المجال الريفي: المجتمع الريفي
يُعرف المجتمع الريفي، بشكل عام، بوصفه المجتمع الذي يعيش في مستوى تنظيم منخفض. ويتكون من الفلاحين والرعاة وصيادي الحيوانات والأسماك. ويُفهم، عادة، كمقابل للمجتمع الحضري. ويتميز المجتمع الريفي بسيطرة نسبية للحرف الزراعية، والعلاقة الوثيقة بين الناس، وصغر حجم تجمعاته الاجتماعية، والتخلخل السكاني النسبي، مع درجة عالية من التجانس الاجتماعي وضآلة التميز والتدرج الداخليين، فضلاً عن ضآلة الحراك الاجتماعي الرأسي والوظيفي عند السكان.
هل يمكن أن نميز قيم المجتمع الريفي بأنها تختلف في أسسها عن قيم المجتمع البدائي أو الحضري؟ يقول "روبرت ردفيلد Redfield" في كتابه "المجتمع الريفي والثقافة": أننا لو نقلنا قروياً من موطنه إلى مكان آخر ريفي بعيداً عن مجتمعه، وكان مزوداً بمعرفة لغة هذا المكان الجديد فإنه يستشعر ألفة سريعة. قد يكون ذلك راجعاً إلى أن الأسس الموجهة للحياة متشابهة؛ فهناك أوجه شبه عامة ومشتركة في الحياة القروية في جميع أنحاء العالم، طالما أن الفلاحين يعملون بالزراعة، التي تشكّل، في الوقت نفسه، طريقتهم في الحياة. ويعتقد "ردفيلد" أنه وجد مجموعة مترابطة من القيم والاتجاهات في الحياة الريفية تتلخص في أن القرويين يرتبطون بالأرض ارتباطاً وثيقاً يصل إلى حد التقديس. كما أنهم يتعلقون بالطرق التقليدية القديمة ويضحون بمصلحتهم الشخصية في سبيل العائلة. ويسيطر الشعور الديني على الكثير من مظاهر سلوكهم. ويبدون بعض مظاهر الشك والريبة، وخاصة تجاه سكان المدينة. ويُضيف: أن العمل الزراعي في نظرهم هو من أهم الأعمال وأجلَّها قدراً؛ لأنه مرتبط بنوع من الشعور الديني، إذ إن العمل بجد في الأرض يُرضي الله ويضمن الرزق. كما ينظر سكان الريف إلى سكان المدن على أنهم أُناس مرفهون، تتعب بسرعة ولا تحتمل المشقة وغير قادرة على مزاولة العمل الشاق في الزراعة، الذي هو مصدر زهو القروي. وطبيعي أن يمتد هذا الاحتقار إلى الأعمال التجارية.
كما تُمارس الحياة في المجتمع الريفي في إطار من الود الجماعي الكبير للغاية مع الجميع، بحيث يُصبح من الطبيعي إيجاد روابط خاصة. ويتطلب انتظام الحياة في المجتمع الريفي أن يقبل كل فرد، ولو ظاهرياً على الأقل، القوانين والأعراف، التي تحكم السّلوكيات ونظام القيم السائد. وكل من يسعى إلى التفرد يُحدث أخطاء في حسن سير الحياة الاجتماعية. كما أن الطفل الريفي مندمج بعمق في بيئته المحلية التي يعيش فيها، ويتطابق بسهولة مع والديه الذين يتقاسم معهم المسؤولية في مرحلة مبكرة جداً من حياته. ويوضح هذا أن البيئة الريفية تشجع حدوث اندماج مبكر للشخصية، ومن ثَم، فمن الصعب أن يحصل الفرد الريفي على استقلال كامل في الرأي، طالما أن والده لا يزال مصدراً رئيسياً للدخل الاقتصادي، ورئيساً للأسرة الريفية.
أما مفهوم القرية، فهناك تعريفات عديدة له. ولعل أكثر التعريفات المطروحة تشير إلى أنها نموذج له طريقة معينة في الحياة يعتمد أساساً على الزراعة؛ بينما يذهب "ريموند فيرث Firth" إلى أن اصطلاح أو مفهوم القرية، ينطبق على كل مجتمع يتكون من عدد من المنتجين الصغار لغرض الاستهلاك الخاص Private Consumption. إن تعريف "فيرث" هذا يُخرج المزارعين الذين يزرعون الأرض عن طريق الغير لغرض الاستغلال أو الربح، وهم موجودون في أغلب القرى. لذلك ذهب "إيركو Ericwo" إلى تقسيم سكان القرى إلى طبقتين متمايزتين، هما:
الطبقة الأولى: القرويون الذين يملكون أرضاً أو يزرعون عن طريق الإيجار ويعيشون عليها، وتكون طريقتهم في الحياة المعتمدة على الأرض ـ وليست الزراعة ـ عملاً مربحاً لهم.
الطبقة الثانية: هم أولئك المزارعون الذين ينظرون إلى الأرض على أنها مصدر من مصادر الربح، وأنها نوع من أنواع رأس المال.
ما أهم الخصائص التي يتسم بها المجتمع الريفي؟
اتفق علماء الاجتماع والأنثربولوجيا، من خلال ملاحظاتهم وبحوثهم الميدانية في كثير من المجتمعات الريفية، على أن القرى لها خصائص وسمات عامة تميزها عن غيرها من المجتمعات الأخرى. فالمجتمعات الريفية يسكنها الفلاحون المتجانسون والمتعاونون والمتكاملون، وتسود بينهم علاقات المواجهة، ويتخذون من الزراعة عملاً رئيسياً لهم. وهم لا يشكلون كثافة سكانية في مناطقهم. كما أن المجتمعات الريفية يمكن تمييزها بالعين المجردة، بكل مظاهرها الخارجية الواضحة، وثقافتها الريفية المميزة. ويمكن تحديد أهم خصائص هذه المجتمعات فيما يلي:
1. تزداد العلاقات الاجتماعية في المجتمع الريفي بدرجة كبيرة. وتكون فيه العلاقات السائدة قائمة على علاقات الوجه للوجه، أي علاقات الأواصر القوية، التي تقوم على اللقاء المباشر، والتعاون والتكامل الدائم، والتفاهم المشترك الوثيق، والإيثار الكامل، والاشتراك الكامل، في كافة المناسبات الاجتماعية. ويسود التضامن الاجتماعي نتيجة للتشابه في السمات العامة، والخبرات المتماثلة، والاتفاق في الأهداف العامة المشتركة، ما يؤدي إلى سيادة العلاقات الشخصية غير الرسمية.
2. يتسم المجتمع الريفي بأحادية المهنة وهي الزراعة. وعلى أساس أن العمل في الزراعة غير متخصص، فإن على الفلاح العمل في كل نواحي الإنتاج الزراعي؛ فعليه أن يجيد بعض المهام المكملة للعمل الزراعي، كقطع الأخشاب أو إصلاح الجسور وأدوات الزراعة وما إلى ذلك. وقد أدى عدم التخصص إلى وجود نظام معين لتقسيم العمل؛ فالرجال –مثلاً- يقومون جميعاً بالعمل نفسه مهما كان عددهم في الأسرة، وكذلك الأمر للنساء.
3. يتسم المجتمع الريفي بالتجانس، ولعل صفة التجانس هي التي تميز المجتمعات ذات المهنة الواحدة عن المجتمعات متعددة المهن. فالريفي يعيش في الواقع مجتمعاً واحداً بكل أبعاده المهنية والاقتصادية والاجتماعية، ويتفاعل فيه وينفعل به. فالقروي يعرف مجتمعه كله وذلك لتشابه اللغة والعقائد والأعراف وأنماط السلوك، مع الاشتراك في المصالح العامة والمهنة الرئيسية. وهذا هو ما أطلق عليه إميل دوركايم "التضامن الآلي"، الذي يسود هذه المجتمعات التقليدية ذات الحجم الصغير نسبياً، والتي يتصف سكانها بالتجانس والتشابه في طريقة الحياة، وتقسيم العمل، والارتباط القوي نظراً لمعرفة كل منهم بالآخر، واشتراكهم سوياً في احترام القيم والسلطة العامة. كذلك، فإن نطاق الفردية في هذا المجتمع محدود للغاية؛ فالأبناء يترعرعون على منوال حياة آبائهم ومن ثم يتوقع لهم أن يعيشوا طريقة حياة آبائهم نفسها. وهذا من شأنه دعم تجانس المجتمع الريفي.
4. تتسم الحياة الريفية بالبساطة. وتظهر هذه البساطة في بُعد الفلاح عن مظاهر التعقيد الموجودة في المدينة. ويرجع هذا إلى بساطة الأعمال التي يقوم بها، والتي اتخذت شكلاً متكرراً، إلى جانب بساطة الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها. ومن مظاهر بساطة الحياة في الريف أن الفلاح لا يعلق أهمية بالغة على الكماليات، التي تصبح في المدينة في مرتبة الضروريات.
5. تتسم الحياة الريفية بقوة الضبط الاجتماعي غير الرسمي؛ فالمجتمع الريفي يتميز بقوة الضبط المتمثلة في العادات والتقاليد والأعراف. فالريفيون يعيشون حياتهم الخاصة متأثرين بالقواعد السلوكية غير الرسمية، فيتمسكون بعاداتهم وتقاليدهم ويحافظون عليها بشدة ويتناقلونها عبر الأجيال. كما تلعب الشائعات دوراً مهماً في الرقابة على السلوك، وتصرفات الأفراد في القرية.
بناءً على ذلك، يمكن تعريف المجتمع الريفي بأنه المجتمع الصغير نسبياً، والذي يعمل غالبية سكانه بالزراعة كعمل رئيسي لهم، والذي يتميز بالعلاقات المباشرة والوثيقة المتمثلة في علاقات المواجهة؛ لذلك فهم أكثر تجانساً واعتماداً على بعضهم. كما أنه يخضع لقوة الضبط الاجتماعي غير الرسمي المتمثلة في العادات والتقاليد والقيم والأعراف، كما تنتقل معايير السلوك في مثل هذا المجتمع من جيل إلى جيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق