الفكر الجغرافي الحديث
تأليف ريتشارد بيت
Modern Geographical Thought
(Richard Peet (2006
Blackwell
مجلة جغرافية المغرب :عرض وقراءة: كرم عباس - مراجعة وتحرير: عاطف معتمد :
في الفصل الأول من
كتابه "الفكر الجغرافي الحديث" يتناول ريتشارد بييت العلاقة بين المكان
والفلسفة (فلسفة المكان) من خلال إعادة طرح عدة أسئلة جوهرية حول معنى الجغرافيا
والفلسفة، وما وراء الفلسفة والنظرية الاجتماعية وفلسفة المكان والحتمية البيئية. وكل
ذلك كمدخل لكتابه الرصين عن المذاهب الفلسفية في علم الجغرافيا (علم المكان).
ما الجغرافيا؟ :
تبدو الإجابة على هذا السؤال
محيرة سواء لمن ينتمون لهذا العلم أو لمن لا ينتمون له. ويتمثل مصدر تلك الحيرة في
الموضوعات المتعددة التي تدخل في نطاق العلم، والتي يبدو أنه لا يوجد رابط واضح أو
علاقات دقيقة فيما بينها. ويبدو أن هوية الجغرافيا نفسها في أزمة بسبب تعقيد ما
يفعله الجغرافيون. فالجغرافيا تدرس الإقليم والمكان واللاندسكيب والفضاء المكاني
والبيئة الطبيعية، وتتفاوت أهمية تلك المفاهيم من وقت لآخر؛ ففي الخمسينيات
والستينيات من القرن الماضي كان التركيز على المكان والإقليم، وفي السبعينيات كان
التركيز على المكان والفضاء المكاني، وفي الثمانينيات كان التركيز بشكل أكبر على
البيئة الطبيعية نظرًا لتنامي الوعي بمفهوم الكوكب العالمي الذي تتهدده مخاطر
البشرية. أخذا في الاعتبار أن التحول بين الاهتمامات الجغرافية المختلفة إنما يخضع
للأهمية البرجماتية (العملية والنفعية).
ويرى المؤلف أنه ليس مهما البحث
عن تعريف لعلم الجغرافيا، بقدر ما هو مهم تحديد ما الذي يمكن أن يصنعه هذا التعريف.
فهل يمكن للجغرافيا أن تساعد الناس على فهم الخصوصية والاختلاف بين الأماكن؟ وهل
يمكن أن تعزز الجغرافيا لدى الناس شعورًا بأهمية وتقدير الأماكن بدلاً من التصارع
عليها؟ تلك هي المسئولية الملقاة على عاتق علم الجغرافيا.
إن الجغرافيا هي دراسة العلاقات
بين المجتمع والبيئة الطبيعية. فتنظر الجغرافيا في كيفية تشكل المجتمع وتغيراته
وكيفية التشكيل المتنامي للبيئة الطبيعية لأجل خلق أشكال إنسانية لبيئة متكاملة
تتكامل فيها الطبقات والبنى الاجتماعية، بحيث تتشكل فيها الواحدة على الأخرى لتخلق
اللاندسكيب الاجتماعي الطبيعي بشكله المعقد.
وتنظر الجغرافيا أيضًا في كيفية
تحكم الطبيعة في ظروف المجتمع الإنساني سواء فيما يخص البشر أو الموارد الطبيعية
أو الحدود الجغرافية أو غيرها. فالجغرافيا ببساطة تدرس العلاقة بين المجتمع
والطبيعة، وهي ليست علاقة بسيطة تنطوي على منحى واحد في الدراسة بل تشمل على
مجموعة معقدة من العلاقات المتبادلة التي تشكل النظام الإنساني ككل. والعلاقة بين
المجتمع والطبيعة لا تسير في اتجاه واحد، فالعلاقة السببية التي تؤسس للتغيرات
الاجتماعية على أساس الظروف الطبيعية تحولت في اتجاه معاكس لتؤكد على تأثر البيئة
الطبيعية بالتطور الاجتماعي.
وسؤال "ما الجغرافيا؟"
ليس سؤالاً حيويًا لأجل تماسك واكتمال علم الجغرافيا فحسب، بل هو سؤال ضروري
للإنسان لأن العلاقة التكاملية بين المجتمع والطبيعة تحدد الإمكانية الحقيقية
لمستقبل الموجودات البشرية.
ويرفض المؤلف ذلك الفصل الزائف
بين الفضاء المكاني والبيئة الطبيعية، والذي حدث خلال الثورة الكمية في الخمسينيات
والستينيات من القرن الماضي حين كانت هناك أهمية لذلك الفصل في سبيل بسط خدمة
العلم المكاني في مقابل الحفاظ على تماسك العلم. ولكننا الآن أحرار في إعادة الربط
بين الفضاء المكاني وأصله الطبيعي فيما يقول "بييت". فالفضاء المكاني
كجزء من الطبيعي منخرط بشكل كامل في النشاط الإنساني.
إن الفضاءات المكانية الأكثر
إثارة للاهتمام هي أجزاء من مناطق لها اختلافات طبيعية حيث تكون فيها المواد الخام
ومصادر الطاقة واللاندسكيبات الجغرافية مصادر للاختلافات الثقافية. وفي ذلك العصر
الذي يسهل فيه الانتقال والسفر فإن الاختلافات الإقليمية مستمدة في الأساس من
مصادر البيئة الطبيعية؛ فالجغرافيا الإقليمية هي التسجيل التاريخي للاختلافات
الاجتماعية الطبيعية socionatural. والأماكن لها خصوصية، وتختلف
فيما بينها. ولها قوة طبيعية ترتبط بمحاولات نشر السلطة والنفوذ.
على هذا النحو ينبهنا "بييت"
إلى أسوأ مخاوفنا... فبعيدًا عن رومانسية الخصوصية المكانية فإن تلك الخصوصية
والمحلية قُتل باسمها الملايين من البشر كما حدث في البلقان، وانتشرت تحت مظلتها
حقول الجماجم والهياكل العظمية في البوسنة. فالاختلاف في المكان كما له خصوصية
وأهمية، هو أيضًا ذو خطورة بالغة.
ويؤكد المؤلف نفسه أن الكتاب
يتجاوز التفاصيل التجريبية والعملية (الإمبريقية) لأجل الخروج بتعميمات بنيوية
عامة، ولكن تلك التعميمات ليست نتاجًا لمحض تفكير عقلاني بل هي مبنية على كم هائل
من التفاصيل الإمبريقية من خلال استخدام مستويات عديدة من التعميم في إطار الفلسفة
وما وراء الفلسفة والنظرية الاجتماعية والممارسة.
وتحت عنوان "ما وراء
الفلسفة Metaphilosophy" يعرف المؤلف ما وراء الفلسفة
بأنها المناظير الأكثر عمومية التي توجه تفكيرنا. فما وراء الفلسفة هو الرابط بين
وجهات النظر العالمية والثقافات والتفكير المرتكز حول الاهتمامات النظرية، هو إذن
قناة تحمل القيم الثقافية داخل النظرية.
يعبر مفهوم "ما وراء
الفلسفة" عن الغرض العام من التفكير، ما الذي يسعى إليه الناس، ما الذي
ينشدونه، إنها معايير الحقيقة أو الفعالية مطبقة على التفكير. فالفلسفات يمكن أن
يتم جمعها ما راء فلسفيًا
metaphilosophically حول مجموعة من الأفكار الرئيسة، ويتم ترتيبها تاريخيًا من ما
قبل الحداثة إلى الحداثة إلى ما بعد الحداثة حسبما تتغير اهتمامات المفكرين عبر
الزمن. وبالتالي فإن الفلسفة تشير إلى محاولات التفكير في أسس الوجود: وجود الله،
معنى الحياة، حقيقة التفكير. إن ما وراء الفلسفة هو البحث عن الحقيقة المجردة،
وبالتالي لا تنتهي أو تختفي تحت سيطرة فلسفات معينة، ولذلك يمكن النظر إلى
الماركسية على سبيل المثال على أنها بحث عن الحقيقة في ظل تحرر الإنسان.
ما الفلسفة؟ :
الفلسفة هي طريقة مجردة في
التفكير تستخدم المنطق لتنظيم التخيلات والمعتقدات والمفاهيم والتصورات داخل أنساق
صورية عقلانية. وحتى تحقق الفلسفة فائدة عملية فإنها تزعم أن الممارسات الإنسانية
تحكمها الأفكار.
وتؤكد الفلسفة أيضًا على أن
الأفكار ليست انبعاثا عشوائيا من الخيال، لكنها نواتج مستمدة بشكل أساسي من الخبرة
المستقلة إلى حد ما عن الواقع المادي. وتنظم الفلسفة تلك الأفكار داخل أنساق
متماسكة، وتوظف النتائج لأجل محاولة فهم الوجود.
ويعد كل من المنطق والعقلانية
نتاج لإحياء عصر التنوير للتراث اليوناني القديم. وبالنسبة لهذا التراث الغربي
فإنه يفترض أن العقل له بنية داخلية مستمدة من تشابه الخبرة في العالم المحدد
أصلاً بطريقة منظمة كما في عملية التطور الطبيعي على سبيل المثال أو في نموذج
الحياة البشرية الذي يبدأ بالميلاد ثم الحياة ثم الموت أو في بنى أخرى أساسية في
عملية ديمومة الوجود.
إن المنطق العقلي يتمثل هذا
النظام الخارجي في صور عقلية يمكن التعبير عنها بصورة رمزية. وهنا يستطيع المرء أن
يتكلم ويكتب بالرموز التي تمنح الماهية لعدد لا نهائي من الحوادث. ولذلك لم يكن من
عجب أن يرى أفلاطون أن الحكام لابد أن يكونوا فلاسفة. غير أن الأفكار الفلسفية
ليست محض نتاج لإعمال العقل المحض كما يؤكد المؤلف؛ وهنا يتم تحديث فكرة البنى
المنطقية الداخلية بمفاهيم البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية، وبالتالي فإن
مناهج وطرائق التفكير تسطر نفسها على العقل وفقًا للسياق الاجتماعي والثقافي.
ولذلك ليس هناك وسيلة للحديث عن
فلسفة واحدة كلية وعالمية، بل إن هناك العديد من الفلسفات التي تتحدد معالمها
وتمثلها لدى الفلاسفة وفقًا للأنساق التاريخية والأنماط الإقليمية. وتتضمن الفلسفة
مواقف أساسية يتبناها الناس تجاه سبل معيشتهم فيما يعرف بالإنطولوجيات (علم الوجود Ontology) الاجتماعية، وتبحث أيضًا عن الصدق والصحة في أحكامنا على الواقع
الخارجي والذي ربما نسميه ابستمولوجيا (نظرية المعرفة). والتمثل والانطولوجيا
والابستمولوجيا هي مجالات أساسية من اختصاص الفلسفة.
ثم ينتقل المؤلف للمصطلح الثالث
وهو مصطلح النظرية. والنظرية لديها صلة مباشرة مع الأحداث والممارسات التي تقابلنا
في الواقع المعيش. والنظرية استقرائية بشكل أصيل، بمعنى أنها تتكون أوليًا من
مصادر تجريبية (إمبيريقية)، فهي تتمثل بعض النتائج الجزئية الخاصة بأحداث أو
مقولات التحقق الواقعي من خلال استخدام التعميم. وهي في الغالب تبحث عما هو مشترك
أو متشابه بين الحوادث المختلفة، ولكنها ربما تبحث أيضًا عن أنماط للاختلاف، أو
ربما تبحث فقط عن الاختلاف والتباين. وبالرغم من أن النظرية مكون أساسي من مكونات
الفلسفة، فإنها ترتبط بغرض معين في الحياة، فهي جسر للصلة بين الواقع المعيش
والتأمل الفلسفي. وكل مفكر عند صياغته لنظرية ما إنما يسعى بشكل أساسي للانتقال من
المعلوم إلى المجهول. ويؤكد المؤلف أنه يتعامل في هذا الكتاب مع نوع ما معين من
النظرية يسمى الجغرافيا.
النظرية الاجتماعية Social Theory :
تشغل النظرية الاجتماعية المنطقة
الوسيطة بين الفلسفة والنظرية. فالنظرية الاجتماعية ترتبط بالغرض أو الهدف أكثر من
الفلسفة. فهي تتعامل بشكل أكثر وضوحًا مع الاتجاهات الاجتماعية والسياسية
والثقافية والخصائص المميزة للمجتمعات الواقعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق