التسميات

السبت، 27 أكتوبر 2018

مساهمة النقل الجماعي في حل مشاكل المدن العربية .


مساهمة النقل الجماعي في حل مشاكل المدن العربية

أ. د. توفيق بالحارث – أستاذ تعليم عال 

مدير وحدة البحث: المدينة و التهيئة و التنمية . 

المدرسة الوطنية للهندسة المعمارية و التعمير 

جامعة قرطاج ٧ نوفمبر - تونس


المقدمة: 

  يعتبر تنظيم النّقل في العالم العربي اليوم من أوكد المسائل المطروحة ضمن قضايا التّنمية و التّهيئة المتعلقة بالمجال الحضري على وجه الخصوص، نظراً لارتباطها بعديد القضايا الاجتماعية و الاقتصادية و المجالية. نشير في البداية إلى أنه لا يمكن اليوم تحليل وضعية النقل الجماعي بدون اعتبار الثنائية بينه و بين النقل الفردي الذي تجسمه على وجه الخصوص السيارة الخاصة . 

   فما يلاحظ اليوم في جل الأقطار العربية، سواء كانت لها تجربة في النقل الجماعي مثل مصر و أقطار المغرب العربي أو تطوق إلى وضع منظومة نقل عصرية متوازنة مثل دول الخليج العربي، هو استعمال واسع و أحياناً مشط للسيارة الفردية على حساب النقل الجماعي. 

  لذا سنحاول التّركيز في هذه المداخلة على دور النقل الجماعي في الحد من تكلفة النقل بالنسبة إلي الفرد و خاصة بالنسبة إلى المجموعة الوطنية من حيث الحد من الازدحام و التلوث و الحوادث و نحاول إبراز الأبعاد السلبية لضعف النقل الجماعي أو انعدامه. كما نركز على إدماج النقل الجماعي ضمن منظومة النقل الحضري في الأقطار العربية عامة و في تونس على وجه الخصوص من خلال مفهوم سلسلة التنقل. ويتمثّل هذا التّوجه في إقحام التّرابط بين وسائل النّقل الجماعي فيما بينها من جهة و هذه الوسائل و السيارة الفردية من جهة أخرى مع التطرق إلى ضرورة تهيئة عقد النقل و مرحلية انجازها.

   ونضمن بهذه الكيفية دعم النقل الجماعي وتفعيل دوره في التنمية الحضرية وفي دعم تخطيط المدن العربية وإحكام توازنها و ضمان بيئة حضرية يستطاب فيها العيش إذ أنها تأخذ ظروف الاستدامة بعين الاعتبار.

  وقبل التساؤل عن دور النقل الجماعي في تقديم بعض الحلول بالنسبة الى الفرد و خاصة بالنسبة إلى المجموعة الوطنية و إمكانية إدماجه ضمن منظومة النقل الحضري في المدن العربية يمكن تقديم بعض العناصر المتعلقة بعملية النقل كإطار لدراسة هذه المسائل .


1- عملية النقل: الأطر و الأهداف 

1-1- أهداف عملية النقل: 

  من بين غايات النقل يمكن أن نركز على تحقيق المواطن العادي أو مستعمل النقل لعملية تنقل. وتتمثل هذه العملية في مغادرة مكان إلى آخر مرورا بالمسلك الأكثر المباشرة. وينبغي أن يخضع التصرف في المدى الفاصل بين مكان الانطلاق ومكان الوصول على الأقل إلى شروط ثلاث: 

1) السلامة: أي الحفاظ عل النفس إذ ينبغي على الفرد أن يصل إلى غايته بدون التعرض إلى أي أذى وهذا يعني كذلك أن التنقل ينبغي أن يعتبر عامل الراحة إلى جانب السلامة. 

2) المدة: ينبغي على التنقل أن يعتبر المدة المناسبة الأقصر للربط بين نقطة الانطلاق و نقطة الوصول. 

3) الاقتصاد: ينبغي لعملية التنقل أن تأخذ في الحساب عامل التكلفة المادية الدنيا بدون إغفال بقية الشروط. وكثيرا ما نطبق هذه المعايير في حالة تنقلات أحادية الوسائل (وسيلة نقل وحيدة)، غير أنه بالإمكان تطبيقها في حالة تنقلات متعددة الوسائل مثلما تؤكده الدراسات الحديثة مثل بوفي (H. Ph Bovy 1976).

   يرى بوفي أنه بالإمكان إدماج كل وسائل النقل في منظومة واحدة ترمي إلى تسهيل التنقل عبر مختلف هذه العناصر بأقل تكلفة وأقل وقت و أكثر سلامة (سلسلة النقل). و معنى ذلك أن عملية الترابط بين هذه الوسائل ضرورية لادراجها ضمن منظومة واحدة. 

١-٢- عملية النقل في الوسط الحضري:

١-٢-١- مستويات النقل 

-  يمكن لعملية النقل أن تدور على مستويات عدة : 

- المستوى المحلي : 

- المستوى الإقليمي : 

- المستوى الوطني: 

- المستوى القاري : 

- المستوى العالمي :

  ويمكن أن نربط كل مستوى منها بوسيلة نقل محددة مثل المستوى العالمي و الطائرة، المستوى القاري و القطار، المستوى الإقليمي و السيارة.

   لكن المتأمل في مكونات المدينة العصرية يجد أن كل هذه المستويات يمكن اختزالها بوسائلها في الوسط الحضري. و الدليل على ذلك هو وجود المطار و الميناء و محطة القطارات و الحافلات و آذلك استعمال السيارة و الحافلة مثلا. 

  يمكن أن نفسر ذلك بكون المدينة هي وسط تواصل رفيع سواء كان ذلك ضمن المدينة أو انطلاقا منها أو وصولا إليها. 

١-٢-٢- ميزات النقل الحضري: 

  يمكن التركيز عليه حيث أن الأقطار العربية تعرف ارتفاعا سريعا لنسب التحضر و حيث أن المدينة هي مجال يتميز بتركز للسكان (كثافة مرتفعة) و للأنشطة (متعددة و متنوعة و متكاملة) و للتحركية (mobilité) .

 فبالإمكان اعتبار المدينة إذن كمكان يكثر فيه التنازع على المجال، مما يجعل عملية تنظيم الجولان عسيرة و تخطيط و تهيئة التحركية صعبة، تستلزم دراسة واسعة لمكونات و أبعاد الأنشطة و نوايا التنقل المختلفة لدى مستعملي النقل.

   لذا فيمكن التأكيد على عملية التنسيق كعامل ضروري لوضع سياسة واضحة لترابط وسائل النقل المختلفة. 

٢- تكلفة النقل الجماعي ضمن التكلفة العامة للنقل: 

٢-١- صنفان من التكلفة: 

- هناك عدة تصنيفات لتكاليف النقل حسب المختصين في اقتصاديات النقل. 

- التصنيف الذي يهمنا في هذا الصدد هو الذي وصفه ويكهام (١٩٦٩ Wickham) و الذي يفرق بين: 

o التكلفة الخاصة: أي تكلفة النقل التي يتحملها الناقل "تكلفة الإستغلال" أو مستعملي السيارة الفردية "تكلفة الإستعمال". 

o التكلفة الاجتماعية، أو الجماعية: هي التكلفة التي تتحملها المجموعة الوطنية و هي أصعب من حيث التحديد. و المهم هنا هو أن النقل الجماعي يتميز بتكلفة أقل بكثير بالمقارنة مع النقل الفردي سواء كان ذلك بالنسبة إلى التكلفة الخاصة أو التكلفة الاجتماعية. 

٢-٢- النقل الجماعي و التكلفة الخاصة: 

o التكلفة الخاصة هي تكلفة متعلقة باستغلال شبكة من شبكات النقل الجماعي بالنسبة إلى مؤسسة نقل أو باستعمال من قبل مالك سيارة خاصة. 

o هي تكاليف نقدية مصروفة فعليا و مضمنة في المحاسبة الوطنية في إطار "وظيفة النقل". 

o تحدد هذه التكلفة باعتبار كل الضرائب (TTC .( o تشمل هذه التكلفة العديد من المصاريف:

* المحروقات Carburants

* المزيتات  Lubrifiants 

الهوائيات Pneumatique s 

* الصيانة التي تشمل قطع الغيار و اليد العاملة

* الفائدة على رأس المال المستثمر. 

* التأمين و الضمان. 

* الضرائب المتعلقة بالامتلاك و بالاستعمال 

* مصاريف التنقل (الطرقات السيارة مثلا) 

* نفقات أخرى. 

o تكلفة الوحدة منقولة (K/V Coût) هي عبارة عن خارج قسمة التكلفة الكيلومترية للعربة الواحدة و نسبة الاستغلال (عدد ركاب العربة). 

o حسب دراسة وضعتها وزارة النقل في تونس سنة ١٩٩٥ كانت هذه التكلفة كما يلي


  يبرز هذا الجدول فكرتين اثنتين: 

١) تكلفة العربات المستعملة في النقل العمومي هي أقل بمرتين و نصف تقريبا: ٦،٢ (سيارة الأجرة) و ٣،٢ (الحافلة). 

٢) الفارق بين سيارة الأجرة و الحافلة هو نسبة الاشغال فبالنسبة لمؤسسات النقل التي تطبق مستوى إنتاجية مرتفع مثل SNTRI (الشركة الوطنية للنقل بين المدن) تهبط هذه التكلفة إلى ٢٢ مليما. 

٣) و تبرز هذه الفكرة بأكثر وضوح إذا ما اعتبرنا مفهوم التكلفة حسب الأماكن الكيلومترية المعروضة Coût « PKO « : فالنقل الجماعي (١٤مليما) يتميز بتكلفة تقارب ثلاث مرات دون تكلفة النقل الفردي (٣٩ مليما) في حين تتوسط سيارة الأجرة الصنفين (٢٧ مليما). 

٤) أما إذا ما اعتبرنا النسبة بين التكلفتين فبقدر ما نلاحظ أن سيارة الأجرة وصلت إلى نسبة التشبع من حيث التكلفة ١٠٠% بقدر ما نلاحظ إمكانية التخفيض من تكلفة السيارة الفردية و خاصة من تكلفة الحافلة.

  إذن و مهما كان صنف التكلفة المعتبرة فان النقل الجماعي هو أقل تكلفة من النقل الفردي. و تبرز أهمية النقل الجماعي في المدن العربية لا على الصعيد الفردي فحسب بل و بالخصوص على صعيد المجموعة الوطنية أي إذا ما اعتبرنا التكلفة الاجتماعية. 

٢-٣- النقل الجماعي و التكلفة الاجتماعية: 

التكلفة الاجتماعية هي في معظمها مكونات غير نقدية، لا يدفعها مالك العربة، بل تتحملها المجموعة الوطنية. و هي تتمثل في أضرار معنوية مثل ضياع الوقت في ازدحام حركة الجولان و الإزعاج المتأتي من الضجيج و الإضرار الناجم عن التلوث الهوائي و حوادث السير و ما ينجر عنها من قتلى و جرحى و معاقين. 

  و يمكن أن يكون الضرر وقتياً أو دائماً، يتحمله إما الفرد في حياته أو بعد مماته أو المجموعة الوطنية، من حيث نفقات الصحة التي تدفعها أو الخسائر الناجمة عن التوقف عن العمل و الحد من عملية الإنتاج. 

  و يمكن التمييز بين أربعة أصناف من التكلفة الهامشية الاجتماعية: 

٢-٣-١- التكلفة الهامشية للصيانة   
Coût marginal d’entretien CMS :

  حسب الدراسة التي قامت بها وزارة النقل في تونس سنة ١٩٩٩ تساوى التكلفة الهامشية للصيانة قرابة ٥٠ مليون دينار (أي ٤٧ مليون دولار). 

  و تتميز السيارة الفردية بتكلفة تقارب الصفر في حين ترتفع هذه التكلفة بالنسبة إلى الحافلة إلى نسبة ٢٣% من التكلفة الإجمالية للصيانة و هي ما تقارب سنويا ١٨٠٧ ديناراً للعربة الواحدة، أي ما يقارب ١٥ مليماً للمسافر في الكلم الواحد و هو في حد ذاته مبلغ زهيد.

٢-٣-٢- التكلفة الهامشية للازدحام 
Coût Marginal de Congestion CMC 

  حسب نيوبري ( 1988.D Newbery) تبلغ التكلفة الهامشية للازدحام أكثر من نصف التكاليف الاجتماعية في الأقطار المصنعة سنة ١٩٨٦. 

  وقد قدرت هذه التكلفة في تونس سنة ١٩٩٧ بما يقارب ٣٠٨ مليون دينارا وهو ما يمثل ٥,١ %من الناتج الداخلي الخام (أسعار١٩٩٧) و هي نسبة غير بعيدة عن تلك التي تهم الاتحاد الأوروبي (٢%).

  و تنقسم هذه التكلفة في تونس إلى ٢٢١ مليون ديناراً في شكل "تكاليف إضافية" و ٨٧ مليون ديناراً في شكل "ضياع إنتاج". 

   و من ناحية أخرى، تتوزع هذه التكلفة بالنسبة إلى مختلف وسائل النقل كالتالي:

- الحافلة ٨،٧٦ مليما بالنسبة إلى العربة في الكلم الواحد. 

- التاكسي ٦٤ مليما بالنسبة إلى العربة في الكلم الواحد. 

- السيارة الفردية ٤،٢٣ مليما بالنسبة إلى العربة في الكلم الواحد. 

  و يعود ارتفاع التكلفة الازدحام بالنسبة إلى الحافلة خاصة إلى الحجم الكبير للعربة، في حين يعود ارتفاع تكلفة التاكسي خاصة إلى المسافة الطويلة المقطوعة.

  أما إذا ما اعتبرنا عدد الراكبين فإن النسب تنقلب.

 ٦,١٤ % بالنسبة إلى السيارة الخاصة. 

٩,٢٢ % بالنسبة إلى التاكسي. 

و ٢،٢ % مليماً فحسب بالنسبة إلى الحافلة. 

٢-٣-٣- التكلفة  الهامشية للحوادث   
Coût Marginal d’accidents CMA 

 يبرز كذلك الدور الضعيف للنقل العمومي في التسبب في الحوادث من خلال نفس الدراسة. 


٢-٣-٤- التكلفة الهامشية للتلوث 
 Coût Marginal de Pollution CMP :  

  قد قدرت التكلفة الهامشية للتلوث، حسب نفس المصدر بحوالي ١٠٥ مليون دينارا أي بنسبة ٥،٠% من الناتج الداخلي الخام لسنة ١٩٩٧

و يعزي هذا المقدار بنسبة 

٣،٣٨% إلى السيارة الفردية. 

٧،١٢% إلى الحافلة 

٤% إلى التاكسي 

٦% إلى سيارة الأجرة. 

 وهذا يعني أن مجموع وسائل النقل الجماعي تتسبب في ٧،٢٢% في حين تكون السيارة الفردية مسؤولة وحدها على ٣،٣٨% من الحوادث. 

٢-٣-٥في ختام هذا العرض السريع لمفاهيم التكلفة المطبقة على النقل الجماعي و النقل الخاص يمكن أن نبرز ثلاثة عناصر على الأقل: 

١- إن النقل الجماعي له تكلفة عامة دون النقل الفردي على مستوى التكلفة الاجتماعية. ففيما عدا التكلفة الهامشية للصيانة، حيث يفوق النقل الجماعي و لو بمقدار زهيد النقل الفردي، تكون السيارة الفردية سبباً في أضرار أكثر من النقل الجماعي، في المجتمع الحضري مثلما هو الحال بالنسبة إلى التلوث و الحوادث و الازدحام. 

٢- إن النقل الجماعي هو في كل الحالات تقريبا أقل تكلفة من النقل الفردي سواء كان ذلك بالنسبة إلى المستغلين و المستعملين أنفسهم (تكلفة خاصة) أو بالنسبة إلى المجموعة الوطنية (تكلفة اجتماعية) و هذا يعني أن النقل الجماعي يمكن أن يكون خلاصاً نسبياً للمدن العربية الموجودة في الأقطار النفطية أو غيرها. فبالنسبة للأقطار العربية ذات الدخل المحدود يمكن النقل الجماعي خاصة على المستوى الأسري و على المستوى الوطني من اقتصاد هام خاصة في ظرفية تدرك فيها أسعار النفط مستويات عالية. أما بالنسبة إلى الأقطار النفطية فالنقل العمومي هو كفيل بخفض مستويات الازدحام (التشنج و ضياع الوقت) و التلوث كما يجنب مجتمعاتها عددا هاما من ضحايا حوادث السير. 

٣- في إطار المقارنة بين النقل الجماعي و النقل الفردي وقعت دراسة الحافلة التي تعتبر نسبيا وسيلة تقترب نوعا ما من السيارة الفردية (من الناحية التقنية). و هذا يعني أن وسائل النقل الجماعية الحديدية (قطارات الضواحي و الترام و المترو) هي بدون منازع ذات مستويات أضعف بكثير للازدحام و التلوث و لا تتسبب في حوادث تذكر. 

٣- الأبعاد السلبية لضعف النقل الجماعي أو انعدامه في المدن العربية: 

   من أخطر نتائج ضعف أو انعدام النقل الجماعي على المدينة العربية يمكن أن نركز على الاستعمال المتزايد و المشط أحيانا للسيارة الفردية و التدهور المتوازي للنقل الجماعي و ما ينجر عن ذلك من تكريس التهيئة الأحادية. و تكمن خطورة هذين الظاهرتين في التأثير العميق و بعيد المدى في المدينة و المجتمع. 

٣-١- دعم السيارة الفردية: 

  تندرج هذه الظاهرة ضمن تمشي مزدوج يشمل تدهور النقل الجماعي إلى جانب تنامي استعمال السيارة الفردية. :: 

٣-١-١- النمشي المزدوج 

  ما يلاحظ اليوم في جل المدن العربية هو ضعف مستوى الخدمات بالنسبة إلى النقل الجماعي من ازدحام شديد و تواتر ضعيف للمعدات بالنسبة إلى العرض و طول مدة التنقل و إزعاج متزايد بالنسبة إلى المستعمل، و من أهم أسباب هذه الميزات السلبية لخدمة النقل يمكن أن نذكر عدم اندماج وسائط النقل بكيفية تكفل اقتراب مرضي لخدمة النقل الجماعي من تلك التي توفرها السيارة الفردية أي إيصال المستعمل من نقطة انطلاقه إلى نقطة وصوله في عملية تنقل واحدة، (Service porte à porte).

   و نتيجة لرداءة خدمات النقل الجماعي في عديد المدن العربية، تتجه نسبة هامة من الأسر رغم ضعف دخلها إلى امتلاك للسيارة الفردية متحملة للمصاريف الباهظة التي يستوجبها شراء هذه الوسيلة و تواتر استعمالها.

   و تتجمع عديد العوامل لتجعل ذلك ممكنا مثل التوريد المتزايد للسيارات و الاقتراض المتنامي للأسر متوسطة و ضعيفة الدخل، و كثيرا ما يتم ذلك على حساب أصناف أخرى من المصاريف مثل الثقافة و التربية و الترفيه. و من نتائج استعمال أوسع للسيارة الفردية هبوط عدد مستعملي النقل الجماعي و ذلك يعني تدهور مداخيل الشركات الساهرة على هذه الخدمة وانحدار قدرتها الاستثمارية وتدهور خدماتها و هبوط شامل للتمويلات في هذا القطاع من حيث العتاد و العمالة و تدهور أشد لخدمات النقل مما يتسبب بدوره في نزوع أكبر للأسر لتغيير النقل العمومي بالسيارة الفردية. 

٣-١-٢- المسائل الناجمة عن الاستعمال المشط للسيارة الفردية: 

   من البديهي أن السيارة الخاصة تتميز من بين وسائط النقل بالمرونة من الناحية التقنية و خدمة الإيصال التام بالنسبة إلى المستعمل، كما أنها ترتبط بظاهرة الترقية الاجتماعية إلى جانب توفيرها لنسبة عالية من مداخيل الدولة. 

   إلا أن المضار التي تسببها السيارة الفردية على مستوى المدينة و المجتمع خطيرة و متعددة و من ذلك الاستعمال المتزايد للمحروقات في ظرفية تصل فيها أسعار النفط إلى مستويات قياسية، مثلما هو الحال بالنسبة الى سنة ٢٠٠٨ ،مما يضر كثيرا بالأقطار غير المنتجة للمحروقات. و إلى جانب التكلفة الاقتصادية المشطة للسيارة الفردية بالنسبة إلى الأسرة و الدولة يمكن الإشارة إلى تكلفتها الاجتماعية المرتفعة (social coût) و المتمثلة في ارتفاع نسبة الحوادث و خطورتها و ما ينجر عن ذلك من قتلى و جرحى و خسائر مادية و معنوية. كما تؤثر السيارة الفردية سلبيا على سلامة المحيط نتيجة للتلوث الغازي التي تصدرها المحركات و الضجيج إلى جانب ازدحام حركات النقل و اختناق المسالك خاصة في مركز المدينة و على مستوى مداخلها و محاورها الرئيسية و ما يترتب عن ذلك من إهدار للوقت و ضغط نفسي و انفعالات تؤدي غالبا إلى تدهور العلاقات الاجتماعية. 

٣-٢- أخطار التهيئة الأحادية المعتمدة على السيارة: 

  من الأخطار البعيدة للاستعمال المشط للسيارة الفردية نذكر تنامي نموذج للتنمية الحضرية في المدن العربية يعتمد بصفة شبه كلية على السيارة الفردية و تناسي التهيئة المتعلقة بالنقل الجماعي مثل تهيئة عقد النقل. 

   و من أخطار التهيئة الأحادية المتجهة للسيارة الفردية يمكن التركيز على عناصر ثلاثة: 

٣-٢-١- استهلاك مشط للمجال:

  من الثوابت التي يقرها الباحثون أن استعمال السيارة الفردية مكلف جدا من حيث استهلاك المجال، فحاجة السيارة إلى المجال أساسية و مرتفعة سواء كان ذلك بالنسبة إلى الجولان أو الوقوف. 

   فحاجة السيارة للجولان تستوجب مساحات شاسعة نظرا لارتفاع نسبة استهلاك المجال بالنسبة للمتنقل الواحد و نظرا للسرعة المرتفعة التي تتحرك السيارة حسبها و نظرا لتعدد المسالك و تراتبها و ضرورة بناء طرقات متسعة و متفرعة و نظرا لضرورة التفريق بين مختلف أصناف الجولان القريب و المتوسط و البعيد، كما تحتاج عملية وقوف السيارة مساحات شاسعة في وسط المدينة و على مشارفها و مداخلها تقتطع أحيانا على الطرقات في حالة التوقف العشوائي و تندرج أحيانا أخرى في إطار مخططات مرورية لبناء مواقف أفقية أو عمودية مكلفة. 

   كما تتسبب السيارة الفردية في انتشار و تشبث ظاهرة التحضر على المجالات الخارجية للمدن و أطرافها، نظرا لسهولة البلوغ بفضل هذه الوسيلة و لضعف تكلفة الأراضي خارج المدن و على محيطها، في إطار نموذج أفقي من التحضر يتميز بكثافات سكنية ضعيفة و كثافات طرقية مرتفعة وارتباط وثيق بين المسكن و السيارة الفرديين في حين تضعف أو تغيب شبكات النقل العمومي نظرا لضعف مردودية النقل الجماعي على هذه المجالات. و تعرف هذه الظاهرة بالإفراق (essaimage) أي تبعثر المنشآت على مساحات كبيرة و اتساع متزايد للمدينة على حساب الريف، و يتعارض نموذج النمو هذا مع ذلك الذي عرفته المدينة العربية عندما كانت تستعمل المشي على الأقدام أو النقل العمومي فحسب. 

٣-٢-٢- تكاليف تحضر مشطة: 

   يؤدي نمو المدن العربية حسب مبدأ الإفراق الناجم بنسبة هامة عن استعمال متنامي للسيارة إلى ارتفاع مشط لتكاليف متعلقة ٢ التعمير يتحملها الفرد و المجموعة على حد سواء. فتشتت المنشآت يؤدي إلى ارتفاع نسبة التجهيزات في الكلم بشبكة الكهرباء و ماء الشراب و الهاتف القار إلى جانب شبكات التطهير و الصرف مثلما هو الحال بالنسبة إلى مدينة صفاقس (أنظر الرسم عدد ١).

   و ترتفع كثافة شبكة الطرقات لبلوغ كل نقاط تركز المنشآت السكنية و الاقتصادية و ربطها بباقي شبكات المواصلات من طرق عادية و طرق سيارة. و رغم الانخفاض النسبي لسعر الأرض على أطراف المدينة و نظراً للكثافة المرتفعة لشبكة الطرقات و نسبة الاستهلاك المشطة للمجال و تركيز التجهيزات عليها و متابعتها فإن تكلفة التحضر بالنسبة للفرد الواحد ما انفكت ترتفع، مما يتعارض مع الموازين المالية للمجموعات الترابية من بلديات و مجالس إقليمية مما يجعلها تلتجئ إلى ميزانية الدولة، الأمر الذي يطرح أحيانا مسائل نقص التمويلات الحضرية بصفة عامة بالخصوص في الأقطار العربية غير النفطية. 

٣-٢-٣أخطار اجتماعية:  

  كما تتمثل أخطار التهيئة الأحادية المخصصة للسيارة الفردية كذلك في تنامي ظواهر اجتماعية سلبية منها الفصل و التفريق المجالي بين الفئات الاجتماعية. فالزوج المتمثل في المسكن و السيارة يعتبر عنوان المستوى الاجتماعي للفرد الذي يتوق إلى تأكيده كعنوان للرقي الاجتماعي. 

  و بما أن معيار القيمة المالية هو المقياس على الأقل فيما يتعلق بالسكن و موضعه و السيارة و مظهرها، فان توزع الفئات الاجتماعية على المجال الحضري يتجه نحو تركز الأصناف العليا في أحياء راقية (الشمال و الساحل الشمالي بالنسبة إلى مدينة تونس مثلا) و الأصناف المتواضعة في أحياء شعبية (الضاحية الغربية و الجنوبية).

   كما ينجم عن ظاهرة التفريق هذه ارتباط الطبقات الميسورة بالسيارة الخاصة و الطبقات محدودة الدخل بالنقل العمومي، رغم التفات نسبة ما من هذه الأخيرة إلى استعمال السيارة و لو بصفة محدودة. 

   و من البديهي أن يؤدي هذا العامل بالإضافة إلى عوامل أخرى إلى الاتجاه نحو التفكك الاجتماعي و الإحساس المتنامي بالانتماء إلى مجتمعين مختلفين إن لم نقل متقابلين. 

- و بصفة عامة يعتبر استعمال وسيلة النقل الفردية كعلامة لانغلاق الفرد في علاقاته الاجتماعية مع الآخرين (خصوصية المجال و ستائر السيارة...الخ) على عكس استعمال وسائل النقل الجماعي التي توفر فرص الاتصال بين الأفراد مهما كانت فئاتها الاجتماعية و التي يمكن اعتبارها عربون تفتح اجتماعي و بالأحرى عنوان اندماج اجتماعي وهو من الإشارات الايجابية لتطور المجتمعات. 

- إذا ما تأكدنا من فائدة استعمال و تنمية النقل الجماعي لاقتصاديات و مجتمعات الدول العربية و مدنها، بقي لنا أن نحدد منهجية إدراجه ضمن منظومة النقل. 

- و هذا الأمر هو هام بالنسبة إلى كل الأقطار العربية سواء كانت تلك التي لها تجربة في النقل الجماعي مثل مصر و أقطار المغرب العربي التي تستوجب إما تعديلا في منظومتها أو دعما لها، أو تلك التي تطوق إلى وضع منظومة عصرية جديدة تعتمد النقل الجماعي كهيكل أساسي لنقلها الحضري و لمنظومة نقلها بصفة عامة. 

- وتهم المنهجية التي نعرضها فيما يلي ميدانين أساسيين:

 - التنظيم الذي يتمثل خاصة في سلسلة النقل. 

- التهيئة التي تتمثل خاصة في وضع هياكل و إستراتيجية تجسم هذا التنظيم 

٤- سلسلة النقل: إدماج النقل الجماعي ضمن منظومة النقل الحضري: 

  إذا تعلّق لأمر بتنقل متعدد الوسائل يؤخذ عامل التواصل بعين لاعتبار. يمكن التأكيد حينئذ أن تعاقب الوسائط وترابطها يمكن اعتباره شرطا رابعا يتصدر بقية الشروط ويحددها من الناحية الكمية (المدة والاقتصاد) ومن الناحية النوعية (الإضناء). ويقتضي كل ذلك أن يتواصل التنقل بدون انقطاع في سلسلة عمليات التنقل بانعدام وسيلة ما، أو قلّتها أو تكلفتها الزائدة أو محدوديتها خاصة على مستوى عقد النّقل أي نقط ترابط وسائله. 

  و من البديهي إقرار أن تمفصل مختلف الوسائل في نطاق سلسلة النقل يولّد حتميا بعض الوقت الميت أثناء استعمال النقل العمومي. إلا أن ضياع الوقت هذا ينبغي أن يعرف مسبقا ويكون محدودا بكيفية تجعل ظروف الترابط أثنائه مقبولة و تواصل التنقل مضمونا. 

٤-١ -ماهية سلسلة التنقل. 

  تعلّم التنقلات في المدينة الحياة اليومية للأفراد أينما كانوا بكيفية تجعل ساكن الحاضرة يندمج في سلسلة التنقل تارة كمجاور(riverain) عندما يكون في المسكن أو العمل وتارة كمستعمل نشيط ( actif usager) عندما يكون راجلا، أو دراجا، أو سائقا..) أو كمستعمل خاضع ( passif usager ) عندما يكون مرافقاً لسائق سيارة فردية أو يكون مستعملا للنقل العمومي. 

  يلعب الفرد في جل منظومات النقل الحضري الأدوار الثلاثة في نفس الوقت إذ أنه يقوم بعدد من العمليات للتحول من النقطة "أ" إلى النقطة "ب" ( أنظر الرسم عدد ٢) حسب تعاقب محدد يسميه البعض، مثل بوفي . Bovy .Ph .H.1976 سلسلة عمليات النقل أو « trip linkage «.

   وتبرز دراسات سلوك مستعملي النقل أن مراحل الانتظار أو المسافنة (transbordement) تدوم في جل الأحيان أكثر من عملية التنقل ذاتها. وتبدو نقاط الترابط الكبرى في المدن من أبرز عناصر هيكلة المجال الحضري نظرا لضخامة الأدفاق التي تستقطبها. 

   فنتيجة لنفاذيتها الشديدة تحوي هذه الأقطاب محلات و أنشطة عديدة ومتنوعة من مغازات كبرى وأسواق تقليدية ودكاكين مختلفة و مغازات كبرى ومقاهي ومطاعم ومحلات حلاقة وحوانيت بيع التبغ والجرائد والمكاتب ووكالات السفر ومكاتب البريد والمواصلات، مما يساعد على تركّز شديد لحركات الراجلين على مساحات مضيقة جداً.

  وكما قمنا بتعريفها، تبقى سلسلة النقل مقتصرة عموما على الأقطار المصنعة فاعتمادا على الملاحظات التي أدركناها في عديد المدن الأوروبية والأمريكية الشمالية يمكن القول إن مستوى التنمية في هذه الأقطار له علاقة متينة بمستوى ترابط وسائل النقل الحضري عامة وتنظيم عقد الترابط بصفة خاصة بينها بكيفية تجعل النقل يشتغل كمنظومة متداخلة و متكاملة. 

  ركّزنا فيما سبق حينئذ على مكونات سلسلة النقل الحضري و أهميتها كمنظومة تربط مختلف وسائل النقل و تهدف إلى توفير خدمة التنقل المناسب لكافة شرائح المجتمع الحضري في ظروف حسنة من حيث المدة و التكلفة و السلامة و الراحة و يمكننا على ضوء هذا التعريف أن ندرك ميزة التّفكك التي تطبع التنقّلات في مدننا العربية. 

٤-٢- غياب التسلسل في تنقلات الفرد في المدن العربية: 

  اعتمادا على استمارات قمنا بها في المدن التونسية الكبرى مثل تونس وصفاقس وسوسة (أنظر الرسوم عدد ٢ و ٣ و ٤ ) وملاحظات مباشرة في مدن عديدة بالجزائر والمغرب الأقصى ومصر و الكويت واعتمادا على معرفتنا لعديد المدن الأخرى في العالم العربي يمكن التأكيد على أبعاد ثلاث لهذه التنقّلات: 

٤-٢-١- تفكك التنقلات الحضرية القريبة:

   تتمثل ظاهرة تفكك التنقلات الحضرية في عدم ترابط شبكات النقل الجماعي السائدة في جل المدن العربية مثل شبكة الحافلات مع شبكة الترام أو المترو الخفيف أو مترو الأنفاق. ويهم عدم الترابط هذا البعدين ألمجالي والترتيبي. 

- البعد الترتيبي: يتمثل في عدم وجود تنسيق بين الناقلين على مستوى التوقيت "التواقت" وعلى مستوى توافق الأسعار وتوحيد تذاكر السفر. 

- البعد المجالي: ويتمثل في عدم تقريب محطات انطلاق ووصول وسيلة نقل ما ببقية الوسائل وجمعها في محطة متعددة الوسائط.

   ويترتب عن غياب هذين البعدين قيام المسافرين المستعملين لهذه الوسائط بالمشي مسافات هامة أثناء التحول من شبكة إلى أخرى، مثلما هو الحال بالنسبة إلى المستعملة المتنقلة بين ميناء صفاقس و محطة الارتال بها (انقطاع ٢ رسم عدد ٣).

 وينجم عن ذلك تتفاقم المصاعب بالنسبة إلى المستعملين المسنّين والأولياء المرافقين لأطفالهم وكل المسافرين المحملين ببعض الأمتعة من حقائب وغيرها. كما يتعرض مستعملو النقل لعديد المخاطر أثناء التنقل عبر الطرقات الرابطة بين المحطات، مما يزيد نسبة الإضناء خاصة وأن عمليات تنقل الراجلين في المدن العربية قليلا ما تتم في مجالات خضعت إلى عمليات تهيئة تخدم الراجل أكثر من السائق و تهتم بتخصيص محاور مشي محمية في الشوارع والطرقات بفضل وضع العوازل وأضواء مرور وتحديد المسالك... 

٤-٢-٢- تفكك التنقلات الحضرية البعيدة: 

  لا يقتصر تفكك التنقلات على وسط المدينة بل يتعداه إلى شبكات النقل الحضري البعيدة وتهم هذه الظاهرة الإرتباط بين مختلف الوسائط الجماعية التي تخص المجالات الحضري المركزية من مترو وترام وخطوط الحافلات القريبة من جهة والوسائط التي تصل الضواحي البعيدة بمركز المدينة مثل القطارات الضاحوية والخطوط البعيدة للحافلات من جهة أخرى. ومن تبعات عدم الترابط هذا تطويل فترات التنقل واضطرار المستعملين إلى الحد من عدد التنقلات إلى مستوياتها الدنيا، كما ينجر عن ذلك ارتفاع تكاليف التنقل وتطويل السفريات وتنامي تعرض المستعمل لأخطار الطريق وتعاظم ظاهرة الإضناء وما يترتب عن ذلك من تدني العلاقات بين الأفراد. ٤-٢-٣ -تفكك التنقلات بين المدينة ومحيطها: كما يهتم تنظيم النقل إلى جانب العقد الحضرية بالارتباطات العديدة والمتنوعة بين النقل الحضري في مجمله وبقية أصناف النقل من نقل إقليمي ووطني وحتى عالمي. فقليلا ما ترتبط مختلف وسائط النقل الحضرية في المدن العربية بصفة محكمة مع بقية الوسائط المؤمنة للنقل في الأرياف و بين المدن من سيارات أجرة و حافلات و قطارات بين المدن انطلاقا من المجال المركزي للمدينة و حتى على مداخلها، ، مثلما هو الحال بالنسبة إلى المستعملة المتنقلة بين محطة أرتال سوسة و مركز المدينة بها (انقطاع ٣ رسم عدد ٣). 

٤-٣- مكانة عقد النقل و ضرورة تهيئتها:

 كما يلاحظ من ناحية أخرى أن تهيئة مواقف السيارات التي تمكّن في الأقطار المصنّعة من تأمين الارتباط بين النقل الفردي و النقل الجماعي هي شبه مفقودة في المدن العربية، وهذا ما يولد انقطاع التنقل بالنسبة إلى كل سائق يحاول استعمال النقل العمومي، ، مثلما هو الحال بالنسبة إلى العون التجاري القاصد ميناء صفاقس على مستوى انقطاع ١ بين موقف السيارات حذو وزارة الداخلية و محطة أرتال (رسم عدد ٤).

  و يشمل ضعف الترابط هذا أو انعدامه عقد التبادل (nœuds échange’d) التي تربط بين المجال الداخلي للمدينة و المجالات الدولية الخارجية عن طريق الجو والبحر مثل المطارات و المواني. و باستثناء بعض المواني الجوية مثل الدار البيضاء يغيب القطار و المترو في المطارات العربية. 

  و بصفة عامة قلما تحتوي هذه الطرفيات (terminaux) على عقد ترابط مع الحافلات الحضرية و بين المدن و سيارات الأجرة و الترام و المترو. 

  و تنفصل بهذه الكيفية مختلف مستويات التنقل الحضرية و الإقليمية و الوطنية و العالمية في حين يعتبر المختصون في النقل الحضري أن ضمان النقل لاستمرارية التنقلات عبر مختلف المقاييس المجالية هو من أهم مؤشرات نجاح القطاع في تأمين الخدمة التي وضع من أجلها.

   و يعتبر عامل انقطاع التنقلات (أنظر الرسوم عدد ٢ و ٤ و الجزء الأول من الرسم عدد ٥) من أهم أسباب عزوف المستعملين في الأقطار العربية و في العالم عن النقل الجماعي و الٍالتفات إلى السيارة الفردية التي تشهد انتشارا واسعا واستعمالا متزايداً.

   فأمام عدم الترابط بين السيارة الخاصة والنقل العمومي يلتجأ الفرد غالبا إلى امتلاك السيارة الخاصة التي تتميز عن النقل العمومي بتأمين خدمة الربط الكامل و المباشر بين نقطة الانطلاق ونقطة الوصول (Service porte à porte).

   ومن هنا ينطلق تحليل التمشي المزدوج المتمثل في تنامي السيارة الفردية وتراجع النقل العمومي في عموم المدن العربية. 

  رأينا إذن في هذه الفقرة مدى تفكك تنقلات مستعملي النقل في المدن العربية و المضار التي تلحق بالفرد نتيجة انفصال وسائل التنقل و يبقى أن نبرز هذه المضار على مستوى المجموعة الحضرية والوسط الحضري. 

٤-٤- دور عقد النقل في ربط مختلف مكونات السلسلة: 

٤-٤-١- انعدام الترابط: الوسائط و المنظومة. 

  ما يلاحظه المشاهد للمدينة العربية اليوم هو تعدد وسائط النقل الجماعي إلى جانب السيارة الفردية، إلا أن عدم ارتباط هذه الوسائط يمنعنا من الحديث عن منظومة نقل. إذ أن المنظومة تفرض وجود ارتباطات عديدة بين العناصر بحيث يشتغل النقل كمجموعة متكاملة و مندمجة تؤدي ما ينتظره منها المستعمل من خدمات.

   فالنقل الحضري في المدينة العربية يشتغل حسب نموذج يعتمد وسيلة النقل لا المنظومة. فتعدد الوسائل ينبغي ألا يخفي انعدام التنسيق و الاندماج هذه الوسائل في مجموعة متكاملة. 

   وغياب التنسيق التنظيمي و المتعلق بترابط التوقيت و توافق الأسعار و توحيد التذاكر ينجم عنه تزايد الإضناء و إهدار الوقت و العزوف عن استعمال النقل الجماعي. 

  أما على مستوى عقد النقل داخل المدينة و على أطرافها فان غياب التنسيق و الربط بين الوسائط المختلفة يؤدي إلى تمدد مسافات الربط بين الوسائط و تمطط وقت التنقل بينها و ارتفاع فترات الانتظار. 

٤-٤-٢- انعدام مواقف الترابط بين السيارات الفردية والنقل العمومي: 

  وتتأكد ظاهرة تفكك التنقلات من خلال ظاهرة عدم ترابط شبكة النقل العمومي في مجملها مع السيارة الفردية على مستوى المحطات المركزية الكبرى أو المحطات الطرفية، حيث تغيب مواقف السيارات التي كان من الممكن أن تجعل مستعمليها يحدون من استعمال السيارة الخاصة و يتنقلون عبر النقل العمومي. 

  ويتسبب غياب مواقف الترابط في انعدام التنقلات المزدوجة بين السيارة الخاصة والنقل العمومي ويجعل هاتين الوسيلتين تتنافران عوض تكاملهما كما هو الشأن في مدن العالم المصنع، حيث يعتبر تركيز مواقف السيارات و ربطها بشبكات النقل الجماعي و محولات الطرقات السيارة من أهم قواعد تهيئة النقل وترتيب المجال الحضري بصفة عامة، ( أنظر الرسم عدد ٦) لثني السائق عن الوصول بالسيارة الى وسط المدينة وحثه على تركها في الموقف و استعمال النقل الجماعي، وكثيراً ما يشمل هذا التنافر في المدن العربية حتى وسائل النقل الجماعي فيما يبنهما (النقل الجماعي العمومي والخاص)، فمن النادر مثلا أن نجد موقفا مجهزا لسيارات التاكسي في محطات النقل العمومي ومترو وترام وحافلات وقطارات. 

   فإلى جانب تقطّع التنقلات بالنسبة إلى الفرد وإهداره للوقت تنجم عن انعدام مواقف الترابط بين السيارة الفردية والنقل العمومي ظاهرة العشوائية على مستوى محطات القطارات والترام والحافلات وانخرام استعمال الطريق و الوقوف غير القانوني، مما يسبب اختناقات مرورية على أطراف المحطات، تؤدي إلى ضياع الوقت وتضاعف المخالفات وإمكانيات الحوادث. 

٥- تهيئة عقد النقل: مثل كل المشاريع تستوجب فكرة وضع هيكل تنظيمي لسلسلة النقل مراحل تحدد هنا بأربعة: 

٥-١- ىتصور المشروع: 

    نقطة البداية تكون تحليلاً للطلب في ميدان النقل يؤدي إلى رسم شامل لأبعاد التنقلات الحقيقية أو الكامنة ثم إلى إعداد نموذج تنقلات يحتوي تصنيفا لمختلف المسالك المتاحة حسب رغبة المتنقلين و ميزات وسائل النقل المعروضة أو التي ينتظر تسخيرها.

 ٥-٢- الإنجاز:

   يهم تجسيم المشروع الذي ينطلق من العنصر العقاري الذي يمكن من بناء التجهيزات و الفضاءات المعدة للترابط بين مختلف الوسائط و تلك المخصصة لإيواء المستعملين و تنقلهم بين مختلف الوسائط. 

  و من شروط نجاح هذه المرحلة هي الأخذ بعين الاعتبار مسائل متعلقة بالهندسة المعمارية (شفافية البناء و الإضاءة الطبيعية و الرحابة) و الوظيفية ( تحديد الوظائف و ضبط العناصر الداعمة لها) و الراحة المادية و المعنوية للمستعملين (إطار موسيقي مثلا) و السلامة. 

٥-٣- التوافق:

  هو توجه يمكن أن يبدأ منذ المرحلة الأولى لمشروع التهيئة، نظرا لأهميته و أبعاده. 

   وهذا التوجه أساسي لضمان ظروف تصرف ناجح و مربح لهياكل الربط بين وسائط النقل خاصة و أنها تهم في نفس الوقت القطاع العام و القطاع الخاص (تجارة و خدمات مختلفة). 

  و تخص هذه المرحلة عديد المتدخلين مثل مؤسسات النقل (حافلات و قطارات ترام و مترو) مثلا لضبط و تحديد الأوقات و التعريفات و التذاكر بصفة متناسقة تضمن للمستعمل التواصل شبه التام بين مختلف وسائط النقل.

   كما تشمل عملية التوافق هياكل مثل البلديات التي يمكن أن تجعل من عقدة النقل محورا أساسيا للتهيئة الحضرية و دعم المركزية تضمن لها مثلا مأوى للسيارات و التجار (مغازات مختلفة) و موفرو الخدمات (مقاهي و مطاعم و مراكز اتصالات الخ...) و يمكن كذلك إدماج مختلف المنظمات الخاصة بالمستهلكين و مستعملي النقل العمومي و أصحاب السيارات في هذه العملية. 

٥-٤- التصرف:

   يكتسي التصرف في عقدة النقل مظاهر عديدة منها التصرف الإداري و المالي المتعلق بتشغيل يومي لهياكل الترابط في حد ذاتها و بالنسبة إلى المجال المحيط بها. و ينبغي أن يتحلى التصرف في هذه الهياكل بصفة المرونة و تلاؤم مختلف المتدخلين لوضعيات متحولة بصفة شبه دائمة. لذا فإن تركيز وحدة تنسيق دائم تضم مختلف المتدخلين هو من المبادئ الأساسية للتصرف في هذه الهياكل.

    إذن يمكن القول إن نقاط الترابط أو العقد المتعلقة بوسائط النقل الحضري و غيرها ينبغي أن تهدف كذلك إلى إدماج هذه الأماكن ضمن المجال الحضري كمكونات أساسية للمشهد الحضري و محاور تهدف إلى هيكلة الأحياء التي تنتمي إليها. كما ينبغي عليها أن تخضع لشروط الإنتاجية بدون أن تهمل الوظيفة الاجتماعية التي وجدت من أجلها مع التركيز الدائم على النوعية الرفيعة للخدمة. 

الخاتمة: 

   لقد حاولنا أن نبرز من خلال هذا التحليل أن للنقل الجماعي دور فعال في الحد من تكلفة النقل بالنسبة إلي الفرد و خاصة بالنسبة إلى المجموعة الوطنية من حيث الحد من الازدحام و التلوث و الحوادث و حاولنا كذلك إبراز الأبعاد السلبية لضعف النقل الجماعي أو انعدامه في المدن العربية و ركزنا على ضرورة إدماج النقل الجماعي ضمن منظومة النقل الحضري من خلال مفهوم سلسلة التنقل مع التركيز على إقحام التّرابط (أو إحكامه) بين وسائل النّقل الجماعي فيما بينها من جهة و هذه الوسائل و السيارة الفردية من جهة أخرى و على تهيئة عقد النقل و مرحلية انجازها.

   و عرضنا من جهة ثانية نماذج من تحركية السكان في تونس أبرزت تفكك التنقلات الحضرية القصيرة أو الطويلة داخل المدينة العربية أو مع محيطها، مما يتسبب في معاقبة مستعمل النقل الجماعي و يجعله يعزف عنه و يلتفت للوسائل الفردية. و أبرزنا كذلك النتائج السلبية للاستعمال المشط للسيارة الخاصة على الأسرة و المجموعة الوطنية و المجال الحضري بصفة أعم، و توصلنا في جل الأحيان إلى أن المسألة تتركز في نهاية الأمر على موضوع التهيئة.

   ففي حين تؤكد الدراسات أن النقل بإمكانه هيكلة المجال و أنه قد استعمل في تجسيم أبرز مبادئ التهيئة الحضرية في أوروبا و اليابان و أمريكا الشمالية، مازالت المدن العربية تطبق مخططات يلعب فيها النقل دوراً محدوداً إن لم يغب قيها الدور المهيكل لهذا القطاع، في حين تحتاج مدننا إلى أدوات للتحكم في التوسع المجالي المشط و النمو غير المتوازن و العشوائي أحياناً. 

  و قد أبرزنا فيما سبق الفوائد التي يمكن للمدينة العربية أن تجنيها من إدماج سلسلة النقل ضمن التهيئة الحضرية و المتمثلة في الحد من الاستهلاك المشط و المتزايد للمجال الحضري و ظاهرة الإفراق المتسببة في تضاعف تكاليف التحضر إلى جانب دور الإدماج لمختلف الشرائح الاجتماعية أثناء تسلسل عمليات التنقل ضمن مختلف وسائل النقل، و بدون المس من مكانة السيارة الفردية في الرقي الشخصي للفرد و في نمو المدينة و تطوير المجتمع الحضري، حاولنا تثمين النقل الجماعي بالحد من زمن الانتظار و التنقل بين المحطات و ضمان سلامة المستعمل لهذه الخدمة، بكيفية تمكن المواطن العربي من استعمال مشترك للسيارة و النقل الجماعي أثناء تنقلاته، إلا أن استخدام تخطيط النقل الحضري و تهيئته و إدماج النقل الجماعي ضمن سلسلة التنقل بالخصوص كأداة للتحكم في نمو المدينة العربية و اندماجها الاقتصادي و الاجتماعي و المجالي يستوجب شرطين : 

- على المدى المتوسط، تخطيط النقل ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار طلب النقل من خلال رغبة المستعمل للسيارة الفردية و النقل الجماعي في ذات الوقت و ألا يحاول الاستجابة لمتطلبات العرض فحسب، المتمثلة في رغبات منشآت النقل أوالاقتصار على فئة من مستعملي منظومة النقل. فمخططات النقل الحضري رغم انتشارها النسبي في الأقطار العربية بالنسبة إلى ما كانت عليه منذ عقدين ما يزال محدودة، كما أنها غالبا ما تقتصر على مخططات الجولان (أو مخططات المرور) (circulation de Plan) ، لا على مخططات التنقلات(déplacement de Plan) . 

- على المدى البعيد ضرورة تركيز ثقافة النقل: بما أن عملية تخطيط النقل يمكن أن تمس مجالات بعيدة وغير مباشرة و غير متوقعة أحياناً و تستوجب تشريك عديد الأطراف، ينبغي لكل المتدخلين من مخططين و معماريين و مهندسين و إداريين و سياسيين أن يكونوا متشبعين مثلاً بفكرة منظومة النقل و مدى تأثيراتها القريبة و المتوسطة و البعيدة و انعكاساتها المباشرة و غير المباشرة اجتماعية كانت أو اقتصادية أو مجالية أدوات يمكن أن تتمثل في النقل الحضري.





حمله من  هنا




للقراءة والتحميل اضغط   هنا   أو   هنا   أو   هنا





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا