محطات فارقة
في تطور الفكر الجغرافي في العصور الحديثة
الدكتور مهدي بسام الزغبي
محاضر في التنمية البشرية والاقتصادية
قسم الجغرافيا بجامعة دمشق
إن التعَّرف على طبيعة الفكر الجغرافي الحديث، لا يمكن أن يتم إلا عن طريق استعراض مراحل التطور ومحاولات التجديد التي شهدها هذا الفكر، وهنا فأن البحث ليس بصدد سرد تفصيلي لمسيرة تطور علم الجغرافيا في العصور الحديثة والتي أسهبت في شرحها العديد من المراجع العلمية، وإنما سوف يتم الاكتفاء بالإضاءةظ على محطات تاريخية هامة وفارقة في مسيرة الفكر الجغرافي خلال القرون الثلاث الماضية.
منذ انتهاء عصر الكشوفات الجغرافية عكف مختصوا هذا الفرع من العلوم على محاولات تجديد الفكر الجغرافي ليواكب التطورات المتسارعة التي يشهدها العالم، حيث أنه وكنتيجة للاتساع الكبير للمعرفة العلمية في القرن الثامن عشر، وظهور عدد كبير من العلوم الطبيعية التي تعنى بدراسة ظواهر الأرض المختلفة، ظهر رد فعل عنيف يستهدف استقلال الجغرافيا، يتمثل في صورة حركة " الجغرافيا البحتة "، التي لا تريد خدمة أغراض علوم أخرى.
ولم يبلغ القرن التاسع عشر منتصفه حتى كان علم الجغرافيا الحديث قد اكتملت عناصره وتدعمت أركانه بفضل جهود المدرسة الجغرافية الألمانية وخاصة روادها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ليختلف جذرياً عما يعرف بالجغرافيا القديمة أو الكلاسيكيةclassic ، فقد أخذت الجغرافيا الحديثة صفة العلم بعد أن كانت مجرد أشتاتاً من المعارف والحقائق وأحياناً الخرافات، ومن ثم يكون لعلم الجغرافيا نشأتان إحداهما قديمة يونانية والثانية حديثة ألمانية لتكون بذلك علماً أوروبيّ النشأة وإن كان عالميّ الاهتمام.
إن الجغرافيا الحديثة مدينة بوجودها إلى العالمين الألمانيين الشهيرين فون همبولت Alexander von Humboldt(1769-1859) ، وكارل ريتر (1779- 1859) Carl Ritter، غير أنه قبل الاستطراد في التأكيد على تاريخ ميلا الجغرافيا الحديثة علي يد هذين العالمين ينبغي التأكيد على أهمية جغرافي ألماني آخر هو فارينوس Verenuis (1650-1622) وفيلسوف هو كانت (1804- 1724) Kant، فالأول قسّم الجغـرافيا إلى قسمين عام وخاص أو أصولي systematic وإقليميregional ، والثاني نزل بها من السماء إلى الأرض، فبع أن كانت الجغرافيا قبله تهتم بالجوانب الفلكية والرياضية أصبحت عنده تهتم فقط بالظاهرات الموجودة فوق سطح الأرض بل وتعد أساساً لدراسة الجوانب البشرية (1).
ويعود السبب في اعتبار كل من " فون همبولت و كارل ريتر " رواد الجغرافيا الحديثة أو مؤسسيها، إلى أن كتابات هذين العالمين الألمانيين وأفكارهما ساعدت على تحديد ميدان العلم ومحتواه ومضمونه وكيفية جمع مادته العلمية وتنظيمها، كما أنها تركت تأثيراً بالغاً على التكوين الفكري لعلماء بارزين في الجغرافيا مما ساعد على نشوء اتجاهات جغرافيّة جديدة قامت عليها مدارس فكريّة أسهمت مع مرور الزمن في إنماء الفكر الجغرافيّ وإثرائه والوصول به إلى المستوى الذي هو عليه اليوم. كانت الدراسات الطبيعية محور اهتمام همبولت وخاصة ما يتعلق بالنبات والجيولوجيا والكيمياء وغيرها، ونشر كتابة المعروف باسم " العالم"Cosmos "، حيث نظر همبولت إلى العالم نظرة كلية ومن ثم كانت دراسته للعالم شاملة ولذا اهتم بالمنهج الأصولي في الدراسات الجغرافية Systematic Geography، أما ريتر فقد اتجه في دراساته نحو المنهج الإقليمي وكذلك العوامل البيئية بهدف دراسة العلاقة بين الظاهرات المختلفة داخل الإقليم Regional Geography، ووضع ريتر كتابة بعنوان " الأرض " الاتجاه نحو الجغرافية البشرية ملازم للجغرافيا الطبيعية (2).
وقد جاء أبرز تطور للفكر الجغرافي الحديث بعد همبولت وريتز على يد راتزل Ratzel مع نهاية القرن التاسع عشر عندما نشر كتابه في الجغرافيا البشرية وكذلك كتابه الثاني في الجغرافيا السياسية، ومن خلالهما اتضحت ملامح فكرة الجغرافيا التي تشمل وضع أسس دراسة الجغرافية البشرية على أساس منهج أصولي مع التأكيد على دور الطبيعة وتأثيرها على الإنسان ونشاطه البشري وبذلك يعد رائد فكر المدرسة الحتمية (3).
وقد امتد مجال فكر المدرسة الحتمية بعد ذلك إلى فرنسا وأمريكا ومن أبرز مؤيديها في فرنسا كل من ديمولان Demolins وركلوس Reclus، أما في أمريكا فكان كل من الآنسة سمبل Semple و أرنولد جيوت Guyot و السويرث هنتنجتون Huntington ، وقد أكد هذا الأخير والذي كان من اشد أنصار المدرسة الحتمية على تأثير العوامل الطبيعة وفي مقدمها الظروف المناخية على الإنسان، وقد ألف هنتنجتون مكتبة كاملة في دراسة حتمية تأثير البيئة على الإنسان والتاريخ والحضارة (4).
ثم جاءت المدرسة الإمكانية Possibilism التي نشأت على يد الجغرافي الفرنسي فيدال دي لابلاش V.De LaBlache والتي ترى أن الإنسان عامل جغرافي يسهم في كل مكان بنصيب وافر في تعديل سطح الأرض بل وتغييره، حيث أظهر لابلاش في كتابه " أصول الجغرافية البشرية" 1922 أن المدرسة الإمكانية لا تنكر دور الظروف الطبيعية في الإنسان ولكنها ترفض مفهوم العلاقة الحتمية وتؤيد دور الإنسان وإمكانية الاختيار لديه، بمعنى أن الإنسان يستجيب لظروف البيئة ويتفاعل معها ولايخضع لها، ويعتبر لوسيان فيفر من أكثر المتحمسين لفكر المدرسة الإمكانية وقد اتضح ذلك في كتابه " الأرض والتطور البشري" كما انتشرت آراء هذه المدرسة في بريطانيا و أمريكا ومن أشهر روادها روكسبي و فلير وساور (5).
كما يعتبر هتنر الألمانى Hettner (1941-1859) صاحب أفكار جديدة عن الجغرافيا الحديثة، حيث أكد على أنها ليست علم الأرض فحسب بل هي"علم كورولوجية سطح الأرض Chorology " أي التباين الإقليمي من خلال دراسة العلاقة بين الإنسان والطبيعة في إطار الإقليم ( المدرسة الإقليميةRegional )، وهى بذلك تهدف إلى دراسة الأقاليم من حيث الوصف والتفسير والتحليل، فهو يميز بذلك بين الجغرافيا العامة التي تتناول توزيع الظاهرات على الأرض و بين الجغرافيا الإقليمية التي تتناول الأقاليم الجغرافية (6).
ومن بين محطات أفكار نهاية القرن التاسع عشر نجد "هالفورد "ماكيندر" Machinder الذي هاجم الجغرافيا السياسية التي لا تتبع العلاقات السببية، بل تبقى فيها البيانات منعزلة ويتعين على المرء في كل مرة استحضارها من الذاكرة، ومنتقدا تشظي البيانات الجغرافية المتراكمة نتيجة غياب منهجية رابطة تجمع هذا الشتات، وقد حدد "ماكيندر" مهمة الجغرافيا بإعادة توحيد المجتمع والبيئة معاً، وكان مسعاه من وراء ذلك هو جبر تلك الفجوة العميقة "بين العلوم الطبيعية ودراسة الإنسان" واعتبر "ماكيندر" أن جبر تلك الفجوة هي مهمة الجغرافي الذي عليه أن "يمد جسراً فوق تلك الهوة التي تحول دون وصولنا إلى توازن ثقافي"، وقد تركت الكتابات التي قدمها "ماكيندر" انطباعاً شاملاً عن بناء حتمي في العلاقة بين الطبيعة والثقافة وفي ذلك أكد ماكيندر في عام 1904م على أن ’’الإنسان وليس الطبيعة" كان هو البادئ بالتأثير في الآخر، لكن "الطبيعة تتحكم في المقام الأول" في الإنسان (7).
وعلى المسرح الأمريكي وضع الجغرافي الشهير ريتشارد هارتشورن Hartshorne كتابه الشهير "طبيعة الجغرافيا The Nature of Geography"، الذي مثل نظرة فلسفية وتاريخية واسعة هدفت إلى تحديد طبيعة الجغرافيا عبر دراسة وبحث مسارها التاريخي، أما على المسرح الروسي فنذكر الشهير بيتر كروبوتكين Kropotkin ( (1842-1921والذي أكد على ضرورة إدراج البعد الاجتماعي في محتوى ومنهج التعليم الجغرافي، وقد رأى كروبوتكين الجغرافيا بوضوح مشروعاً علمياً بوسعه تأدية "خدمات جليلة" (8).
وفي جميع الأحوال فإن الجغرافيا خلال النصف الأول من القرن العشرين أخذت تخضع لفلسفة العلم السائدة، وهي مذهب الذرائع المعروف بالبرغماتية والمبدأ الذي يرى بالعلم في سبيل الحياة والمجتمع لا من أجل العلم فحسب، وبذلك اتجهت الجغرافيا إلى الميدان التطبيقي، وأصبحت تعنى بدراسات مشكلات المجتمع من حيث توزيعه وتنظيمه ومرافقه وخدماته في الإطار الإقليمي، وتستهدف أنسب تقسيم إداري طبيعي للمجتمع في إقليمه.
ومع وصول الفِكر الجغرافي إلى تحديد الإطار التطبيقي النفعي للجغرافيا، أصبحت الجغرافيا تمثل تخصصاً علمياً له موقعه المتميز مابين العلوم الأخرى، وساهم الجغرافيين في أوربا وأمريكا في خدمة مجتمعاتهم في القضايا السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية.
وفي هذا المجال وضمن هذه الفترة البالغة الأهمية من تاريخ الجغرافية الحديثة لا يسعنا إلا أن نذكر ددلي ستامب (1966- 1898) Dudly stamp ، وهو أحد أشهر الجغرافيين البريطانيين وأحد أهم رواد الجغرافيا التطبيقية في العالم، والذي عهد إليه بالإشراف على مسح بريطانيا من حيث استخدام الأراضي في العقد الثالث من القرن العشرين، علماً بأن ما يعرف باستخدام الأرض Land use كانت من أهم الدراسات التي كان لها الفضل الأكبر في لفت الأنظار إلى أهمية الجغرافيا بالنسبة للتخطيط بصفة عامة (9).
ومع بداية النصف الثاني للقرن العشرين بدأت بالظهور أعمال تبحث في فلسفة العلم، كما في كتاب "الجغرافية النظرية" لبَنْجي في عام 1962، وكتاب "التفسير في الجغرافيا Explanation in Geography" لديفيد هارفي عام 1969، وهكذا تمثلت الجغرافيا كثيراً من المناهج الفلسفية كالبنيوية والتفكيكية والإنسانوية والسلوكية والوجودية (10).
ومنذ العقدين الأخيرين من القرن العشرين وبعد استيعاب الجغرافيا للحركات المنهجية والفكرية الجديدة، بدأت الجغرافيا تتفاعل مع معطيات الثورة المعلوماتية والتكنولوجية مما ترتب عليه إثراء نظرية المعرفة الجغرافية وتقدم طرق التقنية المستخدمة(11)، وقد تمثل ذلك في اتجاه الجغرافيا نحو الأساليب الكمية وتقنيات الاستشعار عن بعد ونظم المعلومات الجغرافية في معالجة موضوعاتها، مستفيدة من التقدم الهائل في علوم الحاسب والثورة المعلوماتية، وفي ظهور جغرافيات جديدة تتلاءم مع الثورة المعرفية والاتجاه التطبيقي للجغرافيا، كجغرافية السياحة وجغرافيا الخدمات، وجغرافية الجريمة والجغرافيا الطبية وغيرها الكثير من التخصصات الحديثة.
وهكذا لم تعد الجغرافيا مجرد وصف للمعالم أو تثبت للمعلومات عن الأقاليم بل أصبحت تخصصاً أكاديمياً له أصوله وقواعده وطرق بحثه التي تساعده للتوصل إلى حقائق وقواعد وقوانين، ولاستخدام تلك الحقائق والقواعد والقوانين في حل المشكلات التي يعاني من الإنسان، لذلك عمدت جميع دول العالم المتقدم إلى إعادة النظر في وضع الجغرافيا في نظمها التعليمية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي اعتبرت الجغرافيا ضمن خمسة علوم أساسية ستواجه بها أمريكا القرن الحادي والعشرين(12).
------------------------------
1 http://www.wata.cc/forums/showthread.php?29208 بتصرف: أطلع على الموقع بتاريخ 12-11-2014.
2 http://www.arabgeographers.net/vb/showthrad.php?t=3683 بتصرف: أطلع على الموقع بتاريخ 18-12-2011 .
3 http://www.geo-house.net/news.php?id=141 بتصرف: أطلع على الموقع بتاريخ 6-1- 2015.
4 http://www.arabgeographers.net/vb/showthread.php?t=3683 بتصرف: أطلع على الموقع بتاريخ 18-12-2011.
5 http://uqu.edu.sa/page/ar/49465 بتصرف: أطلع علىه بتاريخ 18-12-2011.
6 http://www.arabgeographers.net/vb/showthread.php?t=3683 بتصرف: أطلع على الموقع بتاريخ 18-12-2011 .
7 http://www.geo-house.net/news.php?id=141 بتصرف: أطلع على الموقع بتاريخ 6-1-2015.
8 http://www.geo-house.net/news.php?id=141 بتصرف: أطلع على الموقع بتاريخ 6-1-2015. بتصرف.
أطلع عليه بتاريخ 6-1-2015 .http://ar.wikipedia.org/ جغرافية9
10 صبحي، محمد عمر: الاتجاهات الحديثة في الجغرافيا، القاهرة، دار الفكر العربي، الطبعة الأولى، 1994، ص 134 بتصرف.
11 فتحي، محمد مصيلحى. مناهج البحث الجغرافي. شبين الكوم، مركز معالجة الوثائق ، 1994. ص 37 بتصرف.
12 http://dredrees.arabblogs.com/geo_development.htm بتصرف: أطلع عليه بتاريخ 19-1-2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق