التنظيم
المكاني للمشكلات الاجتماعية
المقدمة :
يعني
المنزل لساكنيه أكثر من شيء ، فهو الملجأ للحماية من ظروف الجو وتقلباته ، وهو
موقع اجتماعي ، وهو استثمار اقتصادي لمالكه . وهو مشكلة عندما يكون دون المستوى
الذي يريح ساكنيه ويسبب لهم الأذى والإزعاج . ولمعالجة مشكلة المساكن القديمة
تعتمد أحد أسلوبين : أما تهديمها وإعادة البناء أو إطالة العمر بالترميم والإضافة
العمرانية لما ينقص من خدمات وتسهيلات . ولتطبيق اي من هذين الأسلوبين يبرز سؤال
مفاده : ((هل تعالج المنازل مفردة أم على أساس الحي السكني ؟)) .
فالاعتقاد السائد إن معظم إن لم يكن جميع منازل الحي السكني قد بنيت في فترة زمنية محددة ، أي إنها متقاربة من حيث تاريخ البناء و طرازه ومادته . لذا فان ما يحتاجه منزل ما في الحي السكني قد تحتاجه نسبة غير قليلة من منازل ذلك الحي . ولما كانت الحالات المفردة قليلة ، لذا اتجه المخططون الى وضع سياسات علاجية أساسها تصنيف المناطق حسب أولويات الحاجة إلى اتخاذ إجراءات . وترجع الفكرة الأساسية وراء اعتماد تاريخ بناء المنازل كمؤشر رئيس في سياسة التطوير السكني الى الاعتقاد بان لكل حقبة زمنية معاييرها المعمارية ومتطلباتها الحضارية الخاصة بها . تتغير هذه المعايير مع التطور الاقتصادي والحضاري للمجتمع . لذلك ما يعد مقبولا في مرحلة زمنية معينة قد لا يكون كذلك في مرحلة لاحقة . وما تعده طبقة اجتماعية مقبولا قد ترفضه طبقة أخرى في المجتمع نفسه . لذلك ، فان تحديد معايير موحدة مقبولة من الجميع أمر غير هين ويكتفي بوضع معايير الحد الأدنى الذي يعد المنزل على أساسه مقبولا لسكنى الإنسان ، بعبارة أخرى ، إذا لم تتوافر هذه المعايير في الوحدة السكنية فإنها تعد دون المعيار substandard ولا يسمح باستخدامها لسكنى الإنسان ، وبالتالي يتطلب الأمر تدخل الدولة إما لإزالتها أو رفع مستواها العمراني والمعياري لتصل إلى الحد الأدنى المقبول رسميا . وهذا التدخل ضروري طالما للإنسان قيمة خاصة وحقوق مشروعة للعيش بمستوى إنساني وحضاري لائق ، فعلى الدولة ان تساعده ماديا ومعنويا لتحقيق ذلك .
تعود جذور مشكلة السكن التي تعاني منها اليوم بريطانيا إلى الثورة الصناعية وما رافقها من عملية تحضر وبناء مساكن بصورة مستعجلة للعمال قرب المعامل والمصانع . ولم يكن هناك قانون يحدد معاييراً عمرانية للمساكن في بريطانيا قبل عام 1875 . وحتى المنازل التي بنيت بعد هذا التاريخ تحتاج الى اهتمام سلطات الإسكان بسبب عمرها على الأقل .
وخلال هذه المدة الزمنية لم يزد عدد السكان فقط ، وحتى حجم العائلة قد أصبح أصغر ولهذا تضاعف عدد الساكنين Households . يعني هذا تضاعف الطلب على الوحدات السكنية مقابل زيادة غير متناسبة في العرض السكني . أدت هذه الحالة إلى زيادة في كثافة استخدام المنازل القديمة ، التي تسكن في الغالب من قبل ذوي الدخل المحدود والطبقة العاملة . بعبارة أدق ، يسكن المنازل القديمة ساكنين غير قادرين على توفير المال اللازم لصيانتها وترميمها . وفي حالة تأجيرها من القطاع الخاص وبسبب تداعي قيمة الحي السكني اقتصاديا وعمرانيا واجتماعيا ، وبسبب انخفاض الإيجارات في مثل هذه المناطق فإن أصحابها غير ميالين لصيانتها أو صرف إي مبلغ من المال عليها ما لم يكن له مردود اقتصادي مقابل . وبالإضافة إلى الفارق في عمر الساكنين (مسنين ومتقاعدين مقابل عوائل في أول دورة حياتها) ، هناك فرق جوهري آخر في الكثافة السكنية . فالمنازل التي يسكنها أصحابها المسنون تمتاز بكثافة سكنية واطئة جدا ، تقابلها كثافة سكنية عالية في المنازل المؤجرة على أساس الغرف او الشقق . كلتا الحالتين تؤديان الى تعجيل تداعي المنازل وزيادة الضغط السكني الذي يستوجب تدخلا مباشرا من قبل الدولة للحد منه وتخفيف حدته لما له من نتائج وخيمة على الساكنين أولا وعلى المجتمع بمحصلته النهائية .
ركز مسئولو الإسكانذ في بريطانيا أول الأمر على إزالة المنازل القديمة الآيلة إلى السقوط ، وسميت المناطق التي شملتها سياسة إعادة التطوير بمناطق الإزالة Clearance Areas . وحدد المشرع البريطاني مؤشرات توضح هذه المناطق بكون منازلها لا تصلح لسكنى الإنسان وذلك لاتصاف منازلها بسوء التنظيم العمراني الداخلي او بسبب ضيق شوارعها أو المخاطر الصحية التي تسببها هذه المنازل لساكنيها . وفق قانون الإسكان البريطاني لعام 1957 تعد المعايير الآتية مؤشرات لمدى صلاحية المنزل لسكنى الإنسان :
-1- استقرارية الحالة العمرانية.
- 2- توفير إنارة طبيعية داخل المنزل.
3- - التنظيم الداخلي الجيد للمنزل.
4- - توفر مستلزمات طهو الطعام وخزنه.
-5- توفر أنابيب المياه الجارية داخل المنزل.
-6- توفر مجال للتهوية وتصريف الفضلات .
وارتفاع نسبة وجود المنازل التي تفتقد إلى واحد أو أكثر من هذه المعايير في أية منطقة يعني أن الحي السكني بحاجة إلى تنفيذ سياسة إعادة التطوير والاعمار .
لتنفيذ
سياسة إزالة المنازل غير الصالحة لسكنى الإنسان يتوجب على السلطات المحلية رفع
تقرير تفصيلي عن المناطق السكنية ضمن رقعة عملها محددة على الخارطة مواقع المنازل
التي يتطلب تهديمها ، مع تفاصيل بالأرقام عن حالة هذه المنازل و ساكنيها . تشمل
هذه المعلومات التفصيلية جميع المعايير الواردة في القانون ، تضاف إليها معلومات
عن التركيب الديموغرافي للساكنين والحالة الاقتصادية والاجتماعية لهم والأراضي
المتروكة داخل الحي السكني . أي أن رسم حدود مناطق إعادة التطوير يعتمد مؤشرات
عمرانية واجتماعية واقتصادية في الوقت نفسه
.
وبسبب الكلفة الاقتصادية العالية لعملية إعادة التطوير للمناطق السكنية القديمة ، ونتيجة المشاكل الاجتماعية الناجمة عنها فقد غيرت الحكومة البريطانية سياستها واتجهت نحو شراء عمر جديد للمنازل وذلك بترميمها وإضافة ما ينقصها من خدمات أساسية ، أي ظهرت سياسة تحسين المنازل والمناطق السكنية . مرت هذه السياسة بمرحلتين ، الأولى جاءت بعد إصدار قانون الإسكان لعام 1969 الذي اوجد أداة جديدة هي مناطق التحسين العامة . عرف هذا القانون مناطق التحسين العامة بكونها مناطق تكون منازلها جيدة نسبيا وحركة الانتقال السكنية فيها قليلة وتسود فيها نسبة المالكين الساكنين على المؤجرين وذلك لضمان المبادرة الذاتية للقيام بالترميمات والتحسينات المطلوبة ، بعبارة أخرى ، تمتاز هذه المناطق بواقع سكني لا باس به وقادرة على توفير السكن الجيد ولسنين عديدة مقبلة ، وبكونها غير متأثرة بأية مقترحات تخطيطية أو مشمولة بسياسة إعادة التطوير ، ويكون مجتمعها المحلي مستقرا ولا يعاني من ضغط سكني حاد .
ولما كان قانون الإسكان لعام 1969 غير ملزم للساكنين للقيام بإجراءات التحسين ولأن المناطق المشمولة بالتحسين ذات واقع سكني جيد نسبيا فقد وجه نقد لاذع للقانون . استجابة للنقد ولملء الفراغ بين قانوني الإسكان لعامي 1957 و 1969 صد قانون الإسكان عام 1974 الذي أكد على المؤشرات الاجتماعية في رسم سياسة الإسكان . وقد استحدث هذا القانون صيغة جديدة في التنظيم المكاني سماها بمناطق الفعل السكني ، وميزها بظروف معيشية غير مرضية من حيث الواقع العمراني للمنازل والحالة الاقتصادية والاجتماعية للساكنين . أي أن هذه المناطق تعاني من واقع سكني متردي ومشاكل اجتماعية حادة وترتفع فيها الكثافة السكنية وتسود فيها نسبة المنازل المؤجرة من القطاع الخاص ويضم مجتمعها تنوعا عرقيا.
ولتأشير الواقع الاجتماعي – الاقتصادي لسكان مناطق الفعل السكني فقد اعتمدت مؤشرات عديدة ، منها :
-1- تعددية عدد الساكنين في الوحدة السكنية (والساكن قد يكون عائلة أو شخص).
-2- ارتفاع نسبة المسنين والعجزة والمتقاعدين في الحي .
3- - ارتفاع نسبة العوائل الكبيرة الحجم.
-4- ارتفاع نسبة العوائل الواطئة الدخل.
-5- ارتفاع نسبة البطالة بين القادرين على العمل في الحي السكني.
6- - ارتفاع نسبة المنازل المؤجرة من القطاع الخاص.
-7- ارتفاع نسبة الساكنين المشتركين في استخدام التسهيلات الخدمية الموجودة في الوحدة السكنية (حمام ، مرحاض ، مطبخ(.
-8- ارتفاع نسبة الساكنين الذين يعانون من ارتفاع الكثافة السكنية (أكثر من شخص ونصف للغرفة الواحدة) . (العمر و صالح ، 1987(.
هذه لمحة سريعة عن نموذج لسياسة مكانية ، تنظيم مكاني لمعالجة مشكلة حادة يعاني منها المجتمع يوميا . مشكلة لها أبعادها المكانية ، إضافة إلى الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والتربوية . مشكلة تصب مباشرة ، وبصورة غير مباشرة ، في العديد من المشكلات التي تواجهها الدولة يوميا . أنها مسألة ساخنة على طاولة مناقشات صانعي القرارات ومنفذيها على حد سواء . من هذا المنطلق جاء استعراض هذا النموذج دون غيره لعلاقته مع معظم أن لم يكن جميع موضوعات هذا الكتاب .
______________
عن كتاب
: جغرافية المشكلات الاجتماعية ، أ.د. مضر خليل العمر و د. محمد احمد عقلة المؤمني ، دار الكندي للنشر
والتوزيع ،اربد ، 2000 (من ص 24 – 30 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق