأن ذلك يؤدي إلى تضاؤل إمكانية الاستفادة من مواردها، فوق ما ينشأ من مشكلات اجتماعية وإدارية وسياسية( ).

ثالثاً: الآثار الاجتماعية الناشئة عن التوسع العمراني 

     إن مما يؤسف له أن تخطيط المدن في عالمنا العربي الإسلامي انطلق بمنظور المدن الصناعية في العالم الغربي، وفي هـذا تجن كبير عـلى مدننا، فما نراه في مدننا الخليجية هو مشهد مؤلم، فنرى مُدناً مكتظة وشوارعاً مزدحمة، وعمراناً رحالاً ينتقل من حي إلى حي جديد بما في ذلك من إهدار للموارد والوقت والجهد واستنـزاف للخدمات وتمدد للشبـكات والطرق بما لا طاقة لمدينة على صيانته واستيعابه، والسبب أن تخطيط المدن في الغرب نشأ في المدن الصناعية بعد الثورة الصناعية وكان أداة للحد من الآثار السيئة للصناعة على مدنهم ومجتمعاتهم، ووضعوا له مناهج لتحقق الغرض، لهذا نجحوا في أنسنة الصناعة ومنشآتها لتلاءم حياتهم، ولكن بعض مخططي المدن العربية والإسلامية طبقوا نفس أسس التخطيط على مدننا قبل وجود صناعات كالدول الصناعية فنجحوا في مصنعة الناس، وأصبحت أخلاق سكان هذه المدن صناعية أو مصطنعة( )، فلا الجار يعرف جاره، ولا تنمو العلاقة بين الأطفال في الحي الواحد بشكل طبيعي، وما ذلك إلا نتيجة لسوء التخطيط من قبل بعض المختصين في تخطيط المدن في عالمنا العربي الإسلامي، ولجوئهم المباشر لاستنساخ نماذج جاهزة نجحت في بيئة وليس بالضرورة أن تنجح في بيئة أخرى، فلكل مجتمع خصوصيته التي تنبع من عقيدته وثقافته، وتقاليده الاجتماعية المتوارثة
       إن المدينة عبارة عن أحياء سكنية متجاورة، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نعزل أثر التخطيط العمراني للحي وتصميم شوارعه، وفراغاته، ومرافقه العامة، عن طبيعة النشاط البشري لسكانه، فالتواصل بين سكان الحي وهذه المرافق يُبنى على طريقة تصميمها، وطبيعة التواصل بين سكان الحي أنفسهم يُبنى كذلك على تصميم مواقع تلك المنازل التي يقطنونها، والمرافق العامة، والفراغات المكانية، وليس هذا فحسب، بل يتحكم شكل هذا التخطيط للحي في درجة التواصل بين سكانه، قرباً وبعداً، حميمية، وتباعدية «فالحي السكني ليس فقط التصميم والبناء، فهو يتجاوز المادة إلى الجوانب الاجتماعية التي تجعل من المكان الذي تعيش فيه الأسرة فضاء للتقارب الاجتماعي، فأغلب الدراسات التي تتناول الحي السكني تعتبره مكاناً للتربية»( ). 
       إن عدم مراعاة هذا الجانب الاجتماعي جعلنا نرى مدننا الخليجية تمتد من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب عشرات الكيلومترات، وشوارعها مكتظة وتقاطعاتها مزدحمة، وبهذا تكون هناك حاجة للسائقين والخدم وأكثر من سيارة للعائلة الواحدة في ظل عدم وجود وسائل نقل مناسبة، ومما لاشك فيه أن مدننا لو خططت بما يلائم عاداتنا واحتياجات وثقافتنا وعائلاتنا وأولادنا لكان أجدى وأنفع ولتحققت وفورات اقتصادية كبيرة ولتخففنا من كم هائل من المشاكل الأخلاقية الاجتماعية
      إن من المجزوم به في عالم الإنسان أن النسيج العمراني للمجتمع يشكل انعكاساً طبيعياً لرقي ذلك المجتمع وأخلاقياته وقيمه ومعاملاته وشخصيته المميزة وقناعاته التي يؤمن بها، ولو حدثت فجوة بين نسيجنا العمراني ونفوسنا لماتت نفوسنا، ولو عاشت نفوسنا في بيوت من غير بيئتنا لاكتأبت وخملت، لذلك لا عجب أن يبرز على سطح المجتمع في مدننا الخليجية عدد من الآثار الاجتماعية، وبعض هذه الآثار يمثل مشكلة حقيقية للمدينة الخليجية، كما سنرى.. وعلى كل حال يمكن إجمال الجزء الرئيس منها فقط، حيث قد يطول المقام لو ذهبنا للحديث عنها كلها، لذا سيتمّ التركيز على المهم منها والرئيس فقط لاعتبارات عدة أهمها أن ظهور هذه الآثار الاجتماعية الرئيسة سبب لآثار أو مشكلات جزئية أخرى تابعة لها ومتولدة عنها، وقد لا تظهر هذه الجزئية إلا تابعة للرئيسة الكبرى
     ومن هذه الآثار الرئيسة المصاحبة للتوسع في المدن عموماً والمدن الخليجية خصوصاً الآتي

 -1اختلال التركيبة الاجتماعية للسكان
       وهذا الاختلال لا يقتصر على المدينة فحسب بل يمتد كذلك إلى الأرياف والبوادي المحيطة بالمدينة، والمقصود به زيادة الذكور في المدن وقلتهم في الريف، والعكس بالنسبة للنساء، حيث تزيد نسبة النساء في الأرياف والبوادي وتقل نسبتهم في المدن نتيجة أن الهجرة غالباً ما تكون من قبل الذكور، وذلك لطبيعة المجتمع المسلم في الخليج العربي حيث لا يمكن سفر المرأة أو استقرارها في المدينة بدون محرم شرعي لها، بخلاف الرجل الذي قد يكون أكثر حرية في التنقل، كما أن أعمار من ينتقلون إلى المدينة من الأرياف والبـوادي غـالباً ما تتراوح بين (15-35) حيث يفـدون إما للدراسة أو العمل، وهذا السن هو سن الفتوة والزواج مما يولد مشكلات أخرى تتعلق بتزايد مشكلة العنوسة بين النساء في غير المدن، إضافة إلى انتشـار بعض الأنواع من الجـرائم المرتبطـة بهذا العمر في المدينة نتيجـة لطغيان هـذه الفئـة العمرية والجنسية على التركيبة السكانية لمجتمع المدينـة، كما يلاحظ ارتفاع سن الزواج بين الذكور والإناث في المـدن أكثر منه في الريف، وهذه ظاهرة يسـتتبعها العـديد من المشاكل الاجتماعية الأخرى، بخاصة في ظل الإغراءات التي يجدها الشـاب بين يديه في المدينة مما قد ينتج عنها نوعاً من الانحراف في ظل تأخر سن الزواج
     وعلى الرغم من أن الأسرة، أو العائلة، تمثل الوحدة الاجتماعية الأساسية في الريف والحضر، وعلى الرغم مما طرأ على أدوارها من تغيرات، وإن بدت هذه التغيرات أسرع في الحضر عنها في الريف، إلا أن الأسرة الحضرية في المدينة تتصف بالصغر والنووية مقابل الأسرة الممتدة في غير المناطق الحضرية، كما أن حجم الأسـرة في الريف أكبر منـه في الحضر، وما يزال هناك وجود ملموس للأسرة التقليدية أو ما يسمى بالأسرة الممتدة أو التي تقوم على علاقات القرابة رغم عدم السكن في مسكن واحد في الريف أكثر مما في المدينة( ). 
        ولاشك أن في ذلك أثراً كبيراً على عملية الضبط الاجتماعي بشكل عام ومراعاة الوضع الأسري وأثره على تصرفات الفرد في الريف أو في المدينة. «فالعائلة الممتدة ذات بناء أكثر فاعلية للحفاظ على تقاليد العائلة، والأطفال يتعرضون إلى شبكة كبيرة من علاقات القرابة، فالأقارب جاهزون في الحال لمساعدة الوالدين في مهام التنشئة الاجتماعية، كما يقومون بدور القدوة لمختلف أنواع الأدوار التي يقوم بها الكبار، وفي أوقات الأزمات مثل موت الوالد - أو هجرته إلى المدينة – فإن قريباً آخر يمكن أن يحل محل الوالد في تلبية الحاجات الجسميـة والوجدانية للطفل»( ). وهذه التلبية وإن لم تكن بشكل كامل إلا أنه سيجد شيئاً من التعويض، بخلاف الطفل إذا كان في أسرة نووية في المدينة، وذلك بطبيعة الحال بشكل عام
        إن ما سبق ذكره يتناول الآثار على سكان المدينة نفسها بعد هجرتهم من القرية إلى المدينة، ولكن يجب أن نتذكر أن هناك عدداً من المشكلات المترتبة على سكان القرية أو الأرياف نفسها بعد هجرة ولي الأمر إلى المدينة، فتغير التركيبة السكانية في العائلة الريفية يؤدي إلى إعادة توزيع الأدوار داخل الأسرة وتحمل النساء والشيوخ أعباءً إضافية كان المهـاجر يقوم بها، مما يزيد من معاناة النساء، ويجعلهن يعشن بعداً عاطفياً ونفسياً عن أزواجهن، وكذلك الأبناء حيث يعانون من فقـدان ضابطهم الاجتماعي في الأسرة، وداعمهم النفسي والاجتماعي في الأسرة. لذلك «فإن شعور الأسرة بغياب كبارها وكاسبيها قد يقلل من إمكانات الضبط الأسري للصغار والرعاية الصحيـة والاجتمـاعية لأفراد الأسرة، مما يحدث إشـكالات أخـرى ترتبط بجنوح الأحـداث والانحـرافات التي يتعرض لها الشباب حين غياب موجهيهم من الكبار»( ). وهذا أثر من آثار التوسع في المدينة وإن لم يكن على سكان المدينة نفسها، ولكن يبقى الأثر في عموم المجتمع وعليه
      والحديث السابق بطبيعة الحال يتركز فيما إذا كانت الهجرة داخلية، أي من القرية والريف إلى المدينة، ولكن يجب ألا ننسى مشكلة أخرى وهي ظاهرة الهجرة من خارج الدولة إلى داخلها من جنسيات مختلفة تتحول إلى أقلية مع مرور الوقت، فليس بخاف أن هناك عدداً من الأقليات أصبحت موجودة في بعض المدن الخليجية جراء الهجرة الخارجية، وفي بعض الدراسات تقدر نسبة الزيادة من هذه الهجرة الخارجية بحوالي (5.4 %) من نسبة السكان الأصليين، وذلك في الفترة من (1985-1995م)، وهذا النمو السكاني المرتفع العشوائي الناتج عن الهجرة الخارجية قادر على إحداث هزة ديموغرافية قوية سوف لن تتمكن الدول الخليجية من تصحيحها لفترات طويلة خاصة إذا ما علمنا أن الزيادة السنوية للمواطنين لا تبلغ سوى (3%) مقابل (5.4 %) من غير المواطنين لنفس الفترة، وهذا يشكل تهديداً خطيراً للدولة على الصعيد الديموغرافي، وسيصحب معه نتائج اقتصادية وثقافية غير مرغوبة كالتحكم في الأنشطة الاقتصادية وممارسة الاحتكار في السوق، إضافة إلى أنهم سيشكلون الأغلبية المطلقة وسيمكنهم من فرض ثقافتهم بكل سهولة( ). 
        إن مما يؤكد خطورة هذا الأمر، ما أعلنه المكتب التنفيذي لمجلس وزراء العمل ووزراء الشؤون الاجتماعية بدول مجلس التعاون من خلال الدراسة التحليلية التي قدمها عن أحكام (الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم) الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة عام (1990م) ودخلت حيز التطبيق عام (2003م)، حيث حذرت الدراسة من أن المرحلة المقبلة قد تحمل الكثير من المفاجآت مثل المطالبة بحرية العبادة الجماعية العلنية لأي معتقد، وحرية تعلم اللغة الأصلية ضمن المناهج الدراسة الاعتيادية، وحرية بناء المعابد ومراكز دينية، وحرية إقامة جمعيات وتجمعات ثقافية مختلفة المشارب للمهاجرين، وكل ذلك بحماية من ( الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم) المشار إليها آنفاً. وتؤكد الدراسة أن دول المجلس قد تتعرض بسبب الخلل في تركيبتها السكانية إلى أخطار سياسية وأمنية واجتماعية إذا ما التزمت التزاماً كلياً بما تقرره تلك الاتفاقية. وتلمح الدراسة إلى ضرورة عدم تصديق الـدول الخليجية عليها أو الانضمام إليها، لما تحمله في طياتها من خطر حقيقي من مختلف الجوانب الأمنية والاجتماعية والاقتصادية( ). 

 -2التحول في شكل الأسرة: من أسرة ممتدة إلى أسرة نووية
    إن من أبرز الظواهر الاجتماعية المصاحبة للتطور الحضري، والتوسع العمراني في الدول الخليجية تحول الأسرة من أسرة ممتدة إلى أسرة نووية، وسبق الإشارة إلى أن الأسرة الممتدة يقصد بها سكن الابن بعد زواجه مع أبيه، وكذلك بقية الإخوة الذكور، حيث تضم الأسرة الوالدين، والأبناء وزوجاتهم وأبناء الأبناء، أما الأسر النووية فهي تعني استقلال الأبناء مع زوجاتهم وأبنائهم في مساكن مستقلة بعيدة عن والديهم( ). 
     إن الدراسات الميدانية والإحصائية تشير إلى تنامي هذه الظاهرة، وعلى سبيل المثال كانت نسبة الأسر النووية في مدينة الرياض في عام (1407هـ/1987م) تبلغ قرابة (63%) من جملة السكان، بينما نجد أن النسبة ارتفعت في عام (1425هـ/2005م) إلى (قرابة (77%)، وهذا في أقل من عشرين عاماً، وهذا يشير بوضوح إلى تنامي ظاهرة الأسر النووية، مقابل تناقص الأسر الممتدة، «فالأسرة السعودية تعرضت في سنوات النهضة الاقتصادية إلى هجرة قوية من الريف إلى الحضر، وترتب على ذلك أن انقسمت الأسرة إلى أكثر من أسرة نووية، وهذا التمزق في بنية الأسرة التقليدية أدى بدوره إلى انعكاسات سلبية على مجمل وظائفها ونشاطاتها»( ). وهذا التزايد في نسبة الأسر النووية هو السائد والمثبت إحصائياً في عدد آخر من المدن الخليجية مثل الكويت والمنامة والدوحة( ). 
    وعلى كل حال فإنه يمكن أن نُعمم الحكم بذلك التزايد على جميع المدن الخليجية دونما حرج علمي لتشابه الظروف الاقتصادية، والاجتماعية فيها ولمجتمعها، وإن كان هناك من البـاحثين من يرى أن الأسرة الخليجية لا يمكن تصنيفها ضمن أنماط (الأسر الممتدة)، سواء في الماضي أم الحاضر، ولكنها أقرب ما تكون لنمط العائلة (شبه الممتدة) وليست (الأسر الممتدة)( )، وبخاصة في المدن. ولكن واقع الحال يدفع هذا الرأي وبقوة، إضافة إلى أنه لا مشاحة في الاصطلاح سواء كانت (ممتدة) أو (شبه ممتدة)، إلا أنه من المؤكد أن الروابط الاجتماعية بين أفراد الأسرة الواحدة قد تقالّت بشكل كبير، يعززه التباعد المكاني بين أفراد الأسرة الواحدة الحاصل جراء التحضر العمراني
    إن مما لاشك فيه أن هناك حسنات للأسر النووية وكذلك لها بعض السلبيات، كما هو للأسر الممتدة، فهناك بعض «من المزايا لكل من النوعين، تقوم في مواجهتها مجموعة من جوانب القصور.. فثمة حقيقة في أنه توجد اختلافات عملية مهمة بين أنماط النظم العائلية التي تؤثر فعلاً على حياة الناس الذين يعيشون في كل نوع وعلى سلوكهم أيضاً»( ). ولكن المقارنة العامة تظهر أن الأسر الممتدة كانت تؤدي - ومازالت - تؤدي وظائف اجتماعية، وأخلاقية، وثقافية، وتكافلية، تعجز عنها الأسرة النووية، فتوارث القيم التعاملية بين الكبير والصغير، وتعلم المواقف الاجتماعية الأسرية المختلفة، يتوافر بشكل أوضح في الأسر الممتدة، بخلاف درجة وجوده في الأسر النووية، كما كانت الأسر الممتدة تقدم الدعم الاجتماعي والنفسي والمعنوي، وحتى البدني لأفرادها من قبل بعضهم بعضاً، بخلاف الأسرة النووية، التي تعني انعزال الأسرة في كيان اجتماعي وثقافي ونفسي وبدني خاص
    وبالجملة، فالأسرة الممتدة قناة للتواصل الثقافي، والديني، ولنقل التجارب والخبرات بين الأجيال حيث يتاح فيها للطفل التواصل مع جيلين أو أكثر، فتغتني معارفه ويتشبع عاطفياً ويتسع عالمه في مناخ يملؤه الحب ويتسع لدائرة واسعة من الأقارب يقدم بعضها لبعض الحماية والمشاركة الوجدانية والوقوف عند الشدائد سنداً قوياً
       إن بعض المختصين يرى أن تحول الأسرة الخليجية من نظام الأسرة الممتدة إلى نظام الأسرة النووية مع ما فيه من إيجابية قد تبدو ظاهراً إلا أنه «حمل في طياته نقيصة كبرى تتمثل في ارتخاء وتقليص مدى العلاقات التي كانت تتسم بها الأسرة الممتدة، وأثمر ذلك في النهاية عن إحساس بعدم الالتزام بمعايير الأسرة، فبعد أن كان الأبناء يعملون حسابهم لسلطة الأقرباء من خلال (تواجدهم) معهم أصبحت نوازعهم السلوكية أكبر من سلطة الأبوين في الأسرة النووية في الوقت الحاضر»( ). ومع تقديرنا لوجهـة النظر هذه إلا أنه مما ينبغي ملاحظته أن الأسرة النووية وإن كانت الأكثر عدداً، والأكبر نسبة بين عدد الأسر في المدن الخليجية، إلا أنها لم تنفك بشكل كبير عن منظومة الأسرة الممتدة، فالروابط وإن كانت غير موجودة مكانياً ولكنها في جانبها الاجتماعي والثقافي، وحتى السلطة الأبوية لها حضورها القوي، فيمكن القول: إن الوضع الأسري في المدينة الخليجية شكل جديد من أشكال الأسر، فهو ليس بالأسرة النووية البحتة، وكذلك لا يبدو أسرة ممتدة خالصة، فالأسرة الخليجية أسرة نووية في الظاهر، وأسرة ممتدة في الباطن، فما يزال مفهوم الأسرة الممتدة مسيطراً على الثقافة المجتمعية، من حيث المحافظة على العلاقات الأسرية بين الأفراد ولكون الأسرة في المجتمع الخليجي بشكل عام لا تزال تمثل الإطار المرجعي ووحدة الانتماء الأساسية لأفراد المجتمع( ). 

 -3ضعف العلاقات البينية بين أفراد الأسرة وأفراد المجتمع
    نتيجة لتباعد أطراف المدينة إثر توسعها وكثافتها السكانية المستتبعة لظاهرة التوسع، فضلاً عن الانشغال الكبير من قبل سكانها بهمومهم الخاصة وانشغالات مجتمع المدينة بشكل عام برز إلى سطح المجتمع المدني خلل في طبيعة التفاعل الاجتماعي بين أفراد الأسرة الواحدة من جانب وبين أفراد الحي الواحد - الجيرة - من جانب آخر، فتشير كثير من البحوث الاجتماعية العربية إلى أن التفاعلات داخل الأسرة العربية طرأ عليها مجموعة من المتغيرات تتمثل في جوانب عدة من أبرزها تناقص الوقت اليومي الذي يقضيه أعضاء الأسرة معاً، ويرجع ذلك إلى خروج نسب كبيرة من النساء للعمل خارج المنـزل وللمشاركة في أنشطة اقتصادية واجتماعية متعددة، وانشغال نسب متزايدة من الذكور كذلك، وبخاصة أصحاب الأعمال والمشروعات ومن يعملون أعمالاً إضافية لتحقيق مزيد من الدخل لمواجهة صعوبة العيش في المدينة ومتطلباتها، أو الذين يزاولون أنشطة اقتصادية واجتماعية بعيداً عن الأسرة، ويصاحب ذلك تزايد نسب الأبناء المنخرطين في مراحل التعليم المختلفة بما يعنيه ذلك من قضاء نحو ساعات كثيرة في مؤسسات التعليم بعيداً عن الأسرة بالإضافة إلى انشغالهم بواجباتهم المدرسية التي تعزلهم عن أسرهم وقتاً كبيراً حتى وهم داخل المنـزل. ومما تحسن الإشارة إليه أن هذه الظاهرة، وهي ضعف العلاقة البينية بين أفراد الأسرة، احتلت المرتبة الأولى في سلم المشكلات الاجتماعية التي تواجهها الأسرة الخليجية في هذه المرحلة، وذلك وفق نظرة الجهات المختصة بالشأن الاجتماعي في الدول الخليجية، وبرزت هذه النتيجة بعد استبيان شامل حول عدد من أبرز المشكلات التي تعتقد الجهات المعنية بالشـأن الاجتمـاعي أنها تؤثر بشكل كبير في مستقبل الأسرة الخليجية( ). 
    كما يمكن رصد حدوث تباعد واضح بين أعضاء الأسرة نتيجة تباينات مواعيد العمل والتعليم وبروز الطموحات الشخصية، مما قلل من فرص التفاعلات اليومية التي كانت تتم داخل الأسرة من خلال الفرائض الشرعية، كالصلاة معاً، أو عادات يومية كتناول الطعام أو قضاء وقت الفراغ أو أداء بعض الواجبات الاجتماعية معاً، ويزداد الأمر خطورة بحدوث ما يسمى بالتفكك بين الأجيـال وهو جيل الشباب من جـانب وجيل كبار السن - الشيوخ - بما يمتلكه من خبرات حياتية متراكمة من جانب آخر، وبخاصة أن المجتمع الخليـجي يعيش تزايـداً ملحوظاً في نسبة كبار السن، إضافة إلى إقباله على تزايد أكبر في أعدادهم في العقود القادمة، كما ذكر في مبحث سابق
     لقد كانت المنـازل التـقليدية في المدينـة الخليجيـة تتسم بالبساطة، كما ذكر سابقاً، كما تمتاز بالرحابة المكانية، وهذا ما فقدته المدينة الخليجية نتيجة للتوسع الرأسي في المدينة، فهذا الشكل من التوسع يمثل مظهراً سلبياً للانفتاح على العالم الخارجي، فقد كان من المؤمل أن تتم المحافظة على التصاميم التقليدية، مع تطويرها بشكل يجعلها تلبي احتياجات السكان، والمكان، وتراعي العادات والتقاليد الاجتماعية المقبولة، التي تمثل قيماً أساسية في نسيج المجتمع الخليجي، وهي من الأمور التي كانت تدعم أواصر العلاقات الأسرية الواحدة، سواء كان العيش مشتركاً في منـزل واحد كما في الأسر الممتدة، أو حتى في التطور الذي حدث وهو نموذج ابتكر في بعض المدن الخليجية، وهو وجود الأسرة الكبيرة في مجمع سكني واحد، فالوالدان في منـزل مستقل وبجواره منازل الأبناء بعد زواجهم، فهو في حقيقة الأمر استقلال مكاني ولكنه يحقق قرباً اجتماعياً بين أفراد الأسرة الواحدة إلى حد كبير، فهو شكل مطور وجديد يجمع بين العائلة الممتدة والعائلة النووية
     ومن جانب آخر يمكن القول: إن من الخصائص السلوكية، والممارسات الحضارية التاريخية للأسر العربية، الاعتماد والتكافل المتبادلان بين الأسر في محيط الجوار وعلى مستوى المجتمعات المحلية، فقد كانت مجالات هذا الاعتماد والتكافل تشمل العمل أو العون، أو الفزعة، وكلها تعبر عن مسميات التعاون في العمل في الدول والمشاركة في الأفراح والأتراح والممارسات والمناسبات الدينية، وكان ذلك كله تعبيراً عن أنماط من التماسك والتضامن الاجتماعي على مستوى الأسرة وعلى مستوى أسر الجوار، كما كان هذا التفاعل يساهم في إيجاد حلول لبعض المشكلات الاجتماعية والمادية لكثير من الأسر المحتاجة( ). 
    غير أن معظم البحوث الاجتماعية، والملاحظات اليومية ترصد بلا عناء انحسار كثافة ومجالات هذه التفاعلات لأسباب متعددة منها ضغوط الحياة المادية والمهنية في المدينة، وانتشار الأنماط الحضرية في البناء الرأسي ذي العمائر الشاهقة متعددة الأدوار الذي يجمع أسراً من جهات شتى، وذات اتجاهات وميول متباينة، أو البناء الأفقي المستقل في شكل قصور وفيلات مستقلة ومتباعدة في المسافات، فضلاً عما تسببه متابعة القنوات الفضـائية وما تبثه من برامج وتمثيليات وأفلام علمية على مدار الساعة من إضعاف لصلات اجتماعية مهمة كتبادل الزيارات والمجاملات بين الأسر، بل واغتراب اجتماعي داخل الأسرة الواحدة، وهذا ما تظهره بعض الدراسات الميدانية الخليجية
      ففي دراسة عن الاغتراب الأسري في الأسرة الكويتية، تشير نتائج الدراسة إلى أن علاقات التعاون والتكاتف كانت هي النمط السائد بين العائلات الكويتية وفق ما ترتكز عليه من أنساق اجتماعية قائمة على ضوابط ومعايير مستمدة من الدين الإسلامي والثقافة العربية، وهي مسارات ثرية للتدفق العاطفي، والاندماج الكامل بين أفراد الأسرة، غير أنه بقدوم الحقبة النفطية حدثت تغيرات اجتماعية واقتصادية مصحوبة بارتفاع مستوى المعيشة وتغير نمط الحياة، وحل التحضر محل البداوة، وهذه التغيرات وإن كانت أتاحت فرصاً أفضل للأسرة لكنها في الوقت نفسه جعلت الحياة أكثر تعقيداً.. ومع تنامي ثورة الاستهلاك تنامت الطموحات والتطلعات وأصبح أفراد الأسرة شبه مندمجين مع بدائل متعددة غير ذلك التفاعل الاجتماعي العميق الذي كان سائداً أيام الحياة البسيطة( ). 
   إن مما يؤكد ما سبق ذكره هو أن بعض الأنشطة الترويحية التي يُمارسها الأفراد في أوقات الفراغ تؤدي إلى تغيرات اجتماعية ذات صبغة سالبة، فمنها على سبيل المثال ما أحدثه التلفاز في أنماط الاجتماعات العائلية والأسرية، فلم تعد تجمعات الناس مع وجود التلفاز ذات طبيعة جماعية، ويعلق عالم الاجتماع السوفيتي «ريوريكوف» على هذه الظاهرة فيقول: ظهرت عادة جديدة هي استقبال الضيوف والاستمرار في مشاهدة التلفزيون، وكأن الناس لا يأتون لزيارة أصدقائهم وإنما لزيارة تلفزيونهم، فهو يوحدهم شكلياً ولكنه من الناحية السيكولوجية يفرق ويقطع الصلات بينهم. وتؤكد الباحثة الكندية «ك. تاجرت» أثر هذه الظاهرة السلبية على تماسك الأسرة بقولهـا: إن التلفزيون لا يقرب بين أعضـاء الأسرة، اللهم إلا مادياً، وهذا التجمع المادي الجسدي لا يكفي للتقارب الاجتماعي( ). 

 -4زيادة معدلات الجريمة في المدينة
   على الرغم من الصبغة الأمنية لهذه المشكلة، لكن لا يمكن بحال من الأحوال أن نفصلها عن منطلقها الاجتماعي المسبب لها، إضافة إلى الآثار الاجتماعية التي تنتج عنها إثر سجن العائل أو انحراف الأبناء.. الشواهد العلمية تظهر أن السلوك المنحرف والجريمة ينتشران في المجتمعات المتحضرة أكثر من غيرها، فالجريمة تُعْدُ ظاهرة حضرية، حيث تبين أن هناك فروقاً ذات دلالة إحصائية في معدلات الجريمة تعزى للمدينة وتوسعها الكبير دون تخطيط مسبق، ويعود السبب في ذلك إلى أن التطور الحضاري السريع المصاحب للتوسع في المدن غالباً ما يرافقـه نوع من الفشـل في قدرة الناس سـلوكياً، ونفسـياً، واجتمـاعياً، على التوافق معه، وفي عدم التكيف مع التطورات الجديدة التكنولوجيـة المعقدة والمتغيرة باستمرار، إضافة إلى أن ارتفاع مسـتوى المدنية يرفع من مستوى المعيشة فتزيد مغريات الحيـاة وتتضاعف احتياجات الفرد مع تزايد وتعدد علاقاته ورغباته الاجتماعية( ). 
   وهذا ما تعاني منه معظم دول العالم الثالث وعلى الأخص الدول النفطية في القفزة السريعة دون تطور تدريجي يتهيأ له الفرد لمواجهة هذه التغيرات، إضافة إلى مواجهة زيادة المسؤوليات الاجتماعية نتيجة ضغوط المدنية الحديثة وعدم القدرة على تحملها( ). 
    وبتطبيق هذه القاعدة على المدن الخليجية نجد أن المدن الخليجية بتوسعها الكبير نتيجة استقبال إعداد كبيرة من النازحين أو المهاجرين من الأرياف والبوادي إليها ونتيجة لقدوم إعداد كبيرة من العمالة الوافدة إليها، تعيش مشكلات اجتماعية كثيرة، فهذه التحركات السكانية تقلب موازين كثافة السكان بين منطقة وأخرى، كما أن عمليات انصهار القادمين الجدد في المجتمع الأصلي لا تتم بصورة بسيطة دون قيام عدد من المشكلات اللاحقة، فضلاً عن أن هذه الحركات السكانية تفقد المجتمع طابع التوافق السكاني وتفقد العلاقات الاجتماعية بين إفراده طابع الاستقرار والوضوح بسبب تواصل الحركة وضعف فرص الالتقاء الاجتمـاعي أو انعدامه، وهذا ما دعا بعض علماء الاجتماع إلى القول: إن الهجرة المستمرة إلى المدن تفقد الأفراد عناصر الولاء للجماعة وتضعف شعورهم بالانتماء، وتحرمهم من فرص تكوين علاقات اجتماعية دائمة مستقرة( ). 
    ولاشك أن انعدام العلاقة الاجتماعية الحميمية بين أفراد مجتمع المدينة نتيجة لعدم الولاء وضعف الشعور بالانتماء لهذا المجتمع يطيح بمفهوم الأسرة والجيرة باعتبارهما مؤسستين مهمتين من مؤسسات الضبط الاجتماعي في المجتمع، فالعائلة الكبيرة المتماسكة التي يجمعها سقف واحد ومن حولها الأقارب والمعارف التي تحيط بالفرد في المجتمع الريفي أو البدوي أو مجتمعه الأصلي يكسبه بعض الثبات في القيم والمعايير السلوكية، ولكن ذلك يتلاشى في ظل المدينة الكبيرة المتوسعة التي تكثر فيها الأحياء الواسعة وتختلط المفاهيم بدرجة كبيرة، فذلك التغير السريع يذهب بالكثير من الحدود الضبطية للفرد، حيث يصبح دون اكتراث كبير بردود الجماعة المحيطة به تجاه أي سلوك منحرف يسلكه أو يقوم به
       إن تصور انعدام الضبطية الاجتماعية من قبل الأسرة والجيرة، كمسبب لتزايد مستوى الجريمة على أثر توسع المدن، يجب ألا يغِّيب عن البال أسباباً أخرى حقيقية مصاحبة للتوسع، مثل الصعوبات الإدارية والفنية والمالية الناشئة عن توسع المدينة وعجز الحكومات المحلية أو إدارات البلديات عن توفير الخدمات الأمنية لكامل مناطق المدينة، التي يصبح توسعها أسرع من قدرة أجهزة الإدارة المحلية أو المـركزية على ملاحقة هذا التوسـع، وهذا ما يمكن رؤيته بوضوح على أرض الواقع في المدن الخليجية التي تسارعت فيها وتيرة التحديث والتوسع بشكل مذهل نتج عنه بعض القصور في توفير خطط الأمن والحماية لجميع مناطق المدينة، هذا إذا أخذنا في الاعتبار الأحياء العشوائية التي تكون في أطراف المدينة والتي عادة ما تكون مصاحبة للنمو السريع لها، حيث تُظهر العديد من الدراسات الحضرية أن هذه الأحياء بؤر تصدير للإجرام والمجرمين في المدن الكبرى نتيجة للفقر والعوز وانعدامية الضبط الاجتماعي والأمن بشكل عام

 -5ضعف الهوية الوطنية أو فقدانها
   تعرف الوطنية في أبسط صورها بأنها: «الدافع الذي يؤدي إلى تماسك الأفراد وتوحدهم وإلى ولائهم للوطن وتقاليده والدفاع عنه، ويتكون الشعور بالوطنية منذ سنوات التنشئة الأولى ومن ارتباط الفرد في أول عهده بالبيئة المباشرة»( ). وهناك من يرى أن المشـاعر التي تتولد لدى الوطني قد لا تستند على التفكير بقدر ما تستند على استجابات العاطفة، ومن هنا فإن الهوية الوطنية يمكن النظر إليها من خلال هذا التعريف، الذي يربط الفرد بمجتمعه الصغير لينقله إلى الولاء للمجتمع الكبير، من خلال العاطفة بالدرجة الأولى، ومن خلال الولاء لتقاليده الثقافية الخاصة والموروث الشعبي، وقبل ذلك عقيدته ودينه، والمظاهر الاجتماعية السائدة في ذلك المجتمع الذي تكون فيه التنشئة الأولى، وهذا يُحتم أن يكون المجتمع المحيط بالطفل في غالبيته العظمى ممن يحمل هذا الشعور وهذه الثقافة وهذا الموروث
    وقبل الحديث عن تأثر الهوية الوطنية بالتوسع العمراني في المجتمع الخليجي لابد من الإشارة إلى حقيقة سكانية مفادها أن من أسباب التوسع العمراني في المدينة الخليجية، وكذلك من نتائج هذا التوسع - في الوقت نفسه - قدوم إعداد كبيرة جداً من العمالة الأجنبية من شتى بقاع الأرض، وبخاصة غير العربية وغير المسلمة، وهذه العملية ليست عملية ميكانيكية مجردة، بل هي عملية تفاعلية اجتماعية كبيرة جداً، حيث إن بعدها الاجتماعي هو الأكبر وهو الأخطر على المدى البعيد والعميق من بعدها الاقتصادي أو السياسي
      فتشير الإحصاءات إلى أرقام مخيفة لنسب العمالة الأجنبية، بخاصة غير العربية وغير المسلمة، فنجد أن نسبهم في بعض البلدان الخليجية قد وصلت إلى ما يسمى بالخطوط الحمراء من درجة الخطورة، ففي دراسة أعدها النائب الأول لرئيس المجلس الوطني الاتحادي في دولة الإمارات العربية المتحدة يذكر أن نسبة المواطنين بلغت مداها الأقل في تاريخ الإمارات العربية المتحدة، حيث بلغت (15.4%) مقابل (84.6%) من الوافدين، تمثل الجنسية الهندية منهم (42.5%) ونسبة العرب (13.8%) فقط، فدولة الإمارات تواجه تحدياً سافراً من قبل هذا الوجود البشري غير المنتمي والذي يمثل الغالبية العظمى، فهي «تستجلب الملايين دون تفكير فيما ستؤول إليه الأمور.. وهذا الانفتاح أعطى للآخر التحرك أفقياً وأتاح له حرية تأسيس منظومة جديدة تهدد العمق التاريخي لمجتمع الإمارات، فمن خلال هذه المنظومة فرض المهاجر وجوده ديمـوغرافياً واقتصادياً واجتماعياً وقانونياً وحتى سياسياً»( ). 
       ولا يقتصر الأمر على دولة الإمارات فقط بل الخليج بعمومه، حيث يمثل الوافدون ما نسبته (37%) تقريباً من سكان دول الخليج( ). وفي دولة الكويت يمثل غير الكويتيين ما نسبته (60%) تقريباً من حجم السكان البالغ قرابة المليونين والنصف في عام (2004م) ( ). ولتوضيح حجم الخطر يكفي أن نعرف أن في المملكة العربية السعودية عام (1425هـ/2004م) أكثر من ستة ملايين وافد، وهؤلاء يمثلون قرابة (27%) من جملة السكان( )، على الرغم من الإجراءات الصارمة جداً التي تتبعها حكومة المملكة العربية السعودية لتقليل نسبة الوافدين بخاصة من العمالة غير المهرة، وتضييق الفجوة في النسبة بين المواطن والوافد
      وتتعاظم خطورة هذه النسب في ظل المعاهدات والاتفاقيات الدولية الخاصة بالعمالة الأجنبية أو المهاجرة المقرة من الأمم المتحدة، والتي قد تلزم في بعض بنودها بالتوطين والحصول على الجنسية الوطنية مع مرور فترة من الزمن لوجودهم في أحد البلدان، وبالتالي تحول أهل البلد الأصلي إلى أقلية نتيجة للتوسع في استخدام تلك العمالـة والتركيز على جنسيـات محددة مما يتيح لها أن تكون أكثرية على حساب سـكان البلد الأصليـين، وهذا ما حدا بوزراء العمل في دول الخليج إلى اقتراح وضع مدة محددة لبقاء العمالة ومن ثُمَ يغادرون ليحضر غيرهم، حتى لا يصلوا إلى مرحلة المطالبة بالبقاء والحصول على الجنسية( ). 
   ولاشك أن السبب في تلك المعضلة هو تعظيم الجوانب الاقتصادية على حساب الجوانب الثقافية والاجتماعية للمجتمع، وهذا ما عمق مشكلة الهوية الوطنية لدى المواطن الخليجي، وجعل منها أزمة حقيقية تأخذ شكل كرة الثلج المتدحرجة من جبل عال، فالشعور بخطورة هذه العمالة على الهوية الوطنية ليست جديدة فقد كان هناك شيء من الجهد العلمي لإبراز هذه المشكلة على السطح العلمي والسياسي منذ أكثر من ربع قرن، حيث انعقدت ندوة بعنوان (العمالة الأجنبية في أقطار الخليج العربي ) عام (1403هـ/ 1983م) بدولة الكويت( ). ولكن السؤال المهم في هذا المجال: ماذا تمّ خلال هذه الفترة لعلاج هذا المشكلة الوطنية العويصة؟ 
     إن تعاظم نسب العمالة الوافدة قد يؤدي إلى اغتراب حقيقي بين أفراد المجتمع، وهذا يؤدي بدوره إلى ضعف الشعور بالانتماء ويقلل من الاعتزاز بالهوية الوطنية والدفاع عنها في وقت الأزمات السياسية، «فنحن الآن نتحدث عن تغير فعلي أصاب المدينة الخليجية، فقبل سنوات ليست ببعيدة كانت المدينة الخليجية تحوي خليطاً متجانساً يعرف بعضه بعضاً، وتسود فيها شكل العائلة الممتدة التي تعيش في جوار واحد، لكن الآن المدينة الخليجية لا تحمل صفاتها المميزة، صرنا نتحدث عن مدينة تحوي كانتونات أوروبية وعربية وهندية ومحلية، وفي المدن الإماراتية يتجسد الأمر بصورة أكبر حيث أصبح المواطن يعيش حالة اغتراب داخل مدينته؛ لأنه أصبح الأقلية داخل هذا المجتمع المدني»( ). 
    ويتزايد الخطر على الهوية الوطنية عندما يتصاحب مع ذلك الاهتمام باللغات الأجنبية عامة على حساب اللغة الأم للطفل، وهي اللغة العربية، كما هو ملاحظ في عدد من الدول الخليجية، من حيث إضفاء تلك الهالة التقديرية لمن يتعامل بها أو يتقنها؛ ومع أهمية اللغة الإنجليزية باعتبارها لغة العصر ولكن أثر ذلك على الأطفال بخاصة في تنشئتهم الأولى قد تصيب الهوية الوطنية لديهم في مقتل، سواء بقصد أم بغير قصد، من قبل المجتمع ومؤسساته الرسمية، وكذلك من قبل الوالدان. ومن المؤسف أن تأتي اللغة العربية في المرتبة الرابعة في إحدى الدول الخليجية المسلمة العربية، مما جعل معيار توظيف الأشخاص فيها هو مدى إتقانه للغـة الانجليزية حتى في القطاع الحكومي! ( ). 
    كما ساهم في تعزيز هذه الهوة الثقافية السماح بإنشاء العديد من المدارس الأجنبية في الدول الخليجية، فقد كانت هذه المدارس مقتصرة في بداياتها على أبناء تلك الجاليات فحسب، ولكن الأمر ازداد سواء عندما تم السماح حتى لأبناء الدولة نفسها بالالتحاق بهذه المدارس الأجنبية.. فالطفل خليجي ظاهراً ولكنه في الداخل يتمثل الثقافة التي تم تدريسه بـها في سنواته الأولى، وحتى إن حاولت بعض وزارات التربية في بعض الدول فرض مواد في اللغة العربية أو مواد الدين، لكن هذه المواد ليست إلا قطرة وسط بحر ثقافي يهدر من معين ثقافة البلد واللغة التي يُدرس بها هذا الطفل في بقية المواد، ويعيش في ظلالها طوال اليوم الدراسي، فما عسى أن تفعل ساعة تُخصص للغة العربية وساعة أخرى لمادة الدين أمام عشرات الساعات من الثقافة الأجنبية؟ 
      إن مما لا شك فيه أن أزمة الهوية الوطنية، التي تعيشها بعض المدن الخليجية ترجع لأسباب عدة، أهمها الانتقال السريع جداً من مجتمعات تقليدية بسيطة إلى مجتمعات منفتحة بشكل أكثر مما يتوقع بمراحل، وهذا الانفتاح تزامن مع تواصل مكثف فرضته الظروف الدولية والسياسية على المنطقة، وعزز من قوته التطور الهائل في وسائل الاتصالات، من قنوات إعلامية وإنترنت وتواصل حضاري يتمثل في السفر للخارج نتيجة للثراء السريع، الذي انهال على العديد من أفراد المجتمع إثر تزايد مداخيل الدول تبعاً لارتفاع أسعار البترول على المستوى العالمي، فكل هذه المعززات جعلت المواطن الخليجي في حالة صدمة حضارية مفاجئة لم يكن على استعداد للتعامل معها أو متغيراتها أو آثارها المتمثلـة فيما يتعلق بالهـوية الوطنية، كما أن الدول فيما يبدو لم تكن تتصور حجم النتائج التي سوف تتولد جراء هذه النقلة التي كانت مدعومة مادياً من قبل العديد من الحكومات الخليجية، التي كانت حريصة على تحقيق الرفاه الاجتماعي لمواطنيها دونما حساب للآثار الاجتماعية المترتبة على العملية التنموية المادية، وهو ما يظهر الآن في أحد صوره المتمثل في ضعف الهوية الوطنية أو تناقصها التدريجي
    ولعل من الشواهد المؤلمة في هذا المجال نتيجة إحدى الدراسات الإعلامية الرائدة، التي أجريت على مدى (15) سنة بشكل تتبعي على عينة من مشاهدي القنوات الفضائية من الجنسيين في مدينة الرياض، خلال ثلاث فترات، الفترة الأولى كانت عام (1415هـ/1995م) والثانية كانت في عام (1420هـ/200م) والثالثة في عام (1425هـ/2005م) ( )، حيث خرجت بنتائج مذهلة من حيث التطور النوعي في المشاهدات، وقد كان التطور في مشاهدة البرامج الدرامية الأجنبية في الفترات الثلاث على النحو الآتي: (30% - 44% - 57%) وهو تزايد واضح يحكي بجلاء نوعية التعلق المتنامي بالثقافة الأجنبية، فالمشاهدة المستمرة والمتزايدة، يستلزم منها الإعجاب بالمادة المشاهدة ومحتواها ابتداء، واستمرار التعلق في الغالب في محصلتها النهائية. ويقابل ذلك انخفاض كبير في نسبة مشاهدة البرامج الدينية. كما أظهرت الدراسة أن للقنوات الفضائية تأثيراتها المختلفة بشكل تراكمي تدريجي، ومن ذلك على سبيل المثال: الرغبة في العيش خارج أرض الوطن، وعدم الشعور بالرضا، وعدم القناعة بالمستوى المعيشي الحالي، وإن كانت الدراسة أظهرت أن أفراد العينة لديهم شعور بالخطر من تهديد القنوات الفضائية للعادات والتقاليد، ولكن الغريب أن الممارسة التي يتطلبها مدافعة هذا الخطر لم توجد بينهم في خطوات عملية، مثل التقليل من التعرض لهذه القنوات أو البرامج، بل الأمر في ازدياد، لدرجة أن القناة التي احتلت المركز الأول في تفضيل أفراد العينة لها كان بسبب تخصصها في بث أفلاماً أمريكية جديدة. كما أظهرت الدراسة انتشار مشاهدة القنوات الفضائية الأجنبية بين الشباب حتى أولئك الذين لا يتقنون اللغات الأجنبية، وأن مشاهدة القنوات المحلية أو العربية في هبوط مستمر وبشكل ملحوظ، ولا شك أن ذلك قد ينطوي على تعلق بالثقافة الغربية بشكل عام

 -6العزلة الاجتماعية لأفراد الأسرة
       لابد من الإشارة إلى صعوبة تحديد درجة معينة يمكن أن نقول معها: إن هذه العائلة تعيش في وضع يمكن وصفه بأنه عزلة اجتماعية بين أفرادها، وذلك استناداً إلى عدد مرات التقاء أفرادها وطبيعة هذا الالتقاء ودرجة تكراره في الأسبوع على سبيل المثال، ولكن يمكن من خلال استقراء شبكة العلاقات الاجتماعية في الأسرة الخليجية خلال العقود السابقة أن نصل إلى تحديد نسبي يوضح إن كان ثمة عزلة اجتمـاعية تعيشها الأسرة بين أفرادها أم لا، وعلى كل حال فإن المسوح الاجتماعية تظهر تزايد الميل نحو الانفرادية في الممارسات الحياتية المعاصرة، لاعتبارات عدة ولطبيعة الحياة العصرية في المدن، والدور الأكبر هو لتصميم المباني وتخطيط المدن، فالمتتبع لعمليات التحديث والتغير الاجتماعي في المجتمع يلحظ عدداً من الانعكاسات السلبية على الواقع المحلي، فقد تعرضت الأسرة لآثار عكسية، حيث لم يواكب حركة التنمية الاقتصادية اهتمام كاف بسبل الرعاية والتنشئة الاجتماعية التي تضمن التكيف الصحيح مع معطيات التنمية( ). 
    وتتضح الصورة أكثر في الممارسات الترويحية، وذلك عائد إلى عدم وجود مساحات كافية تساعد على إيجاد بيئة مكانية تعمل على تحقيق الخُلطة الاجتماعية لأفراد الأسرة مع قرنائهم في العمر، وبخاصة أن الكثير من الممارسات الترويحية التي كانت سائدة قديماً، قبل ذلك التوسع العمراني الكبير في المدينة الخليجية، يغلب عليها الابتعاد عن النـزعة الفردية بحكم طبيعة المنشط ذاته، لذا نجد أن معظم المناشط الترويحية تتم بشكل جماعي تشاركي بين أفراد المجتمع، وبدرجة مميزة لدى الأطفال حيث الانفتاح كان أكبر وأوسع
       إن وجود الفراغات وشبه الساحات في الأحياء وبين المنازل وإن كانت صغيرة إلا أنها أماكن للعب أطفال الحي الواحد، الذين يزاولون فيها ألعاباً جماعية تقليدية منتظمة؛ وتعمل هذه الفراغات على تكوين بيئات احتكاك اجتماعية رائعة تؤكد وظيفة من وظائف الترويح وهي إشباع الحاجات الاجتماعية للفرد، فمن المعلوم أن معظم الأنشطة الترويحية تتم بشكل جماعي، وهذا يساعد الفرد - حين ممارستها - على اكتساب الروح الجماعية والتعاون والانسـجام والقـدرة على التـكيف مع الآخرين، كما تُكسب الفرد مكانة اجتماعية مقبولة لنفسه، وذلك من خلال تقبل نظم وقواعد الجماعة التي يشاركها في المناشط الترويحية، وتؤدي تلك الفعاليات الجماعية في أثناء ممارسة الترويح إلى تكوين علاقات اجتماعية ناجحة مع الآخرين وإلى نمو اجتماعي متوازن
       إن هذه المناشط الترويحية تنمي السلوك الجماعي لدى الفرد من خلال تضامنه مع الجماعة وبالتالي تزيد من اتحاد الفرد والجماعة وتكاملها مع المجتمع( ). إلا أن وضع المدينة الخليجية الآن بتلك المباني الشاهقة ذوات الأدوار المتعددة لا يمكن أن توفر تلك الفراغات المكانية، لممارسة الترويح، بخاصة للأطفال، مما يعزز من الروح الانفرادية لديهم، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل قد يمتد إلى العزلة الاجتماعية مع مرور الوقت مما يضعف من الروح الجماعية لدى الطفل ويقلل من اكتسابه للمبادرات الجماعية التي يخدم فيها المجتمع، وبخاصة مع تزايد التركيز في الوسائل الترويحية المتاحة الآن على البعد الفردي في ممارستها مثل أجهزة الألعاب الإلكترونية والإنترنت والتلفزيون، التي تمثل قمة الترويح الفردي، الاستقبالي، السلبي المحض، ويعزز هذه المخاوف تزايد أوقات الفراغ لدى جميع أفراد الأسرة بحكم طبيعة العصر ومؤثرات أخرى ليس المجال هنا للحديث عنها، ولكنها تتعاضد لتكون نذير خطر على البعد الجماعي والروح الجماعية لأفراد الأسرة المعاصرة في المدينة الخليجية الآن

 -7ارتفاع نسب الطلاق في المجتمع
     تشير العديد من الدراسات الاجتماعية إلى تزايد مطرد في المشكلات الزوجية والأسرية وبالتالي تزايد نسب الطلاق في المجتمع الخليجي بشكل عام مع وجود تفاوت بين دول الخليج ذاتها في نسب الطلاق، فالإحصاءات المحلية تظهر ارتفاع النسـب في المناطـق الحضـرية أكثر منها في الأرياف أو البوادي، فعلى سبيل المثال تزايدت الحالات، التي استقبلتها وحدة الإرشاد الاجتماعي التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية في المملكة العربية السعودية - خلال الأعوام الثلاثة (1423هـ - 1424 - 1425هـ) فبلغت (79% - 134% - 154%) على التوالي( )، أما في إدارة الاستشـارات الأسرية بوزارة العدل بدولة الكويت، فقـد تواصل تزايد استقبال الحالات في الأعوام (1996م، 2000م، 2004م) على النحو الآتـي( ): (2765 حـالة، 3931 حالة، 4335حالة) عـلى التوالـي، كما يوضح الجـدول التالي نسب الطـلاق في بعـض دول الخليج وإن كان يظهر ثـمة تناقص نسبـي في الأعوام المتتالية، ولكن النسـبة بشكل عام تُعدُ مرتفعة

جدول رقم  3 
تطور معدلات الطلاق في دول الخليج العربي( ) 
الدولة % لحالات الطلاق مقارنة بصكوك الزواج للأعوام  2004م 2005م 2006م 
المملكة العربية السعودية 23 % 21 % 21
دولة الكويت 39 % 37 % 34
الإمارات العربية المتحدة 28 % 26 % 22
مملكة البحرين 21 % 23 % 24
دولة قطر 32 % 24 % 27
سلطنة عمان لا تتوفر أية بيانات إحصائية عنها حسب المرجع 
المتوسط لجميع الدول 28.6% 26.2% 25.6

    ولاشك أن تلك الخـلافات الأسرية، التي تلقتها مراكز الاستشارات أو إدارة الاستشارات الأسرية في بعض دول الخليج العربي، وكذلك كثرة نسب الطلاق نتيجة عدة عوامل اجتماعية ونفسية واقتصادية، منها ما يرجع لشخصية الفرد صاحب المشكلة ومنها ما يرجع لازدياد ضغوط الحياة دخل المدينة ذاتها، ومرد ذلك أن الأسرة الخليجية في المدينة تعيش في شكل الأسرة النووية الصغيرة المنفردة في السكن عن أسرتها الكبيرة، فضلاً عن ضغوط المدينة الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي تزيد من توتر الفرد في الأسرة، والدراسات تظهر أن تلك النوعية من الأسر المنفردة أو ما يسمى بالأسر النووية المنفصلة عن حرم الأسرة العائلية الكبيرة تمر بأزمات عاطفية، واجتماعية، واقتصادية أكثر بكثير من مثيلاتها من الأسر التي تعيش ضمن العائلة الممتدة، وسبب ذلك أنها قليلة التجربة ولا تملك النضج الكافي لمعالجة الأزمات والأحداث التي تتعرض لها، فضلاً عن تناقص الدعم الاجتماعي والنفسي أو انعدامه بالكلية في ظل الانفراد عن الأسرة الكبيرة الممتدة( ). ولا يعني هذا أن الأسرة النووية ليس لهـا إيجابيات، بل كما هو الحال في أي شكل من أشكال الوضع الاجتماعي، نجد للأسرة النووية جـوانب إيجابية وأخرى سلبية، وكذلك الأسرة الممتدة. وعلى كل حال يمكن القول: إن ظاهرة الطلاق ظاهرة مدنية، أي مرتبطة بالمدينة أكثر منها ظاهرة ريفية أو قروية
    وختاماً لكل ما سبق فإنه يمكن القول: إن تراكم مثل هذه المشكلات الاجتماعية جراء توسع المدن، وتواليها جعل الهوة تزداد اتساعاً بين المؤسسات الاجتماعية وفئات المجتمع، وبخاصة فئة الشباب التي تمثل أكثر من نصف المجتمع الخليجي في وقتنا المعاصر( )، وهذا ما يؤكد أهمية سرعة تدارك مثل هذه المشكلات وبخاصة الرئيسة منها التي تمثل حجر الزاوية، وقد تكون المفتاح الأساس لتخفيف بعضها الآخر، وهي موضوع ضعف العلاقات الاجتماعية، سواء بين الجيرة أم بين الأقارب وذوي الأرحام

 -8تنامي ظاهرة الخدم والمربيات الأجنبيات في المنازل الخليجية
    إن من حكمة الله عز وجل أن فاوت بين خلقه في الرزق والقدرات، فلا يوجد من هو مكتفٍ بنفسه عن الآخرين، ومن أجل هذا التفاوت بين البشر أصبح بعضهم في حاجة إلى ما هو مفقود عنده مما هو موجود عند غيره، فالفقير في حاجة إلى تحصيل المال الذي بوساطته يحصل على متطلبات حياته، والغني في حاجة إلى خدمات غيره.. والضعيف في حاجة إلى غيره ممن يساعده في القيام بما يعجز عنه لأي سبب من الأسباب، وهذا ما يجعل الإنسان في حاجة إلى غيره، ومن هنا كان استخدام الإنسان للإنسان أمراً ضرورياً لوجود هذا التفاوت بين الناس، وعملية الإخدام والخدمة مهنة قديمة جداً، وقد عرفتها غالبية المجتمعات الإنسانية واعتبرتها ضرورة اجتماعية واقتصادية، وإن كانت تبدلت في بعض صورها وعقودها، وقد أصبحت عملية الإخدام منظمة بشكل يتناسب والتطور الإداري في العالم، وبخاصة في المجتمعات التي حباها الله بالثروات كما في الدول الخليجية، فكان منها استقدام الأعداد الكبيرة جداً من العمالة المنـزلية إلى تلك الدول بمختلف أنواعهم (خادمات، مربيات، طباخات، سائقين، حُراس، مزارعين). بل وصل الأمر إلى أن أصبحت العمالة المنـزلية جزءاً من تكوين معظم الأسر في المجتمع، حيث انتشرت وصارت المساكن تُصمم وتُبنى في كثير من الأحيان وفيها غُرف مخصصة للخادمة والسائق( ). 
وهذه الظاهرة تتزايد بطبيعة الحال، في المدن دون الريف أو القرى، وهي ظاهرة فرضتها الحياة المدنية والانشغالات الوظيفية لأرباب الأسر من جانب، ودخول المرأة بخاصة في سوق العمل في المدينة من جانب آخر، وهذا ما تظهره الدراسات الميدانية في بعض المدن الخليجية، حيث كان هناك ارتباط مباشر بين خروج المرأة للعمل وانتشار ظاهرة العمالة المنـزلية( )، فالواقع الاقتصادي للأسرة في المدينة قد يتطلب انشغال الأبوين بشكل شبه دائم ، فكان لا بد من وجود هذه الخادمة أو المربية في المنـزل، فكان أن تسلمت هذه العمالة جزءاً من المسؤولية الأسرية بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر. بل أصبحت تنافس الأسرة في بعض جوانب التنشئة، «فنتيجة لجنوح الوالدين إلى حياة الدعة والترف والاتكالية على العمالة الأجنبية ذات المستوى المتدني والمتوفرة بكثرة بدأ الأهل يديرون ظهورهم للتنشئة وحل محلهم في ذلك الخدم»( )، فبرز هنا ظاهرة (الخادمة المربية) في الوقت نفسه، فأساس استقدامها هو للخدمة المنـزلية، ولكنها تتحول مع مرور الوقت وتهاون الوالدين إلى مربية للأبناء، ومما يؤسف له أن هذا هو واقع الحال لدى قطاع كبير من الأسر في المدينة الخليجية، شاءت الأسرة أم أبت، ومكمن الخطورة هنا هو أن هؤلاء الخدم حين انتقلوا إلى المجتمع لم ينتقلوا بأشخاصهم فحسب، لكنهم نقلوا معهم عادات مجتمعاتهم وتقاليده وثقافته، التي هي مغايرة تماماً للقيم والثقافة الإسلامية والعادات العربية الخليجية السائدة في المجتمع
     كما أدت «مهارة وصبر العديد من الخادمات إلى سيطرة شبه كاملة على أعمال المنـزل.. ولقد أدى ذلك إلى أن تفرض الخادمات أذواقهن في الطعام وترتيب المنـزل، وقد يكون أثرهن أبلغ وأعمق فيما هو غير منظور أو مرئي أو ما يتعلق بالأمور التي تأخذ وقتاً طويلاً للظهور مثل تربية الأطفال وتنشئتهم»( )، ولهذا الوضع أثر كبير على مختلف أفراد الأسرة والمجتمع بشكل عام سواء في بعده الشرعي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، الذي هو مدار الحديث هنا
      إن عملية الإخدام ليست بجديدة على البشرية، كما ذُكر آنفاً، وكان الخادم أو الخادمة في السابق - في الغالب الأعم - من البيئة المحلية ومن الوسط الثقافي نفسه وتتحدث لغة المجتمع نفسه. ولكن الوضع الحالي للخدم في الأسرة في المدينة الخليجية مختلف بشكل كبير جداً عن السابق، فالخادمة أو المربية أو الطباخة أو السائق بعيدين كل البعد عن المجتمع الخليجي، فاللغة مختلفة تماماً، والديانة كذلك، حيث توجد أعداد كبيرة من الديانات المختلفة ممن تم استقدامهم للخدمة المنـزلية، فضلاً عن التباين في المستوى الثقافي العام للطرفين، ففي إحدى الدراسات الميدانية على عدد من الدول الخليجية تبين أن ترتيب الديانة للمربيات في البيت الخليجي كان على النحو الآتي: الديانة المسيحية أولاً، ثم البوذية، ثم الهندوسية، ورابعاً تأتي الديانة الإسلامية( ). ولئن كانت الدراسة قديمة إلى حد ما حيث مضى عليها قرابة العشرين عاماً، لكنها لا تخلو من دلالات لا يمكن التغافل عنها؛ وفي دراسة أحدث على المجتمع القطري أظهرت الدراسة أن (68.5 %) من الخادمات يعتنقن غير الإسـلام( ). ومن هنا فـكل ذلك منذر بالخطر الاجتمـاعي لما تتصف به هذه العمالة من تغلغل وسط الأسرة بشكل عميق وطويل الأثر، هذا إذا سلمنا من الأثر العقدي على الطفل جراء رؤيته لمربيته وهي تمارس شعائر دينية خاصة بها.. ألا يمكن أن يتعلق بها، وبخاصة إن كانت ممن تحسن لهذا الطفل بشكل مُحبب له يجعله يتعلق بها نفسياً ووجدانياً؟
      إن وجه الخطورة الآخر من الناحية الاجتماعية والثقافية يتمثل في تعلم الطفل لغة هجينة جراء مكثه في أحضان الخادمة أو المربية فترة طويلة، فلقد وجد في إحدى الدراسات أن (78%) من الأطفال في المجتمع القطري يتفاهمون مع الخادمة بلغة الخادمة الأصلية، أي أن التكيف يسير في اتجاه لغة الخادمة أكثر مما يسير في اتجاه لغة الطفل( ). والنتائج نفسها أظهرتها ثلاث دراسات على المجتمع الكويتي( ). كما أظهرت دراسة حديثة أجريت في المملكة العربية السعودية الأثر السيئ على لغة الطفل وضعف الكلمات العربية فيها مما أثر على تحصيله الدراسي( ). 
    وبالجملة، فإن وجود الخادمة في البيت الخليجي بهذا الوضع المتساهل، وبهذا الشكل غير المنضبط، وممارستها للتنشئة الاجتماعية للطفل تؤدي إلى مشاكل نفسية عميقة لدى الطفل، وذلك وفق نتائج إحدى الدراسات الميدانية في مدينة جدة، فهي تؤدي بالأطفال إلى «إعاقة نموهم الذاتي، وميلهم إلى العزلة والانطواء، وجعلهم غير متوافقين اجتماعياً، فضلاً عن نشأتهم الاتكالية وعدم تقديرهم المسؤولية لاعتيادهم التساهل وتلبية كافة احتياجاتهم من قبل الخادمات»( ). 
      ولقد أدى وجود الخادمة في المنـزل إلى تنامي ظاهرة اجتماعية أخرى لها أبعادها السلبية كذلك، فقد أظهرت إحدى الدراسات الميدانية في مدينة جدة أن توافر وقت فراغ لدى ربة المنـزل أوجد لها إمكانية صرف ذلك الوقت في ممارسات ترفيه قد لا تكون بحاجة ماسة لها مثل تزايد فترات التسوق وحضور حفلات أو خلافه، مما يزيد بشكل غير مباشر من ابتعاد الأم عن المنـزل والأبناء بصورة أو بأخرى( ). 
     وإضـافة إلى ما ذكر فلا يمكن إغفال جانب آخر، له بعده الشرعي، ولا يخلو من بعد اجتماعي مؤثر في المستقبل، وهو أن بعض الأسر تتساهل في عملية الاختلاط بالخادمات، أو الخلوة والانبساط معهم، فقد نجد من الرجال من يخلو بخادمته الأجيرة، والمرأة قد تخلو بخادمها أو سائقها، بل قد تبرز محاسنها أمامه، وكذلك الأمر بالنسبـة للأولاد والبنات البالغين، وهذا مما لا يجوز شرعاً، فقد حذر المصطفى صلى الله عليه وسلم من الخلوة، واعتبرها بداية الشر؛ لأن راعيها الشيطان، فيقول صلى الله عليه وسلم : «أَلا لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ»( )، ولاشك أن التعامل الشرعي في تحديد العلاقة المكانية بين الخادم والمخدوم، يجب أن يكون له اعتبار كبير في الواقع الاجتماعي للتعامل مع الخدم بشكل عام
أما أثر تلك العمالة على المجتمع بشكل عام فلا يخفى، فهي تمارس العديد من عاداتها أو من معتقداتها في وسط المجتمع الذي تعيش فيه وكأنه شيء طبعي، ومن ذلك: ممارسة شعائرها الدينية، شرب الخمور، أكل لحم الخنـزير، الاختلاط، الممارسات الجنسية ما قبل الزواج، استقبال الأصدقاء الذكور من قبل الخـادمات في منازل كفلائهن، فكل هـذه الممارسـات لا يمكن تجاهل أثرها، وهي تمارس بشكل علني، على الوضع الاجتماعي في المجتمع الخليجي؛ كما لا يمكن غض الطرف عن خطورة استسهالها من قبل المسلمين جراء التعود عليها، لذا كان من الحكمة التمسك بما قرره الإسلام وأكد أهميته من الحرص على عدم المجاهرة بالمعصية، حتى لا تتعودها الأنفس وتتجرأ عليها
      وبالجملة، فإن واقع التوسع العمراني فرض اسـتقدام كل هذه العمالة بما نتج عنها من انعكاسات سلبية اجتماعية وعقدية على المجتمع الخليجي، فهي عملية مترابطة، تبدأ بالتأثير على الطفل ثم تنتقل إلى الزوجين، ثم المجتمع بأسره في حلقات مترابطة متداخلة مع بعضها بعضاً

 -9شيوع النزعة الاستهلاكية بين أفراد المجتمع
     وهذه الظاهرة تتزايد بين سكان المدن عادة، والشباب بشكل خاص، وهي ظاهرة تزامنت مع الانفتاح المجتمعي في المدينة، ونتيجـة طبعية للمغريات المادية، والتطور الكبير في فنون الدعاية والإعلان عن منتجات ليس بالضرورة أن يكون الفرد بحاجة لها، وتتزايد هذه الظاهرة في ظل توفر المال في أيدي الناس في فترات معينة، وبشكل كبير، وهو ما حدث تماماً في الدول الخليجية نتيجة لتزايد دخول أفراد المجتمع جراء ارتفاع أسعار البترول بشكل كبير ومفاجئ، فكانت السيولة متوافرة، وكانت طفرة اقتصادية نقلت المجتمعات الخليجية من مجتمعات عاملة منتجة مكتفية إلى حد ما بما تنتجه إلى مجتمعات تسـودها القيم الاستـهلاكية المحمومة الرافضة للعمل اليدوي؛ ومن مجتـمعات كانت تعيش حـد الكفاف إلى مجتمعـات تنعم بثروة طـائلـة لم تبـذل جهداً كبيراً للحصول عليها. وفي الطرف الآخر أصحاب الأعمال، الذين يعملون في سباق محموم لإغراء الناس بالشـراء حتى لو لم تكن ثمة حاجة حقيقية، ولا أدل على ذلك من رؤية مدى انتشار الأسـواق والمجمعات التجارية بشـكل غير طبيـعي في المدن الخليجية، ولن يكون من الصعوبة بمكان أن نرى ظاهرة تنامي الأسواق وكثرتها الطاغية جداً في بعض المدن الخليجية مثل: مدينة الرياض، أو جدة، أو دبي، على سبيل المثال
     فهـذه الظـاهرة نتيجة طبعية لإقبال الناس على الشـراء المحموم حتى لو لم تكن هناك حاجة حقيقية؛ وتزايد هذه الأسواق والتفنن في طريقة عرضها ومحتوياتها تجعل النـزعة الاستهلاكية في تزايد، ويستمر الدوران في حلقة لا تنتهي ولكن مؤداها المؤكد هو تحويل سكان هذه المدن وجعلهم يعيشون في مضمار تسابق للشراء والاقتناء في صورة سلبية من صور النـزعة الاستهلاكية المذمومة. ومما يؤسف له «أن تحسن الأوضاع الاقتصادية للفرد والمجتمع في الدول الخليجية لم يعكس أثره الاجتماعي على المجتمع إيجابياً، بل أكثر ما يظهر وكأن المجتمع لم يتطور اجتماعياً، بالمفهوم الموضوعي للاجتماع، وإذا ما استمر هذا التطور السلبي فإنه أول ما يعكس آثاره السلبية أيضاً - في المستقبل - على النواحي التربوية والأخلاقية والدينية وبالتالي الاقتصادية والسياسية»( ). 
    إن هذه الظاهرة لا يمكن أن توجد في غير المدن لسبب رئيس هو أن تزايد السكان في المدينة يغري أرباب العمل بالتوسع في العرض والتنميق فيه، ويصاحبه إقبال الناس على الشراء تتبعاً لعادات اجتماعية قد تفرضها ظروف العيش في المدينة ومسايرة أهلها لبعضهم بعضاً، وإن ظاهرياً، وهذا في الغالب لا يظهر في التجمعات السكانية خارج المدن الكبرى، وحتى إن وجد خارجها فلا يمكن أن يكون بالشكل الكبير الذي يبدو عليه في المدينة، ومن هنا يمكن النظر إلى هذه الظاهرة، وهي تزايد النـزعة الاستهلاكية لدى سكان المدن، باعتبارها نتيجة من نتاج التوسع الكبير فيها، ومحصلة متوقعة جراء الثقافة الاستهلاكية التي تتصاحب مع الثقافة السائدة لدى سكان المدينة
    كما لا يمكن إغفال جانب آخر مسبب لتلك النـزعة الاستهلاكية لدى سكان المدن، ألا وهو كون التسوق أصبح جزءاً من الترفيه المشترك للعائلة، وقد يكون هو المتاح في ظل الضيق الترويحي الذي تعيشه المدينة الخليجية، فالدوران في الأسواق يبدأ بغير حاجة، لمجرد الترفيه فحسب، ولكن جودة العرض وحسن الترتيب يغري أحياناً كثيرة بالإقبال وشراء الإنسان ما ليس له به حاجة( ). ومكمن الخطورة هنا هو اصطحاب الوالدين أبناءهم الصغار معهم، فيشاهد هؤلاء الأبناء أنموذجاً صارخاً لسطوة الثقافة الاستهلاكية على الوالدين، فهما يقومان بشراء كميات هائلة من السلع. ومن المشاهد المألوفة حالياً أن العديد من الأسواق والمجمعات يوفر عربات صغيرة مخصصة لتسوق الأطفال، فنجد الكثير منهم يدفعون أمامهم العربات ويمارسون هواية الشراء على غرار آبائهم. ولاشك أن ذلك يؤثر بالسلب في التنشئة الاجتماعية لهؤلاء الصغار، الذين يدربون على أن يصبحوا كائنات استهلاكية في المستقبل
       إن من المفارقات الغريبة ما أشار إليه استطلاع إلكتروني أجرته «إيه سي نيلسن»، المزود الأول لبيانات التسويق في العالم، وشمل نحو ( 23) ألف مستهلك في (42) دولة حول العالم، تحت عنوان «ثقة المستهلك»، وأظهر أن (30%) من المستهلكين في دولة الإمارات العربية المتحدة يذهبون للتسوق بغرض «الترفيه» مرة واحدة أسبوعياً على الأقل، ليحتلوا بذلك المرتبة الثانية على مستوى العالم بعد هونغ كونغ التي بلغت النسبة فيها (36%).
    إن مما يزيد من تنامي النـزعة الاستهلاكية ويؤكدها في الوقت نفسه هو تزايد ظاهرة الاقتراض من البنوك لسد جوانب كمالية في حياة الأسرة، فعلى سبيل المثال تزايدت قيمة القروض الاستهلاكية للأفراد من البنوك في المملكة العربية السعودية من (73) مليار ريال عام 1423هـ/2003م إلى (182) مليار ريال في عام 1427هـ/2007م( ). وهي قفزة شـديدة، مما يؤكد أن القروض الشخصية الاستهلاكية وصلت إلى مستويات حرجة تتطلب ضرورة تشديد القيود على منحها، ووضع معايير وضوابط جديدة لتحديد أجل وقيمة هذه القروض وبخاصة أن بعض البنوك الخليجية أصبحت تقدم قروضاً تعادل 50 ضعف الراتب، فهي التي تفتح الباب على مصراعيه أمام عملاء الاقتراض من خلال حملات دعائية لا تهدأ وتسهيلات مغرية تقدمها لاستقطاب أكبر قدر ممكن من العملاء لتصدير أكبر حجم ممكن من القروض الشخصية مما يغري الكثير من الناس ويوقعهم في حومة الاستهلاك المذموم الذي يصل بهم إلى حد الإسراف المنهي عنه شرعاً، وبخاصة عندما تكون القروض للجوانب الكمالية البحتة أو لمجرد تقليد الآخرين في السفر إلى الخارج في أشهر الصيف
     إن ثقافة الاستهلاك باتت تنخر في عظام مجتمع المدينة الخليجية، وتهدد أمنه واستقلاله وهويته، بل وتلقي به في مصيدة التبعية الاقتصادية والثقافية، مما يهدد الذات والوجود والهوية الوطنية، وبخاصة أن الظاهرة لم تقف عند حد معين، وإنما امتدت إلى أنماط سلوكية أخرى في الحياة اليومية للمواطن، مما جعلها تشكل ثقافة حياتية يومية بكل ما تحمله من آثار وتداعيات خطيرة وذات تأثير واضح في عقلية واتجاهات الأفراد والجماعات، ومن ثم تشكل تهديداً خطيراً للبناء والكيان الاجتماعي. ومما يزيد من عمق تلك المشكلة هو أن معظم المواد والأدوات والوسائل وحتى الوجبات الجاهزة، والأجهزة الاستهلاكية تأتي من الخارج، وبكل ما تنطوي عليه من أنماط وقيم ثقافية في معظمها غربية، وهذا يعني تكريس التبعية بكل صورها
     ومن الغرائب في هذا الشأن أن هذه الظاهرة «ظاهرة النـزعة الاستهلاكية» استرعت انتباه عالم الاجتماع المسلم (ابن خلدون) في مقدمته، بل قد يكون هو من أول من أشار إليها من بين علماء الاجتماع، وإن كان يطلق عليها اسماً آخر وهو «التفنن في الترف»، بل يجعل هذه الظاهرة شبه متلازمة مع ظاهرة التحضر أو الحضارة كما يسميها، فيقول
«والحضارة كما علمت هي التفنن في الترف واستجادة أحواله والكلف بالصنائع التي تُؤَنّقُ من أصنافه وسائر فنونه من الصنائع المهيأة للمطابخ والملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية، ولسائر أحوال المنـزل؛ وللتأنُّق في كل واحد من هذه صنائع كثيرة لا يُحتاج إليها عند البداوة وعدم التأنُّق فيها. وإذا بلغ التأنُّق في هذه الأحوال المنـزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات، فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها. أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها، وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤونات التي تطالب بها العوائد ويُعجز ويُنكبُ عن الوفاء بها»( ). كما يُشير في موضع آخر من مقدمته إلى أن أهل البادية يعجزون عن سكنى المدن؛ لأن المصر الكثير العمران يكثر ترفه.. وتكثر حـاجات ساكنه من أجل الترف، وتُعتاد تلك الحاجات لما يدعو إليها فتنقلب ضرورات. ( )

رابعاً: العلاقات الاجتماعية في ظل التوسع العمراني 

     قد يكون من المناسب قبل الحديث عن العلاقات الاجتماعية في ظل التوسع العمراني للمدينة الخليجية التعرف على إحدى النظريات الحديثة، التي تحاول أن تفسر تطور المدن والأثر الاجتماعي المترتب جراء هذا التوسع، وهي نظرية (ليوكلاسن) وهي تكاد تفسر وبشكل كبير واقع المدن الخليجية والتطور المنظور لها والمتوقع أن تنتهي إليه عمرانياً واجتماعياً، فعلى الرغم من ظهور العديد من النظريات التي تحاول أن تفسر نشأة المدن ونموها إلا أن نظرية (ليوكلاسن) تُعْدُ الأحدث بينها، والأقرب إلى حد كبير لتفسير نمو المدينة الخليجية وتمددها وتوسعها الرأسي والأفقي.. والنظرية تقسم نمو المدن ونشأتها إلى أربع مراحل( ): 

 -1مرحلة التحضر: حيث يؤدي التوسع الصناعي إلى هجرة سكان الريف إلى المدن لأسباب عدة ومتداخلة، وبالتالي تزايد عدد سكان المدن بشكل مطرد، يقابله في الغالب تناقص في عدد سكان الريف

 -2مرحلة النـزوح إلى ضواحي المدن: وهي تحدث عندما تنمو دخول الأفراد بشكل ملحوظ نتيجة لزيادة أجر العمل، ولكن على الرغم من زيادة الدخول فإن الحياة في المدينة تبدأ في فقدان جاذبيتها لتعقد المعيشة فيها نتيجة ارتفاع أسعار السكن وغلاء أسعار السلع والخدمات والأراضي واتساع حجم المدينة، وهنا يلجأ أصحاب الدخول العالية والمتوسطة إلى النـزوح إلى الضواحي، ويصبح وسط المدينة مقصوراً على النشاط الاقتصادي وإدارة الأعمال والبنوك التجارية وإن تخلل ذلك سكن بعض ذوي الدخول المحدودة في مبان سبق استئجارها منذ فترة طويلة بإيجارات زهيدة مما يدعو الملاك إلى إهمال صيانتها، وقد تتحول إلى مخازن ومستودعات، وأوكار للعمالة المخالفة، أو يُتجه في النهاية إلى هدمها( )، حتى تتاح الفرصة للملاك لتحويلها إلى مكاتب أو متاجر أو غيرها من مستلزمات النشاط الاقتصادي التي تدر عليهم قيمة إيجارات مجزية، ويتصاحب مع ذلك زيادة في النـزوح إلى الضواحي مما يؤدي إلى ارتفاع أجور المساكن وأسعار الأراضي بهذه الضواحي وتبدأ بعض مشكلات المدن في الظهور، ثُمَّ يتبع ذلك نزوح جديد من هذه الضواحي إلى المدن الصغيرة القريبة والمحيطة بالمدن وهكذا، ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح في العديد من المدن الخليجية مثل: مدينة الرياض، ومدينة الكويت، ومدينة جدة، ودبي

 -3مرحلة التفكك الحضري: وهي تابعة للمرحلة السابقة ونتيجة لها، حيث يبدأ سكان المدن في التناقص، ولم تعد هناك أهمية لقرب مكان السكن من محل العمل، ويساعد على ذلك شق الطرق وتعبيدها والتطور في وسائل المواصلات وانتشار مرافق النقل العام والنمو النسبي للمدن المتوسطة الحجم والصغيرة وبعض القرى

 -4مرحلة إعـادة التحضر: وهي مرحلة تالية لما سبقها وتظهر نتيجة لما يأتي
 - التدهور الشديد في حالة السكن وسط المدينة، حيث لم تعْد المباني القديمة تتمشى مع المطالب السكنية الحديثة
 - ظهور تجمعات سـكنية كبيرة في بنايات ضخمة يسكنها أشخاص لا تربطهم صلات اجتماعية ومتفاوتون في الثقافة والأذواق والطبائع، ويمكن ملاحظة ذلك في التنافس المحموم الآن في بعض المدن الخليجية لبناء الأبراج والبنايات الشاهقة وناطحات السحاب، كما في دبي خاصة
 - هدم المباني القديمة والأثرية وإحلال بنايات حديثة مكانها مما يفقد المدينة طابعها التاريخي والثقافي المميز لها
ولا شك أنه لا توجد حدود فاصلة وحدية بين المراحل الأربع، بل هي متداخلة بشكل كبير يتباين بين مدينة وأخرى وفق مراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي الأخرى. وعلى كل حال فإنه من المؤكد أن المدن الخليجية ستشهد المزيد من التوسع، حيث لا يتوقع أن يكون هناك توقف في التوسع العمراني في المدينة الخليجية، سواء كان هذا التوسع رأسياً، كما تشير له نظرية (ليوكلاسن) السابق ذكرها، أو أفقياً كما هو في بعض المدن الخليجية الأخرى، ويمكن تصور العلاقات الاجتماعية في كلا الشكلين، أي حين التوسع الرأسي والذي أبرزه فقدان العلاقات الاجتماعية، أو التوسع الأفقي التمددي وله مشاكله الاجتماعية الأخرى، التي سيتمّ الحديث عنها
    فواقع العلاقات الاجتماعية في ظل المزيد من التوسع في المدينة الخليجية يتوقع أن يأخذ المشهد الآتي
 - فقدان العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأسرة والمجتمع بشكل عام
         ويمكن أن يعبر عنه في أبرز مظاهره بضعف العلاقات بين سكان المدينة بشكل عام، وبين الجيران بشكل خاص، وهذا هو المشهد الأبرز الذي يمكن أن يلمسه كل راصد للظواهر الاجتماعية في أي مجتمع مدني، وهذه ما تنبه له ابن خلدون قبل ستة قرون حيث أشار إلى أن المدن تطبع سكانها بطابع خاص، وتؤثر في ثقافتهم ونشاطاتهم، وعلاقاتهم الاجتماعية، كما أنها تتطور بسرعة من حيث الاتساع المكاني، وازدياد معدلات نمو السكان، ومظاهر العمران المختلفة، وهذا التطور من شأنه أن يُحدث تطوراً مشابهاً في العلاقات والنظم الاجتماعية المميزة لسكان المدن، أما المناطق البدوية فهي تتطور، في رأيه، ببطء شديد، وتتسم الظواهر الاجتماعية السائدة فيها بطابع الثبات والاستقرار النسبيين( ). 
      إنه على الرغم من تزايد عدد السكان في المدن بعد توسعها، وكان المتوقع أن تزيد العلاقات وتتشابك إثر تزايد عدد السكان، إلا أن الدراسات أثبتت أن نسبة العلاقة الاجتماعية بين السكان لا تزيد بكثرة عددهم وإنما تعتمد على الزيادة في نسبة تقابلهم، إن سكان المباني العالية ذات الأدوار المتعددة، وهو ما يكثر في المدن نتيجة للتوسع، قد يجدون صعوبة في تكوين علاقات مع الجيران، أو قد تكون هذه العلاقة ذات عمر قصير، شكلاً ومضموناً، فهذه العلاقات تنمو عند الالتقاء في المدخل أو المصعد أو مواقف السيارات.. «وقد دلت الدراسات على أن جيرة المداخل الخارجية في المساكن المنفردة الأفقية تزيد من فرص التعارف أكثر من جيرة المداخل الداخلية في المباني العالية، فتظهر إحدى الدراسات أن (20%) من سكان المباني العالية لا توجد لهم أية علاقة مع الجيران من سكان الدور نفسه الذي يسكنون فيه، و(30%) منهم لا يوجد لهم علاقة مع الجيران في العمارة نفسها في أدوار أخرى، ولاشك أن المباني متعددة الأدوار التي حتمتها ظاهرة التوسع في المدن للتغلب على مشكلة الإسكان في المدن بعد توسعها قد أدت إلى قلة العلاقات وتقطعها بين السكان الناس في المدينة على الرغم من وجودهم في مبنى واحد»( ). وفي المدينة الخليجية تظهر إحدى الدراسات الميدانية أنه في الأحياء التي تكثر فيها الفلل أو العمائر المتعددة الشقق والتي يتردد عليها نزلاء كثر وبشكل سريع غالباً ما تكون تلك العلاقات رسمية وفاترة، بخلاف طبيعة العلاقات في الحي الشعبي أو أحياء وسط المدينة التقليدية( ). 
        ولقد تصاحب مع ذلك سبب آخر يمثل حجر الزاوية في جعل أفراد المجتمع يلتقون مع بعضهم بعضاً وبعد ذلك تعارفهم وتقاربهم ألا وهو الممارسات الترويحية لأفراد المجتمع، فمن المعلوم أن الغالبية العظمى من الممارسات الترويحية تتم بشكل جماعي، وهذه من خصائص الممارسات الترويحية في المجتمعات الخليجية قبل التوسع في المدن والانتقال إليها، إلا أن الأمر تبدل في مجتمع المدينة حيث حدث تغير في نمط الترويح، فتحول جزء كبير منه إلى الفردية أكثر منه إلى الجماعية، وليس ذلك عائد إلى طبيعة الممارسة الترويحية ذاتها وإنما إلى البيئة الترويحية، فلم يعد ثمة مكان للترويح في الأحياء كما كان الوضع سابقاً، حيث هذه العمارات الشاهقة لا تتيح ثمة فسحات مكانية لالتقاء أطفال الحي الواحد أو نسائهم، بل ما يغلب عليهم نتيجة انعدام البيئة المكانية هو الانعزال في السكن الفردي واستجلاب ممارسات ترويحية تتناسب والمكان، وغالباً ما تكون هذه الممارسات ذات طابع فردي، وهذا العملية غير المقصودة في الممارسة الترويحية أنتجت عزلة للفرد وبعداً عمن حولها دونما شعور منه، وهذا يكثر في المدن ذات العمائر متعددة الطوابق أو الشاهقة وهو ما تتجه له الآن الكثير من المدن الخليجية
      والحديث السابق يقودنا إلى الحديث بشكل عام عن التفكك الأسري الناتج عن هذا التحضر أو التوسع في المدن، وهو ما يمكن تقسيمه إلى أنواع ثلاثة، فهناك تفكك ظـاهري للأسـرة وهو فقـدان أحد الوالدين بوفاة أو سجن أو طلاق فيتصدع البناء الأسري، وقد يُعوض بشكل أو بآخر من خلال أحد الوالدين أو الأقارب أو غيرهما، وهناك تفكك باطني وظاهري للأسرة وهو تفكك يحدث نتيجة لوفاة أو سجن أو طلاق أحد الوالدين فيتصدع البناء الأسري ولا يوجد من يعوضه، وهناك التفكك الباطني وهو «عملية نشطة متدرجة الفاعلية بحيث تصبح أعراضه مع مرور الزمن مزمنة.. فعلى الرغم من وجود أطراف الأسرة واكتمالها الظاهر فإنها غير مترابطة الأطراف.. بسبب انشغال كل من الزوجين عن الأولاد بأموره الذاتية.. ويمكن إلحاق الأسرة التي يرتبك نظامها وتضعف روابطها بسبب اشتغال الزوجة بالعمل خارج البيت بشكل يجعلها كثيرة التغيب عن المنـزل بهذا النوع من الأسرة المتكاملة ظاهراً المفككة باطناً»( )، ولعل ما ينطبق على الوضع الأسري في المدينة هو التفكك الباطني، فالأسرة في ظاهرها مكتملة، فالوالدان موجودان، والأبناء يعيشون في كنفهم ولكن انشغالات الوالدين تجعل التفكك باطنياً وغير مرئي إلا من خلال آثاره البعيدة ونتائجه الاجتماعية والنفسية العميقة على أفراد الأسرة، وبخاصة الأطفال
      أما بالنسبة لكبار السن فإن الأمر أشد صعوبة، حيث يؤدي التوسع في العمران الرأسي إلى ابتعادهم عن الأماكن العامة لصعوبة الوصول إليها وبالتالي ابتعادهم عن أقرانهم وتقليل فرص الالتقاء بهم إلى أقصى درجاته، وهذا يظهر مشكلة نتجت بشكل مباشر مع توسع المدن، ولا يقتصر الأمر على المسن ذاته وتدهور صحته النفسية والاجتماعية نتيجة لهذه العزلة بل يمتد الأمر إلى أسرته ومشاكل اجتماعية أخرى لعدم القدرة على تفهم احتياجات المسن النفسية والاجتماعية، وبالتالي قد يؤدي الأمر إلى مشكلات في محيط الأسرة الواحدة، إضافة إلى أن عدم تواصل المسن مع المجتمع يؤدي إلى مشكلة اجتماعية أخرى وهي فقدان قيمة احترام كبير السن في المجتمع وعدم وجود نقاط احتكاك بين الأجيال بشكل يضمن استفادة كل جيل من الجيل الآخر بما يؤدي إلى تراكم الخبرة في المجتمع وانتقالها من جيل إلى جيل آخر
     إن مما يؤكد قلق المختصين من هذه الانعزالية في طبيعة مساكن المدينة الكبيرة والواسعة جغرافياً أن الناس أصبحوا من كثرة تأقلمهم على هذه الحياة المنغلقة داخل مساكنهم يجدون صعوبة كبيرة في العيش وممارسة الحياة خارجها، ففي إحدى الدراسات الاجتماعية وجد أن «الناس المنغلقين على أنفسهم في المساكن نفوسهم منكسرة وغير قادرين على النظر إلى الناس، ونتيجة لطول فترة بقائهم داخل مساكنهم أصبحت مشاكل العالم الخارجي أقل إلحاحاً عليهم من المسائل البسيطة التي يقابلونها داخل مساكنهم؛ وفي دراسة أخرى تمّ إجراؤها على فتيات فُرض عليهن البقاء في الوحدة السكنية فترات طويلة معزولين عن المجتمع الخارجي تبين أن اختلالاً حدث في مقدرتهن على التفكير في المستقبل والقيام بأنشطتهن اليومية، وأصبحن يتقبلن الحكم والسيطرة من المسؤولين عنهن»( ) . 
    كما أن هناك سبباً آخر لفقدان العلاقات الاجتماعية بين الناس، إثر التوسع في المدن، وهو عدم الاحتياج إلى بعضهم بعضاً، ففي السابق كانت الأدوات والمستلزمات قليلة على مستوى الحي الواحد مما يوجد حاجة للتواصل للاستفادة من بعض ما لا يوجد إلا عند الفرد الآخر، فحاجة بعضهم إلى بعض أوجدت نوعاً من التواصل وفرضته بشكل غير مباشر، كما أن عدم الاستقرار في المنـزل من قبل الكثير من الساكنين بسبب صعوبة التملك أوجد مثل هذا الضعف في التواصل بين السكان بشكل عام، فالمستأجر يشعر أن وجوده في المنطقة مؤقت لذا قد لا يرى ضرورة لتكوين علاقات مع الجيران؛ لأنه يرى أنه سوف يرحل إن قريباً أم بعد مدة لن تطول لكي يستقر في منـزل مملوك له، فعلى سبيل المثال أكد أحد التقارير السكنية عن مدينة الرياض أن (52%) من سكانها في مبان مسـتأجرة، كما أظهر التقرير أن متوسط إقامة الأسرة بالمسكن بصفة إجمالية يبلغ (12) سنة، كما يشير التقرير إلى أن هناك حراكاً سكانياً كبيراً، ويرجع سبب الانتقال إلى تملك الأسرة لمنـزل ملك( ). ولا شك أن قصر مدة بقاء الأسرة في المنـزل مدعاة إلى عدم التواصل الكبير مع من حولها، وبخاصة في ظل الانشغالات المتوقعة في حياة المدينة لجميع أفراد الأسرة
     وعلى كل حال لا يمكن أن نغفل أهمية استشعار حق الجار، الذي حث عليه الدين الإسلامي، وضرورة التواصل معه، وأن ذلك من مكارم الأخلاق ومن مبادئ ديننا الحنيف حيث أكد الله عز وجل ذلك في قوله: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى ... الآية (النساء:36)، كما أكد المصطفى صلى الله عليه وسلم حق الجار، ومن ذلك ما روته أم المؤمنين السيدة عائشة، رضي الله عنها، قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»( )، وفي ظل وجود هذه القيم الإيمانية واستشعارها بين سكان الحي الواحد في المدينة حتى وإن كانت كبيرة سيؤدي ذلك إلى المزيد من التواصل والتلاحم والقرب الاجتماعي، وذلك بدافع الحث الإيماني والرغبة في الامتثال النابعة من روح التدين العام التي يتصف بها المجتمع الخليجي عموماً
    وختاماً لكل ما سبق، فإن فقدان التواصل الذي نتج عن توسع المدن الخليجية، يستلزم إيجاد بيئات وظروف تهيئ الالتقاء بين أفراد المدينة الواحد، ولاشك أن هناك العديد من الخطوات العملية لتحقيق ذلك التقارب المنشود بين أفراد المجتمع الواحد في ظل توسع المدينة وهي مشاريع اجتماعية مقترحة سيتمّ تناولها في الجزء التالي من الدراسة

خامساً: مقترحات عملية لتجاوز المشكلات الاجتماعية الناشئة عن التوسع العمراني 

          مما ورد آنفاً يتضح أن المجتمعات الحضرية الكبيرة والمعقدة في التركيبة الاجتماعية والسكانية يظهر فيها ضعف الروابط الاجتماعية، والتعاون، والألفة، والتكاتف، والتكامل والتكافل الاجتماعي وكثير من صور عدم التلاقي الاجتماعي بين الأفراد نتيجة للاختلاف بين الأفراد في المجالات الاجتماعية والثقافية والتراثية، وكل يحاول الحفاظ على ما لديه ويدعي صحته، وبهذا يظهر ضعف الروابط بين الأفراد في الأحياء والانعزال والخصوصية العالية وتنشأ المشكلات الكثيرة، ولاشك أن من أسباب ذلك عدم وجود فرصة وظروف مـكانية وزمانية لتحقيق الالتقاء بين أفراد المجتمع الواحد ممثلاً في الأحياء المتناثرة في المدينة، أو في العمائر الشاهقة متعددة الأدوار
       إن تصور السبب وتشخيصه يساعد على العمل على إيجـاد الحل، فمما سبق يظهر أن جزءاً كبيراً من المشكلة الاجتماعية الناتجة عن توسع المدن والمتوقع لها أن تستمر إذا لم يتمّ تداركها من قبل المخططين الحضريين والاجتماعيين هو تقطع صلات الناس، وعدم تهيئة الظروف الملائمة للالتقاء الاجتماعي الحقيقي وليس الشكلي، ومن هنا فمن الوسائل التي تعين على التخفيف من حدة هذه المشكلة الاجتماعية هو السعي لخلق فرص التقاء بين سكان الحي الواحد والعمارة الشاهقة الواحدة
      وهذا ما يتعلق بالآثار الاجتماعية البحتة، وهناك مقترح لعلاج الأثر الذي يلاحظ وهو ضعف الهوية، أو انعدامها لأسباب سبق ذكرها ولا داعي لإعادتها مرة أخرى، ومن هنا سيتم سرد عدد من المقترحات التي يرى الباحث أن الأخذ بها أو ببعضها سيعمل على تقليل الآثار الناتجة عن توسع المدن، سواء ما كان منها اجتمـاعياً أم وطنياً وانتمائنا للوطن والوطنية، فمن ذلك

 -1التوسع في إنشاء المساجد والمصليات في المدن الكبرى
     إن الحديث هنا لن يتعرض للجـانب الشرعي وحـكم بناء المساجد أو فضلها فذلك معلوم لكل مسلم، ولكن الحديث سيتركز حول أثرها الاجتماعي، فالعمارات الشاهقة التي تحوي أعداداً كبيرة من الناس قد انفصمت عراها واهتز ترابطها الاجتماعي، ولم يعد الجار يعرف جاره في الغالب- والسبب الرئيس في ذلك عدم وجود فرصة التقاء زمانية ومكانية- بحاجة إلى إقامة مساجد فيها، ذلك أن المساجد تهيئ ظروفاً مكانية وزمانية موحدة لاجتماع أفراد الحي الواحد أو العمارة الواحدة، مما يشجع على التعارف أولاً، ثُمَّ التآلف.. فمشكلة العمارات السكنية التي تمّ أخذها من نظام العمارة الغربي تجعل الحياة الاجتماعية والروابط الاجتماعية فيها شبه معدومة، فالذي يسيطر عادة على هذه التجمعات الحذر والحيطة وليس الرغبة بالتعارف والتآلف باعتبار أن سكان هذه العمارات من منابت مختلفة، وبخاصة في البلاد العربية البترولية حيث يختلف الجوار، لذلك يتعمق بين سكان الشقق في العمارات التباعد والقطيعة، فبعض العمارات يصل عدد سكانها إلى المئات ويتطلب الصعود والخروج منها استعمال المصاعد، وهذه الحالة تفقد المسلمين الرغبة في حضور صلاة الجماعة، والحل في ذلك سهل وميسور، يتمثل في تخصيص مجموعة من الشقق المتجاورة في العمائر متعددة الأدوار لتكون مسجداً للرجال وجزءاً منها مصلى للنساء، وسيكون الأمر سهلاً على السكان ليتجمعوا في بيئة زمانية ومكانية واحدة، والكلفة البدنية متناقصة جداً إذا لا يحتاج الأمر إلا الخروج من باب الشقة إلى المصعد ليصل إلى المصلى في العمارة نفسها، ونجعله بالتالي يرى جاره ويتعارف عليه، وتنشأ بينهم فرص للحديث والتعارف والألفة تبعاً لذلك، بدلاً من القطيعة والحذر نتيجة التباعد، ولاشك أن بركة الله ستحل بإذنه عز وجل حينما يخرج ذكر الله من كل عمارة خمس مرات في اليوم الواحد، فضلاً عن أن المسـلمين سـابقاً لم يكن لهم مكان يجمعهم ويؤلف بينهم إلا المسجد، فلا السوق ولا المدرسة ولا النادي، فهذه الأماكن تجمع شرائح متخصصة من المجتمع، والمسجد فقط هو الذي يجعل قلوبهم جميعاً تهفوا وتحن إليه( ) . 
       ومما تحسن الإشارة إليه في هذا المجال هو أن بعض الدارسين لتاريخ تخطيط المدن وعمارتها دائماً ما يتناولون التجمع السكاني لأي مجتمع مسلم على اعتبار أنه تشكل في بدايته من خلال التجمع حول المسجد الذي يكون في حدود مسافات سير مناسبة على الأقدام، وليس هذا فحسب، بل حتى في المدن الكبرى نجد أن الأحياء تتجمع حول المسجد الرئيس (المسجد الجامع الكبير) والذي بدوره يجذب النشاطات ذات العلاقة بالناحية الدينية والتجارية كذلك( ). الشاهد هنا هو أن المسجد كان ولا يزال محور التجمع البشري لأي مجتمع مسلم، سواء كان تجمعاً صغيراً كما في القرى الصغيرة أو كبيراً كما في المدن الكبرى، وكذلك ينبغي أن نطوع الأمر ليتناسب مع وضع العمارات الكبرى ليكون نقطة تمركز رأسية، بدلاً من كونه نقطة تمركز أفقية كما في القرى أو المدن

 -2إنشاء مراكز اجتماعية في الأحياء
            إن نمو المدينة الخليجية ظاهرة لا يمكن إيقافها وإن كان يمكن الحد منها، ولا يتوقف ذلك على مقدار المتاح ليس من الظروف الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية فحسب بل أولاً وقبل كل شي على مقدار الممارسة لأساليب التخطيط ومستوياتها وعلى مقدار الأخذ بأسلوب التخطيط كمنهج حتمي إذا كانت هناك رغبة في الخروج بالمدينة الخليجية مما هي مقبلة عليه من تزايد في ظهور مشكلات اجتماعية جديدة وتنامي القائمة حالياً، وبخاصة أن الدراسات تشير إلى أن النمو الحضري سريع جداً، بحيث وقفت الإدارات والهيئات المسؤولة عن هذه المدن عاجزة أمام الأزمات الناجمة من النمو السريع لأحجام المدن، ولا تشير الدلائل إلى أن اتجاه التحضر سيضعف أو يتوقف في المستقبل القريب أو البعيد، بل تشير بعض الدراسات وأبحاث المهتمين بدراسة المدن العربية إلى أن التحضر سيستمر في النمو، وأن أعداد سكان المدن العربية سيتضاعف( ). 
           لذلك فإنه من المفيد وسط ذلك كله السعي الحثيث من المسؤولين والمهتمين بالشأن الاجتماعي المسارعة والمبادرة في البحث عن طرق ووسائل مفيدة للتخفيف من المشكلات الاجتماعية التي يعاني منها الكثير من أبناء المدن المتوسعة، وذلك عن طريق إحداث نوع من المشاركة المجتمعية في إدارة وحل القضايا الاجتماعية التي تكون جزءاً من نتاج التفاعل الاجتماعي في ظل توسع المدينة، سـواء كان ذلك في محيـط الأسرة أو محيط الجيران أو المحيط الاجتماعي للمجتمع المحلي المشترك، وذلك باستخدام مداخل وقائية وعلاجية وتنموية. وفي هذا الإطار يأتي هذا المقترح لإيجاد مركز اجتماعي للحي للعمل على إعادة الترابط بين أفراد الحي الواحد، والتعامل مع هذه المراكز على اعتبار أنها تمثل إحدى المشروعات التنموية التي تسعى لإعادة روح الحي الواحد والتكاتف بين أفراده
        فنتيجة للهجرة من الريف والقرية والبادية والاستقرار في المدن، والاحتكاك بثقافات وخلفيات اجتماعية متعددة ومتنوعة، ونتيجة للاختلاف في التركيبة السكانية، تبرز مشكلات متعددة منها ما يتعلق بسوء التكيف الاجتماعي مع المجتمع الجديد، ومنها ما يتعلق بالخوف من فقدان الذات والضياع في ثقافة المجتمع الجديد، الذي يخالفه في الكثير من مكونات الثقافة الفرعية، ومنها ما يتعلق بالانغماس في الخطأ على اعتبار أن هذا هو المطلوب في المجتمع الجديد، ومنها ما يتعلق بسوء التقدير للكثير من المعطيات في جوانبها المتعددة، ومنها ما يتعلق بالمكونات الشخصية للفرد، لذلك كله وجب العمل على إيجاد صيغة تستوعب كل تلك المعطيات، ومن ذلك إيجاد مراكز للأحياء تستوعب أهل الحي بمختلف مستوياتهم العمرية والجنسية والثقافية، وتبرز حاجة المجتمع بمختلف فئاته وتعدد شرائحه إلى برامج عملية وتطبيقات واقعية تغذي احتياجاته الاجتماعية والتربوية والثقافية والخدمية وغيرها، وتتضح حاجة المدينة الخليجية إلى مشروع (مراكز الأحياء) من خلال النظر في الأوضاع بعمـومها، سـواء الاجتماعية منها، أم الأمنية، أم الاقتصادية، أم الخلقية التي يعيشها مجتمع المدينة الخليجية
       إن مشروع (مركز الحي) المشار إليه آنفاً يتطلب بالضرورة إيجاد فراغات مكانية في الأحياء السكنية لخدمة العلاقات الاجتماعية، مثلها مثل الحدائق والساحات المفتوحة، وممرات المشاة. وهذه الفراغات العمرانية والأماكن المفتوحة تُعد مجالاً رحباً لاحتواء أنشطة السكان الجماعية والاجتماعية في كل حي من الأحياء، وتكون أرضية مناسبة للقاءات بينهم( )، إلا أن الفارق أن (مراكز الأحياء) هي الأنسب كونها تتمتع بتجهيزات جاذبة، تتباين وفق مختلف المستويات العمرية، والثقافية لسكان الحي، إضافة إلى وجود نوع من الضبط الذي يشجع الأهالي إلى دفع أبنائهم إلى ارتيادها بشكل مطمئن لهم تربوياً واجتماعياً
            وبتأمل هذا الأمر تتضح أهمية مثل هذا المشروع الاجتماعي، والحاجة الماسة إليه لا سيما في هذه الظروف التي تعصف بالمجتمعات والأفراد، فرسالته تتمثل في تكوين علاقة إيجابية بين الفرد ومحيطه الذي يعيش فيه، وتشجيع مشاركة السكان في جهود تنمية المدن وتطويرها، والمحافظة على مكتسباتها ومنجزاتها، وهذه الرسالة تريد أن تستنهض همم جميع أفراد الحي والمجتمع ليكونوا أعضاء فاعلين، أصحاب مبادرات ذاتية ومشاركة إيجابية، كل حسب طاقته وموهبته
إن من الضرورة بمكان أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، فمشروع (مراكز الأحياء) قد سبقت إليه دول عديدة، برزت لدى بعضها الحاجة إلى هذه المراكز نتيجة لسوء أوضاعها الاجتماعية وتقطع الصلات بين أفرادها، كما هو الحال في دول الغرب كأمريكا وبريطانيا، فالأخبار تشير إلى وجود (4) آلاف مركز في بريطانيا وحدها، يشترك فيها أكثر من (4) مليون عضو، ويعمل فيها رسمياً (230) ألف موظف، إن هذه التجربة رصيد يمكن تقويمه، ومن ثم الإفادة من إيجابياته وتجنب سلبياته( ). 

 -3تفعيل العمل الخليجي المشترك لتخفيف حدة العمالة غير العربية
         تُعْدُّ منطقة الخليج العربي والجزيرة العربية بشكل عام كياناً جغرافياً واحداً، وبخاصة أنها تمتلك جذوراً تاريخية وحضارية مشتركة، وخصائص اجتماعية وثقافية متماثلة أو متقاربة إلى حد كبير، فقد كانت القبائل والعشائر والعائلات على صلات وروابط متميزة، ولا تزال كذلك، كما أن النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية لدول المنطقة وشعوبها متشابهة نسبياً، إضافة إلى أن مصالحها ومصيرها ومستقبلها مرتبط بمدى النجاح الذي يمكن تحقيقه بأقصى درجات التنسيق والتكامل على كل الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية، خصوصاً في ظل التزايد الكبير لأعداد الوافدين من خارج المنطقة ووصولهم في بعض المناطق إلى مرحلة الخطر على الهوية الوطنية( ). 
     لقد كان وما يزال من أهداف مجلس التعاون لدول الخليج العربية حين قيامه وفق إعلان أبو ظبي الصادر عن الدورة الأولى للمجلس الأعلى في مجلس التعاون لدول الخليج العربية المنعقد عام 1401هـ/1981م تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع الميادين وصولاً إلى وحدتها، وتعميق وتوثيق الروابط والصلات وأوجه التعاون القائمة بين شعوبها في مختلف المجالات. ( ) 
       وهناك جهود بذلت ولا زالت تبذل من قبل المجلس لتحقيق هذه الأهداف بشتى الوسائل التي حددتها الأهداف، وهي: تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع الميادين وصولاً إلى وحدتها، وذلك من خلال وضع أنظمة متماثلة في دول المجلس في المجالات الاقتصادية والمالية، والشؤون التجارية، والتعليمية والثقافية، والاجتماعية والصحية، والإعلامية، والإدارية، وكل ذلك طلباً لتعميق وتوثيق الروابط والصلات وأوجه التعاون بين شعوب المجلس، التي تُعدُ تجسيداً مؤسسياً لواقع تاريخي واجتماعي وثقافي، حيث تتميز دول المجلس بعمق الروابط الدينية والثقافية، والتمازج الأسري بين مواطنيها، وهي في مجملها عوامل تقارب وتوحد عززتها الرقعة الجغرافية المنبسطة التي يسرت الاتصال والتواصل بينهم وأوجدت ترابطاً بينهم وتجانساً في الهوية والقيم
      ويتضمن العمل الاجتماعي المشترك، الذي يعزز من اللحمة الاجتماعية بين دول المجلس وشعوبه جوانب عـدة تشـمل: المرأة والطفولة والأسـرة، والشباب، وذوي الاحتياجات الخاصة، وكبار السن والعمل التطوعي والتعاوني، والتنمية الاجتماعية، وتتم جهود التعاون والعمل المشترك بالتنسيق بين الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية والمكتب التنفيذي لمجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية ومن خلال سكرتاريته الفنية (المكتب التنفيذي) في البحرين، وتسعى إلى تحقيق أهداف التعاون والتنسيق الجماعي بين الدول الأعضاء في كافة المجالات العمالية والاجتماعية عن طريق تنفيذ العديد من الأنشطة والفعاليات ورسم السياسات واعتماد القوانين والأنظمة الموحدة، ووضع اللوائح النموذجية والأدلة والأطر العامة للعمل بهدف توحيد المفاهيم والأسس والضوابط الفنية والعملية، مع تبني الخطط وتنفيذ المشاريع والبرامج الاجتماعية والعمالية الخليجية المشتركة
       ويُعْدُّ مشروع (أسابيع العمل الاجتماعي) من أبرز الفعاليات المشتركة وأظهرها إعلامياً، وهي فعاليات جماهيرية، يتم الاحتفال دورياً مرة واحدة كل عامين من خلال تنظيم أسبوع للعمل الاجتماعي تحتضنه إحدى الدول الأعضاء وتشارك فيه وزارات العمل والشؤون الاجتماعية وكافة الجهات الرسمية الأهلية المعنية، ويكون لكل أسبوع شعار خاص به؛ ويهدف الاحتفال بالأسبوع إلى: التعريف بالعمل الاجتماعي في دول الخليج، وأهميته، والعمل على تكامله وتوحيده، ودعم المساهمة الأهلية التطوعية في العمل الاجتماعي، وترسيخ فعاليتها، إضافة إلى تبادل الخبرات والمعلومات والتجارب الاجتماعية الرائدة
       وعلى الرغم من وجود العديد من الاتفاقات الأمنية والقضائية والاقتصادية، التي تعمل على التقارب الاجتماعي بين مجتمعات الدول الأعضاء في مجلس التعاون بشكل غير مباشر كما هو الحال في آلية التنقلات والسماح بتملك العقارات والمساهمة في الشركات الخليجية... الخ إلا أنها لازالت دون الطموح، كما يرى العديد من المراقبين، وبخاصة عندما تكون المقارنة مع الأهداف التي ارتضاها قادة الدول عشية إنشاء المجلس
       فعلى الرغم من كثرة الفعاليات الاجتماعية التي تمت على مدى السنوات الخمس وعشرين الماضية، إلا أنها لم تزل تدور في مجالات محدودة كماً وكيفاً، وفي برامج مباشرة قد لا تؤدي الغرض المرتجى منها، فلا يمكن إنكار الجهد الكبير الذي يبـذل من المجـلس، ولكن يؤخذ عليه النمطية؛ وما من شك أن الوحدة الخليجية التي ينتظرها القادة السياسيون في دول المجلس لا يمكن أن تمر إلا من بوابة المجتمعات، فبدون وجود تقارب مجتمعي فسيكتب للعديد من البرامج المشتركة الإخفاق أو عدم تحقيق حجم الأهداف المتوقعة أو كميتها، وبخاصة أن الأرضية الاجتماعية مناسبة للسعي في هذا المجال، فدول المجلس تمتلك وحدة جغرافية واحدة، وجذوراً تاريخية مشتركة، وعوامل تكوين اجتماعية متشابهة وهي الدين واللغة
    ومن هنا لابد من تفعيل كبير وواسع وشامل للعمل الاجتماعي الخليجي المشترك للسعي نحو تفعيل أكبر للهوية الوطنية وتعزيز الوحدة الوطنية من خلال التكثيف الكبير من البرامج المشتركة وتنويعها وتعميمها، بالإضافة إلى إنشاء مركز إقليمي خليجي للبحوث والتدريب الاجتماعي، يختص بإعداد الدراسات الخاصة بالمشكلات الاجتماعية الخليجية من حيث حجمها وطبيعتها والعوامل التي تؤدي إليها ووسائل مواجهتها، ولا بد من اتخاذ المدخل الإعلامي لتمرير العمل الاجتماعي المشترك والمشروعات الاجتماعية التي تعمل على تحقيق التقارب الاجتماعي بين شعوب دول المجلس؛ ومن ذلك التوسع الكبير في الإنتاج البرامجي الإعلامي المشترك، وإنتاج البرامج ذات التقارب الاجتماعي بين شعوب دول المجلس؛ ومن ذلك أيضاً السعي الحثيث لإدراج الجمهورية اليمنية ضمن منظومة الفعاليات الاجتماعية للمجلس بشكل أكثر تسارعاً، حيث سيعطي عمقاً استراتيجياً اجتماعياً أكبر للمجلس، واتزاناً مجتمعياً بالنظر إلى إحلال العمالة اليمنية محل العمالة الوافدة، وبخاصة من كان من هذه العمالة الوافدة متباين في ثقافته وعقيدته، وهذه التوصية منطلقها البعد الاجتماعي فحسب، وذلك من واقع نتائج الدراسات الخليجية نفسها عن أثر العمالة الأجنبية على المجتمع الخليجي.. «فوجود العمالة اليمنية في دول المجلس وما تتميز به هذه العمالة من وحدة الثقافة والعادات والتقاليد مع شعوب دول المجلس سيلعب دوراً هاماً في التخفيف من الآثار السلبية للعمالة الأجنبية وأحد هذه الحلول العملية والتطبيقية لمواجهتها قبل أن تتفاقم ويصبح من الصعب السيطرة على أبعادها المختلفة، التي يمكن أن تؤثر على كيانات دول المجلس ذاتها»( ). 

 -4إيجاد منافس سكني للمدن الكبرى
        من المعلوم أن الفترة الماضية كان التركيز فيها على التوسع الإنشائي، والتعليمي، والصحي يتجه إلى المدن الرئيسة بشكل كبير وواضح، ومن هنا لا بد من إيجاد منافسة لهذه المدن الكبرى بما تحويه من خدمات تعليمية وصحية وذلك من خلال تشجيع نمو المدن الصغيرة أو المتوسطة للحد من توسع المدن الكبرى وتركز السكان فيها، وهذا يتأتى بتوجيه بعض المشروعات الكبرى لها كالمستشفيات، أو الجامعات. وهذا ما بدأت تأخذ به بعض الدول الخليجية مثل المملكة العربية السعودية، حيث أنشأت حتى الآن أكثر من (20) جامعة في مختلف مدن المملكة الصغرى لتحد من هجرة الطلاب والطالبات وأسرهم للمدن الكبرى لمواصلة الدراسة. فقد كان هناك فقط سبع جامعات كبرى في المدن الرئيسة، وهذا أدى بالفعل إلى نزوح أعداد كبيرة من مختلف المدن الصغرى إلى تلك المدن الكبرى لمواصلة الدراسة، وغالباً ما كانت الأسرة تنـزح مع الابنة الطالبة لتسكن في المدينة لتطمئن على ابنتها، ويترتب على ذلك البحث عن عمل في المدينة نفسها ثم الاستقرار النهائي، ولكن وجود الجامعة في مدينتهم نفسها أدى بالفعل إلى التقليل من نزوح العائلات لطلب الدراسة للأبناء

 -5مراجعة الاستراتيجية السكانية المستقبلية للدول الخليجية
     ويتمثل ذلك في عدد من الخطوات العملية التصحيحية لواقع التركيبة السكانية في الدول الخليجية، بما يحقق نوعاً من التوازن في التركيبة السكانية بشكل عام، وبما يعمل على تخفيف التدهور الكبير في استعمال اللغة العربية، والتخفيف من انتشار الثقافات الأجنبية وبخاصة غير المسلمة، ومن ذلك على سبيل المثال: تشجيع زيادة النسل وتكثيره بين المواطنين، وتقديم العديد من الحوافز التشجيعية والمادية، بسبب النقص الشديد في عدد السكان المواطنين بالنسبة للسكان الوافدين، كما هو في دولة الكويت على سبيل المثال( ). ومن الخطوات التصحيحية للتركيبة السكانية إعطاء الأفضلية للعمل للجنسيات الخليجية أولاً إن وجدت، ثم الجنسيات العربية ثانياً، ثم الجنسيات المسلمة ثالثاً إن كان ممن يتقن اللغة العربية، وليس في ذلك تفضيل لجنس العرب، مقابل الهوية الإسلامية، ولكن المرحلة في الدول الخليجية تتطلب تداركاً سريعاً لواقع اللغة العربية وهذا من هذا الباب( ). كما تتطلب هذه المراجعة للاستراتيجية السكانية أن يكون هناك توازن ومحاصة بين أعداد الجنسيات الوافدة، بحيث لا تتضخـم جنسية على حساب جنسيات أخرى أو على حساب أهل البلد الأصليين، كما هو في بعض الدول الخليجية، حيث طغت أعداد الجنسية الهندية على سبيل المثال، على عدد أهل البلد الأصليين. إضافة إلى منع الإقامة الدائمة للوافد، وتأكيد تحديد مدة لبقاء الوافد وعودته إلى بلاده، حتى لا يستوطن مع مرور الوقت، كما هو حاصل في بعض البلدان الخليجية

 -6 التوسع في إيجاد حضانات للأطفال مأمونة اجتماعياً
    ويهـدف هذا المقترح إلى تقليل ساعات تعرض الطفل لتعامل الخادمة أو المربية.. ووجود مثل هذه الحضانات في مقر عمل المرأة العاملة، أو قريبة من منزلها مع اشتراطات مشددة في جنسية ولغة من يعمل في هذه الحضانات بحيث تكون من المواطنات إن تيسر ذلك، أو من الجنسية العربية على أقل تقدير، سيعمل على جعل الطفل يتعرض في بداية مرحلة تكوينه اللغوي إلى من يتحدث اللغة العربية بدلاً عن اللغة الهجينة، التي يستعملها بعضهم الآن مع الخادمات أو اللغة الأصـلية للخادمة، فضلاً عن كون هذا الإجراء سيؤدي إلى مساهمة المرأة في سوق العمل، ويرفع من طـاقتها الإنتاجية كلما توفرت الظروف المطمئنة لها في حضانة طفلها في مكان مأمون بيئياً وثقافياً، وحتى عقائدياً

 -7تطوير التصميم العمراني للأحياء بما يتناسب والمجتمع الخليجي
      على الرغم من كون هذا المقترح قد يبدو من الصعوبة بمكان، لكنه من باب تدارك ما يمكن تداركه، وما لا يدرك كله لا يترك جله، فالمخططات العمرانية التي بدأت تنتشر في أطراف المدينة الخليجية، أخذت طابعاً شبه موحد، ويكاد يكون النموذج الشبكي هو السائد، حيث البساطة وأكبر استغلال للأرض من قبل ملاكها لزيادة عدد القطع المتاحة للبيع. ولكن هناك العديد من النماذج التخطيطية للحي السكني يمكن أن يُتاح من خلالها تحقيق الحياة الاجتماعية في الحي السكني، ومن واقع تجربة عملية في المسابقة التي أجرتها الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض( ) حول هذا الأمر بالذات تقدم أكثر من (280) متسابق بنماذج تفنن مقدموها في عرض تصاميم لأحياء سكنية لها عناية كبرى بالجوانب الاجتماعية التي كانت مُغفلة في المخططات العمرانية السابقة بلا استثناء على مستوى مدن دول الخليج. ويمكن في هذا المجال أن يُؤكَّد على ضرورة وجود تصاميم تمكن من يرغب في تكوين مجمعات سكنية بمساحات معقولة في متناول الجميع لتكوين النموذج الخليجي للأسرة، الذي سبق الحديث عنه، وهو المتمثل في مجمعات سكنية تضم الأسرة الكبيرة لتحقيق الأسرة الممتدة، وفي الوقت نفسه تحوي وحدات سكنية تحقق الاستقلالية لتحقيق ما يُسمى الأسرة النووية، ولئن كان هذا النموذج المطور موجود في بعض المدن الخليجية مثل: مدينة الرياض ومدينة جدة -على حد علم الباحث-، ولكنها تبقى اجتهادات فردية لمن يمتلكون حساً اجتماعياً في التصميم العمـراني، وهم قلة بين آحـاد أفراد المجتمع، مما يتطلب الأخذ بـهذا التوجه بشكل رسمي من قبل أمانات المدن الخليجية، وقد يكون لبعض الأحياء ، أو يكون في جزء محدد سلفاً من بعض الأحياء الحديثة

والله الموفق

المراجع والمصادر 

 1)إبراهيم بشمي، تعقيب على بحث (العمارة السكنية وعلاقتها بسلوك الفرد والمجتمع)، ضمن (دعم دور الأسرة في مجتمع متغير)، المكتب التنفيذي لمجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، البحرين، سلسلة الدراسات الاجتماعية والعمالية، العدد 28، 1994م
 2)إبراهيم بن محمد العبيدي، و عبد الإله بن سعيد، اتجاهات طلاب الجامعات نحو العمل في المدن والقرى السعودية، مركز أبحاث مكافحة الجريمة، وزارة الداخلية، الرياض، 1415هـ
 3)إبراهيم بن محمد العبيدي، وعبد الله بن حسين الخليفة، الخصائص الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية للأسر المستخدمة للعمالة النسائية المنزلية: دراسة ميدانية بمدينة الرياض، مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، العدد الثاني عشر، 1415هـ
 4)إبراهيم بن محمد المنصور آل عبد الله، التغير الاجتماعي في المملكة العربية السعودية: دراسة وصفية تحليلية لمسيرة التغير الاجتماعي، مجلة جامعة الإمام، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، العدد 24، شوال 1419هـ
 5)إبراهيم خليفة، المربيات الأجنبيات في البيت العربي الخليجي، مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، 1405هـ
 6)أبو بكر أحمد باقادر، العمالة النسائية وأثرها على تربية النشء، في سلسلة محاضرات الثقافة الأمنية للموسم الثقافي الثالث، المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، الرياض، 1411هـ
 7)أبو بكر احمد باقادر، القضايا والمشكلات الزوجية في مجتمعات دول مجلس التعاون الخليجي، المكتب التنفيذي لمجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، البحرين، 2003م
 8)أبي عيسى الترمذي، سنن الترمذي، دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض، 1421هـ
 9)احمد زكي بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان، بيروت 2004م
 10)أحمد سالم الأحمر، علم اجتماع الأسرة بين التنظير والواقع المتغير، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2004م
 11)اعتدال عطيوي، أطفالنا والخادمات: دراسة علمية لأثرهن على تلميذة المرحلة الابتدائية، مطابع شركة دار العلم للطباعة والنشر، جده، بدون تاريخ
 12)أكرم عبد الملك الأغيري، اليمن ودول مجلس التعاون الخليجي: دراسة أمنية استراتيجيه، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، 1999م
 13)الأمم المتحدة، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقرير التنمية البشرية للعام 2006م، نيويورك، 2006م
 14)باقر سلمان النجار، الأسرة والتغير الاجتماعي في المرحلة الانتقالية لمجتمع الخليج العربي، ضمن (دعم دور الأسرة في مجتمع متغير)، المكتب التنفيذي لمجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، البحرين، سلسلة الدراسات الاجتماعية والعمالية، العدد 28، 1994م
 15)بدر عمر العمر، تعقيب على بحث (الأسرة والتغير الاجتماعي في المرحلة الانتقالية لمجتمع الخليج العربي)، ضمن (دعم دور الأسرة في مجتمع متغير)، المكتب التنفيذي لمجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، البحرين، سلسلة الدراسات الاجتماعية والعمالية، العدد 28، 1994م
 16)بهية جواد الجشي، نظرة على احتياجات ومتطلبات الأسرة الخليجية، ضمن (دعم دور الأسرة في مجتمع متغير)، المكتب التنفيذي لمجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، البحرين، سلسلة الدراسات الاجتماعية والعمالية، العدد 28، 1994م
 17)تشارلز كوجيل، ماهية المجاورة السكنية المستدامة، ضمن المسابقة العالمية للتصميم العمراني (الحي السكني: سكن وحياة)، الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، المملكة العربية السعودية، الرياض، 1428هـ
 18)تماضر محمّد حسون و حسين علي الرفاعي، التحضر والتغيرات في التركيب الاجتماعي وأثر ذلك على الجريمة والانحراف، في ندوة ( النمو العمراني الحضري في المدينة العربية: المشاكل والحلول) المعهد العربي لإنماء المدن، الرياض، 1406هـ
 19)جريل، ن. س، التحضر في الجزيرة العربية، ترجمة: أبو بكر احمد باقادر. مكتبة الجسر، جده، 1990م
 20)جليل وديع شكّور، أمراض المجتمع: الأسباب - الأصناف - التفسير، الدر العربية للعلوم، بيروت، 1418هـ
 21)جيري لي، البناء الأسري والتفاعل: تحليل مقارن، ترجمة فهد عبد الرحمن الناصر، مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت، 2006م
 22)خالد احمد الشلال، الاغتراب الأسري وأثره في تنمية أفراد الأسرة الكويتية، حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية، المجلس العلمي، جامعة الكويت، الكويت، الرسالة 264، ا لحولية 28، 1428هـ
 23)خالد بن عبد العزيز الطياش، مقال بعنوان: منازلنا الحديثة طمست شخصيات المناطق وألغت الهوية العمرانية، صحيفة الرياض، المملكة العربية السعودية، الرياض، العدد 14311، الصادر في 17/8/1428هـ الموافق 30/8/2008م
 24)خضير عباس المهر، المجتمع الاستهلاكي وأوقات الفراغ، دار العلوم للطباعة والنشر، الرياض، 1407هـ
 25)خلف احمد خلف العصفور، قضايا الأسرة والزواج في دول مجلس التعاون الخليجي، في المؤتمر الأول لصندوق الزواج، مؤسسة صندوق الزواج، الإمارات العربية المتحدة، أبو ظبي، 1998م
 26)ذياب موسى البداينة، التحضر والجريمة في المجتمع العربي، في ندوة (المدينة والسكن العشوائي)، المعهد العربي لإنماء المدن، الرياض، 1998م
 27)رابح بو دبابة، ظاهرة الطلاق بين الأسباب والآثار: الإمارات العربية المتحدة أنموذجا، مجلة شؤون اجتماعية، عدد 85، جمعية الاجتماعيين، الشارقة، 2005م
 28)رجاء مكي طبارة، عصر المدن الحديثة وأثره على بيئة الأسرة والمجتمع والمدينة، ضمن ندوة ( الأسرة والمدينة والتحولات الاجتماعية بين التنمية والتحديث، المكتب التنفيذي لمجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، البحرين، سلسلة الدراسات الاجتماعية والعمالية، العدد 36، 1419هـ
 29)رشود بن محمد الخريف، التحضر في المملكة العربية السعودية: دراسة في تعريف المدن وتوزيعها الحجمي ومعدلات نموها السكاني، مركز البحوث، كلية الآداب، جامعة الملك سعود، الرياض، 1419هـ
 30)رمزي بن احمد الزهراني، توزع المدن السعودية 1425هـ/2004م، مجلة العلوم الاجتماعية، مجلس النشر العلمي بجامعة الكويت، دولة الكويت، 2006م
 31)سامية حسن الساعاتي، دور القيم الدينية في تدعيم الأسرة، في المؤتمر الأول لصندوق الزواج، مؤسسة صندوق الزواج، الإمارات العربية المتحدة، أبو ظبي، 1998م
 32)سعاد العريمي، دور التنشئة الاجتماعية في توطيد الانتماء الوطني، ضمن أعمال مؤتمر (عالم في أسرة)، مؤسسة التنمية الأسرية، أبو ظبي، 2009م
 33)صالح بن إبراهيم الخضيري، المشكلات الاجتماعية للعمالة المنزلية (دراسة ميدانية)، مركز بحوث كلية الآداب، جامعة الملك سعود، الرياض، 1424هـ
 34)صالح بن علي الهذلول و محمّد عبد الرحمن، التأثيرات المتبادلة بين النمو السكاني والتنمية الحضرية: استنتاجات وتوجهات لدول مجلس التعاون الخليجي، في ندوة (الانفجار السكاني في المدن العربية وتحديات القرن الواحد والعشرين) المعهد العربي لإنماء المدن، الكويت، 2000م
 35)صحيفة الجزيرة، المملكة العربية السعودية، الرياض، العدد 12957، الصادر في 12/3/1429هـ الموافق 20/3/2008م
 36)صحيفة الحياة، لندن، العدد رقم 16587 الصادر في 2/9/1429هـ الموافق 2/9/2008م
 37)طلعت إبراهيم لطفي، اثر الحضرية في جماعات الجيرة: دراسة ميدانية لعينة من أرباب الأسر في مدينة الرياض، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، جامعة الكويت، الكويت، المجلد 16، العدد 4، 1984م
 38)طه احمد طه متولي، التحديات الحضرية وانعكاساتها الأمنية، ضمن أعمال ندوة (الأمن الحضري) ، مركز البحوث والدراسات الشرطية، أبو ظبي، 1422هـ
 39)عبد الإله أبو عياش و إسحاق يعقوب القطب، الاتجاهات المعاصرة في الدراسات الحضرية، وكالة المطبوعات، الكويت، 1980م
 40)عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، تحقيق: محمد الاسكندراني، دار الكتاب العربي، بيروت، 1425هـ
 41)عبد الرزاق بن حمود الزهراني، ابن خلدون ونشأة المدن: دراسة في علم الاجتماع الحضري، مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، العدد الخامس، 1421هـ
 42)عبد العزيز بن عبد الله كامل، خواطر في العمران، بدون ناشر،1424هـ، ص39
 43)عبد العزيز عبد الله الصرعاوي، وعبد الله غلوم الصالح، دور مؤسسات رعاية الشباب وجمعيات النفع العام في توجيه الأسرة في المجتمع الكويتي، ضمن أوراق العمل المقدمة في مؤتمر (الأسرة في التشريعات الكويتية)، رابطة الاجتماعيين بالكويت، الكويت، 1996م
 44)عبد اللطيف بن دبيان العوفي، دواع التعرض للقنوات الفضائية التلفزيونية المحلية والفضائية والإشباعات المتحققة منها، والآثار الناجمة عنها: دراسة ميدانية تتبعية لثلاث عينات من مدينة الرياض على مدى خمسة عشر سنة، مركز بحوث كلية الآداب، جامعة الملك سعود، الرياض، 1428هـ
 45)عبد الله البنيان، و السيد شتا، تحليل اجتماعي لظاهرة الترويح وأهميتها في مجتمعنا المعاصر بالتطبيق على المجتمع السعودي في ( الترويح في المدن العربية)، المعهد العربي لإنماء المدن، الرياض، 1415هـ
 46)عبد الله الفايز، نظرة مستقبلية لمدينة الرياض عام 2020م، صحيفة الاقتصادية، الرياض، العدد 4902، الأربعاء 25صفر 1428هـ، الموافق14/3/2007م
 47)عبد الله بن حسين الخليفة، الثوابت والمتغيرات في المجتمع السعودي، ضمن بحوث مؤتمر المملكة العربية السعودية في مائة عام، الأمانة العامة للاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس المملكة، ، دارة الملك عبد العزيز، 1428هـ
 48)عبد الله بن ناصر السبيعي، اكتشاف النفط وأثره على الحياة الاجتماعية في المنطقة الشرقية، بدون ناشر، 1407هـ
 49)عبد الله بن ناصر السدحان، الترويح في المجتمع السعودي في عهد الملك عبد العزيز، دارة الملك عبد العزيز، الرياض، سلسلة كتاب الدارة، الكتاب الرابع عشر، 1428هـ
 50)عبد الله بن ناصر السدحان، الترويح والتحصيل الدراسي، مكتب التربية لدول الخليج العربي، الرياض، 2004م
 51)عبد الله بن ناصر السدحان، العمل الاجتماعي المشترك في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية خلال ربع قرن: دراسة استطلاعية نقدية، مجلة التعاون، الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، السنة الحادية والعشرين، العدد 63، 1427هـ/2006م
 52)عدنان الدوري، أسباب الجريمة وطبيعة السلوك الإجرامي، ذات السلاسل، الكويت
 53)علي بن سالم باهمام، البيئة الطبيعية والحياة الاجتماعية، ضمن المسابقة العالمية للتصميم العمراني (الحي السكني: سكن وحياة)، الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، المملكة العربية السعودية، الرياض، 1428هـ
 54)علي بو عناقة، الشباب ومشكلاته الاجتماعية في المدن الحضرية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2007م
 55)فاروق مصطفى إسماعيل وزملاؤه، الخادمات (المربيات الأجنبيات) وتأثيرهن على التنشئة الأسرية للطفل القطري، مركز الوثائق للدراسات الإنسانية، جامعة قطر، الدوحة، 1411هـ
56) فهد ثاقب الثاقب، التحضر وأثره على البناء العائلي وعلاقة العائلة بالأقارب في العالم العربي: عرض وتقييم لنتائج البحوث، مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة الكويت، الكويت، المجلد 14، العدد 4، 1986م
 57)فهد عبد الرحمن الناصر، أساليب الحد من ارتفاع معدلات الطلاق في مجتمعات دول الخليج العربية، ضمن بحوث (المؤتمر الأول لصندوق الزواج)، مؤسسة صندوق الزواج، الإمارات العربية المتحدة، أبو ظبي، 1998م
 58)مؤسسة النقد العربي السعودي، التقرير السنوي الرابع والأربعون (1429هـ/2008م)، المملكة العربية السعودية، الرياض، 1429هـ
59) متروك الفالح، المجتمع والديمقراطية والدولة في البلدان العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2002م
 60)مجلة (المجلة)، تحقيق بعنوان (ناطحات السحاب والعولمة تفقدان مدن الخليج هويتها) لندن، العدد 1486 في 9/8/2008م
 61)مجلس التعاون لدول الخليج العربي، الأمانة العامة، النشرة الإحصائية، العدد الخامس عشر 2006م، الرياض
 62)مجلس التعاون لدول الخليج العربي، دول مجلس التعاون: لمحة إحصائية، الرياض، 2008م
 63)مجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب، التقرير الاجتماعي العربي، مطابع جامعة الدول العربية، القاهرة، 2001م
 64)محمد إبراهيم المنصور، السكان في دول مجلس التعاون الخليجي: سياسات واحتمالات، في المؤتمر الأول لصندوق الزواج، مؤسسة صندوق الزواج، الإمارات العربية المتحدة، أبو ظبي، 1998م
 65)محمّد بن إبراهيم السيف، المدخل إلى دراسة المجتمع السعودي، دار الخريجي، الرياض، 1418هـ
 66)محمّد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، دار السلام، الرياض، 1421هـ
 67)محمّد بن سليمان الوهيد، الهجرة من القرية إلى المدينة «دراسة تقويمية» (المملكة العربية السعودية نموذجاً)، مجلة الدارة، دارة الملك عبد العزيز، المملكة العربية السعودية، الرياض، العدد الثالث، السنة الثانية والثلاثون، 1427هـ
 68)محمّد بن عبد الله الحماد، نشأة المدن ونموها ومشكلاتها في المملكة العربية السعودية، في ندوة (الهجرة من الريف إلى المدن في الوطن العربي: أسبابها - مشكلاتها - مستقبلها)، المعهد العربي لإنماء المدن، الرياض، 1407هـ
 69)محمّد بن مسفر القرني و سهير عبد الحفيظ الغالي، العلاج الأسري ومواجهة الخلافات الأسرية، مكتبة الرشد، الرياض، 1425هـ
 70)محمد بن معجب الحامد، التماسك الأسري: نظرياته، دراساته، مقاييسه، مكتبة الرشد، الرياض، 1428هـ
 71)محمد ناصر الدين الألباني، صحيح الجامع الصغير وزياداته، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1402هـ
 72)محمد ياسر شبل الخواجه، الفئات الهامشية والتنمية المستدامة في مصر: دراسة اجتماعية تحليلية، مجلة شؤون اجتماعية، جمعية الاجتماعيين والجامعة الأمريكية بالشارقة، الشارقة، السنة 26، العدد 101، 2009م
 73)محمود فهمي الكردي، التحضر: دراسة اجتماعية، دار قطري بن الفجأة، الدوحة، 1984م
 74)محمود فهمي الكردي، المدينة في العالم الثالث ... قضايا ومشكلات، في ندوة ( النمو العمراني الحضري في المدينة العربية: المشاكل والحلول) المعهد العربي لإنماء المدن، الرياض، 1406هـ
 75)مركز دراسات الوحدة العربية، العمالة الأجنبية في أقطار الخليج العربي، بيروت، 2001م
 76)مشاري بن عبد الله النعيم، معايير نقدية لتصميم الحي السكني، ضمن المسابقة العالمية للتصميم العمراني (الحي السكني: سكن وحياة)، الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، المملكة العربية السعودية، الرياض، 1428هـ
 77)مصطفى حجازي، التخطيط الاجتماعي لرصد وتلبية احتياجات الأسرة بين الأسس العلمية والتطبيقات العملية، المكتب التنفيذي لمجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، البحرين، سلسلة الدراسات الاجتماعية والعمالية، العدد 27، 1994م
 78)مصطفى حجازي، التنشئة الاجتماعية بين تأثير وسائل الإعلام الحديثة ودور الأسرة، المكتب التنفيذي لمجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، البحرين، سلسلة الدراسات الاجتماعية والعمالية، العدد 25، 1994م
 79)المكتب التنفيذي لمجلس وزراء العمل ووزراء الشؤون الاجتماعية بدول مجلس التعاون، الدراسة التحليلية لأحكام الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم، سلسلة الدراسات الاجتماعية، العدد (50)، البحرين ، 2008م
 80)موقع (العربية) على شبكة الانترنت (www.alarabiya.net) في تاريخ 17/2/1429هـ الموافق 24/فبراير/2008م
 81)نوبي محمّد حسن، النمو الرأسي للعمران والتماسك الأسري والاجتماعي، في ندوة (الانفجار السكاني في المدن العربية وتحديات القرن الواحد والعشرين) المعهد العربي لإنماء المدن، الكويت، 2000م
 82)نور محمد أبو بكر باقادر العمودي، الهجرة الريفية الحضرية: دراسة في تكيف المهاجرين إلى مدينة جده، دار المنتخب العربي، بيروت، 1414هـ.
 83)وزارة الاقتصاد والتخطيط: مصلحة الإحصاءات العامة، النتائج الأولية للتعداد العام للسكان والمساكن، المملكة العربية السعودية،الرياض، 1425هـ/2004م
 84)وزارة التخطيط: مصلحة الإحصاءات العامة، النتائج التفصيلية للتعداد العام للسكان والمساكن في المملكة، الرياض، 1413هـ/1992م
 85)وزارة الشؤون الاجتماعية، التقارير السنوية لوحدة الإرشاد الاجتماعي في المملكة العربية السعودية، الرياض
 86)وزارة العدل، إدارة الاستشارات الأسرية، البيانات الإحصائية لمراجعي إدارة الاستشارات الأسرية السنوية، الكويت
 87)ياسين محمّد نجيب غضبان، المسجد في تخطيط المدينة العربية الحديثة، في ندوة ( النمو العمراني الحضري في المدينة العربية: المشاكل والحلول) المعهد العربي لإنماء المدن، الرياض، 1406هـ
 88)يحيى بن محمّد زمزمي، مراكز الأحياء: تجربة واقعية، ونظرة مستقبلية، في ندوة (المؤسسات المجتمعية والأمنية: المسؤولية المشتركة) كلية الملك فهد الأمنية، الرياض، 1425هـ

حمله   


من هنا       أو       من هنا






PDF       ePub




DAISY       Kindle


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا