التسميات

آخر المواضيع

الثلاثاء، 31 يناير 2017

أربعة قرون بين أسلوبية مايكل أنجلو وإنتقائية فينتوري ...


   أربعة قرون بين أسلوبية مايكل أنجلو وإنتقائية فينتوري


 د. مصطفى محمد المزوغي

  تملك العمارة وحدها شرف صنع العمران، فمتى كانت رصينة، حرفية، وليدة فكر خلاق كان العمران محتفيا بحضوره، مباهيا بقية المدن برصيده المديني الحضاري. روما ولندن مدينتان لهما شواهد معمارية جعلت لكل منهما صداها العمراني المديني في قارة المدن، بل ولكل منهما مذاقها المعماري. لن تجدي المقارنة أي نفعا لأي من يألوا وراء ذلك جهدا. فقط يترأى للمرء عندما يقف في محطتين معماريتين بينهما بحر زمني يمتد لأكثر من آربعة قرون، أن يتسأل هل من تشابه بينهما؟، وهل من إقتباس وإستعارات؟ أم هناك درسا جديرا بالتأمل؟.


المحطة الأولى:

  المحطة الأولى أفترشت هضبة الكابيتول؛ الهضبة الأولى من هضاب روما السبعة، فلقد سكن هذه الهضبة عدد من المعابد الرومانية، وحتى العام ٧٩ حين أصبحت الهضبة بمبانيها الأرشيف الرئيسي للأمبروطورية أنذاك. في العصور الوسطى أصبحت الهضبة المركز الإداري وبقى الحال حتى القرن السادس عشر؛ تاريخ إسهام أسلوبية مايكل أنجلو في تعريف ملامح عمران الهضبة المدني، الفراغ، والعمارة، و التفاصيل. في العام ١٥٣٨ كان قد طلب من مايكل أنجلو تغيير تمثال ماركوس أوريليوس وهو يعتلي حصانه، الذي كان يتوسط الفراغ المفتوح، فكان أن قام مايكل أنجلو بتصميم قاعدة للتمثال وإضافة سلالم مزدوجة إلى واجهة مقر مجلس الشيوخ الذي يتقدمه التمثال، كمحاولة لتحسين واجهة المركز المدني.


  لم تكن هذه المحاولة الإبتدائية كافية لتحسين هيئة المكان، الأمر الذي تم فيه تكليف مايكل أنجلو العمل على تصميم بيئة عمرانية وفراغية ملائمة ولائقة بالمكان لأن يكون (مدخل إلى المدينة). كان ذلك يعني إعادة تأهيل الساحة والمباني القائمة. إن شغف مايكل أنجلو الشخصي بالمشروع قد يكون حافزه منحه المواطنة في روما في العام ١٥٣٧ في إحتفال أقيم بذات المكان، الأمر الذي تجاوز فيه كل ما ورد في عقد التكليف.



   بدأ المشروع بزاوية حرجة ترسم العلاقة العمرانية القائمة بين المبنيين القائمين بالهضبة، فكان أن قام مايكل أنجلو بإحتواء هذه العلاقة واستثمارها بإقتراح مبنى في الواجهة المقابلة بذات الزاوية الحرجة ومبنى مجلس الشيوخ، أقترح توظيفه كمتحف الكابيتول. شكل التكوين الجديد من المباني الثلاث ساحة ديناميكية على هيئة شبه منحرف، حرص مايكل أنجلو بفكر خلاق على وحدتها وترابط مكوناتها من خلال تصميم أرضية للساحة أخذت هيئة بيضاوية تم تعريف حوافها بدرجات ثلاث منخفضة وتكوين زخرفي هندسي مركزه تمثال الأمبروطور الفيلسوف ماركوس أوريليوس. حرص مايكل أنجلو أيضا على ضمان قيام خاصية التماثل المحورية الممتدة من أسفل الهضبة مرورا بمسارها المتدرج وساحتها وإنتهاء بمحطة المحور بواجهة مبنى مجلس الشيوخ.


  بدا المبنيين المتقابلين، القائم كمجلس للمحافظين، ومتحف الكابيتول كعملين معماريين يتمتعا بصدى تكوينات معمارية كتلك التي صاغها دوناتو برامنتي كنموذج لأحد قصور عصر النهضة في روما عرف باسم كابريني، وبمنزل رفاييل حين تم إقتناؤه من قبل الفنان رفاييل عام ١٥١٧ أي بعد سبع سنوات من تاريخ تشييده، والذي تم هدمه في القرن السابع عشر ، أو كأيقونة يعقوب سانسوفينو، المكتبة التي جاورت ميدان سان مارك بفينيسيا (البندقية)، والتي وصفها أندريا بالاديو في تمهيد كتابه “الكتب الأربعة” بأنها أفضل مبنى شيد منذ العصور القديمة. إن جملة هذه المباني قد رسخت معايير العمارة ذات الوظائف العامة.


  إن الإيقاع التبادلي والمفصلية في رواق الدور الأرضي، والسمة النحتية في المفردات المعمارية، وتتويج نهايات المبنى بقطع النحت لتعزيز فواصل المبنى، جميعها على درجة عالية من الأهمية، إلا أن ما يجعل مباني مجموعة الكابيتول إستثنائيا هو أن يتم تصميم مبنى من طابقين يتم الجمع بينهما بارتفاع نظام موحد من الأعمدة المرتفعة بمقياس الطابقين لتستقر نهاية المبنى على تيجان سلسلة هذه الأعمدة وبنسبة وتناسب توافقي. هكذا كانت أسلوبية مايكل أنجلو تبدوا بسيطة في ظاهرها، إلا أنها سياق راديكالي فتح الأبواب لتطور أساليب صياغة العمارة في القرنين السادس عشر والسابع عشر وما بعدهما.


  عند وقوف المرء في هذه الساحة والتجول في محيطها يدرك أن واجهة مبنى مجلس الشيوخ قد تمت معالجته بأسلوب يضفى عليه الإنفرادية، وأن ما نراه من مفردات تبدوا وكأنها حائط ساتر وضع فقط لخطاب عمراني وليس معماري. لغة التعبير المعماري على واجهة هذا المبنى كان قد تم إختزالها في الجدار لا المبنى حيث أن هذا الجدار هو ما يتصدر الساحة وهو أيضا ما يتقدمه السلالم الشرفية، وخلفية رصينة لحضور تمثال الأمبروطور ماركوس أوريليوس.


  يبدوا الأمر أيضا مثال للتساؤل؛ فمتى يملك المصمم إختزال العمارة من كونها حالة فراغية إلى حالة جدارية؟ إن أسلوبية مايكل أنجلو ليست وليدة عبث إنتقائي لمفردات أو صيغة تعبيرية تاريخية ما، بل هي نتاج إدراك بمعطيات المكان، ووعي بفرص موضوع التصميم وقيوده، وقدرة إستيعابية للدروس المعمارية التاريخية، وفكر خلاق على تفسير الرصيد المعماري والتقدم به خطوة ليحتل حيزا بتوقيعه في مسيرة التعمير الإنسانية. قد يطول الحديث عن أعمال مايكل أنجلو المعمارية، مثل مكتبة لورينثيان وحتى القراءة المعمارية تحديدا في ما قام برسمه على سقف كنيسة سيستين، وقد يكون من المهم العودة إلى جملة أعماله، خصوصا عندما يقترن البحث بالأسلوبية ذلك المنهج الذي لم يتبوأ مكانته الحقيقية إلا الندرة من نخب العمارة.


  قد يكون في ما كتبه لوكوربزييه أن ملاحظاته لمعلمي عصر النهضة وسادة العمارة في ذلك العصر مثل مايكل أنجلو وتحديدا في تصميمه لساحة الكابيتول هي مصدر النسب التي تم تبنيها !


المحطة الثانية :

   بعد أكثر من أربعمائة سنة ميلادية، وتحديداً في بداية ثمانينات القرن العشرين، شهدت ساحة ترافالقر في مدينة لندن حدث معماري تمثل في مسابقة معمارية لتوسع دار العرض الوطنية، والتي تقرر موقعها في الركن الشمالي الغربي من الميدان. تلك المسابقة كان قد فاز بها أهريندز بيرتون بتصميمه ذا السمة التقنية العالية التي لم تعير أسلوب ويليام ويلكنز في تبني (إعادة إحياء الإغريقية)، والذي وضعه كحل لتصميم دار العرض الوطنية الشهيرة والتي تصدرت الميدان في القرن التاسع عشر.


   بمجرد إعلان نتيجة المسابقة، كان خطاب الأمير تشارلز والذي وصف فيه المقترح وكأنه ” جمرة وحشية على وجه أعز وأنبل صديق”، فكان أن تعذر على الحل الفائز الحصول على موافقة التخطيط. صاحب تلك الفترة تنامي تيار محافظ ينادي بوجوب مراعاة المحيط العمراني القائم عند الشروع في تصميم مباني جديدة. وقد عزز هذا النداء الحراك النشط آنذاك لتيار ما بعد الحداثة في تبنيه للإشارات المرجعية التاريخية وإعادة صياغة المفردات الكلاسيكية بكيفية إنتقائية. دفع الأمر إلى إعادة الإعلان على المسابقة، وكان أن تم إختيار المقترح (مابعد الحداثي) لروبرت فنتوري (فنتوري، راوخ وسكوت براون) في العام ١٩٨٦، وشرع في تنفيذ التصميم للجناح الذي عرف بسانزبيري (التوسعة) في العام ١٩٩١. ووصف بأن التصميم مكملا لعمارة ميدان ترافالقر.

  كان الشعور واضحاً في بداية تسعينيات القرن العشرين عن ضمور تيار ما بعد الحداثة، وقد يكون في عرض متحف فيكتوريا ـ البرت في ٢٠١١ الإعلان الرسمي على إختفاء التيار كليا. ولكن بقيت شواهده حاضرة بكثافة في أرجاء العاصمة البريطانية، ضمنها هذا الجناح التوسعة الذي يستقبل ملايين الزوار كل عام. قد يكون مجديا الإتفاق سلفا على أن الإنتقائية هي أحد أذرع الأسلوبية معماريا، كما أنه ليس بمكان هنا أن تتم مقارنة أعمال مايكل أنجلو و روبرت فنتوري، فالحال يبدو كمقارنة طبق تفاح بأخر من البرتقال، إلا أنه لا ضير في مناقشة مذاق الفاكهة في كل منهما.


   عند زيارة هذا المبنى يدرك المرء بوضوح أن له قراءتان فراغية داخلية لن يتم التطرق اليها هنا وأخرى جدارية خارجية. فالقراءة الجدارية الخارجية جملة من الأسطح التي كلما أقتربت من مبنى دار العرض الوطنية كانت تحاكيها في ود، وكلما نأت عنها تمردت بلغتها. فهي إشارات مرجعية وصلت ذروتها آنذاك وحماسة المنادين بما بعد الحداثة. فنتوري كانت له إختيارات تباينت بين حضور الحديد والزجاج كما رسمه ميس فان درروه، وبين أنتقاء بتصرف لتاج فرعوني قديم، أو محاكاة النظم الكلاسيكية في إعادة إحياء الأغريقية كما وضعه ويلكنز بأعمدة مضلعة وتيجان كورينثية. إستعارات عديدة تدفع المرء للقول بأن الجدار لاسيما المتعلق بمدخل الجناح يحاول جاهدا محاورة دار العرض الوطنية من جهة، ويسعى لأن يكون ركيزة لركن حيوي للميدان من جهة أخرى. جدار لم يعير فراغ المبنى إهتماما هو الأخر .. ستار حائطي، فقط هذه المرة، لم يكن لمبنى قائما كمبنى مجلس الشيوخ الذى واجه مايكل أنجلو في الكابيتول.


  لن يكون من الإنصاف طرح أية مقارنة، بل هي تساؤلات تحتمل إجابات عدة. وحدها، تلك محاولة الإجابة التي تنشد المعرفة، تحالفها الموضوعية.

مفردات :

أسلوبية مايكل أنجلو: Mannerism of Michelangelo


إنتقائية فينتوري: Eclecticism of Venturi

هضبة الكابيتول: Campidoglio Capitoline Hill

ماركوس أوريليوس: Marcus Aurelius

دوناتو برامنتي : Donato Bramante

رفاييل : Raphael

يعقوب سانسوفينو: Jacopo Sansovino

أندريا بالاديو: Andrea Palladio

الكتب الأربعة : The Four Books of Architecture

مكتبة لورينثيان: Laurentian Library (Biblioteca Medicea Laurenziana)

كنيسة سيستين: Sistine Chapel

أهريندز بيرتون: Ahrends Burton

جناح ساينزبيري: Sains bury Wing

ميدان ترافالقر: Trafalgar Square




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا