نحو
قراءات نقدية موضوعية للدراسات التقليدية في المدينة العربية
"الإسلامية" (3-3)
إشكالية النموذج
شبكة التخطيط العمراني - د. وليد أحمد السيد - دكتوراه في فلسفة العمارة من جامعة لندن – مؤسس مجموعة لونارد
ودار معمار بلندن sayedw03@yahoo.co.uk :
تميزت معظم, إن لم يكن جميع,
الدراسات التي بحثت في المدينة العربية "الإسلامية" بأنها كانت أحادية النظرة. ففي
أفضل حالاتها, لم تجاوز حدود التنظير العام في الضوابط التي حكمت النسيج العمراني
للمدينة العربية ودون دراسة "مقارنة" على مستوى الأسس لأكثر من نموذج مع
نظيراتها, الغربية مثلا, مع دراسات تطبيقية واقعية تحليلية للمدن العربية المعاصرة. كذلك
تغيب الدراسات الواقعية الجادة التي تبحث بعمق في معطيات المدن العربية اليوم
كحالات دراسية تستند إلى معلومات ميدانية. وبدلا من ذلك عكفت هذه الدراسات
"اللاتاريخية" على الماضي بمعزل عن الحاضر ومتطلباته ومعطياته ومستجداته, وشرعت في تمديد
الماضي "كنموذج" صالح لإحلاله في الحاضر والمستقبل مما كرس "أزمة أسس"
في هذه الدراسات ونظرتها السطحية لأوجه التراث. والأمثلة تكاد لا تعد ولا تحصى من هذه
الدراسات, ومنها على سبيل المثال لا الحصر, ما نقرأه في كتاب (عمارة الأرض في الإسلام)
من مقارنات مجحفة لا تعدو كونها رأيا خاصا رغم مخاطبته لشرائح واسعة من المثقفين
والمتخصصين في العالم العربي. ففي ثنايا الكتاب, كمثال لا تسعه هذه المساحة لتفنيده,
نقرأ مجموعة من المقارنات السطحية بهدف تقرير "نجاعة" التخطيط الشريعي الناظم
للبيئة المبنية للمدينة العربية "الإسلامية" في مقابل قصور النظريات الغربية في
التخطيط عن إدراك نظيرتها "الإسلامية"
(!).
والسؤال هو: ما هو النموذج الذي
قدمته هذه الدراسات؟ وكيف يمكن إعادة قراءة هذه الدراسات في إطارها
"التاريخي" المحدد الذي كان ينبغي لها أساسا قراءة المدينة العربية من خلاله؟ في هذا الإطار تبرز
جملة من الملاحظات التي تبرز كسمات عامة لهذه الدراسات وهي:
أولا – لا "تاريخية" قراءة التراث وعدم تمييز ما هو تاريخ جامد. كذلك تتسم هذه الدراسات بأنها "نظرية" ومعزولة عن الواقع وبنزعتها لتقديس الماضي والهروب له, وهي نظرة تخاذلية تشاؤمية تخلو من الواقعية. إذ يكاد القارئ في كتابات من بحث في المدينة العربية "الإسلامية", أن يستقرئ دعوة صريحة للعودة لما كانت عليه المدينة قبل قرون بشوارعها الضيقة المتعرجة وحاراتها التي غصت بالمشاكل بين الجيران مما حفل به ديوان القضاء آنذاك مما يشي بما ساد في المدينة من "سوء تخطيط" أو بأحسن الأحوال من "عدم تخطيط" ونمو عفوي. وقد قدمت جميع هذه الدراسات بلا استثناء المدينة العربية "الإسلامية" ككائن خرافي جامد بمعطياته وموروثاته –وبخاصة الحسية– يعيش على هامش القرن العشرين وعلى أطراف المدينة المعاصرة. فلا هو قادر على تطويع معطيات وآليات حركيته لتناسب بيئة معاصرة أضحت وسائل التكنولوجيا أبرز مقوماتها, ولا هو قادر على العيش بذاته لعدم قدرة عناصره الحسية على التعايش جنبا إلى جنب مع بيئة مغايرة تعكس العصر الحديث. فهذه الدراسات ما فتئت تنقب بطون كتب التاريخ جريا وراء "موضة فكرية" لإقحام النصوص التاريخية بغياب "الدراسات الميدانية" التي تقرأ الحاضر بموضوعية بعيدا عن "تقديس" التاريخ والنص. فبين التاريخ الذي كتبت به النصوص وبين واقع الحواضر العربية بون شاسع سياسي واجتماعي وفكري واقتصادي وثقافي.
ومن أمثلة البحوث المهمة الغائبة تماما عن مجالات البحث هي الدراسات التي لها علاقة بواقعنا السياسي والإجتماعي والعلمي. فمثلا تغيب الدراسات عن الحالات المتميزة والخاصة مثل مدينة القدس التي تشكل أسا مهما في تاريخ الصراع السياسي المعاصر. فما من دراسة بحثت العلاقات الإجتماعية الواقعية بين سكانها من أهل الأديان الثلاثة وعلاقة ذلك بنسيجها العمراني وعلاقة ذلك كله بالسياسة المحلية والإقليمية والعالمية؟ ولم تقدم أية دراسة علاقة التوزيع السكاني في المدينة بالثراء المادي والعلاقات الإجتماعية المترتبة. وهذه من أوليات الدراسات الغربية في هذا المجال حيث تقدم البحوث ما يعرف "بخريطة التوزيع الثرائي" في المدينة تبعا للحرف والمرتبة الإجتماعية, وتبعا لهذه الخريطة يتم تقديم نظرية إجتماعية واقعية تشكل أساسا مهما لدراسات حضرية واجتماعية أخرى لا حصر لها في تقييم العلاقات المتداخلة في المدينة بين التركيبة السكانية ونظريات الحركة والنمو الطبيعية بها وتداخلات الإقتصاد والسياسة, والمتغيرات المحلية والإقليمية ورصد متغيراتها الدخيلة من الأمراض الإجتماعية وتداخلات الفئات الأجنبية وعلاقة ذلك كله بالتخطيط الحسي للمدينة. فمثلا تعاني المدن والحواضر العالمية اليوم جميعا سواء بسواء من المشاكل والآثار المترتبة على الحروب والصراعات السياسية والدينية مما ينتج عنها ظواهر العنف, فماذا تقدم الدراسات التقليدية حول المدينة بهذا الخصوص؟ وهل من علاقة بين انعزالية الفئات الإجتماعية وتكوينة المدينة ونسيجها وبين ظواهر العنف مع تمدد المدينة وغياب الرقابة المجتمعية المعاصرة؟ وهل يشكل التخطيط التقليدي حلا أم سببا للمشكلة؟ وما هي الوسائل والآليات التخطيطية التي يمكن وضعها تحت التنفيذ الواقعي لحل مشكلات المدينة المعاصرة ومتداخلات العصر الإجتماعية والتكنولوجية أم أن المدينة التقليدية بقلبها وقالبها وكما هي "كقالب جامد" هي الحل؟ وهل يمكن المزاوجة بين النموذج التقليدي للمدينة بقلبها ذو شوارع المشاة المتعرجة وبين نموذج معاصر للمدينة تتكيف مع التطورات الإحتياجية لدخول السيارة ومتطلبات المتاجر المغلقة الضخمة؟ وهل هذا هو ما تنزع إلى تقديمه معظم مدن العالم المعاصرة أم أنه لا يمكن تطبيقه في المدينة العربية المعاصرة؟ وهل يمكن اعتمادها كنموذج معاصر يتمدد للمستقبل ولما بعد المستقبل؟ جميع هذه التساؤلات وفي غياب نظريات مستقاة من البحوث الجادة في المدينة وآليات نشأتها وموتها كنموذج تشي بسطحية البحوث النظرية التي لا تقدم حلولا معاصرة للبيئات المبنية التقليدية. أما "التمترس" خلف الدفاع العاطفي حول نجاعة المدينة العربية "الإسلامية" في توفير حلول مناخية وغيرها لساكنيها فلا يجيب على تطورات العصر التكنولوجية, بل على العكس تكرس هذه الدراسات "تخاذلية" البحث العلمي العربي الجاد في الإنخراط في الواقع المعاصر, والهروب إلى بطون الكتب لتقديم أنماط حسية واجتماعية جاهزة ومعلبة كحل "تراثي" للعصر. وبذا فهي تعمد لتمديد الماضي بغثه وسمينه لينوب عن الحاضر وعن المستقبل, تمديدا أعمى يخلو من روح البحث الجاد القيم.
ثانيا – لا "تراكمية" البحث العلمي, حيث تشكل الدراسات السابقة أساسا للاحقة مع إضافات تواكب العصر نحو نظرة شمولية للعلوم المتقاطعة. وهي سلبية يعاني منها البحث العلمي العربي عموما. فغالبا ما يعمد الباحث إلى "التقوقع" عند حدود ما سبقه من الأبحاث كمراجع "مقدسة" لمباحث ذات نظرة أحادية وصفية تخلو من نقاش الفكرة ونقدها ونسخها أو رفضها. وكأن من سبق حيزت لهم مجامع "محيطات العلوم" إستنتاجا وتحليلا ومقارنة - حتى في العلوم البشرية غير الشرعية (!).
ثالثا – تعوز معظم, إن لم يكن جميع هذه الدراسات, معلومات ميدانية حديثة تستمد من استبيانات ومعلومات تصدرها مراكز إحصاء وبحوث في مختلف متعلقات المدينة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والنقل والموصلات وغيرها وإخضاع هذه البيانات للإستقراء والقياس والمقارنة النوعية مع المصادر التاريخية واستخلاص النتائج التي تراوح بين معطيات التراث ومتطلبات العصر. وبالنتيجة فعدم وجود مثل هذه الدراسات الجادة المستمرة أدت لما نجده بين أيدينا من دراسات "عتيقة" أنتجها بضعة باحثين وغدت هي المرجعيات الوحيدة التي تقدم نماذج "غير شمولية" ومنتهية الصلاحية زمنا ومضمونا. وفضلا عن ذلك فالغالب هو "تقوقع" الباحث على بحث "يتيم" أنتجه قبل عشرين عاما ربما اتبعه تفضلا ببضع ورقات عمل لمؤتمر هنا أو هناك لا تعدو كونها اقتباسا من كتابه الوحيد وكأن البحث العلمي والأكاديمي قد توقف عند نتائج كتابه! والحال أن البحث المستمر يقود حتما لتطور نوعي في الأفكار وربما "نسخها" من قبل الكاتب نفسه, وهذا بالضبط ما يحصل في الغرب حيث نقض "كريستوفر ألكساندر" بعض نتائج كتابه (لغة العمارة) بعد أكثر من ثلاثين عاما في كتاب لاحق له, واعتذر عن اجتهاداته الخاطئة! – وهو موضوع نناقشه في مساحة مستقلة.
رابعا – لم تنجح أي من الدراسات السائدة في تقديم التلاقحات الفكرية الجادة بين الإختصاصات العديدة التي تشكل واحدا من أسس العالم العلمي المعاصر وبخاصة ما نراه من توظيف الكمبيوتر في تحليل المعلومات والمقارنة بينها, كما تقدمه نظريات جادة في تحليل مورفولوجية الحيز الفراغي الحضري للتجمعات البشرية والأبنية. فما من دراسة جادة بين مختص في العمران وبين خبراء الإقتصاد أو السياسة أو علوم الإجتماع والبيئة وغيرها. وفي أسوأ الأحوال أو أحسنها يعمد أحدهم من الباحثين لأن يعمل فكره في مسائل من اختصاصات غيره, فمثله كمثل من يريد اختراع السيارة بدءا من العجلة والصامولة والزجاج تاركا قرونا من البحث والإختراع والإكتشاف.
هذه البحوث والدراسات وبنتائجها ومنهجياتها محبطة, عدا عن دعوتها للتقوقع عند حدود الماضي فلا هي تقدم تفسيرا شاملا أو نظريات أساس يمكن اعتمادها في بحوث متقاطعة بين الإختصاصات. وهي تكرس الأزمة التي يعيشها البحث العلمي العربي وغياب الدراسات الجادة. وبخلو الساحة الفكرية من غير هذه الدراسات أصبحت تعد مرجعية لقلة البحث, وغدت معظمها تكرس مفاهيم ومصطلحات قد تحتاج لقرون لإعادة قراءتها في مضمونها الصحيح بما يمكن الباحثين من إعادة قراءة التراث قراءة صحيحة. قراءة لا لجعله ينوب عن الحاضر والمستقبل كنموذج معلب, إنما كأطروحة في الأسس التي يمكن فيها "تجاوز" التراث كمعطى حضاري قابل أو غير قابل للتطور والتفاعل مع الحاضر, بحيث تتيح إمكانية دراسة التراث كشواهد من "المشكلات" التي ينبغي تلافيها في الحاضر. فليس كل ما ساد في الماضي صالحا للحاضر فضلا عن صلاحيته لزمنه أصلا. ومن يدعي بنجاعة التراث "كله وجزءه وغثه وسمينه" ليس أهلا للتنظير لما يناسب الحاضر والمستقبل وتقديم حقائق تؤخر البحث العلمي ولا تقدمه. ومن هنا فهذه العقلية البيانية وراء هذه الدراسات ربما تحوي "الجينات" التي تقدم تفسيرات لبعض أسباب تقوقع العرب والمسلمين المعاصر لإستغلال البيئة ومصادرها والتطور بالنظريات التي تعالج مسائل العمارة والعمران, حتى أصبح الغرب في مقدمة الأمم في التطور العلمي في مسائل العمران والبيئة فيما نحن ما زلنا ننظر لنموذج المدينة "الإسلامية" الجامد الذي يعجز عن مواكبة تطورات العصر التكنولوجية كالسيارة والطائرة, "ويضيق" عن المتطلبات الديموغرافية البشرية المعاصرة مع الفارق الشاسع بين الماضي والحاضر.
وبالنتيجة فبقدر ما تغوص مثل هذه الدراسات التقليدية في تفاصيل ودقائق نشأة المدينة العربية "الإسلامية" بقدر ما تتكرس نمطية المدينة كمعطى تاريخي جامد لا يواكب العصر, مهما أدعت هذه الدراسات أن هناك عوامل "حركية" داخلية محركة لنشأة المدينة تاريخيا, فهذه الدراسات اللاتاريخية تمت بمعزل عن التطورات العصرية والمجتمعية. وبقدر ما تغرق هذه الدراسات في تحليلات أحادية ومن دون مقارنات جادة بالآخر بقدر ما تخلو هذه الدراسات من الموضوعية والشمولية. فالمدينة – بالمفهوم الإنساني للكلمة – نشأت كمعطى بشري يخضع لتباينات ثقافية وحضارية وجغرافية بيد أنها تظل مهدا للحضارة أنتجتها عقول بشرية يمكن الإستفادة منها وعقد مقارنات حصيفة للإستفادة من العلوم البشرية التي هي محيطات لا شاطئ لها. أما التعامي والتحامل على مدن "الآخر" بنظرة استباقية ضيقة ومحدودة فتنافي الحصافة في "أخذ الحكمة للمؤمن أنى وجدها". ومن الطريف أن هذه الدراسات العاطفية التي خلقت "نمطية" عامة رومانسية للمدينة العربية "الإسلامية" قادت مجموعات من المعماريين المعاصرين لمحاكاة الأزقة والحواري والممرات الضيقة الملتوية للمشاة للمدينة بمفهومها "التقليدي" الجامد في مشاريعهم المختلفة على مستوى المشاريع الكبيرة, والطريف والمضحك معا أن أحد الكتاب الذين يتبنون فكرة المدينة الإسلامية بعضويتها كان عضوا في لجنة تحكيم مشروع مجمع المحاكم بالرياض في العام 1994 وصوت لصالح مشروع يتبنى ساحات فارغة تتقدمها ناطحات سحاب(!) ضد مشروع يتبنى النسيج الحضري العضوي للمدينة العربية "الإسلامية" باكتظاظه وتعرج أزقته بدعوى عدم صلاحية المقترح للتوسع المستقبلي(!). ويكاد المرء أن يجزم أن من يتغنى اليوم بمفاهيم المدينة العربية "الإسلامية" التي ضاقت بمنازعات أهلها على الخصوصية والهواء واستراق النظر, لو خير بين بيئة كهذه أو العيش في فلل خاصة تتقدمها حدائق غناء لاختار الأخيرة! ومعظمهم أصلا يعيش في هذه الأخيرة في الغرب أو الشرق المتطور اختيارا لا قسرا! ومن هنا تبدو ضرورة الكف عن الترويج لهذه الدراسات "اللاتاريخية" التي أضحت موضة أكاديمية لا أكثر!
وفي إطار الإشارة لمشكلات المدينة العربية المعاصرة على طريق بحوث جادة مفقود لجسر الهوة بين احتياجاتها وبين الأسس التي ينبغي أن تقوم عليها لإعادة تفكيك بنيتها العامة وتشخيص مشكلاتها أشار الدكتور المعماري مشاري النعيم إلى مجموعة من النقاط المهمة بما أسماه "مدن الأزمات" في مقالة مهمة, تتجاوز بكثير مسألة التقوقع على دراسة المدينة "الإسلامية" وذلك برسم تأطير العلاقة الجادة بين صناعة القرار في المدينة كناتج بيئي واجتماعي, ومادي اقتصادي, يتعلق تعلقا مباشرا بالحركية التجارية والعلاقة الديمغرافية المتزايدة كواقع يستدعي "تخطيطا" علميا لا نموا عفويا.
ويشير الدكتور النعيم في مداخلته إلى التأثير البالغ الذي تركته الطفرة النفطية الأولى على المدينة في منطقة الخليج العربي والتي تتمثل في تبني الثقافة الاستهلاكية، مما جعلها ساحة للتجريب وإعادة التجريب. الأمر الذي أدى إلى تحول هذه المدن إلى مشروع "عقاري" لا يستند على أي مبررات تنموية ولا حتى حضرية. ويقدم الدكتور النعيم مداخلة أن حلم "المدينة الكبيرة" لدى بعض الخليجيين هو أحد تشكل ظاهرة "مدن الأزمات", على أن فكرة تحويل مدن المنطقة إلى "مشروع استثماري" هي "النمط الذهني" الذي ساد بعد ذلك وهي فكرة ارتبطت بمجموعة محددة ذات قوة ونفوذ في المدينة وبالتالي تحولت المشاريع الحكومية التنموية لخدمة مصالح هذه الفئة فشقت الطرقات وامتدت المدن كي تتحول الأراضي التي لاتساوي شيئا وسط الصحراء إلى أراضٍ ذات قيمة كبيرة وبالتالي أصبح النمو العمراني مفتعلا وغير مبرر. ويشخص الدكتور النعيم المشكلة الكبيرة التي تكمن في سياسة التنمية المفتعلة هذه هي أنها مع الوقت تحول المدن إلى "مدن أزمات", فكل نقص في الموارد المالية ينعكس بشكل مباشر على حيوية المدينة ويثقل حركتها، كما هو الحاصل هذه الأيام. فمدن الخليج تقوم على قاعدة اقتصادية أساسها الاستثمار العقاري مع عدم الإستقرار في التركيبة الديموغرافية لمدن الخليج عموما وعدم التوازن بين المغتربين والسكان الأصليين مما يشكل أزمة في حال رحيل المغتربين الذين يشكلون البنية التحتية للمدينة في حال انعدام بريق المال كما في حال الركود الإقتصادي اليوم. ويلفت الدكتور النعيم النظر لقضية مهمة في مدن الخليج عموما والتي تفتقر إلى "المشاركة العامة" في عملية اتخاذ القرار العمراني التي تمس المدينة ومستقبلها، فقد نشأت هذه المدن كمدن "فردية" تشكلت نتيجة لقرارت فردية لمن يدير المدينة، دون أي مشاركة تذكر لمن يسكنها، الأمر الذي جعل جميع خطط التنمية العمرانية شبه مفصولة عمن يستخدم المدينة بحيث تكون "مدنا ديموقراطية" لكل من يسكنها لا مدينة "من يديرها", وذلك بإصلاح مؤسسات المدينة وأسلوب إدارتها المحلية وربطها بشكل مباشر بالسكان، بحيث يكون هناك مشاركة اجتماعية مباشرة في كل القرارات العمرانية وعدم تجزئة المدينة إلى مشاريع إستراتيجية (خارج المحاسبة) ومشاريع يمكن طرحها على المجالس البلدية كما تقوم به حاليا بعض المدن في الخليج.
هذه نماذج من المشكلات التي تعاني منها المدن العربية اليوم, يطرحها مفكرون معاصرون واقعيون ومستنيرون على منابر الكتابة أمثال الدكتور النعيم, والتي تحتاج لدراسات شاملة وموضوعية تبحث في مشكلاتها الحقيقية. أما الجمود عند الدراسات التقليدية التي تبحث في تاريخ المدينة والعوامل التي صاغتها قبل عدة قرون في بيئة محدودة وخاصة فلا معنى لها. والتعنت والتشبث "الطفلي" بفكرة نجاعة هذه العوامل التي اندثرت في حل مشكلات المدينة المعاصرة التي تغيرت متطلباتها الحسية والسكانية والبيئية – بمشكلات التلوث الصوتي والبيئي والهوائي والأوزوني وغيره – إنما هو دفن الرأس في الرمال والهروب من الواقع باتجاه الماضي مما لا يقدم البحث العلمي, أو الحال المعاصر, بل يؤخره!
ملحوظة: هذا المقال هو جزء من فصل في كتاب قادم للمؤلف هذا العام بعنوان(قراءات فلسفية في عمارة المجتمعات العربية بين التراث والحداثة).
أولا – لا "تاريخية" قراءة التراث وعدم تمييز ما هو تاريخ جامد. كذلك تتسم هذه الدراسات بأنها "نظرية" ومعزولة عن الواقع وبنزعتها لتقديس الماضي والهروب له, وهي نظرة تخاذلية تشاؤمية تخلو من الواقعية. إذ يكاد القارئ في كتابات من بحث في المدينة العربية "الإسلامية", أن يستقرئ دعوة صريحة للعودة لما كانت عليه المدينة قبل قرون بشوارعها الضيقة المتعرجة وحاراتها التي غصت بالمشاكل بين الجيران مما حفل به ديوان القضاء آنذاك مما يشي بما ساد في المدينة من "سوء تخطيط" أو بأحسن الأحوال من "عدم تخطيط" ونمو عفوي. وقد قدمت جميع هذه الدراسات بلا استثناء المدينة العربية "الإسلامية" ككائن خرافي جامد بمعطياته وموروثاته –وبخاصة الحسية– يعيش على هامش القرن العشرين وعلى أطراف المدينة المعاصرة. فلا هو قادر على تطويع معطيات وآليات حركيته لتناسب بيئة معاصرة أضحت وسائل التكنولوجيا أبرز مقوماتها, ولا هو قادر على العيش بذاته لعدم قدرة عناصره الحسية على التعايش جنبا إلى جنب مع بيئة مغايرة تعكس العصر الحديث. فهذه الدراسات ما فتئت تنقب بطون كتب التاريخ جريا وراء "موضة فكرية" لإقحام النصوص التاريخية بغياب "الدراسات الميدانية" التي تقرأ الحاضر بموضوعية بعيدا عن "تقديس" التاريخ والنص. فبين التاريخ الذي كتبت به النصوص وبين واقع الحواضر العربية بون شاسع سياسي واجتماعي وفكري واقتصادي وثقافي.
ومن أمثلة البحوث المهمة الغائبة تماما عن مجالات البحث هي الدراسات التي لها علاقة بواقعنا السياسي والإجتماعي والعلمي. فمثلا تغيب الدراسات عن الحالات المتميزة والخاصة مثل مدينة القدس التي تشكل أسا مهما في تاريخ الصراع السياسي المعاصر. فما من دراسة بحثت العلاقات الإجتماعية الواقعية بين سكانها من أهل الأديان الثلاثة وعلاقة ذلك بنسيجها العمراني وعلاقة ذلك كله بالسياسة المحلية والإقليمية والعالمية؟ ولم تقدم أية دراسة علاقة التوزيع السكاني في المدينة بالثراء المادي والعلاقات الإجتماعية المترتبة. وهذه من أوليات الدراسات الغربية في هذا المجال حيث تقدم البحوث ما يعرف "بخريطة التوزيع الثرائي" في المدينة تبعا للحرف والمرتبة الإجتماعية, وتبعا لهذه الخريطة يتم تقديم نظرية إجتماعية واقعية تشكل أساسا مهما لدراسات حضرية واجتماعية أخرى لا حصر لها في تقييم العلاقات المتداخلة في المدينة بين التركيبة السكانية ونظريات الحركة والنمو الطبيعية بها وتداخلات الإقتصاد والسياسة, والمتغيرات المحلية والإقليمية ورصد متغيراتها الدخيلة من الأمراض الإجتماعية وتداخلات الفئات الأجنبية وعلاقة ذلك كله بالتخطيط الحسي للمدينة. فمثلا تعاني المدن والحواضر العالمية اليوم جميعا سواء بسواء من المشاكل والآثار المترتبة على الحروب والصراعات السياسية والدينية مما ينتج عنها ظواهر العنف, فماذا تقدم الدراسات التقليدية حول المدينة بهذا الخصوص؟ وهل من علاقة بين انعزالية الفئات الإجتماعية وتكوينة المدينة ونسيجها وبين ظواهر العنف مع تمدد المدينة وغياب الرقابة المجتمعية المعاصرة؟ وهل يشكل التخطيط التقليدي حلا أم سببا للمشكلة؟ وما هي الوسائل والآليات التخطيطية التي يمكن وضعها تحت التنفيذ الواقعي لحل مشكلات المدينة المعاصرة ومتداخلات العصر الإجتماعية والتكنولوجية أم أن المدينة التقليدية بقلبها وقالبها وكما هي "كقالب جامد" هي الحل؟ وهل يمكن المزاوجة بين النموذج التقليدي للمدينة بقلبها ذو شوارع المشاة المتعرجة وبين نموذج معاصر للمدينة تتكيف مع التطورات الإحتياجية لدخول السيارة ومتطلبات المتاجر المغلقة الضخمة؟ وهل هذا هو ما تنزع إلى تقديمه معظم مدن العالم المعاصرة أم أنه لا يمكن تطبيقه في المدينة العربية المعاصرة؟ وهل يمكن اعتمادها كنموذج معاصر يتمدد للمستقبل ولما بعد المستقبل؟ جميع هذه التساؤلات وفي غياب نظريات مستقاة من البحوث الجادة في المدينة وآليات نشأتها وموتها كنموذج تشي بسطحية البحوث النظرية التي لا تقدم حلولا معاصرة للبيئات المبنية التقليدية. أما "التمترس" خلف الدفاع العاطفي حول نجاعة المدينة العربية "الإسلامية" في توفير حلول مناخية وغيرها لساكنيها فلا يجيب على تطورات العصر التكنولوجية, بل على العكس تكرس هذه الدراسات "تخاذلية" البحث العلمي العربي الجاد في الإنخراط في الواقع المعاصر, والهروب إلى بطون الكتب لتقديم أنماط حسية واجتماعية جاهزة ومعلبة كحل "تراثي" للعصر. وبذا فهي تعمد لتمديد الماضي بغثه وسمينه لينوب عن الحاضر وعن المستقبل, تمديدا أعمى يخلو من روح البحث الجاد القيم.
ثانيا – لا "تراكمية" البحث العلمي, حيث تشكل الدراسات السابقة أساسا للاحقة مع إضافات تواكب العصر نحو نظرة شمولية للعلوم المتقاطعة. وهي سلبية يعاني منها البحث العلمي العربي عموما. فغالبا ما يعمد الباحث إلى "التقوقع" عند حدود ما سبقه من الأبحاث كمراجع "مقدسة" لمباحث ذات نظرة أحادية وصفية تخلو من نقاش الفكرة ونقدها ونسخها أو رفضها. وكأن من سبق حيزت لهم مجامع "محيطات العلوم" إستنتاجا وتحليلا ومقارنة - حتى في العلوم البشرية غير الشرعية (!).
ثالثا – تعوز معظم, إن لم يكن جميع هذه الدراسات, معلومات ميدانية حديثة تستمد من استبيانات ومعلومات تصدرها مراكز إحصاء وبحوث في مختلف متعلقات المدينة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والنقل والموصلات وغيرها وإخضاع هذه البيانات للإستقراء والقياس والمقارنة النوعية مع المصادر التاريخية واستخلاص النتائج التي تراوح بين معطيات التراث ومتطلبات العصر. وبالنتيجة فعدم وجود مثل هذه الدراسات الجادة المستمرة أدت لما نجده بين أيدينا من دراسات "عتيقة" أنتجها بضعة باحثين وغدت هي المرجعيات الوحيدة التي تقدم نماذج "غير شمولية" ومنتهية الصلاحية زمنا ومضمونا. وفضلا عن ذلك فالغالب هو "تقوقع" الباحث على بحث "يتيم" أنتجه قبل عشرين عاما ربما اتبعه تفضلا ببضع ورقات عمل لمؤتمر هنا أو هناك لا تعدو كونها اقتباسا من كتابه الوحيد وكأن البحث العلمي والأكاديمي قد توقف عند نتائج كتابه! والحال أن البحث المستمر يقود حتما لتطور نوعي في الأفكار وربما "نسخها" من قبل الكاتب نفسه, وهذا بالضبط ما يحصل في الغرب حيث نقض "كريستوفر ألكساندر" بعض نتائج كتابه (لغة العمارة) بعد أكثر من ثلاثين عاما في كتاب لاحق له, واعتذر عن اجتهاداته الخاطئة! – وهو موضوع نناقشه في مساحة مستقلة.
رابعا – لم تنجح أي من الدراسات السائدة في تقديم التلاقحات الفكرية الجادة بين الإختصاصات العديدة التي تشكل واحدا من أسس العالم العلمي المعاصر وبخاصة ما نراه من توظيف الكمبيوتر في تحليل المعلومات والمقارنة بينها, كما تقدمه نظريات جادة في تحليل مورفولوجية الحيز الفراغي الحضري للتجمعات البشرية والأبنية. فما من دراسة جادة بين مختص في العمران وبين خبراء الإقتصاد أو السياسة أو علوم الإجتماع والبيئة وغيرها. وفي أسوأ الأحوال أو أحسنها يعمد أحدهم من الباحثين لأن يعمل فكره في مسائل من اختصاصات غيره, فمثله كمثل من يريد اختراع السيارة بدءا من العجلة والصامولة والزجاج تاركا قرونا من البحث والإختراع والإكتشاف.
هذه البحوث والدراسات وبنتائجها ومنهجياتها محبطة, عدا عن دعوتها للتقوقع عند حدود الماضي فلا هي تقدم تفسيرا شاملا أو نظريات أساس يمكن اعتمادها في بحوث متقاطعة بين الإختصاصات. وهي تكرس الأزمة التي يعيشها البحث العلمي العربي وغياب الدراسات الجادة. وبخلو الساحة الفكرية من غير هذه الدراسات أصبحت تعد مرجعية لقلة البحث, وغدت معظمها تكرس مفاهيم ومصطلحات قد تحتاج لقرون لإعادة قراءتها في مضمونها الصحيح بما يمكن الباحثين من إعادة قراءة التراث قراءة صحيحة. قراءة لا لجعله ينوب عن الحاضر والمستقبل كنموذج معلب, إنما كأطروحة في الأسس التي يمكن فيها "تجاوز" التراث كمعطى حضاري قابل أو غير قابل للتطور والتفاعل مع الحاضر, بحيث تتيح إمكانية دراسة التراث كشواهد من "المشكلات" التي ينبغي تلافيها في الحاضر. فليس كل ما ساد في الماضي صالحا للحاضر فضلا عن صلاحيته لزمنه أصلا. ومن يدعي بنجاعة التراث "كله وجزءه وغثه وسمينه" ليس أهلا للتنظير لما يناسب الحاضر والمستقبل وتقديم حقائق تؤخر البحث العلمي ولا تقدمه. ومن هنا فهذه العقلية البيانية وراء هذه الدراسات ربما تحوي "الجينات" التي تقدم تفسيرات لبعض أسباب تقوقع العرب والمسلمين المعاصر لإستغلال البيئة ومصادرها والتطور بالنظريات التي تعالج مسائل العمارة والعمران, حتى أصبح الغرب في مقدمة الأمم في التطور العلمي في مسائل العمران والبيئة فيما نحن ما زلنا ننظر لنموذج المدينة "الإسلامية" الجامد الذي يعجز عن مواكبة تطورات العصر التكنولوجية كالسيارة والطائرة, "ويضيق" عن المتطلبات الديموغرافية البشرية المعاصرة مع الفارق الشاسع بين الماضي والحاضر.
وبالنتيجة فبقدر ما تغوص مثل هذه الدراسات التقليدية في تفاصيل ودقائق نشأة المدينة العربية "الإسلامية" بقدر ما تتكرس نمطية المدينة كمعطى تاريخي جامد لا يواكب العصر, مهما أدعت هذه الدراسات أن هناك عوامل "حركية" داخلية محركة لنشأة المدينة تاريخيا, فهذه الدراسات اللاتاريخية تمت بمعزل عن التطورات العصرية والمجتمعية. وبقدر ما تغرق هذه الدراسات في تحليلات أحادية ومن دون مقارنات جادة بالآخر بقدر ما تخلو هذه الدراسات من الموضوعية والشمولية. فالمدينة – بالمفهوم الإنساني للكلمة – نشأت كمعطى بشري يخضع لتباينات ثقافية وحضارية وجغرافية بيد أنها تظل مهدا للحضارة أنتجتها عقول بشرية يمكن الإستفادة منها وعقد مقارنات حصيفة للإستفادة من العلوم البشرية التي هي محيطات لا شاطئ لها. أما التعامي والتحامل على مدن "الآخر" بنظرة استباقية ضيقة ومحدودة فتنافي الحصافة في "أخذ الحكمة للمؤمن أنى وجدها". ومن الطريف أن هذه الدراسات العاطفية التي خلقت "نمطية" عامة رومانسية للمدينة العربية "الإسلامية" قادت مجموعات من المعماريين المعاصرين لمحاكاة الأزقة والحواري والممرات الضيقة الملتوية للمشاة للمدينة بمفهومها "التقليدي" الجامد في مشاريعهم المختلفة على مستوى المشاريع الكبيرة, والطريف والمضحك معا أن أحد الكتاب الذين يتبنون فكرة المدينة الإسلامية بعضويتها كان عضوا في لجنة تحكيم مشروع مجمع المحاكم بالرياض في العام 1994 وصوت لصالح مشروع يتبنى ساحات فارغة تتقدمها ناطحات سحاب(!) ضد مشروع يتبنى النسيج الحضري العضوي للمدينة العربية "الإسلامية" باكتظاظه وتعرج أزقته بدعوى عدم صلاحية المقترح للتوسع المستقبلي(!). ويكاد المرء أن يجزم أن من يتغنى اليوم بمفاهيم المدينة العربية "الإسلامية" التي ضاقت بمنازعات أهلها على الخصوصية والهواء واستراق النظر, لو خير بين بيئة كهذه أو العيش في فلل خاصة تتقدمها حدائق غناء لاختار الأخيرة! ومعظمهم أصلا يعيش في هذه الأخيرة في الغرب أو الشرق المتطور اختيارا لا قسرا! ومن هنا تبدو ضرورة الكف عن الترويج لهذه الدراسات "اللاتاريخية" التي أضحت موضة أكاديمية لا أكثر!
وفي إطار الإشارة لمشكلات المدينة العربية المعاصرة على طريق بحوث جادة مفقود لجسر الهوة بين احتياجاتها وبين الأسس التي ينبغي أن تقوم عليها لإعادة تفكيك بنيتها العامة وتشخيص مشكلاتها أشار الدكتور المعماري مشاري النعيم إلى مجموعة من النقاط المهمة بما أسماه "مدن الأزمات" في مقالة مهمة, تتجاوز بكثير مسألة التقوقع على دراسة المدينة "الإسلامية" وذلك برسم تأطير العلاقة الجادة بين صناعة القرار في المدينة كناتج بيئي واجتماعي, ومادي اقتصادي, يتعلق تعلقا مباشرا بالحركية التجارية والعلاقة الديمغرافية المتزايدة كواقع يستدعي "تخطيطا" علميا لا نموا عفويا.
ويشير الدكتور النعيم في مداخلته إلى التأثير البالغ الذي تركته الطفرة النفطية الأولى على المدينة في منطقة الخليج العربي والتي تتمثل في تبني الثقافة الاستهلاكية، مما جعلها ساحة للتجريب وإعادة التجريب. الأمر الذي أدى إلى تحول هذه المدن إلى مشروع "عقاري" لا يستند على أي مبررات تنموية ولا حتى حضرية. ويقدم الدكتور النعيم مداخلة أن حلم "المدينة الكبيرة" لدى بعض الخليجيين هو أحد تشكل ظاهرة "مدن الأزمات", على أن فكرة تحويل مدن المنطقة إلى "مشروع استثماري" هي "النمط الذهني" الذي ساد بعد ذلك وهي فكرة ارتبطت بمجموعة محددة ذات قوة ونفوذ في المدينة وبالتالي تحولت المشاريع الحكومية التنموية لخدمة مصالح هذه الفئة فشقت الطرقات وامتدت المدن كي تتحول الأراضي التي لاتساوي شيئا وسط الصحراء إلى أراضٍ ذات قيمة كبيرة وبالتالي أصبح النمو العمراني مفتعلا وغير مبرر. ويشخص الدكتور النعيم المشكلة الكبيرة التي تكمن في سياسة التنمية المفتعلة هذه هي أنها مع الوقت تحول المدن إلى "مدن أزمات", فكل نقص في الموارد المالية ينعكس بشكل مباشر على حيوية المدينة ويثقل حركتها، كما هو الحاصل هذه الأيام. فمدن الخليج تقوم على قاعدة اقتصادية أساسها الاستثمار العقاري مع عدم الإستقرار في التركيبة الديموغرافية لمدن الخليج عموما وعدم التوازن بين المغتربين والسكان الأصليين مما يشكل أزمة في حال رحيل المغتربين الذين يشكلون البنية التحتية للمدينة في حال انعدام بريق المال كما في حال الركود الإقتصادي اليوم. ويلفت الدكتور النعيم النظر لقضية مهمة في مدن الخليج عموما والتي تفتقر إلى "المشاركة العامة" في عملية اتخاذ القرار العمراني التي تمس المدينة ومستقبلها، فقد نشأت هذه المدن كمدن "فردية" تشكلت نتيجة لقرارت فردية لمن يدير المدينة، دون أي مشاركة تذكر لمن يسكنها، الأمر الذي جعل جميع خطط التنمية العمرانية شبه مفصولة عمن يستخدم المدينة بحيث تكون "مدنا ديموقراطية" لكل من يسكنها لا مدينة "من يديرها", وذلك بإصلاح مؤسسات المدينة وأسلوب إدارتها المحلية وربطها بشكل مباشر بالسكان، بحيث يكون هناك مشاركة اجتماعية مباشرة في كل القرارات العمرانية وعدم تجزئة المدينة إلى مشاريع إستراتيجية (خارج المحاسبة) ومشاريع يمكن طرحها على المجالس البلدية كما تقوم به حاليا بعض المدن في الخليج.
هذه نماذج من المشكلات التي تعاني منها المدن العربية اليوم, يطرحها مفكرون معاصرون واقعيون ومستنيرون على منابر الكتابة أمثال الدكتور النعيم, والتي تحتاج لدراسات شاملة وموضوعية تبحث في مشكلاتها الحقيقية. أما الجمود عند الدراسات التقليدية التي تبحث في تاريخ المدينة والعوامل التي صاغتها قبل عدة قرون في بيئة محدودة وخاصة فلا معنى لها. والتعنت والتشبث "الطفلي" بفكرة نجاعة هذه العوامل التي اندثرت في حل مشكلات المدينة المعاصرة التي تغيرت متطلباتها الحسية والسكانية والبيئية – بمشكلات التلوث الصوتي والبيئي والهوائي والأوزوني وغيره – إنما هو دفن الرأس في الرمال والهروب من الواقع باتجاه الماضي مما لا يقدم البحث العلمي, أو الحال المعاصر, بل يؤخره!
ملحوظة: هذا المقال هو جزء من فصل في كتاب قادم للمؤلف هذا العام بعنوان(قراءات فلسفية في عمارة المجتمعات العربية بين التراث والحداثة).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق