الكارتوجرافيا
الحديثة ودعم قضايا التخطيط والتنمية
د.سامح عبد الوهاب
أستاذ
مشارك بقسم الجغرافيا – كلية الآداب – جامعة القاهرة
وكلية
الآداب – جامعة
الأميرة نورة بنت عبد الرحمن
E. Mail: samwahab@hotmail.com
ندوة : الدراسات العليا
وخطط التنمية
4 - 5 ربيع الآخر 1427هـ ( 2
- 3 مايو 2006م)
جامعة الإمام محمد بن سعود
الإسلامية
عمادة الدراسات العليا -
المملكة العربية السعودية
أولا: مفهوم علم الكارتوجرافيا وتطوره
علم الكارتوجرافيا هو ذلك العلم الذي يختص بتصميم وإنشاء الخرائط والرسوم البيانية، وقد شهد هذا العلم تطورا كبيرا عبر الزمن سواء من حيث تطور المفهوم أو من حيث تطور الأدوات والوظيفة أو من حيث مداخل التمثيل، بحيث أصبح في الوقت الحالي علم متقدم يهتم بدراسة الاتصال البياني بهدف حل المشكلات المركبة ومن ثم إعادة صياغة الواقع مرة أخرى. وإذا كان هناك العديد من الأساليب التي يستخدمها الجغرافي عند دراسته، فإن الخريطة تعد بحق هي الأداة الأساسية للجغرافي. والتي لا يستطيع أحد أن يتفوق عليه في التعامل معها وعلى ذلك فإن الاهتمام بدراسة الخرائط ومحاولة تطويرها يعد أمراً ضرورياً، يجب أن ينال اهتماماً خاصاً من الجغرافيين بعامة ومن الكارتوجرافيين بخاصة.
وقد عرفت الخريطة في البداية على أنها تمثيل رمزي لسطح الأرض أو جزء منه بمقياس رسم، إلا أن التعريفات الخاصة بالخريطة لم تتوقف عند هذا الحد وإنما ظهرت تباعا تعريفات متعددة للخريطة، حيث تعرف بأنها هي النموذج الرمزي Symbol Model للعالم الحقيقي، ولذلك فتصميم الخريطة هو العملية التي يتم من خلالها تجريد Abstracted ونمذجة Modeled العالم الحقيقي من خلال الرموز (Lu,X.Z.,1993, P.148) .Symbols.
كذلك تعرف الخريطة بأنها هي ذلك التمثيل البياني Representation Graphic للحقيقة، أي أن الخريطة هي تجريدات Abstractions تُظْهِر أجزاء من الحقيقة. ولذلك فالحذف أو الإغفال والمبالغة والخطأ والتشويه والتزييف والتلاعب كلها مشاكل كامنة قد تحدث أثناء العملية الكارتوجرافية، أو كنتيجة للعمليات الفنية والتقييد المالي والأيديولوجي والأحوال السياسية Vassconcellos, R.,1993, P.994)).
ويعرف "Board,1989" الخريطة بأنها هي ذلك التجريد الإبداعى Intellectual Abstraction للحقيقة الجغرافية المعدة للاتصال وذلك من خلال تحويل المعلومات الجغرافية المتصلة بالموضوع محل العرض إلى نهاية مرئية أو رقمية (الكترونية) Digital أو ملموسة (Su, B.,et al., 1993, P.469) ونلاحظ هنا - وكنتيجة للتطور التقني- الذي حدث في وسائل وأساليب الاتصال، أن الخريطة لم تعد هي الصورة الرمزية الورقية للواقع فقط، وإنما مع تطور نظم انتقال المعلومات واستخدام الحاسوب أصبح هناك ما يسمى بالكارتوجرافية الرقمية Digital Cartography هذا بالإضافة إلى تطور إنتاج الخرائط المجسمة أو البارزة، والتي يمكن أن يتم التعامل معها من خلال اللمس.
وعلى ذلك يجب تقبل حقيقة أن الكارتوجرافيا الحديثة في ظل عالم نظم المعلومات الجغرافية GIS الحديث لها أسس جديدة تماماً، وذلك سواء من حيث الإنتاج أو من حيث النظرية Theory أو من حيث التعريف Definition وذلك من خلال شيوع العديد من المفاهيم مثل الخريطة والخريطة الرقمية Digital Map والنماذج الرقمية لأشكال سطح الأرض Digital Landscape Model والتمثيل الكارتوجرافي والتصوير المرئي ونظم المعلومات الكارتوجرافية Cartographic Information Systems ، ونظم المعلومات الجغرافية Geographic Information System وقواعد البيانات الكارتوجرافية Cartographic Data Base وقواعد البيانات الجغرافية Geographic Data Base (Artimo,K.,1993,P.1121)
كذلك يقول "Robinson" إن الخريطة قد صنعت من أجل سبب موضوعي أساسي، وهو توصيل المعلومات البيئية (Robinson, A., etal.,1995, P.17) ولعل هذا يوضح لنا دور الخريطة الكبير في عرض الواقع وتوصيل ما به من مكونات مركبة للمتلقي، وهي في واقع الأمر عملية أساسية لابد أن نبدأ بها من اجل إعادة صياغة الواقع مرة أخري بصورة تحقق أكبر نفع ممكن.
وهذا يعنى أنه يجب أن تتم دراسة الخرائط من خلال نظرية اتصالية وذلك حيث أن الكارتوجرافيين يوصلون الأفكار بواسطة نظام مرئي للرموز Visual Sign System وهذا ما يسمى بلغة الخريطةKanakubo,T.,et al.,1993, P.19) ). هذا ويركز كلٌ من "Turnbull & Baird“ على أن الاتصال البياني Graphic Communication الآن يمثل المكون الأساسي في علاقتنا الاقتصادية والسياسة والحضارية (Turnbull,A.T., & Baird, R.N., 1964, P.1) ولعلنا نتذكر هنا أن الخريطة هي عبارة عن تمثيل بياني للواقع. ومن ثم فإن الخريطة كأداة اتصال تعد - من قبل علماء الاتصال - من أهم وسائل الاتصال في الوقت الحالي. وإذا ما أضيف إلى ذلك أن العالم يعيش حالياً فيما يسمى بثورة الاتصال، فان هذا يؤكد على أن تطوير وسائل الاتصال الأكثر انتشاراً وأسهل إدراكاً يعد أمراً ضرورياً. ومن هنا كان الاهتمام بتطوير الخريطة كأداة اتصال واسعة الانتشار.
وهذا الاتصال الواسع الانتشار الذي يتم من خلال نظم اتصالية متطورة في إطار بيئة مكونة من ثلاثة مكونات هي: البنية الاتصالية Communication Infrastructures والتي تشمل في حالة الاتصال الكارتوجرافي وجود شبكات متطورة لنقل الخرائط سواء من خلال شاشات الحاسوب أو من خلال طبعها بواسطة الطابعات الحديثة أو من خلال استقبال خرائط وصور الأقمار الصناعية. أما المكون الثاني فيشمل التقدم التقني، والذي يشمل تطوير النظم الكارتوجرافية بشكل متواصل مع إدخال تعديلات على نظم الإرسال والاستقبال لتوفير الوقت والنفقات. أما المكون الثالث فيشمل التطوير الاجتماعي والسياسي والتي تعني في حالة الاتصال الكارتوجرافي تطوير إمكانيات المجتمع في التعامل مع الخرائط، بالإضافة إلى محاولة تطوير العلاقات السياسة بين الدول والتي تمكن من انتقال المعلومات الكارتوجرافية بشكل أيسر (Middleton, J.,&Wedemeyer,J.,1985.P.24)
وهذا التطور الكبير في عمليات الاتصال الرقمي عبر الشبكة العنكبوتية أدى إلى تطوير مجال كارتوجرافي مهم ألا وهو الأطالس الرقمية التفاعلية Digital Interactive Atlases وهي أطالس الكترونية منشورة علي شبكة الانترنت، بعضها يسمي بالأطالس القومية National Atlases وهي أطالس تقوم بعمليات الرفع المكاني لكل ظاهرات الدولة والكثير منها يتيح عمليات تفاعلية يستطيع من خلالها المستخدم الخروج بخريطة ذات مواصفات محددة تحقق عمليات عرض كارتوجرافي لمتطلب معين، ويوضح شكل رقم (1) نموذج لموقع الكتروني للأطلس القومي للولايات المتحدة National Atlas of the United States of America ويتميز بإمكانيات تفاعلية كبيرة.
وفي أحيان أخرى قد يكون الأطلس مخصص لمجال محدد كأطالس أشكال سطح الأرض Landform Atlases أو الأطالس الحضارية الرقمية Electronic Cultural Atlases وقد تكون هذه الأطالس لإقليم ما مثل أطلس جنوب استراليا South Australia Atlas، وهنا يمكن القول أن إنشاء أطلس الكتروني قومي لأي دولة هو من أولويات البحث الكارتوجرافي وهو أداة شديدة الجدوى في توجيه التنمية، فمثل هذه الأطالس تمكن من التعرف الدقيق على المركب المكاني، وهذا شريطة أن تقوم علي مثل هذه الأطالس مؤسسات كارتوجرافية تعمل علي عمليات التحديث المستمر .
ومن هذا المنطلق فإن الكارتوجرافيا يمكن أن تعرف بأنها علم الاتصال البياني الراقي، حيث تتمثل العلمية في الكارتوجرافيا في الحرص الدائم والمتزايد على استخدام قيم ومعايير تنبع من واقع البيانات الموزعة في الخريطة بهدف الحصول على نتائج موضوعية لا تتدخل فيها الميول والاتجاهات الذاتية. أما قضية الاتصالية فكما أتضح مما سبق فإن الخريطة تعد أداة اتصال بياني فعالة، تمكن من توصيل محتواها إلى المتلقي من خلال اللغة الكارتوجرافية في صورة رمزية، أما الرقى في الكارتوجرافيا فيكمن في ذلك التآلف والتجانس بين العديد من مفردات الخريطة، بالإضافة إلى أن الخريطة تقدم رسالة شديدة العمق وموجزة في نفس الوقت.
وإذا كان الاتصال الفعال هو هدف الخريطة الرئيسي فإن ذلك يتم من خلال وظائف نظام التلقي Functions of the Reception System، والتي تؤكد على مبدأ التباين لإدراك المميزات المختلفة وذلك من خلال وضوح المعلومات وإمكانيات الاسترجاع. وبذلك فالرموز تؤثر في عملية الإدراك من حيث التفريق والاكتشاف والتحديد والاختيار والتقييم. وإذا كانت كل الأمور السابقة تمثل مكونات يتحكم فيها الكارتوجرافي أثناء عملية التصميم، ففي الجانب الآخر تتأثر عملية التلقي باستعداد وسرعة إدراك المتلقي، ومستويات الحساسية والتخيل ونفاذ البصيرة والقدرة على الفهم والمكون الثقافي والاجتماعي والانتماءات للمتلقي (Uthe,A.D.,1993, PP.267 - 270).
وهذه التطورات التي شهدتها الكارتوجرافيا في الفترة الأخيرة أصبحت تؤكد على أن الكارتوجرافي ليس مجرد مصمم خريطة أو جامع بيانات، وهذه مفاهيم هامة يجب أن يلتفت لها عند توجيه البحث العلمي الحالي في موضوعات الكارتوجرافيا الحديثة المختلفة. فالكارتوجرافي في العصر الحديث يجب عليه أن يكون متآلفاً مع نظم المعلومات والأجهزة والبرامج والتطبيقات والبيانات المدخلة والمخرجة، هذا بالإضافة إلى أن أحد المهام الأساسية للكارتوجرافى الحديث هو تصميم وإنتاج الخريطة الرقمية Digital Map (Artimo,K.,1993, P.1124) وهنا يجب التأكيد على أهمية الخلفية الجغرافية للكارتوجرافى والتي تجعل تعامله مع الخريطة يعتمد على أسس علمية مرتبطة بتوزيعات الظاهرات المختلفة في الطبيعة وليس مجرد الاكتفاء بالنواحي الفنية لإنتاج الخريطة، وهو أمر على جانب كبير من الأهمية في مفاهيم الكارتوجرافيا الحديثة التي أصبحت تعني بدرجة اكبر بعملية النمذجة الموضوعية، أي الأسس العلمية لنمذجة الموضوع محل الدراسة.
وعلى ذلك فإن توجيه البحث في علم الكارتوجرافيا من خلال أساليب ومداخل كارتوجرافية متطورة معتمدين في ذلك على نظرية اتصالية تهتم بالتصميم الأمثال للخريطة، من أجل التلقي الفعال بهدف إعادة صياغة الواقع ومن ثم بناء واقع جديد أكثر فعالية هو احد الأمور التي يجب العناية بها. وهذا يدعونا إلى توجيه الاهتمام إلى مجالات جديدة في دراسات علم الكارتوجرافيا تأتي في مقدمتها مفاهيم تتصل بإنتاج الخرائط الرقمية والأطالس القومية والخريطة بوصفها وسيلة لإعادة ترتيب الواقع وبالمداخل الكارتوجرافية المركبة والتي تتخطى عمليات العرض المفرد للظاهرات إلى عمليات العرض المركب والمتفاعل للظاهرات المختلفة وهو الأمر الذي يرتبط بدرجة كبيرة بواقع مشكلاتنا الحالية.
ثانيا: الخريطة ودورها في إعادة صياغة الواقع
إذا كنا تعرضنا فيما سبق للتعريفات المختلفة للخريطة والتطورات التي شهدتها، فان السؤال الذي يفرض نفسه الآن كيف يمكن أن يكون للخريطة دور في إعادة صياغة الواقع؟ وهل يمكن أن تستخدم الخريطة من أجل إجراء ترتيبات مكانية؟ وهل للخريطة أفضلية في عمليات التخطيط واتخاذ القرار؟
من أجل الإجابة علي مثل هذا التساؤل لابد أن نؤكد بداية علي أن التمثل الكارتوجرافي بأشكاله المختلفة يعد أفضل وسائل تمثيل الظاهرات المكانية، بحيث أن النظر إلى خريطة واحدة – جيدة التصميم والتمثيل – تغني في الكثير من الأحيان عن قراءة وتحليل الجداول والتقارير المطولة، ومن ثم فإن استخدام هذه الأداة المكانية في فهم وإدراك الواقع بداية ثم استخدامها في إعادة صياغته مرة أخرى يعد أمرا مطلوبا وله مردوداته الإيجابية علي عمليات إعادة صياغته.
كما ينبغي أن نؤكد علي أمر آخر علي جانب كبير من الأهمية وهو إنه إذا كانت الخريطة قد استخدمت لأزمنة طوية كأداة تكميلية للعرض المكاني، بل إنها في الكثير من الدراسات والبحوث قد استخدمت كمكمل جمالي للعمل البحثي، بل انه حتى في الكثير من الأبحاث التي تعتمد علي عمليات التحليل المكاني يتم القيام بعمليات التحليل واستخلاص النتائج قبل تصميم ورسم والخرائط. فان هذا أمر لم يعد مقبولاً بأي حال من الأحوال في الوقت الحالي لان هذا الأسلوب – في أغلب الأحيان - يجعل النتائج التي تصل إليها الكثير من البحوث التي تعتمد علي تحليلات مكانية غير متسقة مع الواقع، بل إنه في بعض الأحيان ما نجد هناك تناقض بين التحليلات التي تصل إليها بعض البحوث والتمثيل الكارتوجرافي المرفق بها.
وتعد الكارتوجرافيا الحديثة - في ظل ما شهدته من تطورات سواء في المفاهيم والتقنيات والمداخل – أداة شديدة الفاعلية في عمليات إعادة صياغة الواقع، فلم تعد الخريطة بأي حال من الأحوال مجرد تمثيل مكاني يستخدم للتعرف علي المكان فقط، وإنما أصبحت أداة أساسية تستخدم في كل عمليات التخطيط وتوجيه التنمية. والشكل رقم (2) يعرض لمخطط يظهر كيف يمكن للخريطة أن تعد أداه لإعادة صياغة الواقع.
المراحل التي تمر بها الخريطة لإعادة صياغة الواقع
القاعدة التي تنطلق منها الخريطة هي الواقع الحالي الذي نحياه، ومما لا شك فيه إن أي عملية تهدف إلى إعادة تخطيط وصياغة الواقع لابد أن تنطلق من رصد للواقع الفعلي، وهنا نجد أن هذا الواقع هو الملعب الرئيسي للخريطة وهو البداية التي تهدف الخريطة إلى رصدها وتمثيلها ومنه تبدأ العملية الكارتوجرافية، ولكي يتم تحويل الواقع إلى منتج كارتوجرافي نمر بعدد من المراحل المتتالية كما يلي:
مرحلة الإعداد للتحويل الكارتوجرافي: ومما لا شك فيه فان الواقع لا يحول نفسه إلى خريطة بشكل تلقائي، كما أن العمليات المختلفة التي تشهدها الكارتوجرافيا من تجريد واختصار وانتقاء ونمذجة هي عملية أساسية يتم الاهتمام بها في عملية الإعداد للتحويل الكارتوجرافي. ومن ثم فانه في هذه المرحلة لابد أن نحدد الهدف من التحويل الكارتوجرافي، أي لابد الانطلاق من الموضوع المطلوب معالجته. وعليه فإن الخريطة – كأداة لإعادة صياغة الواقع - يجب أن تنطلق لحل مشكلة علي الأرض وذلك حتى تكون كل عمليات التحويل الكارتوجرافي موجهة بشكل فعال ومحقق للغرض التي سوف تنشأ الخريطة من أجله. في هذه المرحلة تتفاعل مجموعة من المتغيرات الأساسية التي تشمل تحليل المصادر الكارتوجرافية التي يمكن الاعتماد عليها والتي قد تشمل مصادر من الخرائط الافتراضية أو الخرائط الواقعية كذلك تشمل هذه المرحلة تحليل البدائل الكارتوجرافية وهنا نجد أن بدائل التمثيل الكارتوجرافي متعددة ومما لا شك فيه فان اختيار البديل الأمثل يعتمد أولا علي المصادر الكارتوجرافية المتوفرة من ناحية والموضوع الكارتوجرافي الممثل من ناحية أخرى، فقد نختار خرائط كمية أو نوعية أو رتبية، كما يمكن أن نختار خرائط أو رسوم بيانية وقد نختار خرائط بيانية. وبطبيعة الحال فان البدائل متنوعة بدرجة كبيرة وعلي الكارتوجرافي الواعي أن يحدد اختياراته وفقا للمتطلبات. وكما أن البدائل متنوعة فان المداخل الكارتوجرافية Cartographic Approaches أيضا متنوعة وكل مدخل من هذه المداخل له التوجيه الأمثل طبقا للواقع الممثل وطبيعة المتغيرات الداخلة في التمثيل أو المطلوب تمثيلها. وبعد هذا تأتي مرحلة علي جانب كبير من الأهمية وهي عملية الإعداد الإحصائي للبيانات المطلوب تمثيلها مكانيا، وبطبيعة الحال فان الخريطة الناتجة يمكن أن تكون نوعية وبالرغم من هذا قد نحتاج إلي عمليات معقدة للغاية من الإعداد الإحصائي للبيانات.
مرحلة التمثيل الكارتوجرافي: وفي هذه المرحلة يتم القيام بعملية التمثيل بعد أن قمنا بعمليات الإعداد السابق الإشارة إليها، وفي هذه المرحلة تتفاعل مجموعة من العناصر الأساسية تشمل تفعيل عمليات الاتصال الكارتوجرافي Cartographic Communication والذي يعتمد علي تفعيل اللغة الكارتوجرافية Cartographic Language كما تشمل هذه المرحلة احتمالية إعداد خرائط بديلة أو خرائط معاونة تفيد في عملية تحليل وصياغة الواقع بالإضافة إلى الخريطة الأساسية وفي هذه المرحلة ننتهي من عملية التمثيل البياني لنصل إلى منتج نهائي هو الخريطة.
وبذلك نكون قد حولنا الواقع إلى خريطة من خلال مجموعة من المراحل المتتابعة، وهذه الخريطة أو المنتج إذا صيغت صياغة جيدة وفقا لطبيعة المشكلة المدروسة ستكون أفضل تمثيل للواقع. وهنا لابد أن نؤكد علي أمر شديد الأهمية وهو أن الخريطة المطلوبة هنا ليست مجرد عملية تمثيل للواقع، وإنما هي تحليل وتجريد وانتقاء لمفردات من العالم الحقيقي من أجل إدراك أفضل وإعادة صياغة للواقع.
بعد أن وصلنا إلى الخريطة النهائية نصل إلى مرحلة استرجاعية هامة وهي مرحلة الاستقبال والإدراك والتحليل للخريطة، والتي تتم من خلال فرق التخطيط المتخصصة، وهنا يجب التأكيد علي أن كل نوع من أنواع الخرائط وكل مدخل من المداخل الكارتوجرافية تحتاج إلى نوع معين من المستقبلين، عليه فإن اختيار متخصصين أكفاء للتحليل الكارتوجرافي بالتعاون مع فرق التخطيط هو أمر علي جانب كبير من الأهمية.
بعد ذلك ننتقل إلي وضع خطط مستعينين بالخرائط – خاصة ذات المداخل المتقدمة – وتوجيه عمليات التنمية، وهنا يجب التأكيد علي أن استخدام الخريطة في إعادة صياغة الواقع وتوجيه التنمية ودعم التخطيط لا يعني أننا سوف نستغني عن كل الأدوات الأخرى، بل الأصل هو استخدام الأداة الأجدى طبقا لكل مجال، ومن ثم فإن تفاعل الخريطة مع أدوات أخري هو أمر مطلوب، لكن مع التأكيد على أن الخريطة لها الأفضلية عندما تتصل عمليات التخطيط والتنمية بمفردات تتصل بالمركب المكاني.
وتأتي الآن مرحلة اتخاذ القرار والتنفيذ؛ والتي تتحول فيها الأفكار والمخططات السابقة إلي برامج تنفيذية، قد تشمل إعادة توزيع السكان أو إعادة توجيه العمران أو إعادة تخطيط الخدمات والمرافق أو إعادة تخطيط شبكات البنية الأساسية .... الخ وذلك وفق رؤية مكانية تحليلية أكثر تفاعلا مع الواقع.
ومن ثم ننتقل إلى إعادة صياغة للواقع والذي يخرج لنا بواقع جديد علي الأرض، والذي يفترض فيه أن يكون أكثر تلاؤما مع المتطلبات والاستفادة القصوى من معطيات الأرض. ومما لا شك فيه أن هذا الواقع الناتج بعد فترة من الزمن قلت أو طالت سوف يصبح في حاجة إلى إعادة تخطيط مرة أخري ومن ثم تتكرر نفس العمليات السابقة ولكن من خلال تحليل المركب المكاني المتحقق.
ثالثا: دراسات التنمية والبحث عن أساليب حديثة لرصد الواقع
اهتم القائمون علي عمليات التنمية الإقليمية بشكل كبير بالبحث عن طرق تمكنهم من رصد الواقع في زمن قصير، فقد كانت المعضلة الكبيرة التي تواجه الكثيرين من العاملين في هذا المجال أنهم يحتاجون قبل القيام بأي عملية تنمية أو إعادة التخطيط لإقليم جغرافي ما أن يقوموا بعملية شاملة من الرفع الميداني وتمثيل كل الظاهرات حتى تكون عمليات إعادة التخطيط وتوجيه التنمية فيما بعد محققة للهدف التي سوف تتم من أجله. إلا أن عمليات الرفع الدقيق هذه كانت تحتاج إلى فترات زمنية طويلة مما يجعل الصورة التي يتم الوصول إليها هي صورة غير دقيقة أيضا لأنه عند الانتهاء من كل عمليات الرفع للواقع، وبعد أن تستغرق هذه العملية فترة طويلة، سيكون الواقع قد تغير.
ومن ثم أصبح هناك حاجة ماسة للبحث عن أساليب حديثة تمكن من إجراء عمليات رفع للواقع في فترات وجيزة حتى تتم عمليات توجيه التنمية بشكل فعال، وعليه فقد توجهت بعض الدراسات لاستخدام طرق للتقييم أُطلق عليها طرق التقييم السريع Rapid Assessment Procedures (RAP) وهي طرق تعتمد علي أن يتم رصد الواقع من خلال مدلولاته وليس بالرصد المباشر، ومن ثم يتم تقليص عمليات الرصد إلى فترات أقصر وتتم عمليات توجيه التخطيط بعد ذلك في فترات وجيزة، وهناك العديد من الدراسات التي بحثت في مثل هذه الأساليب ومنها الدراسة التي قامت بها كل من "Susan &Elena" وهي دراسة تعرضتا فيها إلى أهمية هذا الأسلوب والطرق التي يمكن أن تتم من خلالها عمليات الرصد السريع (Scrimshaw, S., Hurtado, E., 1987) وإذا كانت هذه الأساليب مكنت من عمليات الرصد بشكل سريع لمنطقة ما، فان الكارتوجرافيا الحديثة تعطينا أدوات حديثة لها أفضلية كبيرة في عمليات الرفع السريع للواقع عندما يرتبط برصد متغيرات مكانية، وذلك من خلال استخدام مرئيات الاستشعار عن بعد Remote Sensing Images فمن خلال استخدام صور الأقمار الصناعية والصور الجوية نستطيع رصد الواقع بمستويات عالية من الدقة بل وفائقة الدقة وفقا لمستوي الدقة المستخدم علي المرئية، بل أنها تمكنا من الرجوع إلى صور سابقة عن الواقع ما دامت هناك مرئيات تغطي تلك الفترات، ومن ثم فإن الكارتوجرافيا الحديثة ومستجداتها تمكنا من أدوات أكثر قوة وفائدة في عمليات الرصد الفائق السرعة للواقع، ومن ثم سوف تمكننا من تخطيط التنمية المكانية بشكل أكثر احترافا وجودة، ولعل القطاع المرفق من المرئية الفضائية، شكل رقم (3) الذي يوضح قطاعاً من وسط مدينة الرياض يظهر الهيئة التخطيطية للطرق والمباني واستخدامات الأرض في هذا القطاع من المدينة. كما يُظهر شكل رقم (4) خريطة مستخرجة من مرئية فضائية لقطاع من ساحل شرق المتوسط تظهر تباينات استخدامات الأرض.
رابعا: مداخل التمثيل الكارتوجرافية المتقدمة
المداخل الكارتوجرافية المتقدمة: هي مداخل تعتمد علي إظهار وتحليل الطبيعة المركبة للتوزيعات المكانية والتي لها جدوى كبيرة في تحليل مشكلات المجتمعات الحالية، ومن ثم فإن هذه المداخل تعتمد علي مركبات متعددة من المتغيرات تتفاعل معا في تكوين ظاهرة ما. وعليه فإن استخدام مثل هذه المداخل له أهمية كبيرة في تحليل مركب مكاني معقد ولا يعتمد علي متغير واحد في تشكيله. وإذا كانت هذه المداخل قد ظهرت بشكل فعال في الكارتوجرافيا الغربية منذ التسعينات من القرن الماضي فإنها مازالت نادرة الاستخدام في الكارتوجرافيا العربية، وعليه فإن دعم وتوجيه البحث الكارتوجرافي لهذا المجال قد يكون له الأثر الكبير في تحليل المشكلات المعاصرة وتوجيه التخطيط في مجتمعاتنا بشكل أكثر جدوى وأكثر منفعة.
مدخل خرائط الأبعاد التقاطعية Cross-Variable Mapping:
تعتمد المداخل التقليدية للتمثيل الكارتوجرافي – سواء مدخل الخرائط مفردة المتغير أو الخرائط المتعددة المتغير – على ترك مستخدم الخريطة لكي يقوم بعلمية التقييم أو الحكم على العلاقة بين المتغيرات وهو أمر قد ينتج عنه الكثير من النتائج الخاطئة عند التعرف على الواقع. وفي المقابل فإننا نجد أن خرائط الأبعاد التقاطعية التي تعتمد على أسلوب خرائط التظليل النسبي تعد أحد الطرق لإنشاء المقاييس المهجنة hybrid Measures التي أصبح لها أفضلية في الدراسات الكارتوجرافية الحديثة، وقد تكون الأبعاد التقاطعية بين متغيران باستخدام الرسم البياني للانتشار Scatter Graphs (Scatter Diagrams) بحيث تكون العلاقة بين متغيرين لنفس المكان – ولأي عدد من القيم – ويخصص كل إحداثي من الاحداثيان لأحد المتغيرات وتوقع القيم داخل الرسم البياني على شكل نقط (Dickinson, G.C.,1973, P.27,28)، ويظهر مفتاح الخريطة في هذه الحالة على شكل مستطيل Rectangular Legend وذلك من خلال توقيع القيم من متغير في مقابل الآخر، (Robinson, A., et al., 1995, P.391). هذا ويمكن القول أن الخرائط الكمية ذات الأبعاد التقاطعية سواء ذات البعدين أو الثلاث، والتي تعمل على دمج أو تداخل العلاقات Inter-Relation يمكن أن يتم الاستفادة منها في أغراض مثل التصنيف Classification والأقلمة Regionalisation (Chang, K-T., 1982, P.95) وهي أغراض شديدة الأهمية في الوقت الحالي وتتجه الكثير من البحوث والدراسات في الوقت الحالي لإيجاد وسائل لتحليل تلك المشكلات ومن ثم فإنه من خلال استخدام هذا المدخل الكارتوجرافي يمكن أن نقدم حلا لعرض المشكلات المركبة سواء ذات البعدين أو الثلاثة أبعاد.
ويمكن بناء هذا النوع من الخرائط ذات الأبعاد التقاطعية من خلال استخدام نظم المعلومات الجغرافية(GIS) بحيث نحصل على طبقة جديدة لكل معادلة تحقق علاقة التقاطع بين المتغيرين، وبذلك تتكون لدينا الخريطة في النهاية، حيث يمكن أن يتم هذا من خلال صياغة المعادلات التي تحقق العلاقة التقاطعية.
ويمكن أن يتم تصميم مفتاح خريطة الأبعاد التقاطعية من خلال كتابة برامج معاونة خاصة بهذا الإجراء. فمن خلال برنامج مثل ARCVIEW يمكن أن يتم رسم هذه الخرائط ذات الأبعاد التقاطعية بشكل مباشر من خلال استخدام Scatter plotsوبمعونة لغة البرمجة Avenue - ولغة البرمجة في هذا البرنامج تختلف من برنامج لآخر – وذلك بحيث تصبح كل نقطة على المحورين س& ص، مرتبطة بالبيانات الخاصة بها في قاعدة البيانات وفي نفس الوقت مرتبطة بموقعها الجغرافي – الوحدة التوزيعية – (Haug, D.H., et al., 1997, P.207) وكل رمز على الخريطة يتم رسمه من مصفوفة المفتاح Legend Matrix وبذلك يستطيع مستخدم الخريطة قراءة المعلومات متعددة البعد Multivariate Information مباشرة ، وإذا تم تصميم المفتاح بشكل جيد فإن الخريطة يحب أن تكون بديهية نسبيا.
ويمكن أيضا أن تكون خرائط الأبعاد التقاطعية بين ثلاث متغيرات – ظاهرات – وذلك من خلال استخدام المثلث البياني Triangular Graph. ويستخدم هذا المثلث بشكل مفيد لتحليل بيانات سكانية لثلاث متغيرات متفاعلة - مثل التركيب العمري، صغار السن، متوسطي العمر، المعمرين أو الأنشطة الاقتصادية الثلاث الرئيسية، الزراعة، الصناعة، الخدمات – (Monkhouse, F., Wilkinson, H., 1976, PP.380-382) هذا بحيث يتكون من مثلث متساوي الأضلاع والزوايا وتمثل القيم على كل ضلع بالنسب المئوية والتي تتراوح بين صفر و 100 % وإذا تم رسم وترقيم المقياس – الأضلاع - بشكل صحيح فان كل ثلاثة متغيرات سوف يكون حاصل جمعهم 100 % ويمثلون نقطة واحدة داخل المثلث (Dickinson, G.C., 1973, PP.35,36) وبذلك نخرج بمثلث بياني يتوزع عليه التركيب - محل الدراسة - بشكل متكامل، ويتم تقسيم المثلث الأساسي إلى قطاعات – تختلف في العدد طبقا لمدى التفصيل المطلوب في الدراسة – أقل مساحة من المثلث الأساسي. وبعد ذلك يتم توقيع هذه القطاعات –الفئات – بظلال أو ألوان على الخريطة. والخريطة رقم (5) تمثل نموذجا لهذا المدخل.
وإذا كان التطبيق لنقط القطع على مثلث التصنيف يخص تصنيف السكان النشطين اقتصاديا وفقا للتصنيف الثلاثي علي قيم تمثل 50%، فان هذا يعني أن الفئات المشار إليها تمثل؛
I تمثل العاملين في الأنشطة الأولية (المتغير الأول).
II الأنشطة الثانوية (المتغير الثاني).
III الأنشطة الثلاثية (المتغير الثالث).
- وبهذا نلاحظ أن القطاع رقم 1 من المثلث البياني يمثل فئة تضم الوحدات التوزيعية التي تسود فيها الأنشطة الأولية (المتغير الأول) بشكل خاص مع انخفاض كبير في الأنشطة الثلاثية والثانوية.
- أما القطاع رقم 2 فيشمل فئة الوحدات التوزيعية التي تسود فيها الأنشطة الثانوية (المتغير الثاني) مع انخفاض كبير في الأنشطة الثلاثية والأولية.
- ويشمل القطاع رقم 3 الفئة التي تضم وحدات تسود فيها الأنشطة الثلاثية (المتغير الثالث) انخفاض كبير في الأنشطة الثانوية والأولية.
- أما القطاع رقم 4 والأخير والذي يمكن أن يسمي بقطاع التعادل فهو يشمل مجموعة من الأقسام التي تتعادل فيها نسب الأنشطة الثلاث (المتغيرات الثلاثة على حد سواء) أي إنها منطقة تتعادل فيها المؤثرات على القوي العاملة مما يعني تجاذب متعادل لهذه القوي. وبهذا نلاحظ أن استخدام نقط قطع تمثل 50 % على المثلث البياني أوجد أربع فئات فقط، وإذا كانت هناك رغبة في الحصول على عدد أكبر من الفئات للحصول على دقة وتفاصيل أكثر فإنه يمكن استخدام نقاط قطع أكثر تفصيلا على أضلاع مثلث التصنيف، وهنا نجد أن مثل هذه الخرائط التي لم تلق العناية المطلوبة بعد في الدراسة في الدول العربية تحتاج إلى لفت الانتباه لها حيث أنها تقدم حلولا كارتوجرافية جديدة لمشكلات مركبة، كما أن لها تطبيقات مختلفة يمكن أن تخدم العديد من الأغراض.
وللحصول على الاستقبال السليم والفعال لهذه الخرائط لابد من التأكيد على الأبعاد القطرية Off–Diagonal والمتناقضات أي لابد من التأكيد على قراءة الأركان للمفتاح ثلاثي الأبعاد. ورغم صعوبة هذا النوع من الخرائط إلا أنها تعد الأكثر مهارة وتكثيفا لمستخدم الخريطة، وإذا كان هذا النوع من الخرائط لا يختلف في شكله النهائي عن خرائط التظليل النسبي Choropleth Map التي تمثل خرائط المتغير الواحد. لذلك فان المفتاح في خرائط الأبعاد التقاطعية يجب أن يكون واضحا وأن يكون مظهر بارزا Prominent Aspect لتصميم مثل هذه الخرائط، ويجب بذل كل مجهود ممكن لحمل مستخدم الخريطة على استخدام المفتاح كخطوة رئيسية أولية في عملية قراءة الخريطة (Robinson, A., et al., 1995, P.55)
وإذا كانت الخريطة قد أُنشأت من أجل تحقيق هدف معين يحدد سلفا، وكذا بمستوى معين من مستويات الاتصال، فإن سهولة الاتصال - والتي تعد أحد أهم الأهداف الأساسية عند إنشاء الخريطة - تعد أمرا مهما، إلا انه مع اختلاف مستوي المتلقي وهدف الاتصال أو الاستخدام يمكن أن يكون هناك أكثر من مستوى للاتصال من خلال لغة الخريطة أو اللغة الكارتوجرافية والتي قد تشمل بعض التعقيد في بعض الأحيان بالنسبة للأشخاص غير المدربين أو ليسوا متخصصين. وعليه فان إنشاء خريطة يستخدمها باحث على مستوى ما لابد أن تختلف عن خريطة يستخدمها باحث له مستوى آخر. ومن هنا فبالرغم من أن مثل هذه الخرائط تعد أكثر تعقيدا من الخرائط التقليدية المفردة المتغير أو متعددة المتغير والأكثر انتشارا إلا أن مثل هذه الخرائط المركبة تعرض لمشكلات أكثر تعقيدا وتركيبا ومن ثم فان التعرض لها في الدراسات الكارتوجرافيا الحديثة لم يعد أمرا اختياريا وذلك حتى نتمكن من حل مشكلات المجتمع المركبة والتي تحتاج أيضا إلى وسائل عرض مركبة.
مدخل خرائط الدليل المركب Composite Index أو النمذجة الكارتوجرافية Cartographic Modeling:
ويعد هذا المدخل الكارتوجرافي هو المدخل الأحدث والأكثر تركيبا وتعقيدا والذي يُعنى بعرض المشكلات المركبة للمجتمع الحالي، ويمكن أن يطبق هذا المدخل على العديد من القضايا وموضوعات البحث، ولعل هذا المدخل تطور بشكل كبير على المستوى العالمي مع إدخال الحاسوب والكارتوجرافيا الرقمية ونظم المعلومات الجغرافية واستخدام الصور الفضائية ووسائل الاستشعار عن بعد، ومن ثم فان توجيه البحث الكارتوجرافي لهذا المدخل لم يعد أمرا اختياريا وإنما أصبح ضرورة بحثية ومنهجية حديثة ناجعة لحل المشكلات المركبة.
وفكرة أن تصبح الخرائط نماذج ظهرت في الستينات من هذا القرن (Stefanov, 1964; Salishch, 1967) ولكنها ما لبثت أن لاقت قبولا عاما هذا بالرغم من وجود العديد من الرؤى فيما يتعلق بطبيعة الخرائط (Rataiski, 1970,1972,1978,1984) ولا يوجد - فيما يبدو – من يرفض فكرة أن تكون الخريطة نموذجا. ويجب ملاحظة أن الخريطة كنموذج تعكس العالم الفعلي المحيط من خلال الفهم الشخصي للكارتوجرافي وإدراكه (Tikunov,V., 1993, P.755)، وعليه فالخريطة كنموذج تعد تجريدا للواقع Abstraction of Reality فهي ليست عرضا مطابقا للواقع تهتم بإظهار كل التفاصيل (Demers, M.N., 1997, P.52)
ويعد هذا المدخل هو المدخل الثاني لتكوين الخرائط المركبة المتغيرات وهو الأكثر تعقيدا لتكوين متغير هجين منفرد Single Hybrid Variable وذلك من خلال تجميع مقاييس عديدة في دليل رقمي واحد Single Numerical Index وهذا الدليل يمكن حين إذ تحويله إلى خريطة كما لو كان متغيرا منفردا Single Variable وهذا الأسلوب لرسم الخرائط يسمي بالنمذجة الكارتوجرافية أو الخرائط المركبة المتغير(Robinson, A., et al., 1995, P.553)
وهذا النوع من التخريط المركب أو متعدد الأبعاد Multivariate Mapping ينمو بسرعة وبشكل منتشر، وهذا يرجع إلى؛ المشكلات المركبة التي تتطلب خرائط أكثر تعقيدا More Sophisticated Maps ، وكذلك إلى نظم المعلومات الجغرافية الحديثة والتي سهلت المتطلبات الحسابية المطلوبة لتقديم المتغيرات المركبة ( Robinson, A., et al., 1995, P.553) فعادة ما يستخدم الحاسوب من اجل بناء النماذج شديدة التعقيد، والتي يصعب أن تدمج في معادلة أو عرض مفرد (Few, A.A., 1996, P.5)
ونظم المعلومات الجغرافية تستخدم بشكل فعال لتقديم النماذج ومحاكاة الأنماط المكانية Simulate Spatial Patterns، ولذا فان نظم المعلومات الجغرافية قد أضافت أدوات بحث فعالة للتحليل المكاني التقليدي (Weng, Q., 1997,P.204). فعلى سبيل المثال تقدم نظم المعلومات الجغرافية إمكانية المطابقة المكانية Spatial Overlay مما يمكننا بالتالي من التعرف على عوامل التفاعل المكاني Spatial Interaction Factors على مستوى تفصيلي جيد. وهناك الكثيرون ممن يشعرون بتفضيل اكبر لاستخدام الخرائط وطبقاتها، أكثر من استخدام المعادلات (A de Bruijn, C.,1991,P.221) وعلى أي حال فان نظم المعلومات الجغرافية تقدم البديلين؛ معالجة الخرائط واستخدام المعادلات.
بناء النماذج الكارتوجرافية
لتكوين النماذج الكارتوجرافية لابد من إجراء ثلاث مناقشات:
ما هي المتغيرات التي يجب أن يشملها النموذج.
كيفية تحديد أوزان المتغيرات.
الربط بين المتغيرات.
وتظهر الخريطة رقم (6) نموذج كارتوجرافي لاتساق الدوائر الانتخابية في محافظة الجيزة بمصر، وهي احدي المحافظات المكونة للقاهرة الكبرى بحيث تم إنشاء النموذج أو ما يمكن أن نطلق عليه الدليل المدمج من ستة متغيرات تشمل:
1) الحجم المتوسط للسكان في الدائرة.
2) الحجم المتوسط للسكان في سن الانتخاب.
3) الحجم المتوسط للناخبين.
4) توسط المساحة.
5) الاتصال المساحي للدائرة.
6) نسبة الاستطالة.
ومن خلال دمج هذه المتغيرات بأوزان نسبية متفاوتة وبروابط رياضية متعددة تم الخروج بنموذج يظهر مدي اتساق الدوائر الانتخابية في المحافظة من عدمه، ويمكن أن يستخدم هذا النموذج بشكل فعال في إعادة ترسيم الدوائر الانتخابية في المحافظة علي أسس علمية سليمة (سامح عبد الوهاب، 2005، ص ص 28 – 35).
1) الحجم المتوسط للسكان في الدائرة.
2) الحجم المتوسط للسكان في سن الانتخاب.
3) الحجم المتوسط للناخبين.
4) توسط المساحة.
5) الاتصال المساحي للدائرة.
6) نسبة الاستطالة.
ومن خلال دمج هذه المتغيرات بأوزان نسبية متفاوتة وبروابط رياضية متعددة تم الخروج بنموذج يظهر مدي اتساق الدوائر الانتخابية في المحافظة من عدمه، ويمكن أن يستخدم هذا النموذج بشكل فعال في إعادة ترسيم الدوائر الانتخابية في المحافظة علي أسس علمية سليمة (سامح عبد الوهاب، 2005، ص ص 28 – 35).
مصداقية النماذج الكارتوجرافية
وهنا لابد من التفرقة بين الدقة الفنية لإنشاء الخريطة والمصداقية Reliability والتي تنتج عن الظاهرات الجغرافية ونموذجها الكارتوجرافي (Tikunov,V.,1982) وعلية فإن هناك خلافا حول المصداقية للخرائط متعددة الأبعاد ودقة الخريطة Map Accuracy والتي ترتكز تقليديا على الأخطاء المكانية. لذلك لدينا دقة أفقية وأخرى رأسية وأخطاء الحقيقة Factual Errors مثل إغفال الظاهرات Feature omission أو سوء التحديد Miss-Identification وهي إحدى مشكلات مثالية الدقةAccuracy Standards عند بناء الخرائط متعددة المتغير، ولذلك فليس من العملي اختبار الأخطاء المكانية في حالة خرائط الدليل المركب(Robinson, A., et al. 1995, P.555) حيث إن الحدود بين الفئات لا يمكن أن توجد على الأرض ولذلك فالتحقق الميداني يكون قليل القيمة، وهنا يمكن أن نضيف أمرا آخر يجب أن يتم العناية به في الكارتوجرافيا الحديثة وهو عمليات البحث والدراسة التي يجب أن توجه إلى مصداقية النماذج الكارتوجرافية وهو أحد مجالات الأبحاث المهمة في الكارتوجرافيا العالمية في الوقت الحالي والتي يمكن أن تكون إضافات حقيقية يقدمها البحث المتخصص عند تناول مثل هذه الموضوعات.
مما سبق يتضح أن لدينا مدخلين للتمثيل الكارتوجرافي مازالا يحتاجان إلى الكثير من العناية في الدراسات الكارتوجرافية ويجب أن توجه الكارتوجرافيا الحديثة لهما بشكل كبير، حيث أن مجال الاهتمام بمثل هذه الخرائط المركبة أصبح مجال الاهتمام والدراسة في الوقت الحالي، ومن ثم فان توجيه البحث والدراسة لمثل هذه الموضوعات المستجدة يجب أن يكون على رأس الأولويات البحثية. ولعل هذين المدخلين ما هما إلا نموذجا لمجالات يجب العناية بها في مجالات البحث في الوقت الحالي، حيث أن ما يمكن الوصول إليه من نتائج سيكون مستجدا، كما أن استخدام مثل هذه المداخل الحديثة يمكن أن يفي بتحليل بعض مشكلات التنمية، والعرض إلى الطبيعة المركبة لبعض المشكلات في الوقت الحالي، وذلك سواء في مجال المشكلات المرتبطة بالمكونات الطبيعية أو البشرية للمجتمع. وفيما يلي كذلك نعرض لعدد من المجالات التي يجب أن نعني بها في مجال الدراسات العليا في علم الكارتوجرافيا في الوقت الحالي، والتي تحتاج إلى قدر من الاهتمام والدراسة.
مجالات البحوث الكارتوجرافية المطلوب دعمها
إذا كانت المداخل الكارتوجرافية المتقدمة والمركبة هي واحدة من مجالات البحوث الكارتوجرافية المطلوب الاهتمام بها وتوجيه بحوث الكارتوجارفيا الحديثة إليها، فإنه بطبيعة الحال هناك مجالات كارتوجرافية أخرى مرتبطة ومستحدثة تحتاج أيضا إلى الاهتمام والعناية ويمكن أن نحدد أهم هذه المجالات فيما يلي:
النمذجة الكارتوجرافية الموضوعية ويقصد بها دراسة وتحليل عمليات نمذجة العناصر والبيانات الداخلة في بناء النماذج الكارتوجرافية، وتحليل المصداقية والموضوعية واعتماد مبدأ المعيارية في بناء النماذج.
استخدام نظم المعلومات الجغرافية Geographical Information Systems (GIS) في بناء وتحليل الخرائط المركبة المتغير سواء خرائط الأبعاد التقاطعية أو خرائط الدليل المدمج.
دراسة أسس بناء وفاعلية نظم المعلومات الكارتوجرافية Cartographic Information Systems سواء من حيث أسس أو وضوابط تحديد المفردات الكارتوجرافية الداخلة في تكوين قواعد البيانات الكارتوجرافية Cartographic Data Base وكيفية تفعيلها واستعمالها.
دراسة نظم الخبرة Expert Systems المعاونة في عمليات التصميم الكارتوجرافية، وكيفية تطويرها وفق أسس حاسوبية أكثر تقدما لكي تعمل على دعم مصممي الخرائط في الوصول إلى أفضل الإمكانيات لتمثيل البيانات محل العرض. ومدى إمكانية إدخال النظم الخبيرة في بناء النماذج الكارتوجرافية للمشكلات المركبة.
دراسة الاتصال الكارتوجرافية Cartographic Communication وذلك من خلال تحليل عملية الاتصال الكارتوجرافي وفاعليتها وتحليل مفردات الاتصال البياني، ومستقبل الاتصال الكارتوجرافي في ظل الكارتوجرافيا الرقمية.
دراسة وتحليل وتفعيل الخرائط الافتراضية Virtual Maps والتي تتمثل في الخرائط المعروضة على شاشات الحاسوب والمحملة على الحاسوب على هيئة بيانات رقمية، وهذا المجال سوف يعتمد بالضرورة على تحليل ودراسة الخرائط الرقمية Digital Maps ومكوناتها وتطورها وأفضليتها في حفظ وعرض وتحليل البيانات الكارتوجرافية.
تحليل وبناء وتطوير الأطالس التفاعلية Interactive Atlas والتي تعتمد على قواعد بيانات يمكن التفاعل معها إما من خلال تغيير صورة العرض ومفرداته، أو من خلال التدخل في قواعد البيانات بالحذف أو الإضافة.
دراسة وتحليل التجسيم الكارتوجرافي أو الكارتوجرافية الرقمية ثلاثية الأبعاد أو ما يسمي بالنماذج الرقمية ثلاثية الأبعاد (DTM) Digital Terrain Model، والتي تعتمد في دراستها على المرئيات الفضائية Satellite Image والصور الجوية والتي تعتمد بدورها على تقنيات الاستشعار عن بعد Remote Sensing بالإضافة إلى عمليات الإدخال الرقمي للخرائط الورقية، وذلك سواء من حيث عمليات التصميم أو التنفيذ أو الاستخدام أو الاستقبال والفعالية.
استخدام وتفعيل دور الوسائط المتعددة Multi Media في رفع كفاءة الخرائط الحاسوبية في الاتصال الكارتوجرافي وتحليل الواقع والتعرف عليه، ودور هذه الوسائط في الكارتوجرافيا التفاعلية. بالإضافة إلى دراسة عمليات التحريك الكارتوجرافي Cartographic Animation في عرض تطور الظاهرات وتفعيل القدرة على استقبال الواقع.
دراسة وتفعيل دور استخدام الخرائط الرقمية على شبكات المعلومات الدولية Digital Maps WEP Service وذلك من خلال تحليل الخرائط الأكثر ملائمة للنشر على الشبكة وإمكانيات العرض والاستقبال لهذه الخرائط على الشبكة العنكبوتية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق