منصور البابور: في بلاد السهول والهضاب
يتساءل بعض المراقبين للمشهد الليبي الحالي عما يجعل الثورة الليبية القائمة تختلف على هذا النحو المميّز، سواء من حيث المدة التي استغرقتها ولا تزال، أو من حيث طبيعتها وأسلوبها، عما حدث في البلدين المجاورين تونس ومصر. وفي تقديرنا أن الإجابة تكمن في جغرافية ليبيا، التي هي بدورها مختلفة عن جغرافية جارتيها. ولعل مساحة البلاد الشاسعة، ومواقع وحداتها الطبيعية البارزة، وانخفاض الكثافة السكانية، ناهيك عن النظام السياسي الفج والغريب الذي ساد في البلاد على مدى أكثر من أربعة عقود، يمكن أن تعطينا بعض الإجابات حول المسار المختلف في تقدم الثورة الليبية مقارنة بثورات الربيع العربي الأخرى.
بادئ ذي بدء، إن ليبيا في مجملها هي عبارة عن كتلة صحراوية هائلة، تمتد عبر شمال أفريقيا. وهي بمساحتها التي تعادل مساحة مصر وتونس مجتمعتين مرة ونصف، وإذا ما أخذنا في الاعتبار انقسام السودان إلى دولتين، أصبحت تعد ثالث أكبر دول أفريقيا مساحة، ولها أطول ساحل على البحر المتوسط في شمال أفريقيا، ومع ذلك فسكانها لا يتجاوزون نصف سكان تونس، وما يعادل 1/15 من سكان مصر.
يتوزع السكان في ليبيا على مراكز حضرية عديدة ومتناثرة، تحكمت في نشأتها ندرة الموارد المائية، التي تنحصر في المناطق الساحلية والقريبة من الساحل وبعض المنخفضات الصحراوية القابلة للحياة. إنها أرض ممتدة، تتكون من سهول ساحلية وبعض الهضاب، ومن سهول داخلية تمتد بينها شبكة من الوديان الجافة، إلى جانب المنخفضات الصحراوية الشمالية والجنوبية التي تظهر فيها هنا وهناك بعض الواحات الآهلة بالسكان.
في الشمال الشرقي هناك الجبل الأخضر، الذي أصفه "بالنتوء البرقاوي" بسبب شكله البارز الذي يحدد معالم سهل بنغازي ويحتضنه على نحو مناسب، وهو يتميّز بوفرة نسبية من الأمطار التي تجود بها الرياح الشمالية والشمالية الغربية في فصل الشتاء لتحفظ خُضرة طبيعية دائمة تغطي مصاطبه وجروفه. ومن وراءه وشرقه حتى الحدود مع مصر تمتد هضبة البطنان والدفنة التي تتوزيع مدنها وبلداتها بصورة طولية منتظمة في تناغمها مع مورفولوجية الهضبة وساحل البحر شمالا والصحراء جنوباً. في حين نجد في الغرب جبل نفوسة الذي يحدد بدوره سهل الجفارة ويحتضنه، موفراً بذلك مانعاً طبيعاً يحفظ طراوة السهل من مؤثرات الصحراء القاسية.
تبدأ الكتلة الحجرية لجبل نفوسة من نقطة بالقرب من الخمس على ساحل المتوسط، حوالي 100 كيلومتر إلى الشرق من طرابلس، وتمتد في اتجاه الجنوب الغربي حتى تنتهي في الأراضي التونسية. وتضم المستوطنات في جبل نفوسة عدة مدن، باتت أسماؤها أكثر ألفة منذ اندلاع الثورة، مثل يفرن ونالوت وجادو والزنتان والرجبان وكاباو والقواليش وككلة والقلعة والرحيبات والأصابعة وتيجي ونقطة الحدود وازن. وقد كانت بعض هذه المدن والقرى، المحتمية بمواقعها في الجبل من أوائل المناطق التي التحمت بالثورة.
وكلا البيئتين الطبيعيتين، السهلين والجبلين، يحتضنان أربعة أخماس مُدن ليبيا وسكانها، والخُمس الآخر موزّع على المناطق الساحلية الأخرى والمناطق الجنوبية. ومن هنا فإن ليبيا تشبه مصر، التي يتركز سكانها على امتداد الشريط الضيق لوادي النيل، وهِبته الأبدية (الدلتا). ومع ذلك، فعلى العكس من وادي النيل الطويل المتواصل والدلتا ذات الشكل المتراص، فإن هضبتي ليبيا العامرتين وسهليها الكبيرين شبه المثلثين بعيدان أحدهما عن الآخر.
إن المنطقتين الجبليتين اللتين تبرزان في شمال ليبيا، ويتصل بهما السهلان الساحليان، لهما تقريباً نفس الامتداد والارتفاع، ولكليهما أهمية استراتيجية، فقد ثبت أن مرتفعات الجبل الأخضر كانت لها أهمية حيوية خلال العقدين من الزمن ما بين 1911-1931، اللذين شهدا النضال الليبي ضد حكم المحتل الإيطالي تزامناً مع الكفاح الموحّد الذي كان يقوم به سكان وسط ليبيا وغربها. كما أن قوات الحلفاء استفادت فائدة كبيرة من الطبيعة الجغرافية للجبل الأخضر في برقة، وامتداده في هضبة البطنان، في هزيمة قوات المحور في شمال أفريقيا خلال الحرب العالمية الثانية.
وها هي ذي أراضي جبل نفوسة الوعرة تلعب دوراً مشابهاً لا يقل بطولة في الحرب الحالية من أجل استقلال ليبيا الثاني من نظام القذافي القمعي. فهذا الجبل المحرر يوفر منفذاً ورقابة على خطوط الإمدادات في الجنوب، وخاصة نقطة الحدود في غدامس مع الجزائر وتونس من جهة، ومن جهة أخرى نقطة الحدود الأخرى مع الجزائر عبر غات في إقليم فزّان.
وعلى الرغم من أن مسافة ألف وخمسمائة كليومتر تفصل بين الهضبتين والسهلين من منتصفهما، إلا أنهما لم يكونا أكثر ترابطاً سياسياً وعسكرياً كما هما خلال هذه الثورة المجيدة، فقد ظل التواصل الاجتماعي والسياسي، وكذلك الإمدادات العسكرية والعمليات على جبهات القتال، تسير بطريقة سلسة بين مُدن وبلدات جانبي البلاد على الرغم من وجود قوات القذافي بينهما.
ومهما قيل عن وجود جمود فيما يتعلق بالتقدم الميداني للثورة، فإنه قد انتهى في الأسابيع الأخيرة، عندما بدأ مقاتلو الحرية من جبل نفوسة والجبل الأخضر ومصراتة وبنغازي عملياتهم الهجومية، متقدمين في اتجاه العاصمة، مسيطرين في طريقهم على مناطق ذات أهمية حيوية، حتى تمكنوا جميعاً من الإلتحام برفاقهم في طرابلس واحتفلوا معهم بخلاصها. وسوف ينجز تحرير مدينتي سرت وبني وليد الاتصال البري الكامل بين الهضبتين والسهلين المأهولين بالسكان ذات الأهمية الاستراتيجية.
أن حركة التغيير في ليبيا لم يعد ممكنا أن تعود إلى الخلف، فالليبيين الأحرار فخورون بوطنهم وواثقون بخلاصه من رِبْقَة الإستبداد، وقد نجحوا في استعادة إحساسهم بوحدة المصير، وما أنجزوه على الصعيد العسكري يعكس إدراكهم لطبيعة البلاد الجغرافية، ومهارة في استثمارها على النحو الأكمل. ولكن ما اكتسبوه كشعب يحاول استعادة وطنه وهويته الأصيلة يتجاوز بكثير جداً كل مكاسبهم الجغرافية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق