الهوية الليبية والوحدة الوطنية في إطار التاريخ والجغرافيا 2
منصور البابور
أستاذ الجغرافيا بجامعة بنغازي
ليبيا المستقبل - 25/4/2012 :
فكيف إذن أسّست هذه الجغرافيا للهوية والوحدة الوطنية وحفظتهما؟:
إن ليبيا في مجملها عبارة عن كتلة صحراوية هائلة، تمتد عبر شمال أفريقيا. وهي بمساحتها التي تعادل مساحة مصر وتونس مجتمعتين مرة ونصف، وإذا ما أخذنا في الاعتبار انقسام السودان أخيراً إلى دولتين، أصبحت تعد ثالث أكبر دول أفريقيا مساحة، ولها أطول ساحل على البحر المتوسط في شمال أفريقيا، ومع ذلك فسكانها لا يتجاوزون نصف سكان تونس، وما يعادل 1/15 من سكان مصر.
موقع ليبيا وسط شمال إفريقيا على امتداد ساحل البحر المتوسط أعطاها ميزة استراتيجية كبيرة مكنتها، قديماً وحديثاً من القيام بدور الرابط الجغرافي الهام بين أوروبا وإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى؛ كما مكنّها هذا الموقع الإستراتيجي من تكوين علاقات ثقافية وتجارية وسياسية على درجة كبيرة من الأهمية مع جاراتها مصر والسودان وتونس والجزائر والنيجر وتشاد الواقعة على حدودها مباشرة.
يتوزع السكان في ليبيا على مراكز حضرية عديدة ومتناثرة، تحكمت في نشأتها ندرة الموارد المائية، التي تنحصر في المناطق الساحلية والقريبة من الساحل وبعض المنخفضات الصحراوية القابلة للحياة. إنها أرض ممتدة، تتكون من سهول ساحلية وبعض الهضاب، ومن سهول داخلية تمتد بينها شبكة من الوديان الجافة، إلى جانب المنخفضات الصحراوية الشمالية والجنوبيةالتي تظهر فيها هنا وهناك بعض الواحات الآهلة بالسكان.
والعجيب أن ليبيا ليست متجانسةثقافياً فقط،بل ينطبق نوع من التجانس الطبيعي على أجزاءها المعمورة الرئيسة أيضاً. يمكننا الحديث عن الهضبتين المتناظرتين، الجبل الأخضر وجبل نفوسة، كما يمكننا الحديث عن السهلين المتماثلين سهل الجفارة وسهل بنغازي.هذه الإقاليم الأربعة شبه الجافة (باستثناء المصاطب والجروف العليا للجبل الأخضر والتي تصنف شبه رطبة) تشكل أقل من 5% من مساحة الأراضي الليبية ولكنها تأوي ما يزيد على 90% من السكان.
في الشمال الشرقي هناك الجبل الأخضر، الذي أصفه "بالنتوء البرقاوي" بسبب شكله البارز الذي يحدد معالم سهل بنغازي ويحتضنه على نحو مناسب، وهو يتميّز بوفرة نسبية من الأمطار التي تجود بها الرياح الشمالية والشمالية الغربية في فصل الشتاء لتحفظ خُضرة طبيعية دائمة تغطي مصاطبه وجروفه. ومن وراءه وشرقه حتى الحدود مع مصر تمتد هضبة البطنان والدفنة التي تتوزع مدنها وبلداتها بصورة طولية منتظمة في تناغم مع مورفولوجية الهضبة وساحل البحر شمالا والصحراء جنوباً. في حين نجد في الغرب جبل نفوسة الذي يحدد بدوره سهل الجفارة ويحتضنه، موفراً بذلك مانعاً طبيعاً يحفظ طراوة السهل من مؤثرات الصحراء القاسية.
تبدأ الكتلة الحجرية لجبل نفوسة من نقطة بالقرب من الخمس على ساحل المتوسط، حوالي مِئة كيلومتر إلى الشرق من طرابلس، وتمتد في اتجاه الجنوب الغربي حتى تنتهي في الأراضي التونسية. وتضم المستوطنات في جبل نفوسة عدة مدن، باتت أسماؤها أكثر ألفة منذ اندلاع الثورة، مثل يفرن ونالوت وجادو والزنتان والرجبان وكاباو والقواليش وككلة والقلعة والرحيبات والأصابعة وتيجي ونقطة الحدود وازن. وقد كانت بعض هذه المدن والقرى، المحتمية بمواقعها في الجبل من أوائل المناطق التي التحمت بالثورة.
وكلا البيئتين الطبيعيتين، السهلين والجبلين، يحتضنان أربعة أخماس مُدن ليبيا وسكانها، والخُمس الآخر موزّع على المناطق الساحلية الوسطى والمناطق الجنوبية. ومن هنا فإن ليبيا تشبه مصر، التي يتركز قُرابة 95% من سكانها على امتداد الشريط الضيق لوادي النيل، وهِبته الأبدية (الدلتا). ومع ذلك، فعلى العكس من وادي النيل الطويل المتواصل والدلتا ذات الشكل المتراص، فإن هضبتي ليبيا العامرتين وسهليها الكبيرين شبه المثلثين بعيدان أحدهما عن الآخر.
إن المنطقتين الجبليتين اللتين تبرزان في شمال ليبيا، ويتصل بهما السهلان الساحليان، لهما تقريباً نفس الامتداد والارتفاع، ولكليهما أهمية استراتيجية، فقد ثبت أن مرتفعات الجبل الأخضر كانت لها أهمية حيوية خلال العقدين من الزمن ما بين 1911-1931، اللذين شهِدا النضال الليبي ضد حكم المحتل الإيطالي في شرق البلاد تزامناً مع الكفاح الموحّد الذي كان يقوم به سكان وسط ليبيا وغربها وجنوبها. كما أن قوات الحلفاء استفادت فائدة كبيرة من الطبيعة الجغرافية للجبل الأخضر وامتداده في هضبة البطنان، في هزيمة قوات المحور في شمال أفريقيا خلال الحرب العالمية الثانية.
وقد شاهدنا أراضي جبل نفوسة الوعرة تلعب دوراً مشابهاً لا يقل بطولة في الحرب الأخيرة التي أُجبر الليبيون على خوضها من أجل استقلال ليبيا الثاني من النظام القمعي المنهار. فقد وفّر هذا الجبل الأشم مَنْفَذاً ورقابة على خطوط الإمدادات في الجنوب، وخاصة نقطة الحدود في غدامس مع الجزائر وتونس من جهة، ومن جهة أخرى نقطة الحدود الأخرى مع الجزائر عبر غات في إقليم فزّان.
وعلى الرغم من أن مسافة ألف وخمسمائة كليومتر تفصل بين الهضبتين والسهلين من منتصفهما، إلا أنهما لم يكونا أكثر ترابطاً سياسياً وعسكرياً كما كانا خلال هذه الثورة المجيدة، فقد ظل التواصل الاجتماعي والسياسي، وكذلك الإمدادات العسكرية والعمليات على جبهات القتال، تسير بطريقة سلسة بين مُدن وبلدات جانبي البلاد على الرغم من وجود قوات القذافي بينهما.
بنية النظام الحضري:
سوف أتحدث قليلا عن النظام الحضري بوصفه مؤشراً قوياً على مرونة الشعب الليبي حيث جسّد بكل وضوح فكرة الوحدة الوطنية ومثّل أهم دعائمها. لقد كان من أهم الحقائق تحول المجتمع الليبي بشكل سريع ملفت منذ الاستقلال نحو النمط الحضري؛ إذ توجه الليبيون بكثافة نحو المدن، دون النظر إلى أصولهم إن كانت حضرية أو ريفية. وكان هذا يرجع أساساً إلى التجانس الاقتصادي الاجتماعي/الثقافي الملفت للنظر الذي يربط بينهم. فلم يكن ثمة انقسام بين المدينة والريف، ولم تكن المدن على الإطلاق مناطق منغلقة على نفسها، أي enclaves كما يٌشار إلى هذه الحالة بالمصطلح الإنجليزي. فالواقع أن المدن والقرى ظلت مترابطة فيما بينها اجتماعياً وثقافياً ووظيفياً، ومن ثم فقد كانت تمسك بمفتاح الهوية الوطنية والوحدة.
النتيجة أن ليبيا تعد البلد الأكثر تحضراً في أفريقيا، وربما من أكثر الدول تحضراً في العالم كله. إنّها، بحق، أمّة من المدن. فعبر تاريخه الحديث كله، بدءاً من نهاية الحرب العالمية الثانية، مروراً بمرحلة الاستقلال التي تلتها على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، أخذ المجتمع الليبي يتشكل بثبات وخطى حثيثة في نمط حضري وظيفي، ربما يكون قد بلغ مستوى النضج، وإن كان بمعايير الدول النامية،بحلول القرن الواحد والعشرين، إذ أصبحت الغالبية العظمى من السكان يقطنون في تجمعات حضرية. وعلى الرغم من رقعة البلاد الشاسعة، وانخفاض الكثافة السكانية، فإن مدن البلاد وقراها كانت دائماً متصلة فيما بينها اجتماعياً وثقافياً ووظيفياً، لا باعتبارها وسيلة اقتصادية معاشية فحسب، ولكن من حيث إنها مصدر هوية لمجتمع متحرك، يتنقل بحرية وباستمرار من مكان إلى آخر، بحثاً عن فرصة العمل والحياة المدنية. وبالطبع قامت المراكز الحضرية التقليدية: طرابلس وبنغازي ومصراته ودرنه بدور المحور للأنشطة الاقتصادية، التي نشأت بفعل صناعة النفط. هذه المدن وغيرها المنتشرة على امتداد مساحة البلاد الشاسعة، مثلت أيضاً بُوتقة انصهر فيها السكان الذين كانوا يعيشون حياة البادية والمهاجرين إليها من التجمعات الصغيرة والزراعية.
والحقيقة أننا شاهدنا في الأيام العظيمة الأولى لثورة الشعب كيف أن الوحدة الوطنية قد برزت بوضوح من خلال مظاهر التكافل والاتحاد التي يحس بها الجميع في كل المدن. فعلى سبيل المثال، عندما انطلقت شرارة ثورة فبراير في بنغازي، ثاني مدن البلاد، ترددت أصداؤها على الفور في بلدة الزنتان الصغيرة في أقصى منطقة جبل نفوسة، وسرعان ما انعكست خلال يومين على سائر التجمعات السكانية، بصرف النظر عن أحجامها ومواقعها. بل إن المدن، حتى وهي تعاني من الحصار الخانق المفروض عليها، أثبتت أنها متصلة بعضها ببعض، وأن بعضها يعتمد على بعض، وأنها قادرة على توفير الدعم الحيوي فيما بينها. ومن ثَمَّ فقد كان خط الدفاع عن مدينة بنغازي، القلعة الحصينة لثورة فبراير، لا ينتهي عند البوابة الغربية لإجدابياً البطلة، ولكنه يمتد حتى مصراته المنيعة، والزنتان والزاوية الباسلتين وغيرها كثير من المدن والقرى في معظم المناطق الغربية من البلاد.
إن هذا التوزيع التراتبي لمكونات الإطار الحضري على اتساع الإقليم المعمور هو أيضاً نتاج الجغرافيا، كما هو نتاج التاريخ. ذلك أن الخصائص الطبيعية لليبيا تتميز غالباً بعدم وجود أرض وعرة، على الرغم من أنه توجد في الشريط الساحلي شرقاً وغرباً بعض الأراضي المرتفعة قليلاً نسبياً (أقل من 900 متر فوق سطح البحر) تتوازى مع خط الساحل، وهذا يصب في صالح التواصل بين مكونات النظام الحضري. إضافة إلى ذلك فإن عدم وجود أجزاء متميزة ثقافياً داخل حدودها، وعدم وجود أية مناطق ليبية خارج الحدود، وأن المدن وما يرتبط بها من أرياف ليست ذات طبيعة متنافرة، يدعم فكرة أن المدن والقرى ومجالاتها الحيوية كانت دائماً مترابطة فيما بينها وظيفياً واجتماعياً، وكانت داعمة لبعضها البعض.
لقد أكدت على فكرة النظام الحضري، واعتمدت عليها لتأكيد الوحدة المكانية للتراب الليبي، وهي وحدة وجدت في الأزمنة الماضية، وبقيت، ظاهراً وباطناً، حتى العصور الحديثة. ومن هنا فإن ذلك الانفصام بين الشرق والغرب الذي ربما وجد خلال فترة التنافس الإغريقي والفينيفي، تم في الواقع إنهاؤه بواسطة الرومان الذين حكموا أرضاً موحدة، بل غامروا أيضاً بالتوغل إلى الدواخل وسهّلوا ارتباطها بالمناطق الساحلية. وبدءاً من منتصف القرن السابع الميلادي انتشر نموذج المدينة الإسلامية على طَوَال الأرض الليبية، التي شيدت فوق المراكز الحضرية القديمة، أو بنيت بجوارها. بعد ذلك التاريخ بحوالي ألف عام حكم العثمانيون (1551-1911) أرضاً موحدة. وعندما احتل الإيطاليون ليبيا (1911) استعمروا هم أيضاً أرضاً موحدة، وتبنوا تسميتها الجيوسياسية. ولا شك أن ليبيا الحديثة كانت تمتلك المعايير اللازمة للحفاظ عليها موحدة.
ولعلنا لا نحتاج إلى التذكير بأن هذه اللمحة عن النظام الحضري في ليبيا لم يكن يراد بها أن تكون شاملة كاملة، وإنما كان القصد من ورائها إثارة المزيد من النقاش والتأمل في صلب النظام الجغرافي الذي يؤثر في التفاعل البشري في كل مكان وزمان. وكي نفهم جيداً الإطار الحضري لليبيا في الوقت الحاضر، ومن ثَمَّ وحدتها الترابية، فإن علينا أن ندرس بعمق التجربة الحضرية الماضية، وأن ننظر إليها باعتبارها يمكن أن تمثل الأساس لأيتطوّرمكاني/إقتصادي/سياسي قادم.
الصحراء:
الصحراء، بمنخفضاتها الواسعة، تشكّل مناطق جذبٍ لسكانها وروادها من سائحين وباحثين ورحّالة وغيرهم ممن يعملون فيها، بما توفِّره من موارد بشريةوظواهر طبيعية في غاية التباين والإختلاف. أودية الصحراء العامرة احتضنت محطات القوافل القديمة ووفرت حطاياها الأمن والأمان لقاطنيها وزوارها وتجار القوافل الصحراوية في الماضي، رابطة بمواقعها الاستراتيجية بين الحمادة والرمال مدن الساحل الليبي بأواسط افريقيا. والآن نراها تقوم بدور مماثل لا يقل أهمية عن سابقه، وهي تتدرج في عُقد من الأماكن المركزية المتفاعلة ضمن المنظومة الحضرية الوطنية.
جانب آخر هام من جوانب البيئة الصحراوية يتمثل في حياة مُدن وواحات الصحراء العامرة. هذه المرافئ الرائعة بمائها العذب الغزير وغابات نخيلها وانتاجها من التمور الطيبة وطِراز بنائها التقليدي الذي يذكِّر المرء بالنمط المندثر، أو وشيك الاندثار، للمدينة الإسلامية المتناغِمة مع بيئتها، كل ذلك وغيره من كرم خِصال أهلها وعَفْويتهم يجعل واحاتنا محاطّ أمان للمسافر والرحّالة الذي تستهويه الصحراء بسحرها ودفئها.
الصحراء مُتحفاً كبيراً مفتوحاً تجِب المحافضة عليه واستثماره بشكل مُستدام. كما يجب أن يكون هذا المُتحف المفتوح منطلقاً للدراسة والمعرفة بما يوفره من مجال خَصِب لشتى فروع العلم، ولمُحبي الإطلاع والتعرّف على هذا النوع من البيئات الفريدة وصِفاتها الجيولوجية والطبوغرافية وأنماط التعرية في صخورها ومنخفضاتها وجبالها ووديانها وخصائص ما يعيش فيها من نبات وحيوان. إنه أيضاً جزء هام من العالم المُختَبَر، عالم الإدراك الحسي الذي يجد فيه الشاعِر مبعثاً لصور جميلة يقدح بها خياله الشِعري، كما يجد فيه الباحث الفينومينولوجي (الظاهِراتي) مادته الأولية التي يرى من خِلالها تجليّات الفِعل الإنساني وإحداثه "للمكان" في صورته الأصيلة.
إن على الليبيين أن يعلنوا الآن عن رؤية جديدة. هذه الرؤية يجب أن تتصل بتجربتنا الديمقراطية الماضية، التي خضناها كأمة في فجر الاستقلال، وكانت تتعلق بها كل آمالنا. وعلى كل حال فإن مجرد التعلق العاطفي بالهوية الوطنية لن يكون كافياً. فإن الرؤية الجديدة يمكن أن تستلهم أيضاً من إحساس مرهف بالمكان الذي اكتسبته الأمة من تجربتها الإنسانية، ولا سيما تلك الصورة التي افتقدت ثم وجدت من جديد لمدننا. فهذه المدن والقرى، وهي تستعيد هوياتها، تحاول أن تعيد موضعة نفسها، باحثة عن صور سابقة، في محاولتها بناء صور أخرى في أنماط جديدة.
إن ما حدث خلال أربعة العقود الماضية لا يعكس القيم ولا الشعور الوطني لدى الشعب الليبي. في الحقيقة إن ما يحدث الآن يؤكد لنا أن روح الأمة لم تنكسر على الإطلاق، على الرغم من الانحطاط الذي تعرضت له خلال أربعة عقود من الحكم الاستبدادي، الذي كان يهدف إلى تحطيم كرامتنا والانحدار بنا إلى حالة من الفوضى. فهذه العقود البائسة لم تفلح في اقتلاع إحساسنا بالهوية الأصيلة. كما أن حركة التغيير في ليبيا لم يعد ممكنا أن تعود إلى الخلف، فالليبيين الأحرار فخورون بوطنهم وقد نجحوا في استعادة إحساسهم بوحدة المصير، وما أنجزوه في حرب التحرير الثانيةواستعادة الوطن والهُوية الأصيلة يعكس إدراكهم لطبيعة بلادهم الجغرافية ومهارة في استثمارها على النحو الأكمل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق