التسميات

الثلاثاء، 6 أغسطس 2013

الهوية الليبية والوحدة الوطنية في إطار التاريخ والجغرافيا 1 ...

الهوية الليبية والوحدة الوطنية في إطار التاريخ والجغرافيا 1 

ليبيا المستقبل - 24/4/2012 - منصور البابور - أستاذ الجغرافيا بجامعة بنغازي : تتضمن المقالة أفكاراً نشرتها باللغة الإنجليزية  في الشهور الأولى من عام 2011، وهي أفكار مُستوحاة من ثورة فبراير المباركة التي استعاد فيها الشعب الليبي المجاهد هُويته الأصيلة التي سُلبت غدراً ردَحاً من الزمن، وبرهن من خلالها على صلابته المتأصلة التي أدهشت العالم أجمع وجعلت أناسه يرجعون إلى كتب التاريخ  لمعرفة المزيد عن هذا الشعب الصغير في عدده، الكبير في أفعاله. سوف أتحدث أولا عن الهُويّة والوحدة الوطنية، ثم أنتقل لتقديم لمحة عن جغرافية ليبيا ونظامها الحضري اللذين أسّسا للهوية الوطنية ورسّخا وحدة التراب الليبي، وأختم بنظرة سريعة للصحراء التي تشكل بدورها ركناّ أساسياً من شخصية ليبيا. ينبني حِجاجي هنا على فكرة أن ليبيا أمة من المدن وليست أمة من القبائل، وأن النظام الحضري الذي هو بالضرورة نظام مكاني/ اجتماعي إقتصادي متغلغل مُنذ القدم في التراب الليبي من أقصاه إلى أقصاه، وأن هُوية ليبيا ووحدتها، النابعتين من تاريخها وجغرافيتها، يحركان هذا النظام ويتحركان به. طبعأ، سوف أترك المحرِّك الأعظم لهُويّة ليبيا ووحدتها، ألا وهو لغة القرآن الكريم، للمتخصصين من بين الأساتذة الأفاضل في هذا الجمع الكريم.

مقدمة:
لقد انتشر كثير من سوء الفهم والأفكار النمطية فيما يقال ويكتب حول جملة من المخاطر التي تهدد الوحدة الوطنية الليبية، بسبب طبيعة البلاد الجغرافية، وتركيبتها القبلية، وتباين أقاليمها، وكذلك بسبب عدم التوازن في توزيع السكان. بل إن دراسة نشرت مؤخراً ربطت بين ما يوصف "بثنائية التركيبة السكانية" وبعض مظاهر البيئة الطبيعية. وللأسف إن هؤلاء الذين يتجهون لتبني مثل هذه اللغة ويكررونها في الحديث عن ليبيا، إنما يتجاهلون تاريخها السياسي والاجتماعي والحضري الطويل، كما يتجاهلون أيضاً جغرافيتها الطبيعية والتاريخية والسياسية.
وكيلا نسمح لبعض الأفكار التي عفا عليها الزمن حول حتمية بيئية مزعومة بأن تصرف انتباهنا، من المهم الإشارة إلى أن العوامل الجغرافية ليست طبيعية فقط، بل هي اقتصادية واجتماعية وثقافية كذلك، بل وإنسانية بالدرجة الأولى، إذ لا شك أن هناك فيض من المعاني والدلالات يُسبغها المنتمون على المكان ما يؤكِّد شخصيته ويُبرز فرادته. من جهة أخرى ينبغي أن نضيف أن المسافة الجغرافية المطلقة وحدها لا تجدي كثيراً في تفسير الروابط الفعلية الموجودة بين أجزاء منطقة معينة، بل يجب الاسترشاد بدور المسافة الوظيفية الأكثر أهمية في هذه الحالة.
ما أود التأكيد عليه هو أن وحدة البلاد نجدها في جغرافيتها وفي تاريخها. فعبر آلاف السنين كانت الأرض التي أصبحت تعرف باسم ليبيا في العصور الحديثة مسرحاً لعمليات هائلة من تفاعل الحضارات وتلاقي الجماعات الأصلية من السكان، الذين أسهموا إسهاماً كبيراً في تنوعها الثقافي، الذي يبدو أكثر وضوحاً في التجمعات الحضرية. فقد شكلت هذه التجمعات مراكز عمرانية ضمن شبكة تكونت على أساس جغرافي منذ أيام الرومان، عندما باتت هذه الرقعة من الأرض معترفاً بها كوحدة جغرافية مستقلة. ومن ثَمَّ فمن المسلم به أن جذور نمط ليبيا المكاني الحالي يجب أن ينظر إليها في عمق تاريخها العمراني، وليس من خلال بعض الأفكار المسبقة، أو الحجج الافتراضية.
إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ماذا حدث للهوية الوطنية للشعب الليبي زمن الاحتلال الإيطالي الغاشم وفترة حكم الاستبداد التي أطاحت بها ثورة الشعب المجيدة؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب منا فهماً عميقاً لتطلعات الشعب الليبي خلال هاتين الفترتين. فإذا أخذنا في الاعتبار أن الفترة الأولى كانت تتسم بسيادة نمط الإقتصاد الريفي الرعوي، وأن الفترة الثانية قد اتسمت بسيادة غالبة للنمط الحضري، فإننا نلاحظ أن السمات الجوهرية لكلتا الفترتين تمثلت في مسألة البحث عن هوية ضائعة والأمل في مستقبل أفضل.
إن التاريخ الشفهي والمكتوب لنضال الشعب الليبي ينبئنا بأن الحفاظ على الوحدة الوطنية كان أمراً جوهرياً من أجل الحفاظ على الهوية الوطنية. وتعد الملحمة الشعرية الشهيرة: "ما بي مرض غير حبس العقيلة" نموذجاً كلاسيكياً لوصف المآسي والفظائع التي قاساها الليبيون إبان نظالهم البطولي ضد الاحتلال الإيطالي، ومع ذلك فهي تعبر عن معاني اللهفة للديار والهُوية المسلوبة والأمل في استعادتهما. وكي نفهم ملامح التغيير التي توحي بها الثورة الحالية، على صعيد تبلور الهوية وتطورها، علينا أن نعود إلى الاستمرارية التاريخية من خلال مرحلة ما قبل الاستقلال والمرحلة الدستورية. ويفترض أن معنى من معاني الاستمرارية التاريخية مع هاتين المرحلتين الحاسمتين يعطينا ما نحسبه معنى للهوية الوطنية.
الهُوية والوحدة الوطنية:  بادئ ذي بدء، إن الهوية الليبية تنبع أساساً من شعور قوي بالوحدة الوطنية؛ وحدة حقيقية، وليست متخيلة. إن جغرافية ليبيا البشرية تعطينا الأسس الحقيقية للوحدة الوطنية، وهي تستمد قوتها من تصورين للمكان ينتج أحدهما عن الآخر، مثال ذلك نمط الاقتصاد الزراعي الرعوي السابق، والنظام الحالي للمدن المعتمد بعضها على بعض وظيفياً. ففي النظام القديم كان الرعاة الزراعيون يتنقلون بحرية على الأرض سعياّ وراء الكلأ والماء، ولم يكونوا يعترفون بأية حدود تفصل بين أجزاء وطنهم. وفي النظام الحالي ولدت المدن والقرى من مختلف الأحجام من خلال نظام تراتبي متأصِّل للأماكن المركزية، التي ثبت أنها تلعب دوراً أساسياً في مسألة الهوية وقامت كل منها بدور البُوتقة التي ينصهر فيها السكان القادمون من كل مكان في ليبيا.
في الحقيقة لقد وجد الليبيون الفرصة للتعبير عن فهمهم المتميز لهذه الوحدة في ثلاث مراحل حاسمة خلال مائة السنة الأخيرة من تاريخهم، بدءاً من 1911 حتى 2011. وقد تجسد إدراكهم لمصيرهم المشترك بشكل واضح خلال ثلاثة عقود من النضال الموحد، سياسياً وعسكرياً، لتخليص بلادهم من حكم المحتل. لقد جاء المقاتلون من كل مكان: من المناطق الريفية والحضرية على طول ساحل المتوسط، وكذلك من قبائل البادية وسكان الواحات في مناطق الداخل. فقد مثلت هذه القبائل مصادر حيوية لتزويد قضية التحرير بالرجال المقاتلين.
ثم مثل إعلان الاستقلال وإنشاء الملكية الدستورية سنة 1951 بداية مرحلة جديدة من التطور السياسي والاقتصادي. والأهم من ذلك أن الوحدة الوطنية قد ترسخت وتم المحافظة عليها من خلال درجة عالية من الوعي السياسي بالمصير المشترك لدى المواطنين جميعاً. وانطلاقاً من وعي الليبيين بهويتهم كوحدة سياسية مستقلة، فقد توجوا تطورهم السياسي، في منتصف الستينيات، باستبدال نظام الحكم الفيدرالي (الذي كان يشمل الولايات الثلاث السابقة: طرابلس، برقة، فزان) بنظام دولة الوحدة.
أما الثورة الحالية فإنها تتحدث عن نفسها بكل وضوح. لقد شرع الليبيون في البحث من جديد عن الحرية واستعادة الهوية المفقودة والديمقراطية. فعلى الفور، منذ اللحظات الأولى لتفجر ثورة فبراير المجيدة، طغى على الجميع شوق عارم للراية الدستورية، رمز الاستقلال الوطني، فأخذت هذه الراية ترفرف في كل مكان، اعتزازاً، بلا أي شك، بتلك المرحلة التاريخية وبمنجزات الأجيال الماضية. ولا شك أن بروز العلم وانتشاره بشكل عجيب في كل مكان، بأعداد هائلة وبكل الأحجام، يعد مؤشراً لا تخطئه العين لإحساسهم بوحدة ليبيا وهوية سكانها.
إن المشهد الحضري التقليدي لمدينة بنغازي، على سبيل المثال، هو نتاج لمعنى من معاني تاريخه، ومن ثَمَّ فإنه ينتهي إلى معنى من معاني الوحدة. إنه يحمل شهادات على مراحل من الازدهار، وأوقات من القنوط والنضال. وهكذا فإن الفقدان المادي لعدد من أهم آثاره وملامحه الحضرية خلال حكم الاستبداد، مثل هدم ضريح شيخ الشهداء عمر المختار ونقل رفاته، وهدم سوق الظلام، وتدمير عدد آخر من المكونات المعمارية للمدينة، لم يؤثر على الإطلاق في معنى الهوية. وعلى كل حال هذا الفقدان لن يكون نهائياً، فكل هذه المعالم تبقى راسخة بعمق في ذاكرة الشعب الجمعية، وسوف يساهم استعادتها في دعم الهوية وترسيخ المكان.
لقد أشرت إلى أمثلة من مدينة بنغازي، ولكن الأمر نفسه ينطبق على غيرها من الأماكن، فالأمل القوي في استعادة الهوية الوطنية قد تجسد في مناطق حضرية أخرى على طول امتداد التراب الليبي، تختلف في أحجامها، من طرابلس، العاصمة الوطنية، وحتى بلدة الجغبوب الصغيرة في عمق الصحراء، قرب الحدود المصرية. فهذه الواحة الصغيرة قد عانت بقسوة جراء الهدم المتعمد لمؤسستها التعليمية الشهيرة المعروفة. وجدير بالذكر أن الجغبوب كانت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر تنافس الأزهر الشريف في مجال التعليم الديني.
ودون الحاجة إلى الخوض في تفاصيل التطور التاريخي للمدن الأولى، يكفي القول إن اللبنات الأولى للإطار الحضري الحالي تمتد جذورها عميقاً في تاريخ ليبيا. ومن الأمثلة على تجمعات حضرية بنيت فوق مواضع مدن تعود للتاريخ القديم والوسيط أو بجوارها نذكر: طرابلس، بنغازي، شحات، صبراته، زوارة، مصراته، زليتن، الخمس، درنة، طبرق، المرج، سوسة، طلميثة، توكرة، دريانة، وغيرها من المدن المنتشرة في جبل نفوسة ومنخفضات الصحراء الجنوبية مثل زويلة، جرمة، مرزق، غدامس وغات. بعض المدن الأخرى، مثل سبها والزاوية والبيضاء فقد نمت كمراكز إقليمية مهمة في العصور الحديثة، بل إن البيضاء قد أصبحت في فترة ليست بعيدة عاصمة للبلاد، في حين أن بعض المراكز الحضرية الأخرى قد ظهرت كمنتج طبيعي لأنشطة استثمار موارد النفط، مثل موانئ تصدير النفط: مرسى البريقة وراس لانوف والسدرة.
إن المتمعن في المشهد الحضري في ليبيا، ولو لم يكن ذا معرفة واسعة بجغرافية ليبيا، سوف يلاحظ أن ذلك الانتشار الواسع للمواقع التي ذكرتها آنفاً يشير تقريباً إلى كل المدن والقرى المهمة، الكبيرة والصغيرة، التي تتكون منها ليبيا الحالية. وثمة استمرارية ملفتة للنظر توجد بين مكونات الأنظمة الحضرية القديمة في المدن الخمس في جهة الشرق، والمدن الثلاث في الغرب، ونظيراتها الحديثة التي نشأت في المواقع ذاتها. بالطبع واجهت المراكز الحضرية القديمة جملة من الظروف غير الملائمة من الجمود والانهيار، ومع ذلك فإن الإطار العام للمشهد الحضري الذي ورثته ليبيا من تاريخها الماضي ظل في مجمله ثابتاً، وحافظ على نظامه المكاني الأصلي. ولعل من أبرز علامات هذه الاستمرارية الإبقاء على الأسماء الأصلية لكثير من المدن والأقاليم معرّبة مٌنذ الفتح الإسلامي. وإذا ما نظر إلى هذه المراكز وظهيراتها باعتبارها نظاما مكانياً، فإنها تمثل مكونات تراتبية حضرية مرتبطة ببعضها البعض وظيفياً، كما لعلها كانت كذلك في الماضي البعيد.
منصور البابور
elbabour_mansour@yahoo.comemail
http://works.bepress.com/mansour_elbabour

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا