المدخل لدراسة الظاهرة الإجرامية والحق في العقاب
المطلب الثاني : نظرية هوتون
64- أولاً : مضمون نظرية هوتون[1] :
في أواخر الثلاثينيات قام العالم الأمريكي أرنست ألبير هوتون Ernest Albert Hooton - أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة هارفارد Harvard - بدراسات واسعة شملت 873ر13 مجرماً ممن أدينوا من قبل القضاء وأودعوا المؤسسات العقابية ودور الإصلاح والرعاية الاجتماعية ؛ كما قام بدراسة مقارنة على مجموعات ضابطة من غير المجرمين بلغ 3203 شخصا ممن تتوافر فيهم ذات الصفات العضوية وتتماثل كافة ظرفهم النية ومستوى الذكاء والمستوى الثقافي والحضاري ، موزعون بين 1976 شخصاً سوياً و1227 شخصاً من غير الأسوياء.
وقد نشر هوتون في عام 1939 نتائج أبحاثه مثبتاً خلالها أن المجرمين يتميزون بوجود علامات ارتدادية – تبلغ حوالي مائة وسبع - مثل التي قال بها لومبروزو وبوجود انحطاط جسماني موروث ونقص ودونية بيولوجية Biological inferiority. واستدل على هذا الانحطاط بوجود شذوذ عضوي يتمثل في انحدار الجبهة وانكفائها ، وفرطحة الأنف وغلظتها ، ورُفع الشفاه ، وضئالة حجم الأذن ، وطول الرقبة ورفعها ، وهبوط الأكتاف. فضلاً عن انتشار عادة الوشم بين المجرمين ، وكثافة ونعومة شعر الرأس وميله للون الكستنائي الضارب للحمرة وغير الأشيب ، وميل العيون للون الرمادي المشوب بالزرقة.
وذهب هوتون إلى حد تأكيد أن الانحطاط الجسماني الموروث يختلف باختلاف المجرمين ، فمن بين هؤلاء تميزهم عمن يرتكبون جرائم من أنواع أخرى ، فالقتلة يمتازون بطول القامة وامتلاء الجسم ، كما أن قصار القامة المفرطين في الوزن يرتكبون الجرائم الجنسية...وهكذا.
65- ثانياً : تقدير نظرية هوتون :
يعود لهوتون – مثلما كان الحال بالنسبة إلى لومبروزو - الفضل في التركيز على شخصية المجرم والبحث بداخلها عن تفسير للسلوك الإجرامي. وإذا كان هوتون قد تفادى النقد الذي وجه إلى لومبروزو فيما يتعلق بأسلوب البحث ، إذ شملت دراساته ، فضلاً عن عدد من المجرمين ، عدد مماثل – بل يزيد – من غير المجرمين ، فإن نظريته لم تسلم من النقد ، الذي يتلخص في النقاط التالية :
- قيل أن هذه النظرية تفتقد للموضوعية من كونها لم تقدم دليلاً علمياً واحداً على أن الانحطاط الجسماني الذي يتميز به المجرمون هو انحطاط يرجع إلى عامل الوراثة دون غيره من العوامل. ولم يقل لنا هوتون لماذا أسقط من اهتماماته العوامل الأخرى وثيقة الصلة بالسلوك الإجرامي كالعوامل البيئية أو الاقتصادية أو الثقافية. فمما لا شك فيه أن المظاهر التي قيل بها قد تعود لأسباب عرضية مكتسبة وغير وراثية كسوء تغذية أو أسباب مناخية وبيئية ومهنية تؤثر في شكل وملامح الشخصية الإنسانية...الخ.
- كما أنه قد عيب على هوتون ما ذهب إليه من أن خصائص المجرمين تختلف تبعاً لاختلاف نوع الجريمة المرتكبة ، ذلك لأنه اكتفى بالجريمة التي دخل من أجلها الفرد السجن ، بينما قد يكون قد ارتكب من قبل ذلك جرائم أخرى. فالمحكوم عليه في سرقة أو نصب قد يكون قد حكم عليه في جريمة ضرب أو هتك عرض مثلاً. وبالتالي فليس صحيحاً القول بوجود صفات وعلامات مميزة في مرتكبي جرائم الأشخاص تختلف عن تلك التي توجد لدى مرتكبي جرائم الأموال. فإن صح ذلك أحياناً ، فإن الدراسة الواقعية العلمية تكذبه.
- كما أخذ على تلك النظرية استخدامها لمجموعة ضابطة صغيرة العدد ، لا تفي باحتياجات الدراسة العلمية السليمة التي تشترط التمثيل الجيد للعينة. بل أن المجموعات الضابطة التي استعان بها - وغالبيتها من الإيطاليين المهاجرين – لا يمكن أن يمثلوا كل نسيج المجتمع الأمريكي المعرف بتعدد تركيباته الأنثروبولوجية والعرقية.
- كما أن اختيار هوتون للمجموعة الضابطة والتي قارن بين أفرادها وبين طوائف المجرمين لم يكن سليماً لأنه اعتمد في مقارنته على من حكم القضاء بإدانتهم ، الأمر الذي يوصلنا إلى نتيجة شاذة مؤداها أن الرجال سوف يتميزون بصفات انحطاطية أكثر من تلك التي توجد لدى النساء ، ذلك أن الرجال يشكلون النسبة الغالبة من المساجين في العالم.
- وأخيراً فقد عيب على نظرية هوتون أنها أقامت أبحاثها على طائفة نزلاء السجون الذي حكم القضاء بإدانتهم على أساس أن هذه الطائفة تمثل جميع المجرمين ، والحقيقة أنها لا تضم غير نسبة محدودة منهم ، فهي لا تضم الذين حكم عليهم بعقوبات سالبة للحرية ولكن مع إيقاف التنفيذ أو الذين حكم عليهم بالغرامة فقط. كما أن جزءً لا بأس به من المجرمين لم يكتشف أمرهم بعد ويبقون خارج المؤسسات العقابية. وبالتالي فإن دراسات هوتون لم تشمل كل هؤلاء ولم تكشف عن مدى شيوع الانحطاط الجسدي لديهم على الرغم من أنهم مجرمون في الحقيقة.
المبحث الثاني : النظريات الــنــفســية
Théories psychologiques
66- تمهيد وتقسيم :
من المؤكد أنه ما كان لتفسير الظاهرة الإجرامية أن يقف عند هذا الحد مع التطور الذي يطول الفكر الإنساني سنة بعد أخرى. فظهر من بعد الدراسات التي ترجع تفسير الظاهرة الإجرامية إلى خلل في التكوين البيولوجي والعضوي وحده أو إلى خلل عضوي ونفسي للمجرم معاً من قال بقصر تفسير السلوك الإجرامي على سبب نفسي وطب عقلي Psychiatrique. ومرجع ذلك إلى التطور الهائل الذي شهده علم الطب أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر على يد كاباني Cabanis (1757-1818) وإسكيرول Esquirole (1772-1740) ، والذين كشفا في أبحاثيهما عن ضرورة الاهتمام – إلى جانب الطب البدني- بالطب النفسي والعقلي.
فالجريمة كما يمكن أن تكون نتاج إرادة إنسانية حرة ومختارة ، يمكن أن تعود إلى خلل عقلي أو نفسي يعدم الإرادة ومن ثم يعدم الاختيار ، مما يستوجب معاملة المجرم معاملة طبية وليست معاملة عقابية. وقد ساعد على ذلك أيضاً التوسع في الدراسات المتعلقة بالقدرات العقلية وقياسات الذكاء ، الأمر الذي أحدث تطوراً هائلا في نظرية المسئولية الجنائية وتقسيمات المجرمين. فعن الأولى تدعمت جملة من الأسباب المعفية من المسئولية الجنائية أو المخففة من العقاب القائمة على نقص العقل أو انعدام الإدراك والتمييز. وعن الثانية ظهرت أقسام من المجرمين على أساس مرضي أو طبي ، كالمجرم المجنون والمجرم الذهاني والمجرم العصابي والمجرم السيكوباتي[2].
وعمدة القائلين بهذا الوجه من النظر هو ولا شك العلامة النمساوي "سيجموند فرويد " Sigmund Freud (1856-1939) ، الذي يمثل المؤسس الحقيقي لعلم النفس الحديث ، ويمثل حجر الأساس لكافة نظريات التحليل النفسي Théories psychanalytiques ، التي ذهبت إلى تفسير الجريمة تفسيراً نفسياً خالصاً ، مع إسقاط دور الجانب البيولوجي والتكويني في الدفع نحو الجريمة.
وقد تلا فرويد باحثين آخرين ، من أمثال ألفريد آدلرAlfred Adler وكارل يونج Carl Young ، وكارين هورني Karen Horney ، وأوجست أكهورن August Aichhorn ، وديفيد أبراهامسن Davaid Abrahamsen ، ووليام ريخ Wilhelem Reich ، وتيودور ريك Theodor Reik ، ممن أضافوا إلى نظرية التحليل النفسي فرضيات جديدة كادت تطيح بأسس المدرسة التحليلية التي بناها زعيمهم فرويد[3]. الأمر الذي يتوجب معه الإشارة إلى اجتهادات هؤلاء العلماء ، عقب أن نفرغ من عرض نظرية فرويد.
المطلب الأول : نـــظـــريـــة فـــرويـــد
67- أولاً : أقسام النفس لدى فرويد:
يجدر بنا مسبقاً التأكيد على أن فرويد لم يهدف بأبحاثه استخلاص نظرية مفسرة للسلوك الإجرامي ، بل كل ما هنالك أنه أراد أن يظهر تأثير اضطرابات الجهاز النفسي للإنسان على السلوك البشري عاماً ، ومنه السلوك الإجرامي.
ونقطة البدء لدى فرويد هي كشفه عن أن للنفس البشرية مظاهر ثلاثة[4] ، نوضحها في الأتي :
68- أ : الهو أو الذات الدنيا (الأنا الدنيا) :
وهي التي يرمز لها فرويد بالكلمة اللاتينية Id وتعني "هيça ". ويقصد بها مجموعة الغرائز والنزعات والميول الفطرية لدي الفرد التي لا يتقبلها المجتمع بحالها.وهي مستودع الشهوات ومواطن التنازع بين الدوافع والغرائز الموروثة. وهي تنساق وراء اللذة وإشباع الشهوات دون أن تقيم وزناً للقيود الاجتماعية والقيم والمثل المتعارف عليها. وتكمن هذه الميول والنزعات في اللاشعور. فإذا أراد الشخص أن يحيا حياه اجتماعية متوافقة مع المجتمع فإما أن يكبت شهواته ، وإما أن يعبر عنها بالأسلوب المقبول اجتماعياً. فإذا كان للشخص شهوة جنسية تتطلب إشباعاً ، فإما أن يكبتها أو يعبر عنها في قالب النظام الاجتماعي المتعارف علية ، المسمى بالزواج.
69- ب : الذات المثالية أو الضمير (الأنا العليا) :
واصطلح فرويد على تسميتها Super Ego أو "الأنا العليا Le surmoi" ، والتي تمثل الجانب المثالي والمظهر الروحاني للنفس البشرية. فهي تضم المبادئ الأخلاقية والمثالية المستقاة من القيم الدينية والقواعد الأخلاقية والمبادئ الاجتماعية. وتعتبر "الأنا العليا" أو ما يعرف بالضمير القوة الرادعة للنزوات والشهوات. كما أنه يقوم بمراقبة "الأنا" في إدانتها لوظائفها وانتقاده أو تأنيبه إذا ما استجاب لنزوات الذات الدنيا. فهذه النفس هي النفس اللوامة.
70- ج : الذات الشعورية أو العقل (الأنا) :
هذا القسم من أقسام النفس يرمز لها فرويد بكلمة Ego وتعني "الأنا Le moi" ، ذلك القسم الذي تشمل مجموعة الملكات الفطرية أو الفكرية المستمدة من رغبات النفس بعد تهذيبها بما يتفق ومقتضيات الحياة الاجتماعية والقيم الأخلاقية. ووظيفة "الأنا" عند فرويد هي محاولة التوفيق بين متطلبات الأنا العليا من جانب وبين النزعات الفطرية الغريزية التي تصعد من الذات الدنيا.
وهذا القسم الأخير من أقسام النفس (الذات الشعورية أو العقل) لدى فرويد يقسمه علماء النفس بدورهم إلى مراتب ثلاث : أولها الشعور أو العقل الظاهر Conscious ، متمثلاً في وسيلة الإدراك المباشر والوعي والإحساس والتخيل والنقد والحكم على الأمور ، أي كل ما يعيه الإنسان ويدركه. أما القسم الثاني فهو ما قبل الشعور أو العقل الكامن ou subconscious Preconscious ، ويقصد به الأفكار والخواطر والخبرات التي في وسع الإنسان أن يستدعيها ويستحضرها باختياره كلما أراد. أما القسم الأخير فهو اللاشعور أو العقل الباطن Unconscious وهو الذي يحوي الأفكار والخواطر وكل ما انتاب الشخص من حوادث تركت بصماتها بداخل النفس ، والتي لا سبيل إلى إيقاظها إلا في حالات الاستثنائية كحلم أو نوبة حمى أو عن طريق التحليل النفسي أو التنويم المغناطيسي. وهذا القسم الأخير أشبه بحجرة "الكرار" في المنزل حين تمتلئ بالذكريات والميول والرغبات ، آملة في الخروج إلى حجرة "الاستقبال" التي هي في هذا المقام الشعور.
والقسمان الأول والثاني يمثلان الجانب الواعي للعقل ، مما دفع فرويد لأن يقصر تقسيم ظواهر النفس على مرتبتين فقط هما الشعور واللاشعور. فألحق ما قبل الشعور أو العقل الكامن بالشعور أو العقل الظاهر ، مستنداً في ذلك إلى وجود قوة خفية - أطلق عليها فرويد اسم "الكبت" Répression - من شأنها صد بعض الذكريات والنزعات والخواطر عن الظهور في منطقة الشعور ، إما لمخالفتها للتقاليد والآداب والعقائد الدينية ، مثل الغريزة الجنسية والميل الجنسي لدى المحارم من الأهل والأقارب ؛ وإما لكونها من قبيل الذكريات المؤلمة أو الخواطر المرتبطة بفاجعة لا يقوى الشعور على تحمل طفوها من جديد في منطقته. فالكبت هو بمثابة الرقيب الذي يفحص ما يهم بالخروج من اللاشعور راغباً في الطفو على سطح الشعور. وهذا الصراع بين الدائرتين أمر غير محسوس ولا يعيه الإنسان.
من هنا يظهر أن فرويد يركز على أهمية اللاشعور أو العقل الباطن في تفسير السلوك الإنساني. ذلك أن ملكات اللاشعور أو العقل الباطن أقوى وأشد تأثيراً في النفس من ملكات الشعور أو العقل الظاهر. فالعقل الباطن يحوي ذكريات الطفولة والخواطر المكبوتة ، فضلا عن الدوافع والميول الفطرية والنزعات الغريزية والموروثة ، بما يجعله مؤثراً على الأفكار والمشاعر والوجدان والسلوك الشعوري. وهذا كله من شأنه أن يجعل للعقل الباطن أثراً واضحاً في اكتساب الشخصية طابعاً خاصاً. وعلى هذا يمكننا أن نتكشف ما يقف وراء السلوك الإنساني من خلال البحث بطريق التحليل النفسي Psychanalyse في مكنون العقل الباطن من خبرات ونزعات ورغبات وميول اختزلت في اللاشعور عبر سنوات الحياة.
وإذا أردنا أن نبين ميكانيزم عملية الاختزال في اللاشعور فعلينا أن نتأمل حياة الطفل فنجدها تبدأ بنزعات غريزية هي في البداية نزعات شعورية ، ثم لا يلبث أن ترتد إلى اللاشعور اثر اصطدامها بالحياة العقلية التقليدية المكتسبة من البيئة والتربية ، وبسبب النزاع بين الميول والنزعات الفطرية وبين تعاليم المجتمع تبدأ عملية الاختزال وتتكون مادة اللاشعور. كما أنه عن طريق الردع والمراقبة المتواصلة للنفس منذ الصغر تتشكل ملكة الكبت وتنمو مع العمر.
ويؤكد فرويد على أنه إذا لم يقترن الكبت بوسائل تصعيد صحيحة أصبح الكبت مرضياً وأصبح تكوين الشخصية الإنسانية مشكلاً على نحو مضطرب عصبياً ونفسياً.
71- ثانياً : تفسير السلوك الإجرامي عند فرويد :
يرجع فرويد تفسير السلوك الإنساني عامة – ومنه السلوك الإجرامي - إلى أن هناك صراعاً عقلياً Conflit mental يدور بين عوامل الإبداع Créativité ، متمثلة في النزعات الغريزية للإنسان – خاصة الغريزة الجنسية Libido ، وعوامل الهدم Destruction ، ممثلة في تلويح المجتمع بمعاقبة من يخرج على قيمه الأدبية والخلقية. بمعنى آخر أن هناك صراع بين الذات الدنيا بما تمثله من غرائز ونزعات وميول فطرية ، والذات المثالية "الأنا العليا" أو الضمير بما يمثله من قيم مكتسبة ومبادئ سائدة في المجتمع. وهو صراع للذات الشعورية "الأنا" دور فيه يتمثل في محاولة التوفيق بين الرغبات الصادرة عن شهوات الذات الدنيا وبين أوامر الذات المثالية وقيم المجتمع.
فإذا أفلحت الذات الشعورية "الأنا" التوفيق بين رغبات النفس الدنيا وبين قيم الضمير الدينية والخلقية جاء سلوك الإنسان متكيفاً ومنسجماً مع ما تتطلبه الحياة الاجتماعية. وإن أخفقت في إقامة الانسجام بينهما ، فإن الأمر يأخذ أحد مسارين : إما أن يسعى الإنسان إلى كبت رغباته وميوله وغرائزه في منطقة اللاشعور وعدم التعبير عنها إلا من خلال قنوات غير مباشرة كالأحلام مثلاً. وإما التسامي Sublimation بالرغبات والشهوات والميول الفطرية ، والإعلاء منها وتصعيدها بحيث تتحول إلى أنماط سلوكية مقبولة ، فالفرد الذي لا يستطيع إشباع رغبته الجنسية بالزواج يمكن أن يفرغ طاقته العضلية في ممارسة الرياضة. وهذا التسامي أمر – على ما يذكر الدكتور حسن الساعاتي – أصبح متعذر في إطار الحياة الاجتماعية المعقدة المقلقة العنيفة التي أصبحت المحافظة فيها على تقاليد لائقة بالإنسان أمراً شاقاً تستنفذ كل تدبير الفرد وحيلته[5].
ولما كان الإنسان بطبعة عدوانياً Agressive ، وأن عدم ظهور هذا الطبع يرجع إلى التدرب الذاتي والاجتماعي منذ الطفولة على التحكم في نزواتنا ورغباتنا وكبتها وعدم الكشف عنها إلا في القالب الذي يرتضيه المجتمع ، وهذا أمر يتشكل منذ الطفولة إذ يتعود الطفل بالتدريج على أن البعض من طلباته هي التي يمكن إجابتها ، وأنه يجب أن يتقبل إرجاء إشباع الجزء الباقي من الرغبات لوجود قيود مختلفة تحيط بها.
فإذا ما حدث خلل في عملية التدرب على الكبت ، أي أخفقت الذات الشعورية "الأنا" عن التوفيق بين نزعات الذات الدنيا وأوامر الضمير أو الذات المثالية وإخماد تلك النزعات في اللاشعور ، فإن الشخص ربما - من أجل التعبير عن ميوله الغريزية ورغباته الفطرية - يسلك سلوكاً إجرامياً ، أو على الأقل يصبح فرداً عصابياً Neuronique (كإحساسه غير المبرر بالخوف أو بالاضطهاد) أو مهوساً Psychose.
هنا تكون الذات المثالية "الأنا العليا" إما منعدمة الوجود وإما ضعيفة عاجزة عن ممارسة وظيفتها في السمو بالنزعات والميول الفطرية والحرص على إشباع تلك الأخيرة بشكل مشروع يتفق وقيم المجتمع الدينية والخلقية وقواعده القانونية. وكلا الأمرين هو تعبير عن انفلات الذات الدنيا من كل رقابة أو قيد والانطلاق برغباتها ونزواتها من منطقة اللاشعور إلى العالم المحسوس في صورة السلوك الإجرامي.
ولقد كشف فرويد عن وجود مناطق اختلال متعددة في النفس ، تفرز كل واحدة منها نمط مستقل من أنماط الشخصية الإنسانية. وهكذا ظهرت لنا نماذج مرضية أهما الشخصية القلقة ، والمكتئبة ، وهوائية المزاج ، والخيالية ، والمتشككة ، والمصابة ببرود عاطفي ، وضعيفة الإرادة ، والمتخوفة...الخ[6].
72- ثالثاً : أنماط العُقد لدى فرويد :
على أن فرويد قد كشف عن أن متراكمات اللاشعور قد تتحول إلى شكل عقد نفسية ، قد تدفع الشخص إلى التعبير عنها في صورة رمزية ، وربما قد يصل الأمر في الحالات الحادة إلى التعبير عنها في صورة الجريمة. وقد ذكر من بين ما ذكر عقدة أوديب ، وعقدة الذنب ، وعقدة النقص ، وعقدة الكترا[7].
73- أ : عقدة أوديب : Complexe d’Oedipe
وعقدة أوديب مصطلح اتخذه فرويد من اسم ملك طيبة وبطل الأسطورة الإغريقية الذي قتل أباه وتزوج أمه على غير علم منه. ولدى فرويد اعتقاد بأن زنا المحارم Inceste حاجة أساسية لدى كل الناس. وتنشأ هذه العقدة من منظور فرويد من تعلق الابن الذكر لا شعورياً بأمه تعلقا جنسياً مصحوباً بالغيرة والكراهية لوالده الذي يرى فيه شخص من ينافسه في حب أمه. ولما كان الابن يرى من جانب آخر حنواً وعطفاً من أباه ، فإنه يتوالد بداخله صراع بين نوعين متناقضين من المشاعر تجاه الأب.
فحين لا تقوم "الأنا" (العقل) بأداء وظيفتها في تطويع هذا الشعور والإحساس لدى الابن بما يتفق مع القيم الدينية والقواعد الأخلاقية والتقاليد الاجتماعية لأدى ذلك إلى أن يبدأ الابن بالتمرد على أباه والخروج على ما قد يفرضه من نظام داخل الأسرة. وفي الحالات المرضية الشديدة قد يعبر الابن عن كره لأباه في صورة سرقة ماله أو إتلاف متعلقاته أو تزوير توقيعه ، وربما يأخذ الأمر مساراً شاذاً فيقتل الابن أباه أو قد يغتصب أمه.
74- ب : عقدة الذنب Complexe de culpabilité
قد تستعيد "الأنا العليا" في أعقاب ارتكاب السلوك الإجرامي قوتها أو وجودها وتقوم بتوجيه التأنيب اللوم إلى "الأنا" على ضعف رقابتها الذي أنتج هذا السلوك الإجرامي. هنا يتولد لدى الشخص شعور بالذنب قد يدفعه إلى الرغبة في العقاب تكفيراً عما بدا منه ، ويظل هذا الشعور مسيطراً عليه إلى الحد المرضي الذي يدفعه إلى ارتكاب الجريمة رغبة في التطهر والتحرر من هذا الشعور بالذنب عن طريق الخضوع للجزاء الجنائي. ولهذا فإن المصابين بتلك العقدة عادة ما يعمدون إلى ترك دلائل مادية تكشف عن شخصياتهم تمكن السلطات من القبض عليهم وإنزال العقاب بحقهم. ولقد كشف علماء آخرين تأثروا بفرويد – من أمثال فرانز ألكسندر Franz Alexander ووليام هيلي William Healy - عن دور الرغبة في التخفيف من حدة الشعور بالذنب في الدفع إلى سلوك سبيل الجريمة ، وخاصة جريمة السرقة[8].
75- ج : عقدة النقص Complexe d’infériorité
وهو أحد الصور الرمزية للتعبير عن المشاعر والميول المكبوتة ، تنشأ عن صراع كامن في اللاشعور مرده إحساس الإنسان بنقص في أعضائه الجسمانية أو مظهره الشخصي أو إحساسه بتدني مكانته الاجتماعية وإخفاقه في بلوغ ما كان يصبو إليه من آمال في الحياة. فإذا ما حدث وأفلحت الذات الشعورية أو الأنا في كبت هذا الإحساس في منطقة اللاشعور ، فربما يسعى الشخص نحو تعويض هذا الشعور بالنقص بالتعبير عنه في صورة رمزية في العالم الخارجي في شكل ، سرقة أو فرض سيطرة أو استعمال قوة ، الذي عادة ما يستهدف الشخص بها الظهور والشهرة.
76- د : عقدة الكترا Complexe d’Electra
وهي عقدة تماثل عقدة أوديب تنشأ من تعلق البنت بأبيها تعلقاً جنسياً وما ينجم عن هذا من غيرة من الأم وكراهية لها إذ تنافسها في حب الأب. وتقع البنت هي الأخرى في صراع بن حب أمها التي تعطف عليها وبين كرهها لها كونها أقرب إلى الأب منها. وإذا نجحت الأنا في كبت هذا الشعور بالكراهية تحت تأثير الضغوط الاجتماعية التي لا تسمح بالتعبير عن السبب الحقيقي لهذا الكره ، فإن البنت قد تعبر عنه رمزياً في صورة التمرد على أمها ، وفي الحالات المرضية يكون بالاعتداء عليها بالضرب أو السرقة ، وفي الحالات الشاذة قد يصل الأمر إلى حد القتل.
77- رابعاً : تقدير نظرية فرويد :
لا يمكن لأحد أن ينكر فضل مذهب التحليل النفسي في إبرازه أهمية الجانب اللاشعوري أو غير الواعي في بناء الشخصية الإجرامية ، فهذه المنطقة تختزن فيها كل الدوافع الإجرامية ، الأمر الذي كان له أثره في الكشف عن أسباب وبواعث الكثير من الجرائم ، كما كان له أثره في علاج بعض طوائف المجرمين من المرضى النفسانيين والعقليين.
بيد أن هذه النظرية قد تعرضت للعديد من الانتقادات نوجزها في الأتي[9] :
- عيب على تلك النظرية سقوطها في الخطأ المنهجي. ذلك أن جميع المتغيرات والمفاهيم التي قالت بها يصعب دراستها علمياً والتحقق من فروضها بطريق الملاحظة أو التجربة. فكيف يكمن قياس مفاهيم الأنا والأنا العليا واللاشعور.
- كما أخذ على تلك النظرية عدم استعانتها بمجموعات ضابطة وعينات كافية ، الأمر الذي أوقعها في خطأ المغالطة الثنائية ، الذي مؤداه افتراض أن الخاضعين للتحليل يمثلون طائفة المجرمين في المجتمع أما غير الخاضعين له فهم من غير المجرمين ، وهو افتراض لا يطابقه أمر من الواقع.
- وأخيراً فإنه وفقاً لمضمون تلك النظرية فإن السلوك الإجرامي يعود إلى اضطراب نفسي ناشئ عن الخلل في بعض العمليات الأولية المبكرة (الخلل في عملية الفطام مثلاً أو عدم الإشباع أثناء الرضاعة) والتي يتم اختزلها منذ الطفولة الأولى وتظل كامنة في منطقة اللاشعور أو العقل الباطن ، وهو أمر صعب على الباحث تقصي تطوره ونموه خلال هذا الزمن الطويل ، الأمر الذي يتعذر معه إثبات الصلة بين السلوك الإجرامي وبين الخلل الذي يعتقد وجوده في منطقة اللاشعور.
- ويرتبط بالنقد السابق ما قيل من أن النظرية التحليلية النفسية قد أعلت من قيمة الغريزة الجنسية - سيما ما يتصل بفترات الطفولة الأولى - وأثرها في السلوك الإنساني عامة والإجرامي خاصة.
- كما قيل بأن تلك النظرية وإن أفلحت في تفسير لماذا يرتكب الشخص جرماً معيناً ، فإنها رغم ذلك لم تفلح في تفسير علة خلع المشرع على فعل ما وصف جريمة. فالمعلوم أن الأفعال محايدة وأن المشرع وحده هو الذي يجعل من فعل جريمة ومن ذات الفعل بطولة. فإزهاق الروح قتل في بعض الفروض ، حق – بحكم الدفاع الشرعي مثلاً – في بعض الفروض الأخرى.
- وقيل في نقد تلك النظرية أيضاً إغفالها دور العوامل الاجتماعية والظروف البيئية في الدفع نحو الإجرام. فمهما بلغت قوة الخلل النفسي فإنه من المتعذر التسليم باعتباره وحده المخلق للسلوك الإجرامي.
- كما أخذ على هذه النظرية أنها لا توجد صلة حتمية بين الخلل النفسي الناشئ عن انعدام أو ضعف "الأنا العليا" وبين السلوك الإجرامي. فكثيراً ما يعاني الشخص من مرض نفسي ومع ذلك لا يرتكب سلوكاً إجرامياً. وبالعكس فإن البعض يسقط في هوة الجريمة دونما أن يثبت معاناته من خلل نفسي. هذا فضلا عن أن انعدام أو ضعف "الأنا العليا" (أو الضمير) لا يصلح تفسيراً للجرائم العاطفية والتي يتصف مرتكبيها بقوة الأنا العليا.
- كما قيل أن منطق هذه النظرية يؤدي إلى القول بأن الجريمة أمر حتمي في حياة الإنسان طالما أن الإنسان محكوم بنزعات ودوافع غريزية لا يستطيع الفكاك والهروب منها. وهو ما يسد الطريق أمام محاولة علاج من يعانون من الاختلالات النفسية.
- كما قيل أن بعض نتائج تلك النظرية يتناقض مع مقدماتها. فإذا كانت تلك النظرية ترجع الجريمة لأسباب تتعلق بغياب أو ضعف الأنا العليا أو سطوة الذات الدنيا ، فإن المنطق يفرض القول بأن جميع المجرمين يتميزون بالقوة والعنف وانعدام الأحاسيس ، وهو أمر يكذبه واقع الجريمة الفعلي.
- كما أن منطق تلك النظرية يفرض اعتبار المجرم مريضاً نفسياً يستوجب العلاج لا العقاب ، وفي هذا تضحية بأغراض العقوبة من ردع عام وعدالة.
المطلب الثاني : النظريات النفسية اللاحقة على فرويد
تتابعت من بعد فرويد البحوث التي استندت إلى منهج التحليل النفسي الذي كشف عنه هذا الأخير[10]. ويجمع تلك الدراسات كونها أكدت على أن الاضطراب النفسي أمر قد يتواجد لدى الكثيرين دون أن يخلق هذا منهم مجرمين. فلديهم أن الاضطراب النفسي الذي يتعين الوقوف عنده هو ذلك القادر على الانتقال بالشخص إلى طور تنفيذ المشروع الإجرامي ، وذلك من اجل تشخيص هذا الاضطراب ، وتحليل الظروف التي تقف وراء انتقال الشخص إلى مرحلة البدء في التنفيذ Passage à l’acte.
وتأتي بحوث ألفريد أدلر Alfred Adler (1870-1937) في مقدمة البحوث التي استندت إلى منهج التحليل النفسي الذي قال به فرويد. غير أن أدلر قد ركز بصفة خاصة على عقدة النقص Complexe d’infériorité من حيث دورها المتعاظم في تفسير السلوك الإجرامي. فلديه أن هذا السلوك إنما يقف وراءه حاجة الشخص إلى جذب اهتمام الآخرين وتعويض ما يشعر به من نقص. وقد ظهر ذلك جلياً بتتبع حالة إحدى الفتيات التي اعتادت السرقة من المحلات التجارية.
ويأتي كارل جوستاف يونج Karl Gustave Young (1875-1960) بدوره كي يرجع السلوك الإجرامي إلى اضطراب نفسي مبناه غلبة عوامل الأنانية ، أو ما أسماه الانطواء الذاتي Introversion ، أي تركيز الاهتمام على الذات ، على عوامل الانبساط Extraversion ، أي العوامل التي تدفع الشخص نحو الانصراف عن حاجات الذات. هذا التفسير الذي يمكن قبوله بشدة في حالات المجرمين المعتادين والمجرمين السيكوباتيين.
ويمكننا أن نشير أيضاً إلى البحوث التي أجراها ديفيد أبراهامسن[11] David Abrahamsen ، والتي ركزت على الربط بين الجريمة – خاصة جناح الأحداث - وبين اضطرابات الشخصية التي تتواجد نتاج الخلل في علاقة الطفل بأمه في المراحل الأولى.
كما أشار هذا العالم إلى وجود ميل عام نحو الجريمة في جانب كل شخص ، أو ما يمكن تسميته بالاستعداد الغريزي تجاه الإجرام. غير أن هذا الميل في رأي هذا العالم يستلزم أمرين كي يبدأ في التحرك والظهور في المحيط الخارجي في صورة الجريمة : الأول وجود موقف دافع يؤثر في الشخص من واقع الخبرات المكتسبة خلال مراحل حياته المختلفة. أما الأمر الثاني فهو وجود نقص أو ضعف في الموانع النفسية أو عناصر المقاومة ، بحيث لا يمكنها أن تقف في مواجهة عوامل الدفع التي تمثلها الميول الغريزية نحو الجريمة. وهكذا توصل هذا الباحث في النهاية إلى التعبير عن الجريمة بالمعادلة التالية :
الجريمة = الميول الغريزية + الموقف الدافع
المقاومة النفسية
وقد ركز من بعد الطبيب النمساوي أوجست أكهورن August Aichhorn – في مؤلفه "الحدث المتمرد Wayzard youth" - على توجيه التحليل النفسي نحو معاملة وعلاج المجرمين ، أكثر من اعتباره أسلوباً كشفياً عن الأسباب النفسية التي تقف وراء السلوك الإجرامي[12]. فلديه أن بالتحليل النفسي يمكننا أن نحدد طرق التهذيب Réeducation وما يتوجب من تغيرات في الوسط الاجتماعي Mileu social المحيط بالفرد ، فيقوي من عوامل المنع النفسية لديه ، ويجعله يألف السلوك الاجتماعي المتوافق مع القيم والعادات والموروثات الثقافية السائدة في المجتمع. وقد كشف من خلال عمله مديراً لإحدى الإصلاحيات عن أنواع مختلفة من المجرمون الأحداث ممن يعانون من اضطرابات نفسية يعود إلى نقص القدرة على كبت الدوافع والحرمان الشديد من العطف ، كالحدث العصابي ، والحدث العدواني ، والحدث الذي لم تتطور ذاته العليا.
وفي رأينا أنه من السهل بمكان الكشف عن مواطن الخلل في هذه النظريات مجتمعة. ففوق أنها لم تنجح في تجنب الانتقادات التي قيل بها تجاه نظرية فرويد في التحليل النفسي ، فإنه يعيبها أنها سقطت في خطأ التعميم أو المغالطة الثنائية ، ويعود ذلك أنها عممت من النتائج المستخلصة من البحوث التي أجريت على بعض الحالات الفردية ، دون أن تتأكد من تلك النتائج على مجموعات ضابطة كافية. فضلاً عن أن بعض المفترضات التي قيل بها لا يمكن التحقق منها بشكل علمي سليم ، ومثال ذلك فكرة الميل الغريزي نحو الإجرام.
كما أن تلك الاتجاهات قد ركز كل منها على جانب نفسي معين ، الأمر الذي يصعب معه التوصل من خلالها إلى نظرية عامة لتفسير الظاهرة الإجرامية. ويصدق هذا النقد بحق نتيجة إهمال تلك الدراسات لتأثير العوامل الاجتماعية في الدفع نحو الجريمة.
الفصل الثاني : التفسير الاجتماعي للظاهرة الإجرامية
L’analyse sociologique du phénomène criminel
78- تمهيد وتقسيم :
لم يبزغ نجم التفسير الاجتماعي للظاهرة الإجرامية – الذي يبنى على فكرة رئيسية مؤداها أن السلوك الإجرامي يخضع لنفس القواعد التي تخضع لها كافة الظواهر الأخرى في السلوك البشري - إلا خلال القرن التاسع عشر حينما بدأ الباحثون في علم الإجرام دراسة أسباب الجريمة في البيئة الاجتماعية المحيطة بالجاني - أو ما يعرف بأسلوب الدراسة الايكولوجية الاجتماعية للجريمة L’écologie du crime. وهو الأسلوب الذي يهدف إلى بيان مدى تأثر الأفراد بوصفهم كائنات عضوية بالضغوط والوقائع البيئية المختلفة التي يتعرضون لها.
غير أن الدراسة الايكولوجية للجريمة قد بدأت مقتصرة على الربط فقط بين المظاهر الجغرافية للبيئة – وخاصة المظاهر الجيولوجية والمناخية - وبين السلوك الإجرامي ، وهو ما يعرف بالاتجاه الجغرافي في دراسة الظاهرة الإجرامية.
ولقد تلقف هذا المنحى العالم الفرنسي أندريه جيري André Guerry (1802-1866) ، أحد أقطاب ما يعرف بالمدرسة الفرنسية البلجيكية للوسط الاجتماعي[13]L’école franco-belge du milieu social وأحيانا بالمدرسة الخرائطية أو الجغرافية L’école cartographique ou géographique ، فأصدر أثناء عمله مديراً لإدارة الإحصاء بوزارة العدل الفرنسية أول كتبه فى عام 1833 تحت عنوان "دراسة حول الإحصاء الأدبى لفرنسا"Essai sur la statique morale de la France متناولا فيه ظاهرة الجريمة كفكرة اجتماعية معتمداً على الإحصاءات الجنائية الفرنسية ومحاولاً تبيان أثر الجنس والعمر والمهنة والمستوى الثقافي وتقلبات الطقس والفصول المناخية على الإجرام[14]. وفي عام 1864 أصدر كتابه الثاني "الجهل والإجرام" مقارناً بين الإحصاءات الإنجليزية والإحصاءات الفرنسية مبينا عدم وجود ارتباط بين الجهل والإجرام ، وأن الجهل ليس مصدراً مطلقاً ومباشراً للجريمة ، بل أن التعليم أحياناً قد يكون عاملاً من عوامل الجريمة ، كما أن الفقر ليس بالضرورة مصدراً مطلقاً ومباشراً للإجرام ، بل إن جرائم الاعتداء على الأشخاص Infractions contre les personnes قد تعود إلى اضطراب أو خلل نفسي أو عضوي للفرد أو خلل في بيئته الاجتماعية والوسط المحيط[15].
ويأتي من بعد دور العالم البلجيكي لامبرت أدولف كيتيليه A.Quètelet ، وهو القطب الثاني للمدرسة الفرنسية البلجيكية وأحد مؤسسي الاتجاه الاجتماعي الأوروبي في تفسير الظاهرة الإجرامية ، الذي نشر في عام 1835 نتائج أبحاثه في كتابين الأول بعنوان "الطبيعة الاجتماعية" La physique sociale والثاني بعنوان "حول الإنسان وتطور قدراته"Sur l’homme et le développement de ses faculté ، والتي تشير – ومن خلال الدراسات الإحصائية القائمة على قانون الأعداد الضخمة – إلى أن الجريمة ما هي إلا ظاهرة اجتماعية تخضع لقواعد عامة تحكمها شأنها شأن الظواهر الطبيعية ، وأنها تتأثر بعوامل كثيرة كالجنس والسن والطقس والحالة الاقتصادية للجاني[16]. كما أوضح أن جرائم الأشخاص تكثر في الأقاليم الجنوبية التي تشتد فيها درجات الحرارة بينما تزيد جرائم الأموال في البلدان الواقعة في الأقاليم الشمالية وهو ما يعرف عنده بالقانون الحراري للظاهرة الإجرامية[17]La loi thermique du phénomène criminel.
ومع أفول نجم الاتجاه الجغرافي – على أثر ذيوع أفكار الاتجاه التكويني البيولوجي وقطبه الأشهر سيزار لومبروزو - بدأ يبزغ نجم الاتجاه الايكولوجي الاجتماعي في دراسة الجريمة ، المنصب على الربط بين السلوك الإجرامي وبين ما يحيط بالفرد من ظروف بيئية مختلفة. ولقد ساهم في ظهور هذا الأسلوب في دراسة الجريمة الكثير من علماء الاجتماع في أوروبا ، من أبرزهم رواسون Rawson في دراساته عام 1839 حول الإجرام في المدن الإنجليزية ، ودراسات ماهيو Mayhew مابين عامي 1851 و1864 لإجرام عمال مدينة لندن ، ودراسات بوت Booth لأحياء العمال في لندن عام 1903.
ولمدرسة شيكاغو الفضل في تدعيم هذا الأسلوب في دراسة الجريمة[18] ، على يد روبرت بارك Park وارنست برجس Burgess ، ثم تلى ذلك جهود كل من ماكنزي Mckenzie ، وأندرسون Anderson ، وويرت Wirth ، وزوربورج Zorbourgh ، وتراشر Thrasher ، وشو Shaw.
وإذا كنا لا نستطيع أن ننكر فضل علماء القانون والاجتماع في أوربا في إبراز الاتجاه الاجتماعي في دراسة الجريمة - من أمثال العالمان الفرنسيان دوركايم Durkheim القائل بنظرية اللانظام ، وتارد Tard القائل بنظرية المحاكاة أو التقليد الإجرامي[19] - غير أن الاتجاه الاجتماعي المعاصر لم يتبلور بصورة واضحة إلا على يد العديد من العلماء الأمريكان ، حتى أن بعض الباحثين[20] يطلقون على التفسير الاجتماعي للظاهرة الإجرامية "المدرسة الأمريكية" L’école américaine. ومن أمثال هؤلاء سيلين Sellin القائل بنظرية تنازع الثقافات ، وسذرلاند Sutherland القائل بنظرية الاختلاط الفارق ، وركلس Reckless الذي تنسب إليه نظرية المفاهيم الذاتية أو المصدات.
وعلينا أن ننبه إلى أن الدراسات الإجرامية التي يشملها هذا الاتجاه قد تبعت أحد أسلوبين في البحث[21] : إما دراسة العلاقة بين معدل الإجرام من ناحية والهيكل الاجتماعي من ناحية أخرى. ومن هنا أطلق على البحوث التي تبنت هذا الأسلوب "نظريات الهيكل الاجتماعي Les théories de structure sociale" ومنها البحوث التي ربطت بين الجريمة وبين تضارب الثقافات ، وتضارب الأيديولوجيات السياسية والدينية ، الهيكل الطبقي للمجتمع Stratification والعنصر السكاني ، اختلال توزيع الثروات والدخل.
أما الأسلوب الثاني فيشمل بحوث ودراسات "الكيفية الاجتماعية Les théories de processus sociale" ، وهي مجموع النظريات التي تكشف عن الطريقة التي يصبح الفرد وفقاً لها مجرماً بدلا من أن ينسجم سلوكياً مع القواعد القانونية المنظمة للعلاقات في المجتمع.
وعلى هذا سوف تجري دراستنا للاتجاه الاجتماعي في تفسير الظاهرة الإجرامية على مبحثين نخصص أولاهما لنظريات التركيب الاجتماعي وثانيهما لنظريات الكيفية الاجتماعية ، مع ضرورة التنبيه على أن إدراج أي نظرية تحت إحدى هاتين الطائفتين ليس نابعاً إلا من كونها تتضمن عدد من الخصائص التي تقربها من طائفة بعينها دون الطائفة الأخرى.
المبحث الأول : نظريات الهيكل الاجتماعي
Théories de structure sociale
79- تقسيم :
تهدف نظريات الهيكل الاجتماعي إلى دراسة العلاقة بين الإجرام من جانب وتركيب المجتمع من جانب آخر. ويمكننا أن نشير في هذا الصدد إلى العديد من الاتجاهات منها : نظريات التنازع أو الصراع داخل المجتمع ، نظريات اللانظام ، النظرية الاقتصادية ، النظرية البيئية ، وأخيراً النظرية العرقية. وسوف نوالي شرح تلك النظريات وتناولها بالنقد من خلال الصفحات التالية.
المطلب الأول : نظريات الـــصـــراع
Théories du conflit
80- تقسيم :
حاول البعض تفسير الظاهرة الإجرامية في ضوء التنازع أو الصراع داخل المجتمع على اختلاف فيما بين العلماء في تحديد الشكل الذي يأخذه هذا التنازع. ويمكننا أن نشير على وجه الخصوص إلى ثلاث نظريات هي على التوالي : نظرية التنازع الثقافي ، ونظرية تنازع السلطة ، وأخيراً نظرية الثقافات الفرعية.
81- أولاً: نظرية التنازع الثقافي[22] :
ركز العالم الأمريكي سوريستن سيلين Sellin Thorsten على ضرورة تحليل الجريمة في ضوء التنازع الثقافي Conflit culturel الناشئ عن التضارب بين قواعد السلوك Normes. فالفرد يجد نفسه – داخل المجتمع الواحد - مشدوداً بين ثقافتين متعارضتين لكل منهما نمط سلوكي مخالف ، الأمر الذي يجعل من فعله ، في بعض الأحيان ، مشكلاً لجريمة في نظر إحدى الثقافتين.
ويرى سيلين أن قواعد السلوك تتحدد من خلال الجماعة التي ينتمي إليها الفرد ، والتي قد يشوب قيمها التنازع والتصارع مع قيم جماعات أخرى تتواجد في محيط الفرد الاجتماعي.
ويأخذ التنازع الثقافي لدى سيلين إحدى صورتين : إما صورة التنازع الأصلي أو الخارجي ، وذلك حينما يقع التصادم بين ثقافتين مختلفتين في مجتمعين مختلفين. وقد يأخذ صورة التنازع الثانوي أو الداخلي حينما يقع التصادم في إطار ثقافة عامة واحدة.
وقد ينشأ النوع الأول من التنازع بفعل الهجرة حيث ينتقل المهاجر محملاً بثقافة ومقيم تتنافر أحياناً مع قيم ومبادئ المجتمع الذي هاجر إليه. ومثال ذلك حالة المهاجر الذي يدفع إلى ارتكاب القتل دفاعاً عن عرض ابنته ، متوقعاً أن ينال هذا الفعل استحسان من يعيشون في المجتمع الذي هاجر إليه ، وذلك وفقاً لتكوينه الثقافي الذي استمده من موطنه الأصلي ، الذي تسود فيه عادة الأخذ بالثأر دفاعاً عن الشرف وحيث يلقى القتل لهذا الهدف ترحاباً اجتماعياً يزهو به المرء. ومن أنماط هذا الصراع أيضاً التنازع بين ثقافة الدولة المستعمِرة وثقافة الدولة المستعمَرة. ومنه أيضاً الصراع بين ثقافة دولتين تتلاصق حدودهما الإقليمية ويندمج رعاياهما معاً.
أما التنازع الثانوى – الذي يصلح في رأيه لتفسير الجريمة في الولايات المتحدة ، وذلك لأن معدل جرائم المواطنين الأصليين أعلى من نظيره لدى الأجانب في الولايات المتحدة – فقد أشار سيلين إلى أنه ينشأ نتاج تنافر وعدم تجانس الثقافات داخل المجتمع الواحد ، والذي يدفع إليه وجود نوع من التمييز الاجتماعي Différentiation sociale بين المجموعات أو التكتلات السكانية ، التي بمرور الوقت تكون قد شكلت لنفسها مجموعة من القيم الخاصة ، التي تتنافر بدورها مع القيم السائدة لدى التكتلات الأخرى في ذات المجتمع. الأمر الذي يولد مزيداً من الصراع الاجتماعي بين تلك الكيانات المستقلة ثقافياً ، ويكون مدعاة لظهور الجريمة في هذا المحيط الاجتماعي. ومن أشكال هذا التنازع الثقافي تضارب قيم الجماعات الأسرية ، والجماعات المدرسية ، وداخل الأندية ، وجماعات العمال. ومثاله تعارض عادة الأخذ بالثأر مع الثقافة العامة في المجتمع المصري رغم أنها تتوافق من الناحية السلوكية مع القيم والعادات السائدة في المجتمعات الصغيرة في مصر العليا.
وقد كشف سيلين عن أن جانب من الأسباب الذي يقف وراء الظاهرة الإجرامية يعود إلى ما أسماه "التفكك الاجتماعي Social Disorganization" الذي أصاب المجتمع المعاصر[23]. يدل على ذلك قلة معدل الجريمة حينما كانت تسود نزعة الريفية والبداوة في غالب المجتمعات. ففي المجتمع الريفي والبدائي كانت تسود روح التعاون والإخاء وتتوحد مصالح وغايات الجماعة ، مما يسهل على الفرد أن يوافق بين سلوكه وبين تقاليد المجتمع الذي يعيش بين جنباته. أما في المجتمعات المتحضرة والمعقدة اجتماعياً وثقافياً فينعدم الأمان وتطغى الماديات وتتضارب الأهواء والمصالح ، الأمر الذي يكشف رويداً رويداً عن قدر من التفكك الاجتماعي والثقافي ، يكون بدوره عاملاً وسبباً من أسباب تكون الظاهرة الإجرامية داخل هذه المجتمعات.
وإذا كانت نظرية سلين قد أصابت جزءً من الحقيقة حينما أرجعت الظاهرة الإجرامية إلى تنازع وتضارب الثقافات ، إلا أنها قد تعرضت للنقد من عدة أوجه :
- فقد عيب على نظرية سيلين اتخاذها لعامل الصراع الثقافي كسبب وحيد للظاهرة الإجرامية متغافلة عن جملة العوامل الفردية والخارجية الأخرى التي قد تقف وراء هذه الظاهرة.
- فضلاً عن أن هذا التحليل لا يصلح لتفسير كافة صور الجرائم. فإذا كانت تلك النظرية تصلح لتفسير جرائم العصابات وجرائم الأجانب ، لاشتمالهما على تعارض واضح بين نوعين من قواعد السلوك ناشئ عن اختلاف التكوين الثقافي لكل منهما عن الثقافة العامة للمجتمع ، فإنها لا تقوم بنفس المهمة إزاء الأنماط الإجرامية الأخرى.
82- ثانياً : نظرية تنازع السلطة :
يركز كلاً من أوستن تارك Turk Austin وريتشارد كيني Quinney Richard على السلطة باعتبارها محور التنازع داخل المجتمع[24].
فلدى تارك أن علم الإجرام ينبغي أن يعنى من ناحية بدراسة الفروق بين مركز السلطة الحاكمة في الدولة والأفراد المحكومين الخاضعين لتلك السلطة من ناحية أخرى. ومرد ذلك يعود إلى أن هذان المركزان متميزان في كل المجتمعات والتفاوت بينهما أمر متقبل لدى كافة المجتمعات ، بحسبان أن ذلك هو السبيل الوحيد للحيلولة دون انهيار النظام الاجتماعي في الدولة.
وفي رأي تارك أن هيكلة المجتمعات في هذا القالب أوجب وجود نوعين من القواعد : أولها قواعد السيادة أو السيطرة Norms of domination ، وثانيهما قواعد الامتثال أو الإذعان Norms of deference. وقواعد السيادة هي التي تشكل القواعد القانونية بكل صورها التي تهدف إلى تأكيد سلطة الدولة وضبط إيقاع المجتمع وانتظامه من الناحية السلوكية. أما قواعد الإذعان فتتشكل تبعاً للتكوين البيولوجي والاجتماعي والثقافي للفرد. وتبدأ عملية التنازع في نظر تارك حينما يختلف التقييم الذي يجريه كل فرد تجاه قواعد السلوك المتعددة ، ومن ثم تختلف ردود أفعال الأفراد. ولا شك أن هذا التقييم يتنوع من فرد إلى آخر بحكم تفاوت السن ، واختلاف الجنس أوالعنصر ، والتفاوت الحضاري...الخ.
أما لدى كيني فإن الدراسة الإجرامية ينبغي أن ترفض فكرة أن القانون يمثل حلاً توفيقياً بين المصالح المتضاربة ، فالقانون لديه يخدم بعض المصالح على حساب المصالح الأخرى. والقانون الجنائي في نظره قد ولد بصفة خاصة لتدعيم سلطة جماعات على حساب جماعات أخرى ، وكذا لحماية مصالح جماعات معينة في المجتمع سواء كانت تلك الجماعات ذات صبغة سياسية أم اقتصادية أم دينية...الخ.
ولدى كيني أن هذا الخلل في وظيفة القانون يعود إلى طبيعة النظام الرأسمالي الذي يعلي من قيمة الربح والفائدة. لذا فإن كيني يرى أن من بين طرق مكافحة الجريمة تدعيم بناء المجتمع الاشتراكي ، بحيث يتساوى الجميع في الاستفادة من المزايا في المجتمع ، وتنعدم الطبقية الاجتماعية والبيروقراطية. فلا يبقى القانون أداه في يد جماعة تمارس بها سلطتها تجاه جماعة أخرى أو تهدف لحماية مصالحها فقط[25].
وفي مقام تقديرنا لهذه النظرية ، يجدر بنا الإشارة إلى عدة انتقادات[26] :
- قيل أن أول ما يؤخذ على تلك النظرية - بل ونظريات التنازع عموماً - هو افتقارها إلى البحث التجريبي الذي يثبت صدق النتائج التي توصلت إليها.
- كما عيب على تلك النظرية جانب التعميم بقولها أن القانون الجنائي ، بما يتضمنه من قواعد تجرم بعض الأفعال أو الإمتناعات ، إنما وضع لكي يخدم الطبقة الحاكمة دون غيرها ، أو لتدعيم سلطة جماعة في مواجهة جماعة أخرى. فالنص الذي يجرم السرقة أو الاستيلاء على مال مملوك للغير ، كما يحمي أموال الطبقة الحاكمة فإنه يحمي – وبالدرجة الأولى – أموال الأفراد العاديين من الطبقة المحكومة.
- كما عيب على تلك النظرية قصورها في التحليل. فقد اعتمدت على ملاحظات مستمدة من الواقع المحلي (الولايات المتحدة) في التطبيق التمييزي للقانون جوهرها تطبيق نفس القانون على عدة وجوه بحسب الطائفة الاجتماعية التي ينتمي إليها المجرم ، حيث يكثر تدخل القانون ضد المنتمين إلى الطبقات الدنيا ويتقلص تطبيقه في مواجهة من ينتسبون إلى الطبقات الأعلى درجة. غير أن هذا لا يبرر بذاته هدم النظام القانوني الحالي برمته بدعوى أن سوء التطبيق قد شابه من الناحية العملية.
- علاوة على ذلك فإن النظرية لا تفسر بوضوح كيف تقع الظاهرة الإجرامية كأثر للعلاقات الاجتماعية المختلة بفعل خلل السلطة ، وسيطرة جماعة على أخرى ، واستخدام القانون كأداة لتحقيق مصالح طائفة بعينها من طوائف المجتمع. ولعل ما يدعم هذا النقد هو أنها لم تفسر عدم سقوط بعض أفراد الطبقة الدنيا في طريق الجريمة ، على الخلاف من بعض أفراد الطبقات العليا.
- وأخيرا فإن القائلين بتلك النظرية ، وقد كشفوا عن تحيزهم للنزعة الاشتراكية وتحليلها الاقتصادي للجريمة ، إلا أنهم لم يحددوا بوضوح معالم النظام الاشتراكي الذي يمكن أن يمثل أداة فاعلة في مكافحة الظاهرة الإجرامية.
83- ثالثاً : نظرية الثقافة الفرعية :
84- تقسيم :
لقد تنوعت الدراسات التي ارتبطت بفكرة الثقافة الفرعيةSous culture بحيث يمكننا أن نجمعها تحت لواء نظرية واحدة ، يدور محورها حول التكوين الثقافي لكل طبقة اجتماعية داخل المجتمع ومحاولة تفسير السلوك الإجرامي عبر هذا التكوين الثقافي الخاص بالطائفة التي ينتمي إليها المجرم. وأهم الدراسات التي أجريت في هذا الصدد ما قام به كوهين Cohen ، وكذا العالمان كلاوارد Cloward وأوهلين Ohlin[27].
85- أ : نظرية كوهين[28] :
انصب اهتمام العالم الأمريكي ألبرت كوهين Cohen على إجرام الأحداث ممن ينتمون إلى الطبقات الدنيا في المجتمع. وقد أشار في أبحاثه التي نشرها عام 1955 إلى أن هناك صراع ينشأ بين معايير السلوك الاجتماعي لدى الطبقة الدنيا وتلك المتبناة من أفراد الطبقة الوسطى[29]. وأشار إلى أن الغلبة دائماً تكون لمعايير تقدير السلوك التي تعارفت عليها الطبقة الوسطى. بحيث أن الفرد الذي تفرزه الطبقات الدنيا يتم تقدير مكانته في المجتمع على ضوء معايير كونها أفراد ينتمون إلى الطبقة المتوسطة ، الأمر الذي يجبره على تقبل أهداف وقيم الطبقة الوسطى ، خاصة وأن هناك عوامل متعددة تدفعه إلى هذا القبول : كطلب والديه ضرورة الوصول إلى مركز مرموق وأفضل مما هما عليه ، ودعوة وسائل الإعلام المتكررة بضرورة الارتقاء بالقيم وضرورة الوصول لمراتب أفضل في السلم الاجتماعي.
غير أن الفرد يظل غير قادر على التكيف مع أهداف الطبقة الوسطى أو تحقيقها بالوسائل الاجتماعية المقبولة. فالفرد من بين الطبقات الدنيا ينشأ من الناحية الاجتماعية في ظل نظام يجعله يعيش يومه دون التفكير في مستقبله ، ولا يعرف من الطموح عادة إلا قدرا ضئيلا ، ويستسهل الاعتداءات البدنية واللفظية ، وهو ما يجعله يعيش في مركز اجتماعي أدنى من نظيره في الطبقة الوسطى ، ويجد نفسه في إطار نظم يديرها أفراد الطبقة الوسطى ويحكمون عليه وفقا لمعاييرهم ، ويصبح غير مؤهل اجتماعياً للتوافق مع قيمهم وأهدافهم.
ولما كان طفل الطبقة الدنيا قد تيقن أن ارتفاع شأنه في الحياة الاجتماعية لابد أن يمر من خلال تبني القيم السائدة في الطبقة الوسطى ، كما تيقن من أن ظروفه تحول دون تطبيقها ، فإن احترامه لنفسه يهبط ويصادف مشكلات شائكة في التكيف مع المجتمع. ولمواجهة تلك المشكلات ، فإن الطفل يبدأ في تكوين أفكار خاصة به أو ثقافة فرعية Subculture تتميز بخصائص معينة وحيث يسعى إلى تحقيق مركز له فيها فيدفعه ذلك إلى ارتكاب الجرائم. وبتراكم هذه الجزئيات تتشكل في العادة ما يسمى بعصابات الأحداث الإجرامية.
لا شك أن كوهين قد أصاب بعض الحقيقة في مجال تفسير الظاهرة الإجرامية في مجال جرائم الأحداث التي تأخذ النمط الجماعي. غير أن أبحاث كوهين قد انتقدت من أكثر من زاوية :
- فقد قيل أن خصائص الثقافة الفرعية التي يكونها الحدث لنفسه ليست مقصورة على طبقته وحده. والدليل على ذلك أن من ينتمون إلى الطبقة الوسطى قد يرتكبون ذات الجرائم الخاصة بالطبقة الدنيا على الرغم من عدم تكون ثقافة فرعية تخصهم.
- كما عيب على تلك النظرية أنها اعتمدت على منهج تاريخي في البحث ، أي أنها تبحث في السبب الذي من أجله تكونت الثقافة الفرعية ، الأمر الذي يستوجب البحث في الدوافع النفسية التي تقف وراء تشكل تلك الثقافة لدى الأجيال السابقة ، وهي مهمة يصعب - إن لم يكن من المستحيل - إجرائها.
86- ب : نظرية كلاوراد وأوهلين[30] :
ذهب العالمان كلاوارد Cloward وأوهلين Ohlin إلى التمييز بين ثلاثة أنواع من الثقافات الفرعية Subcultures ، ترتبط جميعها بالتركيب الاجتماعي : الثقافة الفرعية الإجراميةCriminel subculture ، الثقافة الفرعية التنازعية Conflict subculture، وأخيراً الثقافة الفرعية التراجعيةRetreatist subculture.
أما الثقافة الفرعية الإجرامية فتتواجد على وجه الخصوص في الطبقات الدنيا حيث يبدو المجرمون أكثر استعداداً للاندماج مع الأحداث الذي يعيشون في هذا الوسط. فهؤلاء المجرمون لا يختلطون بالنماذج البشرية التقليدية التي حققت نجاحاً من خلال القنوات الشرعية في المجتمع وإنما يجدون أمامهم نماذج إجرامية ناجحة يتمثلون سلوكها. بينما تبرز الثقافة الفرعية التنازعية في الأوساط الصغيرة المفككة اجتماعيا ، والتي لا يتضح فيها الفارق بين الوسائل المشروعة والوسائل غير المشروعة. وإزاء هذا الغموض يختار الحدث العنف كوسيلة لإثبات مكانته في المجتمع ليس فقط لأن في ذلك تنفيسا عن الغضب والإحباط المكفوفين ولكن لأن طريق العنف ميسور. أما الثقافة الفرعية التراجعية فتتعلق بالحدث الذي يخفق في تكوين ثقافة فرعية إجرامية أو تنازعية والذي يميل عندئذ إلى الانسحاب أو التراجع عن المجتمع بإدمان الكحوليات والعقاقير المخدرة.
ويرى كلاوارد وأوهلين أن سلوك الفرد يختلف حسب مشروعية أو عدم مشروعية الوسائل التي توجد تحت تصرفه والتي يتيحها له التركيب الاجتماعي والطبقي الذي ينتمي إليه بثقافته. وعلى ذلك ، إذا كان التركيب الاجتماعي يستسهل الاعتداءات البدنية والسرقات المصحوبة بعنف ، ويشجع على استعمال المواد والعقاقير المخدرة ، فإنه سوف يتوالد الحدث الذي تتكون لديه ثقافة فرعية خاصة تتوافق مع قيم هذا التركيب الاجتماعي. أما حينما يحول التركيب الاجتماعي بين الحدث وبين الوسائل غير المشروعة بمختلف أنواعها فإنه لا مجال لأن تتشكل عقلية أو ثقافة فرعية تحبذ الجريمة وتشجع عليها.
وقد عيب على هذه النظرية عدم امكان خضوع بعض فروضها للتجربة العملية ، مما يشكك في صدق النتائج التي توصلت إليها. وربما يعود ذلك إلى غموض بعض الاصطلاحات التي استخدمتها كمصطلح الفرص النسبية Differential opportunities ، الفشل المزدوج Double failure ، استبعاد الذنب Elimination of guilt. فضلاً عن أن بعض النتائج التي خلصت إليها هذه النظرية لا تتفق مع الواقع. ومن ذلك أنها ربطت بين كل نوع من أنواع الثقافة الفرعية ونوع آخر يقابله من التركيب الاجتماعي. ومع ذلك فقد أثبت الدراسات التي أجريت في بعض المناطق التي تسود فيها معدلات إجرامية مرتفعة أنه تسود بهذه المناطق أكثر من ثقافة فرعية. كما أثبتت أبحاث أخرى أجريت على الجمهور خارج السجن بطريق الاستبيانات غير المسماة Anonomous questionnaires إلى أن معظم أفراد الجمهور من كافة الطبقات يرتكبون أفعالا تعد جرائم وأن الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الشخص لا تؤثر كثيرا على تلك النتيجة[31].
المطلب الثاني : نظريات اللأنظام
Théories de l’anomie
87- أولاً : نظرية دوركايم [32]:
تنسب فكرة اللانظام Notion d’anomie إلى عالم الاجتماع الفرنسي الشهير Emile Durkheim (1858-1917). وقد نشر دوركايم أفكاره في مؤلفاته "تقسيم العمل الاجتماعي عام 1893" وقواعد المنهج الاجتماع عام 1895 والانتحار في عام 1897. وقد أوضح خلال تلك المؤلفات ثلاثة أمور : الأول : حتمية الجريمة كظاهرة اجتماعية ، لا يخلو منها أي مجتمع ، لارتباطها بتنظيم الحياة في جماعة. فمن المستحيل أن يتماثل كل الأفراد المكونين للمجتمع وأن يوجد لديهم نفس القدر من الضمير الاجتماعي Conscience sociale. فلا بد أن يوجد من يشذ البعض عما يشكل الضمير الاجتماعي العام فتتولد الجريمة.
وأشار دوركايم إلى معيارية السلوك الإجرامي. بمعنى أن الفعل لا يوصف بأنه جريمة بالرجوع إلى خصائصه الذاتية التي تميزه عن غيره ، وإنما يوصف كذلك لأن المجتمع اعتبره كذلك ، حينما يشذ هذا السلوك عن الضمير الاجتماعي.
أما الأمر الثاني الذي كشف عنه دور كايم فهو أن الجريمة ضرورة لا غنى عنها لإحداث التغيير الاجتماعي ، وبدونها سيصاب المجتمع بنوع من الركود Stagnation.
وأخيراً أوضح دوركايم إلى أن واحدا من أهم مقومات المجتمع يكمن في تماسكه والتضامن الاجتماعي بين أعضائه والذي يمثل ضميراً جماعياً Conscience collective.
وقد ميز دوركايم بين نوعين من التضامن : التضامن الآلي Solidarité mécanique ، والتضامن العضويSolidarité organique. أما النوع الأول فيميز المجتمعات البدائية حيث يظهر فيها جلياً ضمير اجتماعي تعكسه القواعد القانونية في المجتمع ، وتفرض للخروج عليه جزاءً مناسباً. ومن شأن التهديد بهذا الجزاء الحفاظ على التضامن الآلي في المجتمع.
بينما يميز النوع الثاني المجتمعات الحديثة القائمة على تقسيم العمل. ففي مثل هذه المجتمعات تضعف عوامل التضامن التي كانت تعرفها المجتمعات البدائية ، الأمر الذي أثر في فلسفة القانون بأن انتقل مركز الاهتمام من الضمير الجماعي إلى الضمير الفردي ومراعاة جانب المجني عليه ، وأصبح القانون يستهدف تعويض المجني عليه المضرور من الجريمة ، أكثر مما يستهدف عقاب الجاني.
وفي هذا القالب المجتمعي الجديد الذي ينقصه التجانس الاجتماعي تنطلق العواطف ويعيش الفرد في عزلة معنوية واجتماعية ، الأمر الذي يخلق حالة من اللاقانون أو اللانظام تحل محل التضامن السابق ، وفي هذا القالب الاجتماعي يسهل ارتكاب الجرام.
وقد عيب على نظرية دوركايم اهتمت فقط بربط الظاهرة الإجرامية بالتركيب أو التنظيم الاجتماعي وأنها لم تفلح في بيان الكيفية التي بها يصبح الفرد مجرماً. كما أن هذه النظرية لم تفسر لنا علة تباين ردود أفعال الأفراد في الفروض التي يجمعهم فيها تنظيم اجتماعي واحد.
88- ثانياً : نظرية ميرتون [33]:
تأثر عالم الاجتماع الأمريكي روبرت ميرتون Robert Merton بأفكار دوركايم ، محاولاً الإجابة على ما لم تفلح نظرية هذا الأخير في الإجابة عليه. فقد حاول ميرتون الإجابة على التساؤل الآتي : لماذا تتباين ردود أفعال أشخاص يعيشون معا في نفس الوسط الخارجي ؟
وفي محاولته الإجابة على هذا التساؤل أوضح ميرتون أن لصور التركيبات الاجتماعية Social structure على اختلافها خصيصتين : أولاهما أن تلك التركيبات تتبنى أهدافا يصبو إليها أفراد المجتمع ، وثانيهما أنها تتخير الوسائل الكفيلة ببلوغ تلك الغايات وتعترف بها.
ولديه أن بعض المجتمعات تهتم بالأهداف وبعضها الآخر بالوسائل بينما تتخذ غالبيتها موقفاً وسطا. ويكشف عن أن الحضارة الأمريكية المعاصرة تركز أساساً على الأهداف على حساب الوسائل ، وأن الهدف الرئيسي هو النقود التي صارت رمزا للهيبة والمكانة الاجتماعية ، وصارت في ذاتها قيمة من القيم. ولكنها في مثل ذلك المجتمع قد تحولت إلى قيمة غير متناهية ، حيث لا يقنع الأمريكيون ببلوغ أي حد منها وإنما يطلبون دائما المزيد , وفي نفس الوقت ، فإن الأمريكيين يواجهون ضغطا من نوع آخر يتمثل في الطموح الزائد ، فالأهداف الكبرى يضعها الجميع نصب أعينهم وكل يسعى إلى بلوغها.
ويتوقف تقيم سلوك الأفراد من حيث مطابقته للقانون أو مخالفته له (جريمة) - على حسب موقفهم من الهدف والوسائل المؤدية إليه. وهنا تظهر خمسة احتمالات تشكل ردود أفعال الأفراد تجاه الهدف وتجاه تلك الوسائل : التطابق Conformity ، والتجديد Innovation ، والتعلق بالطقوس Thuolism ، والتراجع Retreatism ، والتمرد Rebelition.
فالتطابق يعني قبول الهدف والوسيلة معاً ، وهنا يكون الفرد قد تلائم اجتماعياً مع المجتمع في صورة تطابق السلوك مع القواعد القانونية المنظمة لهذا المجتمع. أما التجديد فيعني قبول الأهداف ورفض الوسائل المؤدية إليها. وهو ما يحدث عندما يتطلب المجتمع من الجميع تحقيق أهداف معينة ولكنه في ذات الوقت يضع معوقات أمام الطبقة الدنيا في المجتمع لبلوغ تلك الأهداف مما يؤدي بأفراد هذه الطبقة إلى ارتكاب الجرائم.
ويشير التعلق بالطقوس إلى رفض الأهداف وقبول الوسائل ، الأمر الذي يحدث ذلك عندما يألف الإنسان أداء بعض الأعمال دون تفكير في سبب أدائه لها. ويكثر هذا الموقف على وجه الخصوص لدى أفراد الطبقة المتوسطة ، التي تتشكل عادة من أرباب الوظائف الأميرية) ، الذين يقنعون بأوضاعهم ، ويقل لديهم الشعور بالطموح والرغبة في التغيير.
أما التراجع فيشير إلى الشخص الذي يتقبل في النهاية الأهداف والوسائل ولكنه يفشل أكثر من مرة في الوصول إلى الهدف بالوسائل المشروعة. وفي نفس الوقت ، فإن هذا الشخص لا يستطيع الالتجاء إلى الوسائل غير المشروعة وعندئذ يجد نفسه عاجزا عن تحقيق الهدف بأية وسيلة ويجد نفسه منفصلا عن المجتمع. ويحدث هذا على وجه الخصوص من قبل مرضى العقول والمنبوذين اجتماعيا والمتشردين والمتسولين ومدمني المخدرات.
بينما يعني التمرد رفض الأهداف والوسائل في محاولة لإقامة نظام اجتماعي جديد.
ورغم محاولة ميرتون الجادة في إظهار الميكانيزم الذي تتوالد به الجريمة في إطار تركيب اجتماعي معين ، وعلة تباين سلوك الأفراد في الوسط البيئي الواحد ، إلا أنها قد تعرضت للنقد في أكثر من جانب[34] :
- فقد قيل بأن هذه النظرية قاصرة عن تفسير بعض الأفعال الإجرامية. فقيل أنها لا تصلح لتفسير الجرائم التي تقع لغرض غير نفعي ، كتلك التي تقع لمجرد المرح مثلا. كما أنها لا تفسر الجريمة في المجتمعات التي لا تقوم على اعتبار المكانة أو المركز هدفا مفتوحا للجميع.
- وقد عيب عليها أيضاً طابعها النظري المحض ، إذ لم تقترن النظرية بإجراء أبحاث تجريبية تثبت صحة افتراضاتها.
- كما أن موقف التجديد الذي يفسر لدى ميرتون إجرام أفراد الطبقات الدنيا يوجد ولا شك أيضا بين أفراد الطبقتين الوسطى والعليا.
- وأخيراً فإن نظرية ميرتون لا تقيم وزناً لا للمتغيرات الاجتماعية النفسية Social-psycological variables ولا لعناصر التركيب الاجتماعي التي قد تقف وراء ترجيح أحد الاحتمالات الخمسة على ما سواه لدى فرد بعينه.
المطلب الثالث : النظرية الاقــتــصــاديــة
Théorie économique
89- أولاً : مضمون التحليل الاقتصادي للجريمة :
يهدف التحليل الاقتصادي للجريمة L’analyse économique du crime إلى الربط بين الظاهرة الإجرامية وبين مختلف الظروف الاقتصادية ، أي محاولة إعطاء الجريمة تفسيراً اقتصادياً[35]. ولا شك أن تلك المحاولات تعود من الناحية التاريخية إلى سنوات بعيدة حملتها مؤلفات الفلاسفة اليونانيين من أمثال أفلاطون وأرسطو لدى اليونان والرومان من أمثال هوراس وفيرجيل.
وفي القرن السادس عشر حاول توماس مور - كأحد الفلاسفة الخياليين Utopiques أن يربط بين ارتفاع معدل الجريمة في المجتمع الإنجليزي وبين بعض الظروف الاقتصادية كانتشار الفقر والبطالة الذين تفشا على أثر انتزاع ملكية مساحات من الأراضي الزراعية من أيد أصحابها. ومن بعد أشار عدد من المفكرين – من أمثال بكاريا وفولتير - أن الجريمة – وبخاصة السرقة – تتوالد بفعل الفقر. وأن السبيل الأول لمكافحتها – على حد قول الفيلسوف الإنجليزي بنتام – هو توفير سبل العيش الشريف ومكافحة البطالة.
بيد أن التفسير الاقتصادي للظاهرة الإجرامية لم يتبلور في العصر الحديث إلا على يد كارل ماركس Marx وزميله فردريك أنجلز Angels على أثر إعلانهما بيان الحزب الشيوعي في عام 1848 ، ممهدين لقيام ما يسمى بالمدرسة الاشتراكية L’école socialiste ، والتي من بين أفكارها الربط بين السلوك الإجرامي وبين ميكانيزم النظام الرأسمالي القائم على الملكية الخاصة والمنافسة الحرة ومرونة العرض والطلب. هذه الرابطة التي تقوم لديهم على مبدأ الحتمية الاقتصاديةLa déterminisme économique ، أي النظر للعامل الاقتصادي بحسبانه العامل الوحيد في الدفع نحو الجريمة. والعامل الاقتصادي هنا لا يفهم بمعنى النظام الاقتصادي ، ولكن يفهم على أنه النظام الرأسمالي بالتحديد[36].
وعلى الرغم من أن ماركس لم يضع نظرية علمية منهجية لتفسير الظاهرة الإجرامية على ضوء العامل الاقتصادي ، إلا أن ذلك التفسير ينجم حتماً عن نظرته إلى طريقة الإنتاج في المجتمع الرأسمالي. ففي نظر ماركس أن الميكانيزم الرأسمالي القائم على الملكية الخاصة يفضي إلى الفقر الذي يقسم المجتمع إلى طبقتين : الأولى يمثلها الرأسماليون البرجوازيون الذين يملكون وسائل الإنتاج والثانية يمثلها العمال أو الطبقة الكادحة أو طبقة البروليتاريا ، الذين تستغلهم الطبقة الأولى لتحقيق أقصى قدر ممكن من الربح.
وهكذا تتولد الجريمة من زاويتين : الأولى رغبة الرأسماليون في تحقيق أكبر نسبة ربح ، الأمر الذي يدفعهم لارتكاب جرائم الرشوة والتهرب الضريبي والجمركي والغش التجاري. وهكذا يصبح القانون عامة ، والقانون الجنائي خاصة ، وسيلة الطبقة البرجوازية في الصراع ضد أفعال طبقة العمال. والزاوية الثانية هي ارتكاب الطبقات الكادحة للجريمة أملاً في الحصول على مال يستعينون به على قضاء الحوائج أو انتقاماً من المجتمع الذي فسد نتاج سوء توزيع الثروة. فالعامل في المجتمع الرأسمالي يعاني من سوء المعاملة وضآلة الأجر وطول ساعات العمل ، وبالجملة اختلال في علاقات العمل والأسرة ، وكلها عوامل تدفع ولا شك إلى تيار الجريمة.
وهكذا ينتهي التحليل الاشتراكي للظاهرة الإجرامية إلى أن مكافحة هذه الأخيرة لا يتأتى إلا من خلال تغيير النظام الاقتصادي ككل ، بحيث تصبح ملكية الدولة لأدوات ووسائل الإنتاج أساس الملكية في المجتمع ، وتصبح العدالة الاجتماعية هي أساس توزيع الثروة والربح.
ولقد شاع منطق المدرسة الاشتراكية بين علماء كثيرين في كل من ألمانيا وبلجيكا وفرنسا وهولندا[37]. ومن بين هؤلاء العلماء يذكر بصفة خاصة عالم الإجرام الهولندي وليام أدريان بونجر William Adrian Bonger (1876-1940) ، الذي نشر في أمستردام عام 1905 مؤلفاً أسماه "الإجرام والظروف الاقتصادية" Criminality and Economic Conditions ، تناول فيه مساوئ النظام الرأسمالي وأثر المنافسة الحرة ونظم الأجور والأسعار على حركة الإجرام[38].
ونقطة البدء عند بونجر كانت حينما انصرف لدراسة حياة الشعوب البدائية كاشفاً عن أن تلك الشعوب كانت تتميز بوجود مشاعر الإيثار والغيرية "حب الغير" ، وغلبة روح التضامن الاجتماعي بين أفرادها. ويربط بونجر هذه المشاعر بالنظام الاقتصادي وبنمط الإنتاج الذي كان يسود الأوساط الاجتماعية في تلك الفترات الزمنية. فالإنتاج في مثل تلك المجتمعات كان يستهدف إشباع الاستهلاك الشخصي دون التبادل ، بحيث لا يبقى ثمة محل للملكية وتكديس الثروات الخاصة. وعندما كان يتحقق في تلك المجتمعات فائض إنتاج فإن الرخاء كان يعم الجميع ، وعندما كان يشح الطعام فالكل يتساوون في تلك الأزمة.
وينتقل بونجر إلى الكشف عن بعض ما يسود المجتمع الرأسمالي المعاصر من سمات تناقض الصورة السابقة داخل المجتمع البدائي. ففي ظل النظام الرأسمالي تغلب روح الأنانية ، بحكم أن الفرد هو محور اهتمام هذا النظام. كما أن الفرد في المجتمع الرأسمالي يعنى بالإنتاج من أجل نفسه ، ويهمه على وجه الخصوص تحقيق فائض منه لكي يبادله بأرباح أخرى ، وهو في ذلك لا يلقي بالاً لحاجات الآخرين. فالمنتج في السوق الرأسمالي الذي تسوده المنافسة الحرة يحاول بتشى الوسائل المشروعة وغير المشروعة الصعود أمام منافسيه والترويج لبضاعته. الأمر الذي قد يدفعه إلى ارتكاب أفعال إجرامية كالنصب والغش والدعاية الكاذبة...الخ.
هكذا يخلق النظام الرأسمالي مناخا عاما يكثر الشعور بانعدام المسئولية الاجتماعية ، وتقوى فيه بصورة واضحة الاحتمالات أمام الفرد لكي يصبح مجرماً ، بل أن بونجر قد ذهب إلى حد القول بأن هذا المناخ العام لا يزيد فقط من فرص ارتكاب الجريمة بل يخلقها خلقا.
90- ثانياً : تقدير التحليل الاقتصادي للجريمة :
مما لا شك فيه هناك ارتباطاً جلياً بين الظروف الاقتصادية وبين تطور الظاهرة الإجرامية كماً ونوعاً. فقد صحب التحول من الاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد الصناعي في القرن التاسع عشر تحول الإجرام من إجرام عضلي قائم على العنف إلى إجرام ذهني قائم على الذكاء. ومن المؤكد أن تقلبات الأسعار والأجور وأسواق النقد تؤثر على حجم جرائم الأموال أو الجرائم الاقتنائية Délinquance acquisitive.
وقد كشفت دراسة أجريت في جامعة هارفارد على أكثر من مائتي حدث مجرم أن عامل الإجرام الرئيسي بين هؤلاء الأحداث هو هبوط مستوى الأسرة من الناحية الاقتصادية. كما كشفت بحوث أخرى عن أن الظروف الاقتصادية المواتية يقترن بها هبوط في معدل الجرائم ذات الطبيعة الاقتنائية بينما يرتفع هذا المعدل في فترات الأزمات الاقتصادية. ومن هنا فإن جانب من النجاح في الوقاية من الجريمة يتوقف على الإصلاح الاقتصادي في المجتمع[39].
غير أن هناك بعض المآخذ التي يمكن رصدها بحق التحليل الاقتصادي للظاهرة الإجرامية ، نوجزها فيما يلي :
- قيل أن العامل الاقتصادي لا يصلح وحده سبباً دافعاً للجريمة. فمن الصعوبة بمكان وضع العامل الاقتصادي بمعزل عن بقية العوامل الإجرامية الأخرى والقطع بأنه هو الذي تسبب في وقوع الجريمة. فالظاهرة الإجرامية ظاهرة متعددة المظاهر مترامية الأبعاد ، يدفع إليها خليط من العوامل بعضه نفسي (كالانحرافات الغريزية) وبعضه بيولوجي وبعضه اجتماعي (كتصدع الأسرة وأصدقاء السوء).
- كما قيل أنه لو صح التحليل الذي قالت به هذه النظرية لوجب اختفاء الجريمة في المجتمعات الاشتراكية ، وإقدام الأشخاص الذين يعيشون في المجتمعات الرأسمالية على ارتكاب الجريمة ، وهو ما لا يتفق بحال مع الواقع ، إذ مازالت تعم الجريمة – وربما بشكل أكبر - المجتمعات التي طبقت النظام الاشتراكي. كما أن الكثيرين من أفراد المجتمع الرأسمالي – وإن ساءت أحوالهم المعيشية – لم يقدموا على السلوك الإجرامي.
- كما قيل أن التحليل الاقتصادي لا يصلح وحده لتفسير بعض المظاهر الإجرامية التي تشيع في العصر الحديث كظاهرة العود إلى الجريمة واحتراف الإجرام.
- وأخيراً فإن التحليل الاقتصادي ليس له من دلالة إلا في نطاق جرائم الأموال أو الجرائم الاقتنائية ، أي تلك القائمة على الاستيلاء على مال الغير. ومن ثم لا تصلح تك النظرية في تفسير الجرائم الأخرى كجرائم الاعتداء على الأشخاص والجرائم الماسة بالعرض وبالشرف وبالاعتبار. ومن المعلوم أن الجرائم الأخيرة لا تباشر الظروف الاقتصادية إزاءها إلا تأثير ضئيل.
المطلب الرابع : النظرية البيئية
Théorie écologique
91- أولاً : مضمون النظرية البيئية :
منطق النظرية البيئية أو الأيكولوجية هو الربط بين الظاهرة الإجرامية من ناحية وبين البيئة المحيطة من ناحية أخرى. ففي حيز عمراني معين (مدينة مثلاً) قد تتشكل مناطق جناح Delinquancy areas بفعل الظروف البيئية داخل هذا الحيز. وقد شاع هذا المنطق في العشرينات والثلاثينيات من القرن العشرين على أثر عدة أبحاث أجريت في جامعة شيكاغو[40].
ومن أهم الدراسات التي أجريت في هذا الشأن تلك التي قام بها كليفارد شو[41] Shaw منذ عام 1930 والتي أثبت خلالها أن معدل الإجرام يرتفع في وسط مدينة شيكاغو ويهبط تدريجياً كلما بعدت المسافة عن ذلك الوسط ، أي في ضواحي المدينة والمناطق الصناعية بها. ولاحظ أيضاً أن أعلى معدلات الجريمة ومناطق تركز العصابات الإجرامية توجد في الأماكن المكتظة بالسكان والمفككة اجتماعياً الواقعة بالقرب من مراكز الأعمال. فقد لاحظ على تلك المناطق – التي أسماها مناطق الجناح Delinquency areas - معاناتها من عدم كفاءة السكن ، وعدم وجود أماكن لممارسة الأنشطة الرياضية ، وزيادة نسبة تشغيل الأطفال ، وكثرة الهروب من المدارس ، وعدم تجانس العنصر السكاني نتيجة كثرة المهاجرين.
و يشير شو إلى أن معدل الجريمة يرتفع في المناطق التي هجرها سكانها الأصليون تدريجياً وحل محلهم فيها أناس هامشيون يكادون يعيشون على حد الكفاف كالسود والمهاجرين. وتفسير ذلك أن هؤلاء القادمون مختلفين في تكوينهم الثقافي ، الأمر الذي يخلق فيما بينهم صراعات حادة فتتغلب عوامل التفكك على عوامل التماسك الاجتماعي وتنتشر الجريمة.
وهكذا فإن الظروف الاجتماعية غير المواتية - في منطق النظرية الإيكولوجيكية أو البيئية - من انخفاض مستوى المعيشة والجهل والازدحام والسكن غير الصالح لا تفسر بذاتها الظاهرة الإجرامية ، وإنما تبدو كإفراز أو أعراض لنظام اجتماعي متفسخ Degenerative تغيب عنه مقومات وخصائص التنظيم الاجتماعي السليم. الأمر الذي يحتم على الإدارة المحلية أن تولي عنايتها بتلك المناطق إذا ما أريد مكافحة الجريمة فيها.
92- ثانياً : تقدير النظرية البيئية :
في الحقيقة أن النظرية البيئية لم تعد تلقى حالياً الاهتمام الذي نالته في السنوات الأولى من القرن العشرين ، وذلك لتعدد أوجه النقد الذي وجه إليها :
- فقد قيل أنه إذا كان صحيحا أن نسبة كبيرة من الجرائم مصدرها المناطق "الفاسدة" في المدن الكبرى ، فإن هذا لا ينفي أن جرائم كثيرة أيضاً يرتكبها من يعيشون في رغد من العيش.
- كما أن ارتفاع معدل الإجرام في المراكز التجارية بوسط المدن لا يعني بالضرورة أن ذلك المعدل في حقيقته أعلى من نظيره في المناطق الأكثر بعداً عن هذا الوسط. ذلك أن ارتفاع المعدل المذكور قد يرجع سببه إلى تزايد نشاط الشرطة في تلك المناطق إذا ما قورنت بالأحياء الأخرى من المدينة
- وأخيراً عيب على النظرية البيئية أنها لم تعطي تفسيراً شاملاً لكل صور السلوك الإجرامي وإنما انصب اهتمامها في دائرة جرائم الأموال ، وعلى الأخص التي تقع في نطاق عصابات الأحداث الإجرامية.
المطلب الخامس : النظرية العرقية
Théorie raciale
حاول البعض – من أمثال كانادي Canady وسيلين Sellin وهيرش Hirsch - الربط بين الظاهرة الإجرامية وبين الس لالة أو العرق ، قائلين أن بعض الأعراق يرتفع لديها معدل الإجرام إذا ما قورنوا بالأعراق الأخرى. فقد لاحظ البعض – وعلى نحو ما سنفصله فيما بعد - ارتفاع معدلات الجريمة بين طوائف السود والزنوج في الولايات المتحدة ، في الوقت الذي يقل فيه هذا المعدل بين الأقليات الأخرى من اليابانيين والصينيين.
وقد حاول البعض – من أمثال وليام بونجر Bonger - تفسير هذا التفاوت من خلال دراسة التركيب الاجتماعي لتلك الأعراق[42]. فقد لاحظ هذا العالم قوة وتماسك نظام العائلة لدى الأقليات الشرق آسيوية وصلابة التركيب الاجتماعي الذين يعيشون فيه ، إذا ما قورن بالأمر الحادث لدى الزنوج الأمريكيين.
والواقع أنه لم يعد مقبولاً في أوقاتنا تلك الربط بين العنصر والجريمة[43]. فلا يمكن للعنصر بذاته أن يشكل سبباً للجريمة. فما أجرى من دراسات لم ينصب إلا على إجرام العنصر الزنجي ، الأمر الذي يصعب معه تعميم النتائج التي قالت بها هذه النظرية على كافة أنواع النشاط الإجرامي لدى العناصر الأخرى. وحتى في إطار إجرام الزنوج ، فإن الدراسات التي أثبتت ارتفاع معدل الجريمة بين الزنوج الأمريكيين قد أغفلت أن ارتفاع هذا المعدل قد يعود بالدرجة الأولى إلى عوامل اقتصادية وإلى نظام إدارة العدالة الجنائية في المجتمع الأمريكي.
فالمشاهد أن نسبة الفقر أكثر ارتفاعا بين السود عن مثيلتها لدى البيض. كما أن الزنوج يجبرون لأسباب اقتصادية واضحة على العيش في أحياء سكنية في مدن يغلب عليها التفكك الاجتماعي.
كما أن نظام إدارة العدالة الأمريكية قد يفسر اختلاف إجرام الزنوج عن إجرام البيض. فبعض الجرائم لا تتم المحاكمة بشأنها إلا إذا كان مرتكبها من السود. وأن النشاط الشرطي يزداد في مناطق هؤلاء. كما أن القضاة هم في العادة من البيض مما يجعل احتمالية التعسف قائمة تجاه العنصر الزنجي.
كما كشفت الدراسات عن أن جنس المجني عليه يعول عليه في المحاكم من الناحية الفعلية. ويؤكد ذلك أن عقوبة الإعدام كان يندر النطق بها ضد زنجي قتل زنجيا آخر ، بينما كان يحكم عليه بتلك العقوبة لجرائم أقل خطورة ارتكبها ضد واحد من البيض. وإذا كان الجزاء هو سلب الحرية ، فإن الزنجي يتلقى في السجن معاملة أدنى من مثيلتها فيما يتعلق بالنزيل الأبيض. كل هذا لابد وأن يعبئ نفسية الزنوج في مواجهة البيض ، وتصبح الجريمة هي المتنفس الوحيد لهؤلاء تعبيراً عن الغضب تجاه أزمة العدالة الجنائية.
المبحث الثاني : نـظـريـات الـكـيـفـيـة الاجـتـمـاعـيـة
Théories de processus sociale
93- تمهيد وتقسيم :
على الرغم مما كان لنظريات التركيب الاجتماعي من أهمية في البحث عن أسباب الجريمة بعيداً عن الجوانب البيولوجية والنفسية لشخص المجرم ، غير أنها ظلت مع ذلك قاصرة عن إعطاء تفسير موحد للظاهرة الإجرامية ، ذلك أن التلازم ليس حتمياً بين الجريمة وبين المعيشة في ظل تركيب اجتماعي معين. فقد يعيش شخص في ظل التركيب المعتبر مولداً للإجرام في عرف أنصار تلك النظريات ولا يندفع الشخص رغم في تيار الجريمة. بل إن بعض المجرمين قد لا يعبرون عن ردود أفعالهم بوسائل إجرامية. وعندئذ ينبغي التساؤل عن السبب في تفاوت ردود أفعال الأفراد رغم وحدة البيئة الاجتماعية التي يعيشون فيها. بمعنى لماذا يرتكب البعض الجريمة دون البعض الأخر رغم توحد التنظيم الاجتماعي الذي يضمهم ؟
من هنا ظهر ما يعرف بنظريات الكيفية الاجتماعية ، والتي تعنى ببيان الميكانيزم الذي يصير من خلاله الشخص مجرماً. ومن أهم النظريات التي قيل بها في هذا الشأن : نظرية التقليد ، نظرية الاختلاط الفارق ، نظرية المصدات أو المفاهيم الذاتية ، وأخيراً نظرية الوسم الإجرامي.
المطلب الأول : نظرية التقليد
Théorie d’imitation
تنسب نظرية التقليد إلى القاضي وعالم الاجتماع الفرنسي جبريل تارد Tarde - (1904-1843 ) Gabrie، والتي عرض لها في مؤلفاته "الإجرام المقارن عام 1886 ، والفلسفة الجنائية في عام 1890 ، وقوانين التقليد عام 1890". مؤكداً هذا العالم على أن الفرد لا يولد مجرماً – على النقيض مما قال به أنصار النظريات البيولوجية - وإنما يندفع إلى تيار الجريمة بفعل العوامل الاجتماعية ، وعلى الأخص التأثر بالمثال الاجتماعي ، أي التوجه إلى سلوك معين تحت تأثير المثال الذي يضربه بعض الأفراد في المجتمع للآخرين. وهكذا يرى تارد أن التقليد Imitation هو الذي يفسر ارتكاب الجريمة. فالفرد لا يأتي سلوكاً إجرامياً إلا لأنه يقلد في ذلك غيره[44].
ولدي تارد ثلاثة مبادئ تحكم فكرة التقليد : الأول أنه كلما زادت درجة تماسك العلاقات الاجتماعية بين الأفراد كلما ازداد مستوى تقليد بين بعضهم البعض. أما الثاني فمؤداه أن الأدنى درجة في المجتمع يقلد من هو أعلى منه درجة. فأهل الريف والفلاحون يقلدون أهل الحضر أوملاك الأراضي الزراعية. وسكان القرى أو المدن الصغرى يقادون سكان المدن الكبرى. بينما يتعلق المبدأ الثالث بقانون الإدماج Law of insertion ، والذي يعني أنه إذا تواجدت عادتان متضاربتان في ذات الوقت فإن أحدثهما تتفوق على أقدمهما. ومثال ذلك أن استعمال السكين كأداة للقتل كان شائعا قبل ظهور الأسلحة النارية ، وبعد شيوع تلك الأخيرة ظلت السكين كأداة للقتل ولكن الوسيلة الحديثة (الأسلحة النارية) زاحمتها وكانت لها الغلبة عليها.
وإذا أردنا أن نقيم تلك النظرية فإنه مما لا شك فيه أن تلك النظرية قد أصابت قدر من الحقيقة التي تتصل بالظاهرة الإجرامية. فالواقع يكشف عن أن بعض الجرائم ما ارتكبت إلا لأن الفرد قد تمثل نموذجاً اجتماعياً سيئاً في محيط بيئته الاجتماعية.
غير أنه عيب على تلك النظرية أنها أغفلت تماماً دور العوامل العضوية والنفسية في الدفع نحو السلوك الإجرامي. فمن السهل أن نتكشف المعالجة المخلة من قيل تلك النظرية لمشكلة العوامل الإجرامية.
المطلب الثاني : نظرية الاخـتـلاط الـفـارق
Théorie de l’association différentielle
94- أولاً : مضمون الاختلاط الفارق :
ترجع نظرية الاختلاط الفارق[45] إلى عالم الاجتماع الأمريكي أدوين سذرلاند Edwin Sutherland ، الأستاذ بجامعة أنديانا ، والتي صاغها عام 1939 ، وشاركه فيها فيما بعد دونالد كريسي Donald Cressey ، حينما أشرف على إعادة طبع مؤلفه حول "مبادئ علم الإجرام" عام 1950. وفي البدء قصد سذرلاند تفسير الإجرام المنظم الذي يقوم على الاحتراف. ثم عاد بعد ذلك عام 1947 وجعل من نظريته أساساً لتفسير شامل للسلوك الإجرامي أياً كان نمطه[46].
ومؤدى نظرية الاختلاط الفارق أن السلوك الإجرامي مكتسب وليس موروثاً ويحدث من خلال التعلم. فكما أن الفرد لا يستطيع أن يخترع آلة ميكانيكية دون أن يتلقى تدريباً فنياً يتعلق بهذا الأمر ، فإن الفرد لا يندفع نحو السلوك الإجرامي طالماً لم يتلق تدريباً على ارتكاب الجريمة. فالجريمة لا تخترع بصورة ذاتية من قبل الشخص بل تكتسب من خلال الاختلاط أو الاتصال بمجتمع الفاسدين ، سواء اتخذ هذا الاتصال صورة شفوية أو من خلال اتخاذ المثال.
ويؤكد سذرلاند على أن السلوك الإجرامي يتم اكتسابه وتعلمه في إطار من العلاقات الشخصية ، وأن وسائل الاتصال غير المباشرة والتي لا تقوم على رابطة مباشرة بين الأفراد كوسائل الإعلام المسموعة والمقروءة لا تحدث تأثيراً جدياً في الدفع نحو الإجرام.
وفي منطق تلك النظرية أن تعلم السلوك الإجرامي يشمل أمرين : الأول تعلم فن الجريمة ، أي وسائل ارتكابها سواء آكانت بسيطة أم معقدة. أما الثاني فيتعلق بالتوجيه الخاص للبواعث والميول الغريزية والتبرير العقلاني للسلوك الإجرامي.
ويتوقف التوجيه الخاص للبواعث والميول الغريزية على ما إذا كان تفسير الأفراد للنصوص الجنائية متفقا مع القانون أم مخالفا له. فقد يختلط الشخص بأفراد يفسرون نصوص القانون بطريقة موحدة باعتبار تلك النصوص متضمنة قواعد سلوك واجبة الاحترام. وقد يجد الشخص نفسه في أحيان أخرى محاطاً بأفراد لا يحترمون نصوص القانون ، فيندفع في تيار الجريمة حينما يحبذ مثل هذا التفسير.
ويتخلص تلك النظرية إذاً إلى أن الفرد يصبح مجرماً عندما يتغلب التفسير المخالف للقانون على التفسير المطابق له. فحينما يختلط الشخص بجماعات مضادة للإجرام وتحرص على احترام القانون ، فإن الشخص تقوى لدية قوى المنع فيتآلف سلوكه مع الاتجاه الاجتماعي العام. أما حينما يختلط الشخص بنماذج من المجرمين فإن عدوى الجريمة تنتقل إليه بالتعلم شيئاً فشيئاً. لذا أطلق سذرلاند على نظريته اسم الاختلاط الفارق.
ويتفاوت الاختلاط الفارق في نظر سذرلاند على حسب أسبقيته ومدته الزمنية ونظرة الفرد لمن يخالطهم. فمن المسلم أن السلوك المطابق للقانون المكتسب منذ الطفولة يمكن أن يستمر مع الشخص طيلة حياته وكذلك الحال بالنسبة للسلوك الإجرامي. فالطفل الذي ينشأ في بيئة متدينة صالحة يدرك قيمة الأخلاق على مدار حياته كلها فيما بعد بحيث لا يتأثر بالمخالطات السيئة فيما بعد. كما أن الفرد الذي يخالط أكثر من جماعة يتأثر بسلوك وعادات الجماعة التي يخالطها مدة أطول. فالفرد قد ينشأ في بيئة صالحة ولكنه قد يخالط خارج المنزل جماعة من أصدقاء السوء مدة أطول من تلك التي يقضيها في المنزل فتحدث هذه الجماعة أثرها فيه. وأخيراً يتوقف تأثير المخالطة على نظرة الفرد لمن يخالطهم ، أي حسب درجة الهيبة التي يحظى بها النموذج الذي يخالطه الفرد ، إجرامياً كان أو غير إجرامي.
ورغم تصنيف نظرية سذرلاند ضمن نظريات الكيفية الاجتماعية ، إلا أنه قد كشف عن أن الاختلاط يختلف باختلاف التنظيم الاجتماعي. فالسلوك الإجرامي في تحليل تلك النظرية ليس سوى انعكاس للتنظيم الاجتماعي السائد. فكلما غلبت في حيز جغرافي معين مظاهر التفكك الاجتماعي Désorganisation sociale وضعف التجانس والتماسك بين أفراده وسادت "الفردية" كلما ارتفع معدل الإجرام في هذا الحيز. جملة القول أن هناك علاقة واضحة بين معدل الإجرام من ناحية ومستوى الأحياء السكنية من ناحية أخرى.
غير أن هذا الربط ليس حتمياً ، ذلك أن معدل الإجرام قد يزداد في بعض الأحياء رغم ارتفاع مستوى المعيشة وقوة وتماسك التنظيم الاجتماعي. فأطفال مناطق كتلك يولدون عادة متفتحين ، اجتماعيين يمارسون رياضتهم في الأندية ويزداد بينهم معدل الاتصال ، مما يعطي الفرصة لاختلاط النماذج السوية بالنماذج الإجرامية ويتلقون منهم تدريباً إجرامياً. بينما يضعف معدل الاتصال في الأحياء التي يقل فيها مستوى المعيشة فيقل تبعاً لذلك معدل تزاملات أو اختلاطات الطفل بالصبية المجرمين ، وبالتالي تقل احتمالات انجرافه في تيار الجريمة.
ويرى سذرلاند أن الارتكان إلى بعض البواعث والقيم – كالرغبة في الترقي الاجتماعي ، أو البحث عن الإشباع المالي أو الجنسي ، أو الشعور بالإحباط – لا يصلح لتفسير السلوك الإجرامي. ذلك أن ذات البواعث والقيم تصلح بنفس الدرجة لتفسير السلوك غير الإجرامي والمطابق للقانون. فهي أشبه بعملية التنفس التي تلزم لأي سلوك إجرامياً كان أو غير إجرامي. فالحاجة إلى المال مثلاً يمكن إشباعها بمضاعفة ساعات العمل ، كما يمكن إشباعها عن طريق السرقة أو النصب. كما أن الغريزة الجنسية يمكن إشباعها بالزواج أو من خلال الاغتصاب.
وينبغي علينا الإشارة أخيراً إلى دور سذرلاند في تحليل طائفة خاصة من الجرائم أطلق عليها "جرائم ذوي الياقات البيضاء" Criminalité en col blanc - White-collar crimes. وتعني هذه الأخيرة الجرائم التي يرتكبها أشخاص من أفراد الطبقة العليا جديرون بالاحترام ومتمتعون بمنزلة اجتماعية عالية أثناء ممارستهم لوظائفهم. وهي جرائم لا تفلح النظريات التكوينية ، التي ترجع الجريمة إلى خلل بيولوجي أو نفسي في شخصية المجرم ، في تفسيرها. ومن قبيل ذلك جرائم الأعمال والاختلاسات والرشوة وإساءة استعمال الأموال التي يرتكبها كبار مديري الشركات[47] ، الغش الواقع من أصحاب المحلات التجارية ، الاتجار بالمخدرات من قبل الأطباء ، التستر على الجرائم بواسطة المحاسبين ، الغش الواقع من المحامون والقضاة أثناء تأدية عملهم ...الخ.
ولعل ما دفع سذرلاند نحو الاهتمام بمثل هذا النوع من الجرائم أن معظم الدراسات الإجرامية تجرى على عينة ضئيلة من المجرمين وهم نزلاء السجون وهؤلاء قادمون في غالبيتهم من الطبقات الدنيا في المجتمع ، بينما تظل جرائم ذوي الياقات البيضاء بعيدة عن دائرة القضاء عاماً ، والقضاء الجنائي خاصةً. الأمر الذي قد يخرج جناتها من عداد المجرمين حال إعداد الإحصاءات الجنائية ، مما مؤداه في النهاية قصور تحليل الجريمة ومكافحتها في المجتمع.
وقد ارتكن سذرلاند إلى في فكرة الاختلاط الفارق من أجل تفسير هذا النمط الإجرامي ، قائلاً أن المجرمين من ذوي الياقات البيضاء وإن لم يختلطوا في حياتهم بالمجرمين مباشرة ، إلا أنهم لابد قد تعرضوا "لمواقف إجرامية" حال ممارستهم لأعمالهم أتاحت أمامهم من بعد ذلك السبيل إلى الخروج على ما تقتضيه واجبات وظائفهم.
95- ثانياً : تقدير نظرية الاختلاط الفارق :
على الرغم من نجاح سذرلاند في إبراز أهمية العلاقات الشخصية في الدفع نحو السلوك الإجرامي ، إلا أنه قد أخذ على نظريته بعض المآخذ نذكر من بينها الآتي :
- فقد قيل أن هذه النظرية لا تفسر كل صور السلوك الإجرامي. فهي تعجز عن تفسير إجرام المنتمين إلى الطبقة العليا في المجتمع ، والفرض أن هؤلاء لا يختلطون مع المجرمين على النحو الذي يفترضه سذرلاند. وقد حاول كريسي Cressey الرد على هذا النقد بقوله أن بعض الأفراد قد يرتكبون جرائم دون اختلاطهم بمجرمين نتيجة تعرضهم لمواقف إجرامية يخلقها لهم أفراد غير مجرمين. ولنا أن نمثل لذلك بحث الأم وليدها على عدم السرقة ، في الوقت الذي تدفعه إلى ذلك بحديثها المتكرر عن تدني مستوى الأسرة المعيشي إذا ما قورن بالأسر المجاورة لها.
- كما عيب عليها عجزها عن تفسير الجرائم التي ترتكب في ثورة انفعال أو الجرائم التي تقع في فترات الطفولة المبكرة قبل أن يخالط الطفل غيره مدة كافية لتعلم السلوك الإجرامي. وقد حاول كريسي التخفيف من هذا النقد بقوله أنه يعود إلى نقص الأبحاث التجريبية التي تثبت صحة فروض النظرية.
- كما أن الأخذ بمنطق هذه النظرية يدفعنا إلى التساؤل : إذا ما كان اختلاط الشخص بغيره من المجرمين هو المفسر للسلوك الإجرامي ، فبما نفسر إجرام المجرم الأول ؟ أي من الذي علم هذا الأخير فن ارتكاب الجريمة ؟ ولماذا لا يندفع البعض نحو الجريمة رغم اختلاطهم بأفراد من عتاة المجرمين ؟ ولماذا لا يتطابق سلوك بعض الأفراد مع القانون رغم اختلاطهم مع أناس من دعاة الفضيلة والحرص على احترام القانون ؟
- كما أن تلك النظرية قد غفلت عن أن تأثير اختلاط الفرد بمجموعة إجرامية يختلف تبعاً لمراحله العمرية ، وقد يأتي متأثرا بالمزاج الفردي للشخص وحالته البدنية...الخ. أي أن التأثير لا يرجع إلى الاختلاط فحسب بقدر ما يرجع إلى عوامل أخرى كثيرة. ولو كان الاختلاط وحده سبباً للجريمة لكان مؤدى ذلك أن يكون كل عتاة المجرمين في العالم من الباحثين في علم الإجرام وحراس السجون ورجال الدين العاملين في السجون ، وذلك بحكم اختلاطهم بنزلاء السجون من المجرمين. وقد حاول كريسي الرد على هذا النقد أيضاً بقوله أن مقصود نظرية سذرلاند ليس مجرد الاختلاط مع المجرمين وإنما درجة كثافة هذا الاختلاط Overabundance of association.
- كما قيل أن السلوك الإجرامي هو نتاج النزعات الفطرية والميول الغريزية ولا يحتاج إلى تعلم ، فالنفس بطبيعتها أمارة بالسوء. فالإنسان - وعلى نحو طبيعي ومبكر - يميل إلى الكذب والعنف. ويظل الإنسان هكذا بحاجة إلى تعلم السلوك القويم وتهذيب النفس ، دون تعلم الإجرام.
- ليس صحيحا ما تذهب إليه هذه النظرية من أن الفرد ينبغي أن يكتسب نوعاً من المهارة والتعلم قبل ارتكاب الجريمة. فإذا كان هذا يصدق على بعض الجرائم التي تقوم على المهارة والذكاء – كالنشل والنصب مثلاً - فإنه لا يصدق على جرائم أخرى لا تتطلب نفس القدر من الذكاء ، كجرائم العنف وخيانة الأمانة والسب والقذف.
- أن تلك النظرية لم تبين لنا العوامل التي تدفع الشخص نحو الاختلاط بجماعة بعينها ، فاسدة أو غير فاسدة. فلا شك أن هذا الأمر لابد وأنه يتوقف على عوامل تتصل بالتكوين الداخلي للفرد. وقد حاول سذرلاند الرد على هذا النقد قائلاً أن الفرد لا يختار جماعة دون أخرى ، بل أن تأثير جماعة معينة يغلب عنده ويعلو على تأثير جماعة أخرى. ولا يمكن القول بتوقف هذا الاختيار على العوامل الداخلية والتكوينية للفرد إلا إذا افترضنا أن تأثير الجماعات المحيطة كان على درجة واحدة ، وهو افتراض غير صائب لأن تأثير المخالطة يتفاوت – كما سبق القول – بحسب أسبقيتها ومدتها ونظرة الفرد لمن يخالطهم.
والواقع أن هذا الرد من جانب سذرلاند لا يفلح في إنقاذ نظريته من النقد ، حيث أن المخالطة – ومع توافر الأمور الثلاث الأخيرة – لا تعني حتمية اكتساب السلوك الإجرامي.
المطلب الثالث : نظرية المصدات أو المفاهيم الذاتية
Containmnets or Self-concept Theory
تنسب نظرية المصدات إلى العالم الأمريكي والتر ركلس Walter Reckless ، محاولاً من خلالها الإجابة على التساؤل حول علة تفاوت ردود أفعال الأفراد وسلوكياتهم رغم وحدة المؤثر الخارجي. أي لماذا يلجأ يسلك بعض الأفراد الطريق إلى الجريمة بينما يعزف عنه آخرون.
ويعزي ركلس هذا التفاوت إلى وجود أمرين ، أطلق عليهما ركلس تعبير "المصدات الماصة Containing buffers" : الأول وجود تنظيم اجتماعي خارجي متماسك يجبر الأفراد على توافق سلوكهم مع القواعد القانونية ، والثاني وجود "جهاز مقاومة" بداخل كل فرد منا يعصمه من الخروج على ما توجبه قواعد القانون. وتعمل هاتان القوتان كوسائل دفاع وكعازل في مواجهة الإغراءات والفساد الأخلاقي. فهذين الأمرين هما من قبيل وسائل التحييد بالنسبة للعوامل الدافعة للجريمة. ويتفاوت السلوك الاجتماعي للأفراد بحسب قوة أو ضعف هاتان القوتان ، فالعلاقة بينهما وبين الجريمة علاقة عكسية[48].
و يدلل ريكليس على صدق فكرة المصدات Containments بالإشارة إلى جماعة Hutteries ، إذ ظهر عند إخضاع بعض أعضائها للاختبارات النفسية أن لديهم ميولا تجاه جرائم العنف ، ورغم ذلك ثبت ندرة الجرائم التي يرتكبها أفرادها وعدم التجائهم إلى العنف لحل مشاكلهم. ولا يفسر ذلك في نظر ركلس إلا بوجود تنظيم اجتماعي قوي يميز تلك الجماعة يبقي تلك الميول حبيسة في صدور أصحابها وإبعادها عن طور التنفيذ Passage à l’acte ، فضلاً عن تمتع أعضاء تلك الجماعة بضمائر أو "أنا عليا" Superegos قوية.
ومما لاشك فيه أن الحياة المعاصرة تتصف بضعف وعدم تجانس التنظيم الاجتماعي للجماعات ، بحيث لا تستطيع هذه الأخيرة أن تباشر في مواجهة أعضائها الرقابة الكافية. ولا يتبقى حينئذ من قوى المنع أو المصدات إلا سلطة الرقابة الذاتية أو جهاز المقاومة الداخلي. فالملاحظ أنه كلما تشعبت مظاهر الحياة في المجتمع كلما اكتسبت الذات أهمية متزايدة كعامل رقابة Controlling agent. وتتوقف قوة الذات في مواجهة المغريات وقوى الدفع نحو الجريمة على الصورة التي يكونها الشخص عن نفسه وكذلك المفاهيم والقناعات الذاتية Self-concepts.
فكلما نظر الفرد إلى نفسه كشخص مسئول وتعمقت لديه القناعة بأهمية دوره في المجتمع فإنه سوف يتصرف كشخص مسئول ويأتي سلوكه مطابقاً للقانون ومتكيفاً اجتماعياً Favourable socialisation. وعلى العكس إذا ما تكونت لدى الفرد القناعة بأنه خارج حلبة الصراع المشروع من أجل الترقي الاجتماعي وضعفت المفاهيم التي يكونها الشخص عن نفسه كان ذلك مؤشراً ضعف الرقابة الذاتية وعلى عدم تكيفه مع المجتمع بطريقة سليمة Unfavourable socialisation ، وخاصة مع قيم الطبقة الاجتماعية التي تعلو طبقته في السلم الاجتماعي.
وجملة القول أن ركلس يرى بأن تفسير الظاهرة الإجرامية لا يمكن أن يتم إلا في ضوء تقدير مدى قوة عاملي الرقابة أو المفاهيم الذاتية والتنظيم الاجتماعي في الدفع إلى الجريمة.
ومن جانبنا لا يمكن أن ننكر مساهمة هذه النظرية في تفسير الظاهرة الإجرامية ، حيث استطاعت – ولو جزئياً – تفسير العلة التي من أجلها لا يتوحد تأثير العامل الإجرامي الواحد لدى كافة الأفراد. إذ أرجعت ذلك إلى تفاوت تأثير القوى المانعة أو المصدات ، النابعة من قوة التنظيم الاجتماعي أو قوة الذات ، على الأفراد.
بيد أن قصوراً قد أصاب تلك النظرية يتركز في الآتي :
- فقد عيب عليها أنها ركزت في تفسير الظاهرة الإجرامية على قوي المنع من الجريمة أي الجانب السلبي وكادت تنسى الشق الإيجابي من المشكلة ألا وهو بيان الأسباب والعوامل التي تدفع إلى ارتكاب الجريمة.
- وقيل أيضاً أن بعض المفاهيم التي استندت إليها يصعب قياسها وإخضاعها للتجربة العملية ، ومن ذلك قوة الرقابة الذاتية.
- كما قيل أنها تعجز عن أن تفسر لنا لماذا يخلع المجتمع أوصافا مختلفة على مرتكبي ذات الأفعال. مثال ذلك القتل ، الذي يعد أحياناً جريمة وأحياناً أخرى بطولة.
المطلب الرابع : نظرية الوسم الإجرامي أو خلع الأوصاف
Labeling Theory
تنسب نظرية الوسم الإجرامي أو خلع الأوصاف إلى العالم الأمريكي كاي إريكسون Kai Erikson ، الذي أوضح أن الإجرام ليس صفة ذاتية تلاحظ لدى بعض الأفراد ولا تلاحظ لدى غيرهم فتميز فريقا عن آخر ، ولكنه صفة ألصقها بعض الناس بالبعض الآخر. والبين أن تلك النظرية لا تحفل بالكيفية أو بالميكانيزم الذي يصبح الشخص من خلاله مجرماً ، أو بتفسير لماذا يصبح بعض الأفراد مجرمين دون البعض الأخر. فكل ما تحاول تلك النظرية الإجابة عليه هو لماذا يخلع المجتمع على بعض الأفراد دون البعض الآخر وصف المجرمين ؟[49]
فقد لاحظ إريكسون أن كافة النظريات التي قيل بها في إطار التيار الاجتماعي لتفسير الظاهرة الإجرامية قد وقعت جميعها في خطأ المغالطة الثنائية لأنها تفترض أن للجريمة خصائص تميزها عن الفعل الذي لا يعتبر جريمة. والحق أن هذا التحليل غير دقيق ، ذلك أنه من الناحية العلمية الدقيقة فإن نفس الفعل المكون للجريمة – من حيث ماهيته – قد لا يكون مختلفا عن الفعل العادي. وإنما يكون الأول جريمة لسبب بسيط وهو أن المجتمع قد وصفه على هذا النحو ، ويعرف مرتكبه بأنه مجرم أن المجتمع قد خلع عليه هذا الوصف. فالأمر مرجعه تباين رد الفعل الاجتماعي تجاه الفعل الواحد.
وقد دلل إريكسون على صدق نظريته بأكثر من أمر : فالأحداث رغم أن عدد كبير منهم يرتكبون جرائم ، فإن نسبة قليلة من هذا العدد هي التي توصف "بالإجرام". ويرجع ذلك إلى السلطة التقديرية الواسعة التي تمنح للجهات التي تتعامل مع الأحداث الجانحين. كما يؤكد منطق هذه النظرية حالة من يفرطون في تناول المشروبات الكحولية ، إذ يطلق المجتمع على بعضهم وصف "المدمنين" بينما لا يلتصق نفس الوصف بالآخرين ممن لا يقلون عنهم إفراطا في الشرب. والأمر ذاته بالنسبة لمن يتصرفون بطريقة شاذة ، فمنهم من يودع في مستشفيات الأمراض العقلية ويطلق عليهم وصف "مرضى العقول" بينما ينجو بعضهم الآخر من نفس الوصف ، في حين أنهم جميعا من نفس الطائفة. ويؤكد ذات الأمر حالة المرأة التي ترتكب جريمة الزنا في المجتمعات الغربية ، حيث لا تحاكم عنها في الغالب ولا توصف بأنها منحرفة ، ولكنها عندما تلد طفلا غير مشروع يكون ثمرة هذه العلاقة ، فعندئذ يطلق عليها المجتمع وصف "المنحرفة".
وكشف أنصار هذه النظرية عن أن الوسم الإجرامي والمنحرف يتوقف على الكثير من العوامل ، أهمها على الإطلاق المركز الاجتماعي للشخص. فأبناء الطبقات الدنيا ، وكذا من يعتبرون خطرين على السلطة تزداد في مواجهتهم احتمالات الوسم الإجرامي إذا ما قورنوا بغيرهم من أبناء الطبقات العليا وذوي المراكز الوظيفية الهامة الذين يملكون الوسائل المادية والمعنوية للدفاع عن حقوقهم ، ويكونون محل احترام من القائمين على تطبيق القانون حتى وهم مقبوض عليهم.
وعلى الرغم من أن تلك النظرية قد حاولت الإجابة على تساؤل قلما طرحته الدراسات الإجرامية ، إلا أنه تتعد في الواقع المآخذ التي تنال منها. ويمكننا أن نذكر خاصة الانتقادات التالية :
- فمن الواضح أن النظرية محل البحث تتفادى تماماً مشكلة العوامل الدافعة إلى الجريمة. ذلك أننا إذا سلمنا بأن التوصيف هو الذي يدفع إلى التمادي في طريق الجريمة فإننا سنظل في حاجة لمعرفة السبب الذي قاد المجرم إلى ارتكاب جريمته الأولى.
- ولا شك أن أنصار هذه النظرية يركزون على الدور السلبي للتوصيف المتمثل في التمادي في الإجرام ، مغفلين الدور الايجابي الذي قد تلعبه عملية الوسم الإجرامي المتمثل في الردع وعدم العودة إلى الإجرام.
- ويتصل بالنقد السابق أن سلبية أثر الوصف أو إيجابيته يختلف من شخص إلى أخر ، ويختلف لدى الشخص الواحد حسب مراحله العمرية. فذات الوصف قد يجعل رجلاً مجرماً يحترف الإجرام ، بينما يردع شخصاً آخر عن التمادي في الجريمة. أي أن التوصيف قد يؤدي دوراً في منع الجريمة لدى المجرم المبتدئ أكثر من نظيره لدى المجرم المحترف. كما أن الفرد يميل إلى ترك السلوك الإجرامي كلما كان وصف المجرم أو المنحرف الذي تم خلعه عليه قابلاً للزوال.
- كما عيب على تلك النظرية أنها افترضت أن معدلات الوصف الإجرامي والمنحرف يزيد بين أفراد الطبقات الدنيا وأعضاء الأقليات الاجتماعية وسكان المناطق المتخلفة إذا ما قورن بمعدلاته بين أبناء الطبقات العليا وذوي الهيبة الاجتماعية. وأن السلطة الحاكمة تستخدم سلاح الوسم الإجرامي على الطبقات الأخرى في المجتمع. فلدى أنصارها أن معدل الوسم الإجرامي يزيد لدى السود عن مثيله لدى البيض ولدى الرجال عن مثيله لدى النساء. ولا يخفى ما في هذه النتائج من شك ، إذ من الواضح أنها قد استندت إلى أفكار مسبقة فيما يتعلق بالعنصر والسن رغم كونهما عنصران غير حاسمين في تفسير الظاهرة الإجرامية.
- وأخيراً فإن هذه النظرية تعتبر الفرد مجرد موضوع سلبي يتحدد سلوكه على ضوء أوصاف يخلعها عليه أفراد آخرون ، الأمر الذي يجافي الطبيعة الإنسانية التي تؤكد أن السلوك النهائي للإنسان يتوقف على عدد من العوامل والبواعث والميول الغريزية.
الفصل الثالث : التفسير التكاملي للظاهرة الإجرامية
L’analyse globale du phénomène criminel
96- تمهيد وتقسيم :
كشف لنا استعراض النظريات السابقة عن تعذر رد الظاهرة الإجرامية إلى عامل واحد سواء اتصل بالتكوين الطبيعي للمجرم (الاتجاه التكويني) أو اتصل بالبيئة المحيطة به (الاتجاه الاجتماعي). وأبان لنا هذا العرض أن قصور التحليلات السابقة يرجع إلى أنها ركزت اهتمامها على عامل وأغفلت عوامل أخرى كثيرة ، أو حاولت أن تقدم تفسيراً جزئياً لنمط إجرامي معين على وجه التحديد. فضلاً عن هيمنة فكرة الحتمية على كافة النظريات السابقة ، بمعنى أن العوامل العضوية أو النفسية أو الاجتماعية واحة بعد الأخرى تقتضي حتماً ارتكاب السلوك الإجرامي ، على نحو يجعل الأخير يخضع لقوانين أقرب لقوانين الطبيعة والرياضيات.
ولما كان السلوك الإجرامي ظاهرة فردية في حياة الفرد وكذا ظاهرة اجتماعية في حياة المجتمع ، فيجب أن يأتي التفسير جامعاً لكلا الأمرين في ذات الوقت ، وإلا جاء التحليل قاصراً مشوباً بالعوار. فالظاهرة الإجرامية تستعصي بحسب طبيعتها على التفسير الأحادي الذي يردها إلى عامل بعينه. فما يصلح لتفسير إجرام السارق المحترف لا يصلح لتفسير إجرام القاتل أو إجرام الدم العارض. وما يصلح لتفسير جرائم الآداب لا يصلح لتفسير الجرائم الضريبية والجمركية...وهكذا. من هنا نشأ الاتجاه التكاملي في تفسير الظاهرة الإجرامية الذي يجمع بين الاتجاه التكويني والاتجاه الاجتماعي في إطار تفسير واحد تلتقي فيه عوامل شخصية بأخرى اجتماعية. فالظاهرة الإجرامية تنبع من "إنسان يعيش في مجتمع" ، أو هي بالأحرى فاعل وفعل ولا يمكن اجتزائها في أحدهما فقط.
ويتوزع هذا الاتجاه بين نظريات عدة لعل أهمها ما قال به العلامة الإيطالي أنريكو فيري Enrico Ferri ، ونظرية العالم الإيطالي بندا Penda. وتأتي نظرية التكوين الإجراميThéorie de la constitution délinquantielle ، التي صاغها الأستاذ الإيطالي بينينو دي توليو Beningno Di Tullio في مؤلفه حول "الأنثروبولوجيا الجنائية" في عام 1945 ، لتكون خير مثال على هذا الاتجاه.
المبحث الأول : التفسير التكاملي لدى أنريكو فيري
97- تمهيد :
على الرغم من أنريكو فيري Enrico Ferri (1856-1928) - عالم الاجتماع والنائب بالبرلمان الإيطالي وأستاذ القانون الجنائي بجامعتي روما وتورينو - يعد واحداً من أقطاب المدرسة الوضعية الإيطالية ، غير أنه نحى في دراسته لأسباب الظاهرة الإجرامية منحاً اجتماعياً يأخذ في اعتباره بعض العوامل الخارجية المحيطة بالمجرم ، ولا يقتصر فقط على دراسة العوامل الداخلية لهذا الأخير. وقد ضمن فيري أفكاره في مؤلفه الذي أصدره عام 1884 بعنوان "علم الاجتماع الجنائي La sociologie criminelle" ، والذي سبق وأن نشره تحت عنوان "الآفاق الجديدة للقانون العقوبات" ثم أعيد طبعه في عام 1928 تحت عنوان "مطول قانون العقوبات". وسوف نعرض أولاً لمضمون نظرية فيري ، والتي يطلق عليها البعض "نظرية العوامل المتعددة La théorie multifactorielle ، قبل أن نكشف عن أوجه النقد التي وجهت إليها[50].
المطلب الأول : مـضـمـون نـظـريـة فـيـري
بدأ أنريكو فيري نظريته بنقد ما توصل إليه أستاذه لومبروزو ومبالغته في أهمية العوامل الداخلية في تفسير الظاهرة الإجرامية ، خاصة ما يتصل بالصفات الجسدية. فقد أثبتت الدراسات مثلاً خطأ النتائج المستخلصة فيما يتعلق بالربط بين الجريمة وبين قلة حجم ووزن الجمجمة إذ انه قد تأكد وجود الكثير من العباقرة ممن تقل أوزان جماجمهم عن وزن جمجمة الرجل العادي ومع ذلك لم ينجرفوا في تيار الجريمة.
ويرى فيري أن السلوك الإجرامي ما هو إلا ثمرة حتمية نتيجة لتفاعل ثلاثة أنواع من العوامل الإجرامية. أولها العوامل الأنثروبولوجية Facteurs anthropologiques ، المتصلة بشخص المجرم ، سواء التي تتعلق بالخصائص العضوية والنفسية للمجرم ، أو المتعلقة بالمميزات الشخصية له كالسن والجنس والنوع والمهنة والحالة الاجتماعية. وثانيها العوامل الطبيعية والجغرافية Facteurs physiques ou consmo-telluriques ، المرتبطة بالبيئة الطبيعية أو الجغرافية ، ومثالها الظروف الجوية وتأثير الفصول ودرجة الحرارة وطبيعة التربة والإنتاج الزراعي...الخ. أما آخر تلك العوامل فهي العوامل الاجتماعية Facteurs sociaux ، وهي مجموعة العوامل الخارجية التي تنشأ من البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها المجرم. ويمثل لتلك العوامل بتركيز السكان ، والرأي العام ، والمعتقدات الدينية ، والإنتاج الصناعي ، ونظام التعليم ، والتنظيم الاقتصادي والسياسي...الخ.
وانطلاقاً من الفرضية السابقة والتي مؤداها نسبة السلوك الإجرامي لتفاعل عدة عوامل فقد وضع فيري ما يسمى "بقانون الإشباع والتشبع الإجرامي" Loi de la saturation et de la sursaturation criminelles ، وهو قانون يشبه قانون الكثافة في علم الكيمياء ، ومؤداه أنه إذا تكاتفت عوامل طبيعية وجغرافية معينة ، مع ظروف اجتماعية معينة ، فينتج حتماً عدداً معيناً من الجرائم لا ينقص ولا يزيد. وطبقاً لهذا القانون أيضاً يصل فيري إلى القول بأن كل حدث غير طبيعي أو طارئ - كحرب أو ثورة أو وباء عام...الخ - يؤدي إلى اطراد سريع في معدل الإجرام سرعان ما يعود هذا المعدل إلى حاله السابق حالما يزول الحدث الشاذ.
وعلى الرغم من أن فيري لم يقع في خطأ التفسير الأحادي ، ورغم عدم إنكاره أهمية العوامل البيولوجية في الدفع نحو الجريمة ، غير أنه يضع العوامل الاجتماعية والطبيعية في المقام الأول باعتبارها المحرك لدفع المجرم إلى سلوك سبيل الجريمة[51].
وقد قسم فيري المجرمين إلى أنماط خمس ، بحسب تأثير طائفة معينة من العوامل في الدفع نحو الجريمة. فهناك من جانب طائفة المجرمين بالميلاد Criminels nés ، ويمثلون ذات النموذج الذي قدمه لومبروزو من قبل والمتعلق بمن ينجرفون للجريمة بفعل العوامل الأنثروبولوجية ، وإن كانوا لدى فيري غير مقودين حتماً إلى طريق الجريمة إلا إذا تدخلت عوامل أخرى اجتماعية. وهناك المجرمين من ذوي العاهة العقلية Criminels aliénés الذين يندفعون إلى سبيل الجريمة بفعل مرضهم العقلي بحسب الأصل وتحفيز من مؤثرات وعوامل اجتماعية وطبيعية.
وهناك من جانب آخر المجرمين بالاعتياد Criminels d’habitude ، وتباشر العوامل الاجتماعية دوراً مؤثراً – إذا ما قورنت بالعوامل العضوية - في دفع هؤلاء نحو السلوك الإجرامي. وتأتي طائفة المجرمين بالصدفة Criminels d’occasion والذين ينزلقون في تيار الجريمة لضعف التكوين البيولوجي ووطأة المؤثرات الاجتماعية المحيطة. وأخيراً أشار إلى طائفة المجرمين العاطفيين Criminels passionnels الذين يتميزون بالحساسية المفرطة فلا يستطيعون مقاومة بعض الظروف الاجتماعية العارضة فيقدمون علي ارتكاب السلوك الإجرامي.
المطلب الثاني : تـقـيـيـم نـظـريـة فـيـري
إذا وضعنا نظرية فيري على مائدة التقييم فإننا ندرك شمولية رؤية هذا العالم في تفسير الظاهرة الإجرامية إذا ما قورن ببعض النظريات السابقة أو اللاحقة عليه. كما تتجلى قيمة هذا العالم في إبرازه أن أحد طرق مكافحة الظاهرة الإجرامية تتمثل في الاهتمام بتغيير الظروف الاجتماعية المحيطة بالفرد من خلال انتهاج سياسة اجتماعية واقتصادية وثقافية تهدف إلى تحييد العوامل الدافعة للإجرام. وهنا تظهر قيمة قولته الشهيرة "أن مكافحة الجريمة في طريق مظلم لا تتأتى بزيادة أعداد رجال الشرطة في هذا الشارع وإنما بإنارته". كما أن محاولته لتصنيف المجرمين حسب نوع العوامل التي تقف وراء إجرام كل طائفة كان له أبلغ الأثر في تحديد طبيعة ونوع المعاملة العقابية في شأن كل طائفة.
بيد أن تلك النظرية لا تخلو من النقد ، ومن بين ما وجه إليها :
- قيل أن تصنيف فيري للعوامل الإجرامية تعوزه الدقة ، ودليل ذلك أنه يدخل الإنتاج الزراعي ضمن العوامل الطبيعية في حين يرى أن الإنتاج الصناعي يدخل ضمن العوامل الاجتماعية أو البيئية. وربما الذي دفع فيري إلى هذا التحليل هو دور الفرد المحدود بالنسبة للإنتاج الزراعي إذا ما قورن بدوره في الإنتاج الصناعي. كما أن احتكاك الفرد بغيره يقل في المجتمعات الزراعية عنه في المجتمعات الصناعية.
- كما انتقدت نظرية فيري لتمسكها بفكرة المجرم بالميلاد ، وتمييزه بين المجرم بالصدفة والمجرم العاطفي رغم وحدة الخصائص بينهما.
- وعيب أيضاً على فيري تمسكه بفكرة الحتمية الإجرامية ، فهذه الفكرة تعتبر دخيلة على علم الإجرام ولا تتفق مع كونه علماً إنسانياً وليس طبيعياً. فالحتمية ونقيضها حرية الاختيار فكرتان فلسفيتان ينشغل بهما علم مجرد هو الفلسفة ، في حين أن علم الإجرام علم تجريبي تفسيري لا يحفل كثيراً بالمفاهيم الفلسفية.
- كما قيل أن التسليم بتعدد الأسباب الدافعة إلى السلوك الإجرامي أم يمثل في حد ذاته إنكاراً للسببية الإجرامية برمتها. وهذا ما نبه إليه دوركايم عندما أنكر ما نادى به جون ستيوارت ميل من أن الأثر الواحد قد ينجم في حالات عن سبب معين وفي حالات أخرى عن سبب آخر. فقد كشف دوركايم عن أن لكل أثر سبب واحد دائماً A un même effet correspond toujours une même cause. الأمر الذي كان يوجب بدلاً من صياغة نظرية عامة تصلح لكل الأنماط الإجرامية التركيز على تحليل نظريات فرعية تصلح لتفسير طوائف إجرامية معينة.
- كما أن القول بتعدد الأٍسباب التي تقف وراء السلوك الإجرامي هو تحليل مخل لفكرة السببية الإجرامية ، إذ لا يتضمن هذا القول كشفاً عن القوانين العلمية التي تربط الجريمة والعوامل التي تقف ورائها. بمعنى آخر أن هذا التحليل المتكامل يعجز عن أن يبين لنا الكيفية التي يقع بها السلوك الإجرامي.
- وقيل أن تلك النظرة التكاملية إنما تشوه صورة البحث العلمي ، إذ أن منطقها يوجب على الباحث في علم الإجرام أن يعد قائمة طويلة من الأسباب والمقدمات السيئة (كالتفكك الأسري والفقر والجهل والبطالة) والتي يمكن أن تقف دافعاً وراء السلوك الإجرامي.
- وأخيراً فإن القول بأن السلوك الإجرامي يقف وراءه جملة من العوامل الأنثروبولوجية والاجتماعية دون اختيار العامل الفعال في توليد الظاهرة الإجرامية فيه إهدار لذاتية علم الإجرام كعلم قائم بذاته ، إذ لا يصبح هذا الأخير سوى تجميع لجملة من أفرع العلم المختلفة.
المبحث الثاني : التفسير التكاملي لدى بندا
مال العالم الإيطالي نيكولا بندا Penda - أحد أنصار المدرسة الطبيعية الحديثة في تفسير السلوك الإجرامي ، وواحد من كبار المتخصصين في علم وظائف الغدد بحكم وظيفته كمدير لمعهد علم النماذج الحيوية الإنسانية بروما - إلى تفسير الظاهرة الإجرامية تفسيراً ينبني على تعدد الأسباب Multifactorielle.
ووفقاً لبندا فإن السلوك الإجرامي يمكن رده إلى نوعين من العوامل[52] :
- الأولى العوامل المحددة Facteurs déterminants ، وهي جملة العوامل ذات الطبيعة التكوينية. وتلك العوامل إما أن تكون عوامل فطرية موروثة كالتكوين العضوي ، وإما أن تكون عوامل مكتسبة من البيئة المحيطة بالإنسان. وأهم هذه العوامل في نظر بندا تكوين الجهاز العصبي الخاضع لسيطرة المخ مباشرة والذي يسيطر كذلك على سائر الخلايا والأنسجة.
- والثانية العوامل غير محددة Facteurs non déterminants . وتلك العوامل شرطية conditionnels ، بمعنى أنه يتوقف عليها تحقيق السلوك الإجرامي. ومثال تلك العوامل الظروف البيئية والوسط الاجتماعي.
وعلى ذلك فإن بندا يركز في تحليله للجريمة على دور العوامل التكوينية وبصفة خاصة نشاط الجهاز العصبي. فلديه أن الجهاز العصبي وخاصة المخ هو الذي يحدد ماهية السلوك الإنساني ، كما يحدد صفات الفرد وطباعه. وبما أن الجريمة صورة من صورة السلوك الإنساني ، فلابد وأن تتأثر بالحالة التي يكون عليها هذا الجهاز. غير أن تولد الجريمة في صورتها النهائية يحتاج إلى عوامل وظروف خارجية محفزة تباشر احتكاك بهذا الخلل أو الاضطراب ، يكون من شأنها أن تدفع الفرد إلى الإجرام.
وقد دلل بندا على صحة نظريته عندما تولى فحص عدد كبير من المجرمين ، فقد لاحظ وجود التهابات سحائية والتهابات في أغشية المخ ، الأمر الذي يجعل سيطرة "الأنا أو العقل" على الميول أو الغرائز ضعيفا ، نتيجة خروج الأنا ذاتها عن سيطرة المراكز العليا للمخ. فقد أكد على أن هناك منطقة تقع على جانب المخ يطلق عليها مصطلح "المادة الزرقاء" Regione Talamica وهذه المنطقة هي "مركز الأنا أو العقل" والتي تتحكم في توجيه جميع الميول والحاجات الغريزية والنفسية الكامنة في اللاشعور.
بل لقد لاحظ بندا في دراساته على مجموعات ضابطة من غير المجرمين أن الشخص المصاب بهذه الالتهابات يسلك سلوكاً يتسم بالأنانية المفرطة وبسرعة الغضب والاندفاع والثورة لأتفه الأسباب ، كما تصدر عنه أفعال منافية للأخلاق والآداب.
كما لاحظ بندا على المجرمين الذين أخضعهم للفحص وجود اضطرابات في الغدد الصماء Ductless glands [53]. غير أنه أكد أن هذه الاضطرابات لا تصلح سبباً مباشراً لتفسير السلوك الإجرامي ، فالأمر لديه يحتاج كي تباشر هذه الاضطرابات أثرها في دفع الشخص إلى ارتكاب السلوك الإجرامي إلى وجود خلل مخي متمثل في التهاب الأغشية المخية ووجود محفزات خارجية وبيئية تؤدي إلى إهاجة بعض الاستعدادات الأنانية والحيوانية.
وفي معرض تقيمنا لهذه النظرية يمكننا أن نؤكد على فضلها في محاولة الربط بين العالم النفسي والعالم العضوي للإنسان ، مؤكدةً على أن فهم السلوك الإنساني عاماً والإجرامي خاصة لا يتأتى إلا بالوقوف على العوامل الداخلية في تكوين العالمين النفسي والعضوي في دفع الفرد إلى السلوك الإجرامي.
بيد أن قصوراً قد شاب تلك النظرية من أكثر من ناحية :
- فقد قيل بأن هذه النظرية تعجز عن أن تفسر لنا السبب الذي من أجله لا يرتكب البعض ممن يعانون من التهابات في أغشية المخ أو خلل في وظائف الغدد سلوكاً إجرامياً. فالربطة بين هذه الأشكال من الاضطرابات والجريمة ليس حتمياً.
- كما عيب على هذه النظرية تجاهلها أن مبحث الغدد ووظائفها مازال أمراً يكتنفه الغموض وليس لدينا المعلومات العلمية الكافية عن العلاقة القائمة بين افرازات الغدد المختلفة وتأثير تلك الافرازات على السلوك الإنساني.
- فضلاً عن أن بندا لم يتأكد حال قيامه ببحوثه على المجرمين ما إذا كان الخلل الملاحظ لدى المجرمين في وظائف الغدد ليس أمراً لاحقاً على ارتكابهم للجريمة وناشئ عن طول المدة التي قضوها في المؤسسات العقابية أو ناجم عن خلل عصبي أو عقلي أدى بدوره إلى وجود اضطرابات غددية.
- كما أن القول بنسبة السلوك الإجرامي إلى وجود خلل عضوي يجعل من المجرمين مرضى يستوجبون العلاج لا العقاب[54] وفي ذلك هدم للمفاهيم التي يقوم عليها القانون الجنائي حول المسئولية الجنائية.
المبحث الثالث : التفسير التكاملي لدى دي توليو
98- تمهيد وتقسيم :
تعتبر النظرية التي صاغها الطبيب الإيطالي بينينو دي توليو Benigno Di Tullio في مؤلفه حول علم طبائع المجرم (الأنثروبولوجيا الجنائية) عام 1945 - والتي تعرف بنظرية الاستعداد الإجرامي Théorie de la constitution délinquantielle - أشهر النظريات التي تتبنى اتجاهاً تكاملياً في تفسير الظاهرة الإجرامية[55]. ويجدر بنا لتفهم حقائق تلك النظرية أن نعرض لمضمونها ، ثم بيان أوجه النقد التي وجهت إليها.
المطلب الأول : مضمون نظرية دي توليو
99- أولاً : فكرة الاستعداد الإجرامي :
تعبر الجريمة عند دي توليو عن وجود نوع من عدم التوافق الاجتماعي Inadaptation sociale ، ناشئ عن وجود "حالة استعداد خاص للجريمة " Etat de prédisposition spécifique au crime كامنة في شخص المجرم ولم تخرج إلى النور إلا بسب وجود خلل عضوي ونفسي يضعف من قدرة الشخص على التحكم في نزعاته وميوله الفطرية (قوى الدفع للجريمة) ، ويجعل الشخص أكثر استجابة للمؤثرات الخارجية المحفزة أو المفجرة للسلوك الإجرامي.
فالسلوك الإجرامي عند دي توليو شأنه شأن المرض ، فكما أن الناس يتعرضون جميعهم لأنواع عدة من الميكروبات ورغم ذلك لا يصابون جميعهم بالأمراض ، بل لا يصاب بها إلا من ضعفت مقاومته في التصدي لهذه العوارض الخارجية ، وكذلك السلوك الإجرامي ، فلدى الكل استعداد إجرامي نحو الجريمة غير أن البعض فقط هو الذي يدخل إلى طور التنفيذ نتيجة وجود خلل في تكوينهم العضوي والنفسي يجعلهم أقل قدرة على التكيف مع متطلبات الحياة الاجتماعية وأقل قدرة على كبح جماح غرائزهم الفطرية ، وفي ذات الوقت تقل أو تنعدم لديهم القوى المانعة من الجريمة أو ما يسمى بالغرائز السامية.
فلدى الكافة - بحسبان أنهم بشر - غرائز أساسية فطرية ، مثل الغريزة الجنسية وغريزة التملك وغريزة الاقتتال والدفاع ، وهذه الغرائز تكون تعبيراً عن "القوة الدافعة للجريمة". غير أن تلك الغرائز تتهذب بفعل عناصر مكتسبة Eléments acquis منذ مرحلة الطفولة على أثر التعليم والثقافة وتلقين القيم الدينية والأخلاقية. ويؤدي هذا التهذيب إلى نشوء غرائز ثانوية سامية ، يطلق عليها تعبير "القوة المانعة من الجريمة".
فإذا التقى الاستعداد الإجرامي بمثير خارجي ، نشأ صراع بين نوعي الغرائز. فإذا تغلبت الغرائز الأساسية (القوة الدافعة للجريمة) على الغرائز السامية (القوة المانعة للجريمة) أقدم الشخص على ارتكاب السلوك الإجرامي ، والعكس بالعكس. الأمر الذي يفسر لنا علة ارتكاب البعض دون البعض الأخر للسلوك الإجرامي رغم وحدة الظروف البيئية.
ويقسم دي توليو الاستعداد الإجرامي إلى نوعين : الأول هو الاستعداد الإجرامي الأصيل ، وهو الذي يتصف بالثبات والاستمرار ويكشف عن ميل فطري نحو الجريمة نتيجة خلل في العناصر الوراثية Eléments héréditaires والخلقية Congénitaux المرتبطة بالتكوين العضوي والنفسي للفرد. ويدفع هذا النوع من الاستعداد نحو ارتكاب الجرائم الخطيرة والاعتياد عليها. أما النوع الثاني فهو الاستعداد الإجرامي العارض والذي يرجع إلى تأثير عوامل بيئية واجتماعية - كعوامل الفقر والغيرة الشديدة أو الحقد - تقلل من قدرة الفرد على ضبط مشاعره والسمو بغرائزه. ويتوافر هذا النوع من الاستعداد لدى المجرمين بالصدفة والمجرمين العاطفيين.
ولا يجب أن يفهم من ذلك أن الاستعداد الإجرامي يكون رهناً عند دي توليو بوجود وراثة إجرامية خاصة. فالحق أن دي توليو يعترف فقط بوجود ميول إجرامية Tendances criminogènes ليس لها في ذاتها طبيعة جنائية. غير أن تلك الميول يكون من شأنها أن تدفع الفرد إلى السلوك الإجرامي إذا ما صادفت مثيراً خارجياً اتحد معها فأيقظها وتفاعل معها[56].
100- ثانياً : أساليب الكشف عن الاستعداد الإجرامي :
لما كان الاستعداد الإجرامي لدى دي توليو يضم عناصر وراثية وأخرى بيئية ، ويعد بمثابة ميل نحو الجريمة ، ناشئ عن نقص أو خلل يصيب الفرد في تكوينه العضوي أو النفسي ، يؤدي إلى غلبة الغرائز الأساسية الفطرية على القوة المانعة منها ، فإن الكشف عن وجود هذا الاستعداد يستلزم حتماً فحص الشخصية الإجرامية من ثلاث نواحي :
101- أ- الفحص الخارجي :
يجب فحص أعضاء الجسم الخارجية للشخص للوقوف على ما إذا كانت ذات تكوين طبيعي واستكشاف ما بها من شذوذ. ويدخل في هذا الفحص تعيين الجنس Race الذي ينتمي إليه الشخص ، والكشف عما يوجد به من عيوب خلقية وتشوهات ، مثل تلك التي توجد بالرأس والجبهة. ولقد أكد دي توليو وجود نسبة كبيرة من التشوهات لدى المجرمين ، ترجع في الغالب أمراض أو التهابات أصيبت بها الأم في فترة الحمل فأثرت على تكوين الجنين العضوي أو النفسي.
102- ب- الفحص الداخلي :
ويهدف هذا النوع من الفحص إلى الوقوف على ما بأجهزة الجسم المختلفة (الجهاز الهضمي والعصبي والدوري والبولي والتناسلي...الخ) من خلل. كما يدخل في هذا الجانب فحص الجهاز الغددي (خاصة الغدة الدرقية) ، فلقد ثبت أن الخلل في افرازات الغدد بالنقص أو بالزيادة يؤثر على الحالة النفسية للفرد وبالتالي على مسلكه الشخصي العام.
ومما لاشك فيه أن العيوب الخارجية والاختلالات الوظيفية لأجهزة الجسم الداخلية التي تظهر نتاج هذين النوعين من الفحص أمراً ليس وقفاً على المجرمين وحدهم ، بل قد توجد أيضاً لدى غير المجرمين ؛ ومن ثم يتعذر اعتبارها سبباً مباشراً للسلوك الإجرامي. وكل ما يمكن تأكيده هو أن هذه العيوب والاختلالات يلاحظ انتشارها بين المجرمين بنسبة أكبر من غيرهم من الأفراد العاديين ، وأنها قد تسهم في خلق اضطراب نفسي يدفع إلى السلوك الإجرامي.
103- ج- الفحص النفسي :
يهدف الفحص النفسي إلى الكشف عن الحالة النفسية للمجرم والكشف عما يصيب غرائز الفرد وميوله من خلل أو اضطراب. ولقد أكد دي توليو على أن العديد من المجرمين يتميزون بسمات نفسية خاصة لا توجد لدى غير المجرمين أهما شذوذ الغرائز ، كشذوذ غريزة التملك ، الأمر الذي يدفع إلى ارتكاب جرائم الأموال ، وشذوذ غريزة الاقتتال والدفاع ذلك الخلل الذي يدفع لارتكاب جرائم الدم. كما يتميز المجرمون من الناحية النفسية بضعف التعلق بالمثل العليا وضعف القوى المانعة من الجريمة ، مما ينجم عنه الشعور بالارتياح عقب ارتكاب أو على الأقل عدم الشعور بالذنب.
هذه الاختلالات العضوية الخارجية أو الداخلية أو النفسية تزيد من عمل قوى الدفع للجريمة وترفع حالة الاستعداد الإجرامي لدى الفرد ، بحيث إذا ما التقى هذا الأخير بعوامل خارجية محفزة ومفجرة تفاعل معها واندفع الشخص نحو الإجرام.
104- ثالثاً : تصنيف المجرمين لدى دي توليو[57]:
اعتمد دي توليو في تصنيفه للمجرمين على فكرة "السقوط في الجريمة" Le seuil délinquantiel ، وما إذا كان هذا السقوط أو إنتاج الجريمة يرجع إلى غلبة عوامل عضوية نفسية Biopsychologique ، أم إلى غلبة عوامل خارجية تنبع من البيئة المحيطة بالفرد. فإذا كانت الجريمة في جميع الأحوال تقوم على ضرورة تفاعل هذين النوعين من العوامل في إنتاج الجريمة ، إلا أنه من المؤكد أن الأفراد يتفاوتون في طبيعة الاستعداد الإجرامي ومدى تأثره بالعوامل الخارجية. فقد يكون تأثير الاختلالات العضوية والنفسية في إنتاج الجريمة أكبر ، بحيث يمكن اعتبارها السبب المباشر للجريمة وما العوامل الخارجية إلا مثيرات ومهيئات لتحريك العوامل الأولى. في حين أن إجرام البعض الآخر قد يعود إلى التأثير الأكبر الذي تلعبه العوامل الخارجية والبيئية إذا ما قورنت بالعوامل التكوينية العضوية والنفسية.
وفي ضوء ذلك قسم دي توليو المجرمين إلى طوائف ثلاثة كبرى وبداخل كل طائفة تقسيمات فرعية : المجرم ذي التكوين الإجرامي ، والمجرم المجنون ، والمجرم العرضي.
105- أ : المجرم ذي التكوين الإجرامي :
المجرم ذي التكوين الإجرامي شخص دون الرجل العادي (الذي يتطابق سلوكه مع مقتضيات المجتمع) Conformiste من حيث الملكات النفسية والوازع الخلقي ، ويتوافر لديه استعداد إجرامي أصيل ، يكشف عن كثافة القوة الدافعة إلى الجريمة وتخلف قوى المنع منها. وعادة ما يرجع إجرام هذا النمط إلى وجود شذوذ غريزي كمي أو كيفي ، يسهم في حدته عيب في التكوين العضوي أو خلل في الجهاز العصبي وفي الملكات الذهنية.
وقد أوضح دي توليو أن هذا النمط الإجرامي عادة ما يتميز بخصائص موروفولوجية ونفسية خاصة ، كالتكوين العاطفي المعيب ، والقابلية للاستثارة بسهولة ، وسرعة الانسياق وراء الأفكار التسلطية ، والأنانية المفرطة والاعتداد بالذات ، وحدة المزاج ، والميل للكذب. وقد يتميز البعض من أفراد هذا النمط بنمو جثماني ناقص – أقرب لما قال به لومبروزو في شأن المجرم بالميلاد – ناشئ عن خلل بيولوجي.
وعادة ما تتوافر هذه السمات لدى المجرمين المحترفين ومرتكبي الجرائم الخطيرة ، وعلى الأخص كلما كانت السببية الإجرامية ترجع إلى عوامل نفسية وداخلية متصلة بوظائف أجهزة الجسم المختلفة.
وقد فرق دي توليو داخل هذه الطائفة بين أربعة نماذج : المجرم ذو التكوين الناقص Le constitutionnel à orientation hyperévolutive ، وهو الشخص الذي يرجع إجرامه إلى خلل موروث أو مكتسب نتاج مرض في الطفولة في النمو العقلي يؤثر على قدراته الذكائية والشعورية. والمجرم ذو الاتجاه النفسي العصبي Le Constitutionnel à orientation psychonévrotique ، وهو من تدفعه اضطرابات نفسية وعصبية نحو الجريمة. والمجرم ذو الاتجاه السيكوباتي ، وهو من يدفعه للجريمة وجود اختلالات في الشخصية تؤثر على حالته المزاجية. وأخيراً المجرم ذو الاتجاه المختلط ، وهو المجرم الذي يجمع في شخصيته بعض خصائص واضطرابات الأنواع السابقة[58].
106- ب : المجرم المجنون :
المجرم المجنون Délinquant fou هو من يجتمع مع جنونه – أي انعدام القدرة على الإدراك والتمييز - استعداد إجرامي ناشئ عن خلل عضوي أو نفسي على نحو سبق ذكره ، بحيث يكون هذا الأخير هو السبب المباشر في دفعه نحو الجريمة ، وما الجنون إلا عاملاً يضاعف من قوة وحدة هذا الاستعداد. ولما كان هذا النمط يرجع إجرامه إلى عوامل تكوينية تتصف بالثبات والاستمرار سابقة على الجنون ، فإن شفاء مثل هذا المجرم من جنونه لا يحول دون معاودة نشاطه الإجرامي.
وهذا النمط يختلف – في رأي دي توليو – عن المجنون المجرم Le fou délinquant الذي لا يرجع إجرامه إلى تكوين إجرامي بل إلى الجنون كظاهرة مرضية. ولذا فإن شفاء المجنون المجرم من جنونه يعني زوال سبب إجرامه.
ولا شك أن للتمييز بين النوعين من المجرمين أثره البالغ حال تحديد المسئولية الجنائية وقدر الخطورة الإجرامية وما يرتبط بهما من جزاء جنائي (عقوبة أو تدبير) في مرحلة المحاكمة ، وكذا حال تحديد الأسلوب المناسب لتنفيذ هذا الجزاء في مرحلة التنفيذ العقابي.
107- ج : المجرم العرضي :
المجرم العرضي أو بالصدفة Criminel d’occasion هو الذي يرجع إجرامه إلى تأثير عوامل خارجية وبيئية أزادت من القوة الدافعة للجريمة وأضعفت من القوة المانعة لها. وبزوال العامل أو المثير الخارجي يزول الخلل بين تلك القوتين فلا يكرر هذا النوع من المجرمين جرائمه. وبالتالي فإن هذا النمط لا يتوافر لديه استعداد أو ميل إجرامي أصيل أو كامن. كما أن العيب العضوي أو النفسي (العامل الداخلي) - رغم اشتراكه في إنتاج الجريمة – ليس له إلا دور ثانوي في هذا الصدد. فهذا الأخير ليس كفيلاً بمفرده أن يدفعه نحو الجريمة متى لم يتوافر مثير خارجي يمكن أن يخل بالتوازن الموجود لديه بين القوة الدافعة والمانعة للجريمة.
وقد فرق دي توليو داخل هذه الطائفة الإجرامية بين ثلاثة نماذج من المجرمين : المجرم بالصدفة المحض ، والذي يرتكب أفعالاً قليلة الأهمية تحت وطأة ظروف استثنائية بحتة. والمجرم بالصدفة العاطفي ، الذي يرجع إجرامه إلى خلل نفسي ناشئ عن ثورة انفعال عاطفية. والمجرم بالصدفة الشائع ، والذي يرجع إجرامه لفساد في العادات الاجتماعية أو سوء الصحبة...الخ ، وهو النمط الغالب من المجرمين العرضيين أو بالصدفة.
وإذا كانت العوامل الداخلية المرتبطة بالتكوين العضوي والنفسي قد تشارك في تخليق السلوك الإجرامي لدى المجرم بالصدفة (كالخلل في الجهاز العصبي الذي يؤدي إلى سرعة الاستفزاز والتعدى العرضي بالإيذاء) ، إلا أنه في بعض الأحيان قد يضعف دور العوامل التكوينية في المشاركة في جريمة المجرم بالصدفة ، بحيث لا تعزى هذه الأخيرة في مجملها إلا لعوامل خارجية استثنائية محضة. ومن ذلك الجرائم التي تكون وليدة جهل بالقانون أو خطأ غير عمدي مبني على الإهمال أو عدم التبصر أو مخالفة القوانين واللوائح ، ومنها أيضاً تلك الجرائم التي ترتكب تحت وطأة اضطرابات سياسية أو اجتماعية أو ظروف حرب تضعف من ثقة الناس في سلطان القوة الحاكمة.
المطلب الثاني : تقدير نظرية دي توليو
ليس لأحد أن ينكر فضل تلك نظرية دي توليو في توجيه الباحثين نحو الاهتمام بدراسة السلوك الإجرامي دراسة متكاملة باعتباره نتاج عوامل فردية واجتماعية ، مما يجعلها تتفادى عيوب التفسير الأحادي للظاهرة الإجرامية. غير أنه قد وجهت لها بعض الانتقادات والتي تدور في مجملها حول فكرة الاستعداد الإجرامي ، ومن بين تلك العيوب ما يلي :
- قيل أن التحليل التكاملي وفق منطق تلك النظرية يشوبه العوار. ذلك أن هذه النظرية قد قطعت بأن العوامل الاجتماعية لا يمكن أن تحدث أثراً إلا إذا صادفت استعداداً إجرامياً ، تكشف عنه إذا كان أصلياً أو تثيره إذا كان عرضياً. والحق أن بعض الجرائم قد لا يقف ورائها أي استعداد إجرامي. ومنها على سبيل المثال بعض الجرائم التي تقع بسلوك سلبي (كعدم التبليغ عن المواليد في المواعيد المقررة أو عدم الحصول على بطاقة شخصية عند بلوغ سن معينة)[59] ، والجرائم المبنية على الإهمال ، وبعض الجرائم السياسية التي يدفع إليها غايات سامية تنبع من الغيرة على الوطن. ويمكن أن يمثل لها أيضاً بقتل الزوج لزوجته وشريكها بناء على توافر عذر الاستفزاز حال مفاجئته زوجته متلبسة بالزنا (المادة 237 عقوبات).
- كما عيب على فكرة الاستعداد الإجرامي أنها لا تصدق إلا على الجرائم الطبيعية التي تتعارض مع القيم الاجتماعية والمبادئ الأخلاقية الراسخة في الضمير الإنساني. أما الجرائم المصطنعة فلا ينسجم تفسيرها مع فكرة الاستعداد الإجرامي ، على اعتبار أنها مخلوق قانوني من صنع المشرع ورهن بإرادته سواء في وجودها أو في بقائها. فهذه الأخيرة إذاً أمر يتغير بتغير الزمان والمكان ، مما لا يسوغ معه القول بأن هناك استعداداً فطرياً لإتيان فعل أهم سماته التبدل والتغير.
- وقيل أيضاً أن الأخذ بمنطق هذه النظرية معناه الحكم على من يأتي فعلاً كان مباحاً ثم جرمه المشرع بأنه ذو ميل إجرامي على الرغم من أن عناصر شخصيته لم يطرأ عليها أي تبدل. وبالمثل فإن منطقها يعني أن الاستعداد أو الميل الإجرامي قد زال عن المجرم الذي يستمر في إتيان فعل كان مجرماً ثم أباحه المشرع على الرغم من أن عناصر شخصيته لم يطرأ عليها أي تغير يذكر.
- وقد انتقد الفقيه الإيطالي جرسبيني نظرية دي توليو من حيث كونها سعت إلى تفسير السلوك الإجرامي في جزء منه على أساس الخلل العضوي ، رغم أن الجريمة - وقبل كل شئ - إرادة إجرامية آثمة تتولد نتيجة التفاعل بين عدة عوامل نفسية. لذا كان يتعين على هذه النظرية أن تبحث عن السبب المباشر للإرادة الإجرامية في نطاق هذه العوامل النفسية ، أما العوامل العضوية فليس لها على هذه الإرادة تأثير مباشر.
- وأخيراً فقد عيب على تلك النظرية أنها أرجعت الخلل النفسي إلى وجود خلل عضوي سابق عليه ، على الرغم من كون الأخير ذو طبيعة مادية ، في حين أن النوع الأول ذو طبيعة معنوية ، ولا يتأتى الكشف عنه إلا باستخدام أسلوب التحليل النفسي وهو ما لم يتبعه دي توليو.
ولقد حاول دي توليو وأنصاره الدفاع عن منطق تلك النظرية وذلك بالرد على الانتقادات التي وجهت إليها ، وقد تلخص مجمل دفاعهم في الآتي :
- فقد قيل رداً على النفر من الفقه القائل بأن بعض الجرائم قد لا يقف ورائها أي استعداد إجرامي وإنما يكون مرجعها فقط إلى توافر عوامل خارجية اجتماعية ، بأنه يتعين تحليل هذه الجرائم في ضوء تقسيم دي توليو للاستعداد الإجرامي إلى استعداد أصلي واستعداد عارض. وفي ضوء ذلك يكون التفسير الصحيح للجرائم التي يخيل للبعض أنها لا تقع إلا بتأثير العوامل الاجتماعية وحدها ، أنها ثمرة التقاء هذه العوامل باستعداد إجرامي عارض وليس استعداداً إجرامياً أصلياً. فدور العامل الاجتماعي يتوقف عند حد إثارة أو استنفار الاستعداد الإجرامي عارض. فتلبس الزوجة بالزنا يثير ثائرة الزوج وتحرك بداخله مشاعر الغيرة ويقع أسيراً للاضطراب النفسي ، الذي يتمثل والحال هكذا استعداد عارض للإجرام ، فيتوافر بذلك عاملان يولدان جريمة الزوج : الأول خارجي يتمثل في رؤية زوجته متلبسة بالزنا ، والثاني داخلي وهو الاستعداد الإجرامي العارض. وللتدليل على صدق ذلك أن ليس كل زوج يفاجئ زوجته متلبسة بالزنا يقتلها حتماً ، بل قد يكتفي البعض بفصم عرى الزوجية ستراً للفضيحة وحماية لسمعته وسمعة أولاده ، بينما قد يلجأ البعض للقضاء أملاً في الانتقام القانوني من زوجته.
- كما رد البعض على القول بأن الاستعداد الإجرامي فكرة لا تصدق إلا على الجرائم الطبيعية وحدها ، بقولهم أن هذا النقد في غير موضعه. ذلك أن البحث في علم الإجرام – كما سبق القول - لا يعتد إلا بالمفهوم القانوني للجريمة ، مما ينبغي معه فهم الاستعداد الإجرامي على أنه ميل إلى خرق القوانين وانتهاك النظم الاجتماعية السائدة. ولعل هذا هو ما يفسر إقدام البعض على ارتكاب الجرائم المصطنعة دون البعض الآخر. هذا فضلاً عن كون التفرقة بين الجرائم الطبيعية والمصطنعة أمر محل نقد ، إذ أن كون الجريمة مصطنعة لا ينفي عنها أنها سلوك مناهض لقيم المجتمع التي يحرص الشارع الجنائي على حمايتها.
- أما ما وجهه الأستاذ جرسبيني من نقد فلا يتعدى – في رأي أنصار تلك النظرية - كونه مجرد تحفظ على نظرية الاستعداد الإجرامي دون أن يمس ذلك بجوهرها.
وهكذا نكون قد عرضنا للنظريات التي قيلت من أجل محاولة تحليل وتفسير الظاهرة الإجرامية ، منتهين إلى أن المنطق السليم يوجب النظر لهذه الأخيرة على أنها خليط من مجموعة عوامل فردية داخلية وأخرى اجتماعية خارجية. غير أنه يبقى السؤال قائماً حول قدر مساهمة العوامل الفردية والخارجية في الدفع نحو ارتكاب السلوك الإجرامي. والحق أن الإجابة على هذا التساؤل تفرض علينا أن نتحرى صلة كل عامل على حدة بظاهرة الإجرام ، وهو ما سوف نخصص له الباب التالي من هذا المؤلف.
108- تمهيد وتقسيم :
إذا كنا قد فرغنا للتو من التأكيد على استبعاد التفسير الأحادي للجريمة ، مفضلين أن نتبع في تحليل الظاهرة الإجرامية منهجاً تكاملياً ، يعتمد على تعدد أو تكامل عوامل تلك الأخيرة Constellation des facteurs ، وتوزعها بين عوامل فردية داخلية وأخرى اجتماعية خارجية ، فإنه من المؤكد أن العوامل على تنوعها – وكما سبق القول – لا تتساوى فيما بينها في الدفع نحو الجريمة. مما يستوجب منا أن نطرح على بساط البحث بشكل تحليلي العوامل الإجرامية Facteurs criminogènes من أجل الكشف عن القوة النسبية لبعض العوامل في تخليق الظاهرة الإجرامية ، في محاولة لتوقع مسار الجريمة في المستقبل أو العودة لها ، وتعين وسائل المكافحة الفعالة لها.
على أنه يجب الإقرار مسبقاً بعدم وجود حتمية Déterminisme لوقوع الجريمة على أثر توافر عامل أو مجموعة عوامل معينة ، كل ما هنالك أن بعض العوامل قد يكون لازماً وضرورياً من أجل إحداث تفاعل لكتلة ظروف يترتب عليها في النهاية حدوث الجريمة. وهذا الإقرار ينبع من أن بعض عوامل الجريمة قد لا تكون ذات صبغة إجرامية في ذاتها ، بل قد تكون مشروعة في ذاتها. فالسن والجنس والعنصر والظروف الجغرافية رغم أنها تدرس ضمن عوامل الجريمة إلا أنها بذاتها ليست مولدة للإجرام Criminogène بل هي عوامل محايدة ، وكل ما هنالك أن دراسة عوامل الجريمة إنما هي دراسة للارتباطات Corrélation بين متغيرات Facteurs عديدة لا يكون لبعضها قوة ذاتية في إيقاع الجريمة[60].
ومن هنا فليس للجريمة عامل بذاته ، كما أن عوامل الظاهرة الإجرامية لا تعبر عن أسباب تلك الظاهرة أو أسباب السلوك الإجرامي. ففكرة السببية Causalité المعروفة في العلوم الطبيعية لا تسري بذاتها في مجال علم الإجرام. ففي العلوم المنضبطة يعني السبب الظرف الذي بتوافره تحدث نتيجة معينة وبتخلفه تتخلف تلك النتيجة. وفي حالات معينة قد يكون السبب كافياً Cause suffisante لحدوث النتيجة ، وفي أخرى قد يكون ضرورياً Cause nécessaire لحدوثها ، وفي حالات مغايرة قد يكون ضرورياً وكافياً. أما في الدراسات الإجرامية فلا يمكن أن يوجد سبب ضروري وكاف لوقوع الجريمة ، بل يمكن فقط أن يوجد سبب ضروري لوقوع الجريمة إذا ما تفاعلت مع عوامل أخرى[61].
وعلى ذلك يحل – في مجال علم الإجرام - محل السببية العلمية سببية أخرى اجتماعية تعبر عن احتمالية وقوع الجريمة على أثر توافر ظرف معين. وهكذا يمكن أن يعرف العامل الإجرامي بأنه حالة (أي كل ما يتميز بالثبات كالسن والضعف العقلي…الخ) أو واقعة (كل ما يتسم بالحركة كفقد الأبوين أو الزوج) ذات صلة سببية بالظاهرة الإجرامية ، أو أنه كل عنصر موضوعي أو متغير ذو ارتباط كمي أو كيفي بتلك الظاهرة[62].
ولما كانت الظاهرة الإجرامية – وفق التقسيم الأكثر شيوعاً في الفقه للعوامل الإجرامية - نتاج اجتماع عوامل فردية (ترجع إلى التكوين البدني والعقلي والنفسي للمجرم) وأخرى خارجية (ترتبط بالوسط البيئي الذي يعيش فيه الفرد)[63] ، فإننا سوف نتناول هذين النوعين على الترتيب كل في فصل على حدة.
الفصل الأول : العوامل الفردية للظاهرة الإجرامية
109- تقسيم :
تتنوع في الحقيقة العوامل الفردية للسلوك الإجرامي ، ويمكننا أن نذكر من بينها التكوين الطبيعي للمجرم ، الوراثة الإجرامية ، المراحل العمرية ، السلالة أو العرق ، الجنس أو النوع ، الأمراض ، إدمان الخمور والمخدرات. ولكل عامل من تلك العوامل سوف نخصص مبحثاً مستقلاً.
المبحث الأول : التكوين الطبيعي للمجرم
110- تمهيد وتقسيم :
يقصد بالتكوين الطبيعي للمجرم الخصائص والصفات الخلقية التي تصاحب الشخص منذ ولادته ، سواء ما يتعلق بتكوينه العضوي أو العقلي أو النفسي.
لقد سبق وأن أبرزنا دور العلامة الإيطالي لومبروزو في تنبه الأذهان إلى علاقة التكوينالعضوي للفرد بالسلوك الإجرامي ، معلناً وجود ما أسماه المجرم بالتكوين أو المجرم بالميلاد. وأشار إلى أن المجرمين لهم صفات بيولوجية جسدية ونفسية تميزهم عن الأشخاص العاديين ، وأن توافر هذه الصفات في شخص معين لابد وأن تقوده حتماً إلى الجريمة.
وقد أشرنا من قبل إلى أن نظرية المجرم بالفطرة أو بالميلاد التي قال بها لومبروزو قد انتقدت ، ويكفي الإشارة هنا إلى أن الجريمة كما سبق أن ذكرنا مخلوق قانوني اصطنعه المشرع ، بحيث لا يتصور القول بأن توافر صفات بيولوجية معينة في الشخص هي التي تدفعه إلى ارتكاب السلوك الإجرامي ، ذلك أن تلك الصفات كانت موجودة فيه قبل إصباغ وصف الجريمة على فعله المرتكب[64].
ومن بعد جاء العالم الأمريكي هوتون Hooton – في مؤلفه "الجريمة والإنسان Crime and the Man" الصادر عام 1939 والذي أعاد طباعته باسم "المجرم الأمريكي The American Criminel" – منتهياً في أبحاثه إلى أنه لا توجد صفات عضوية معينة كتلك التي ذكرها لومبروزو تميز المجرمين عن غير المجرمين. وكل ما ثبتت ملاحظته أن المجرم عادة ما يكون أقل وزنا في المعتاد من الشخص العادي وأقل في القامة ، خاصةً بالنسبة لطائفة اللصوص التي تبتعد كثيراً عن الشخص العادي إذا ما قورنوا بمرتكبي جرائم النصب. وإلى هذا سبق وانتهى العالم الإنجليزي تشارلز جورنج Goring.
ولقد توصل العالم آن الأمريكي آن وليام شلدون جلوك Sheldon Glueck وزوجته إليانور جلوك Eleanor Glueck – أستاذة الأنثروبولوجيا بجامعة هارفارد وزميلا هوتون - إلى نتائج مغايرة من خلال دراستهم التي شملت نحو خمسمائة من كبار المجرمين ومقارنتهم بمجموعة ضابطة من الأشخاص العاديين. فقد أشارت الدراسة إلى أن 60% من المجرمين المعتادين يتميزون بقوة البدن مقابل 31% من الأشخاص غير المجرمين ، وأن 14% من المجرمين مقابل 31% من غير المجرمين يتميزون بالضعف ، الأمر الذي يقطع بأن الخصائص البدنية وحدها لا يمكن أن تكون الفيصل الذي يميز المجرمين عن غير المجرمين[65].
وهكذا لم يثبت وجود علاقة بين التكوين العضوي والسلوك الإجرامي ، بل على فرض وجود تلك العلاقة فمن الخطأ اعتبارها سبباً مباشراً للجريمة. فالجريمة لا تعبر عن صفات تشريحية أوعيوب عضوية بقدر ما تعبر عن شخصية إجرامية في نواحيها العقلية أو النفسية.
وفي ضوء ذلك فإننا سوف نكتفي بما سبق في شأن العلاقة بين التكوين الطبيعي العضوي ، قاصرين دراسة التكوين الطبيعي لشخص المجرم على بعض العوامل التي قيل بصلتها بالسلوك الإجرامي ، وهي على الترتيب ، الخلل في وظائف الأعضاء ، والشذوذ الغريزي ، ومستوى الذكاء.
المطلب الأول : الخـلل فـي وظـائـف الأعـضـاء
ربط بعض علماء الإجرام – وعلى رأسهم كما أشرنا من قبل بندا ودي توليو وماكس شلاب ولويس برمان - بين الخلل في وظائف أجهزة الجسم الداخلية ، كالجهاز العصبي والجهاز التناسلي والجهاز الدوري ، وبين السلوك الإجرامي. ولعل أهم ما أشير إليه في هذا الصدد هو الربط من ناحية بين خلل الجهاز الغددي وبين السلوك الإجرامي ، ومن ناحية أخرى بين الأمراض التي تصيب الجسم وأجهزته وبين هذا الأخير.
111- أولاً : خلل الجهاز الغددي [66]:
الغدد ، وفق ما يقرره علماء الطب ، نوعين : غدد قنوية وغدد صماء Ductless glands. وتشتمل الغدد القنوية على قنوات تنقل عن طريقها افرازات معينة ، إما إلى داخل الجسم كالغدد اللعابية أو الكبد والبنكرياس ، وإما إلى خارجه كالغدد العرقية والدمعية والدهنية.
أما الغدد الصماء فلا تشتمل على قنوات خارجية ، بل تقوم بتحويل المواد الغذائية التي ينقلها إليها الدم إلى هرمونات كي تعيد نقلها مرة ثانية إلى الدم الذي يوزعها بدوره على الجسم. والغدد الصماء تضم : الغدة الدرقية Thyriod الموجودة في مقدمة الجزء الأسفل من الرقبة على جانبي القصبة الهوائية ، والغدة المجاورة لها Parathyroid ، والغدة النخامية Pituitary الموجودة في مؤخرة الرأس ، والغدة الصنوبرية Pineal التي توجد في وسط المخ في أعلى اتجاه العمود الفقري ، والغدة الكظرية Surrenal أو الادرينالية Adrenals ، والغدد الجنسية Sex glands.
وقد خلص علماء الإجرام إلى أن افرازات الغدد الصماء له أثر كبير على السلوك الإجرامي. ذلك أن افرازات هذه الغدد تؤثر تأثيرا مباشراً على الكفاءة الوظيفية لأجهزة الجسم المختلفة ، التي تؤثر بالسلب على التكوين العضوي والنفسي للفرد ، مما يجعله سهل الاستجابة للمؤثرات الخارجية ، ومن ثم يسهل ترديه في سبيل الجريمة.
وعلى سبيل المثال فإن ازدياد افرازات الغدد الدرقية يؤدي إلى الاندفاع الشديد والقلق والشعور بعدم الاستقرار والتوتر العصبي مما يدفع الشخص إلى ارتكاب جرائم الاعتداء على الأشخاص ، في حين أن قلة إفرازها يؤدي إلى الخمول الذهني وإلى نوع من البلادة الذهنية عند الأطفال في بعض الأحيان وإلى فقدان الذاكرة في الحالات المرضية الشديدة.
كما تبين أن النقص في افرازات الغدد النخامية يؤدي إلى شعور أصحابها بالجبن والانعزالية والانطواء. كما قد يؤدي ذلك إلى اضطرار بعض الفتيات إلى الانحراف الخلقي عندما يبحثن عن الصلة بالجنس الأخر كنوع من التعويض العاطفي بسبب إحساسهن الدفين بالنقص.
كما تبين أيضا أن زيادة إفراز الغدة فوق الكلية لمادة الأدرينالين يؤدي إلى تمتع الشخص بقدرة عالية على التركيز والاستجابة ، بعكس ما لو نقص هذا الإفراز.
ويعتقد البعض من أطباء النفس وعلماء السيكولوجية الهرمونية Psychoendocrinology أن ضمور الغدة الصنبورية في بداية مرحلة المراهقة يمنع من النضج الجنسي الطبيعي ، وأن ورم الغدة الصنبورية قد يؤدي إلى النضج الجنسي قبل الأوان ، الأمر الذي يؤثر في الحالتين على الناحية النفسية للفرد.
والواقع أنه لا يجب التسرع في الربط بين الخلل في وظائف الغدد وبين السلوك الإجرامي ، ذلك أن كثير من الغدد يفرز أكثر من هرمون والهرمونات المفرزة من كل غدة تتأثر بدورها بما تفرزه الغدد الأخرى ، والجهاز العصبي بدوره يؤثر في هذه الافرازات ويتأثر بها. فضلاً عن أن غموضاً ما زال يكتنف علم وظائف الغدد ومدى تأثير افرازات هذه الغدد على نمو الإنسان ونضجه وحالته العضوية والنفسية والعقلية.
112- ثانياً : الأمراض العضوية :
يقصد بالمرض العضوي الخلل الذي يصيب أحد أجهزة الجسم. ولقد كشفت الدراسات عن أن هناك من الأمراض العضوية ما يرتبط بالسلوك الإجرامي ، ومنها على الأخص : الزهري ، السل ، الحميات ، إصابات الرأس والتهابات أغشية المخ[67].
فلقد ثبت أن ميكروب مرض الزهري Syphilis يحدث لدى المصاب به اضطراباً في الجهاز العصبي مما يجعله عرضة للإصابة بأحد الأمراض العقلية كالشلل الجنوني العام والصرع ، أو عرضة للتقلبات المزاجية وعدم اتساق الأفكار. كما ينتج عن هذا المرض آثاراً نفسية تضعف لدى المصاب به السيطرة على رغباته وكبح جماح نفسه ، فيسهل انقياده لسبيل الجريمة.
كما أكد البعض وجود صلة بين مرض السل Tuberculose والسلوك الإجرامي. والقول بذلك إنما مرجعه ما يسببه المرض من ضعف في قدرة الشخص على التحكم والسيطرة على غرائزه وميوله وشدة حساسيته وسرعة استجابته للمؤثرات الخارجية. ويحدث مرض السل بصفة خاصة خللاً في الغريزة الجنسية ، مما يدفع المريض به إلى ارتكاب جرائم هتك العرض والاغتصاب.
ولقد دلل دي توليو على أنه يوجد من بين كل ألف سجين ما لا يقل عن 203 منهم مصاب بمرض السل. كما أثبت العالم البلجيكي فيرفاك Vervaeck أن 10% من بين 1613 سجين بلجيكي ينتمون إلى اسر مصابة بالسل ، وانتقل المرض بين أبنائها عن طريق الوراثة لإصابة أحد الأبوين به.
كما أن الإصابة ببعض الحميات يمكن أن يتسبب في إحداث بعض الاضطرابات في الإدراك والإرادة ، كاضطراب الذاكرة وشرود الذهن التفكير والهذيان. ومن بين الحميات التي يمكن أن تحدث خللاً في الجانب الإرادي للشخص الملاريا والتيفود والحمى الشوكية أو الحمى المخية. ولعل هذا النوع الأخير هو الأخطر من بينها ، إذ تنال من صفات الشخصية فتغير في طباعها وانفعالاتها وتنال من القدرة على التحكم في الغرائز والميول. وهكذا يمكن أن يقدم المصاب بها على ارتكاب أشد أنواع الجرائم خطورة كالقتل والعاهات المستديمة والسرقة بالإكراه والجرائم الجنسية.
وتأتي إصابات الرأس والتهابات في أغشية المخ كأحد العوامل التي قد تقف وراء الظاهرة الإجرامية لما تحدثه هذه الإصابات والالتهابات من اختلالات نفسية وتغيرات حادة في الشخصية. وعادة ما تكون هذه الإصابات مرتبطة بخلل أو مرض أصاب الأم في فترة الحمل. ولعل هذا يقف وراء اختلاف السلوك الإجرامي للتوائم المتماثلة رغم وحدة الظروف البيئية ، على ما سنرى فيما بعد.
وبصفة عامة يجب التحرز من اطلاق القول بالصلة الحتمية بين السلوك الإجرامي وبين المرض العضوي ، ذلك أن تلك الصلة ما زالت محل شك نظراً لأن ما أجرى من بحوث في هذا الصدد كان قد تم على نزلاء السجون بما لا يقطع ما إذا كان المرض سابقاً على دخول المؤسسة العقابية أم لاحقاً عليها.
المطلب الثاني : الــشــذوذ الغريزي
113- تمهيد :
الغرائز هي مجموعة من الميول الفطرية غير الواعية الكامنة في النفس البشرية ، والتي توجه السلوك الإنساني وجهة معينة.
ويمكن تقسيم الغرائز إلى نوعين رئيسيين هما غريزة حفظ أو حب الذات Instinct de conservation والغريزة الجنسية أو غريزة حفظ النوعInstinct de reproduction. ويتفرع عن هذين النوعين غرائز فرعية بعضها نفسي وبعضها بيولوجي أو حيوي. فيتفرع عن غريزة حب الذات غريزة الاقتناء ، وغريزة طلب التغذية ، وغريزة الفضول ، وغريزة حب السيطرة أو تأكيد الذات ، وغريزة الهرب ، وغريزة الاقتتال والدفاع ، وغريزة الخضوع. ويتفرع عن الغريزة الجنسية غريزة التناسل وغريزة الأبوة أو الأمومة.
ويذكر أن هناك صلة بين الاضطرابات الغريزية والسلوك الإجرامي ، ذلك أن أي اضطرابات تصيب الغرائز تؤثر بالضرورة على السلوك الإنساني بحسبانها تمثل الدافع أو المحرك لهذا الأخير. فالغرائز هي المعبر الحقيقي عن أغوار النفس الإنسانية ، وهي التي تقف دائما وراء الأفعال أيا كانت صورتها ، ومنها الأفعال الإجرامية[68].
وللشذوذ الغريزي صور ثلاث : فقد يتمثل في ازدياد قوتها عن الحد الطبيعي ، وإما أن يتمثل في ضعفها عن هذا الحد ، وإما أن يتمثل في انحرافها عن اتجاهها الطبيعي.
وسوف نبين فيما يلي أوجه الشذوذ أو الاضطراب الذي يصيب النوعين الرئيسيين من الغرائز ، قبل أن نعرض لصلة الشذوذ الغريزي بالسلوك الإجرامي.
114- أولا : الشذوذ في غريزة حب الذات :
يؤدي الاضطراب في غريزة حب الذات إلى ارتكاب جرائم الاعتداء على الأموال. فسبق القول أن غريزة الاقتناء أو التملك Instinct de propriété من الغرائز التي تتفرع عن غريزة حب الذات. فانحراف هذه الغريزة قد يدفع الشخص إلى سرقة أشياء تافه - وخاصة من المحلات التجارية – رغم قدرته على إشباعها بطريق مشروع ، وهو ما يعبر عنه بجنون السرقة أو الكليبتومانيا Kleptomanie. وقد يتمثل انحرافها في البخل الشديد الذي يدفع صاحبه لارتكاب جريمة التسول رغبة في جمع الأموال.
وقد يتخذ انحراف غريزة الاقتناء صورة الإسراف على النفس فيما يسمى بجنون الشراء أو الأونيومانياOwniomanie ، أي شراء الشخص أشياء ليس حاجة لها ، أو صورة الإسراف على الغير فيما يسمى بجنون الإهداء أو الدونرمانياDonormanie ، أي تقديم الهدايا أيا كانت قيمتها بدون مناسبة تستدعي ذلك. ورغبة في الحصول على المال لتحقيق كلا الأمرين قد يندفع الشخص في تيار جرائم السرقة أو النصب أو الرشوة أو الاختلاس...الخ.
والطمع Cupidité احدى أنماط شذوذ غريزة حب الذات ، فهذا الخلل يدفع صاحبه لمحاولة الاستئثار بأموال الغير ، وفي سبيل ذلك قد يرتكب جرائم عديدة ، أو يعتاد المقامرة وهي تكون أيضاً جريمة في بعض التشريعات.
ومن الغرائز التي تتفرع عن غريزة حب الذات غريزة التغذية وانفعالها الجوع. فشذوذ هذه الغريزة قد يتخذ صورة نهم أو شره تدفع بصاحبها – وخاصة لدي مرضي العقول - إلى سرقة بعض المأكولات أو المشروبات أو بعض النقود لإشباع هذه الرغبة ، وغالبا ما يتمثل هذا الشذوذ في الميل نحو تناول مواد غريبة بديلاً للطعام كالطين أو الزجاج أو الفضلات. وقد يتخذ انحرافها صورة الإفراط في تناول المخدرات أو الخمور.
ومما يتفرع عن غريزة حب الذات غريزة الاقتتال والدفاع ، وقد يدفع شذوذ هذه الأخيرة إلى ارتكاب جرائم الاعتداء على الأشخاص من ضرب أو جرح أو قتل. وقد يصاب من يتوافر فيه هذا الخلل بما يسمى جنون الحريق Pyromanie ، أي حرق كل شئ يتخيل له أنه يمثل خطراً يهدد كيانه.
وقد ينحرف لدى الشخص شعوره الذاتي تجاه شخصه Sentiment de personnalité. فإذا ما اتخذ هذا الانحراف صورة مفرطة للاعتزاز بالنفس فقد يصاب الشخص بأمراض نفسية كجنون العظمة Paranoia وجنون الكذب Mythomanie ، ويظهر ذلك جلياً في مرتكبي جرائم النصب. وإذا ما تخلف هذا الشعور الذاتي فحتما ينقلب الشخص إلى صور إنسانية متشككة وانطوائية مما قد يدفعه أحياناً للانتحار أو الاعتداء على من يشك فيه (كعدوان بعض الأزواج على زوجاتهم شكاً في سلوكياتهم على نحو خاطئ).
115- ثانيا : الشذوذ في غريزة حفظ النوع :
لعل الشذوذ الغريزي المتصل بغريزة حفظ النوع أو الغريزة الجنسية من أكثر أنواع الشذوذ صلة وثيقة بالسلوك الإجرامي. ويتخذ الشذوذ في هذه الغريزة صوراً ثلاث : ولع أو هياج جنسي ، انحراف جنسي ، ضعف جنسي.
فإذا ما اتخذ شذوذ الغريزة الجنسية صورة الزيادة المفرطة فيما يسمى بالهياج أو الولع الجنسي Erotomanie ، أي سرعة الاستثارة فقد يندفع صاحبه رجلاً كان أم امرأة إلى ارتكاب جرائم الاغتصاب وهتك العرض والأفعال المخلة بالحياء.
أما إذا ما اتخذ الشذوذ في الغريزة الجنسية صورة الانحراف الجنسي" Déviation sexuelle فقد يندفع الشخص إلى ارتكاب جرائم العرض أو قتل العشيق أو التعذيب أو الاغتصاب. وقد يؤدي هذا الانحراف إلى إتباع أساليب شاذة حال التعبير عن الرغبة الجنسية. ومن أهم صور هذا الانحراف المرض المعروف باسم السادية[69] Sadisme أو التعذيب الجنسي ، أي رغبة الشخص في إلحاق الأذى بالطرف الأخر وإيلامه ، بحسبان أن هذا الإيذاء أو الإيلام هو المثير الوحيد لغريزته الجنسية. وقد يكون هذا الإيلام سابقاً أو معاصراً أو لاحقاً على الاتصال الجنسي. بل قد يكون أحياناً بديلا عن هذا الاتصال في الحالات التي يشبع فيها الشخص غريزته الجنسية عن طريق إزهاق روح الغير أو تعذيبه دون إتيان أي اتصال جنسي حقيقي.
وتمثل الماسوكية[70] Masochisme ، أي استعذاب القسوة والألم حال الممارسة الجنسية ، أحد صور انحراف الغريزة الجنسية. فالشخص المصاب بها يسعى إلى الحصول على شعور بالارتياح عن طريق تحمل العذاب الناجم عن أفعال تنطوي على المساس بسلامة جسمه ينزلها به شخص معين. فهذا الألم هو السبيل الوحيد للحصول على الإشباع الجنسي.
وقد تؤدي الاضطرابات في الغريزة الجنسية إلى انحراف الميل الجنسي عن اتجاهه الطبيعي ، ومن أمثلة ذلك المثلية الجنسية Homosexualité ، أي الميل لممارسة اللواط بين الرجال أو المساحقة بين النساء ، والميل الجنسي نحو الأقارب والمحرمات Inceste ، والميل الجنسي نحو الحيوان ou Zoophilie Bestialité ، والميل الجنسي نحو الأطفال Pédophilie ، أو الميل لمواقعة جثث الموتى Nécrophilie. ومن صور هذا الانحراف أيضاً الميل الجنسي نحو الرمز Transvestisme ، أي الميل للارتداء الملابس الداخلية للجنس الأخر أو وضع خصلات الشعر أو استعمال أدوات الماكياج ، سواء قبل أو أثناء الاتصال الجنسي. وقد يأخذ الانحراف صورة الجنسية المضادة Transsexualité ، أي التعارض بين الفرد وجنسه كما يدركه عقلياً وبين شعوره الجنسي الحقيقي. فهو مثلاً يعلم أنه ذكر ولكنه يشعر بأنه أنثى.
ويفسر لنا فقدان الغريزة الجنسية أو فتورها أو عدم كفايتها إتيان بعض الأفعال الجنسية كالعرض الجنسي Striptease (Exhibitionnisme) أو التلصص الجنسي Voyeurisme.
كذلك فإن الشذوذ في غريزة الأمومة أو الأبوة المتفرعة عن الغريزة الجنسية قد يفسر لنا استعمال القسوة وسوء المعاملة مع الأطفال بحجة تأديبهم. وقد يفسر لنا انحراف غريزة الأبوة على وجه الخصوص ارتكاب الآباء لجريمة قطع النفقة أو الهجر العائلي Abandon de famille ، أو ما يصدر منهم من إنكار نسب أو الإهمال في الواجبات الأسرية.
116- ثالثاً : الصلة بين الشذوذ الغريزي والسلوك الإجرامي :
في الواقع أن ما تقدم لا يقطع بوجود علاقة حتمية بين الشذوذ الغريزي والسلوك الإجرامي ، فهذه العلاقة تقوم فقط عندما يكون اضطراب الغريزة أو شذوذها هو الدافع إلى سلوك طريق الجريمة. فالميل ناحية فعل معين لا يعني حتمية وقوعه La tendance à l’action n’implique pas la fatalité de l’action. فالصلة إذا بين الأمرين صلة احتمالية بحيث لا يمكن تفسير الظاهرة الإجرامية على مجرد التكوين الغريزي للفرد ، فالأمر يتوقف على مشاركة عوامل أخرى بعض منها فردي وبعض منها اجتماعي.
فقد يتوافر لدى شخص ما اضطراب أو شذوذ غريزي دون أن يؤدي ذلك إلى ارتكاب الجريمة ، ويتحقق ذلك عندما يتوافر لدى الشخص غريزة أخرى سامية يستطيع هذا الشخص من خلالها السيطرة على سلوكه وكبح جماح غريزته الشاذة أو المنحرفة.
ومن ناحية أخرى قد لا يكون الشخص مصاباً باضطراب أو شذوذ غريزي ومع ذلك نراه يرتكب السلوك الإجرامي بفعل عوامل أخرى فردية أو اجتماعية. ومن قبيل ذلك من يرتكب جريمة من جرائم العرض أو يأتي أفعال جنسية شاذة تحت تأثير الخمر أو لضعف عقلي أو خلل في الشعور. وهذا بالفعل ما أثبتته دراسة في أجريت في السويد على مرتكبي الاتصال الجنسي بالمحارم ، إذ تبين أن عدد كبير منهم يعاني ضعفاً عقلياً وأكثرهم ينتمي إلى الطبقات الدنيا في الأحياء المكدسة سكانياً التي تعاني "الأسودين" الجهل والفقر.
وأخيراً فقد تصدر عن الشخص تصرفات جنسية شاذة دون أن يعبر ذلك عن انحراف حقيقي للغريزة الجنسية. فالميل نحو ذات الجنس - وإن بدا شذوذا غريزياً - قد يكون مجرد بديل عن إشباع الغريزة الجنسية بالشكل الطبيعي إذا لم تكن هناك وسيلة مشروعة لإشباعها ، الأمر الذي يحدث في الأماكن التي يجتمع فيها حشد كبير من نفس الجنس ، كالمدارس الداخلية والسجون والثكنات العسكرية. لذا فسرعان ما تختفي هذه التصرفات الجنسية الشاذة بزوال الدافع إليها. كما أن الميل نحو الأطفال الذي يظهر بالنسبة للمراهقين في فترات البلوغ قد لا يعبر عن شذوذ غريزي بقدر ما يعبر عن مجرد حب استطلاع لكوامن غريزة نضجت مبكراً.
المطلب الثالث : مــســتــوى الذكاء
117- أولاً : المقصود بالذكاء وطرق قياسه :
يرتبط الذكاء L’intelligence بمجموعة من الإمكانيات والقدرات المستقبلة Réceptrices التي تمكن الشخص من انتهاج سلوك معين يتفق ويتلاءم مع ظروف بيئته وما يصادفه من مواقف. وقد عرفه Wechsler بأنه القدرة الإجمالية والمعقدة للشخص على التصرف لتحقيق غاية معينة والتفكير بطريقة عقلانية وإقامة صلات مفيدة مع الوسط الذي يعيش فيه[71]. ومن بين الإمكانيات أو القدرات التي تكون الذكاء الإدراك الحسي أو الوعي ، وما يشمله من ملكة الانتباه وسرعة التذكر وتداعي الأفكار ، والتصور والتخيل ، وطريقة التفكير ، والقدرة على التحليل والتأصيل.
ولا شك أن الناس يختلفون فيما بينهم في قدر ما يتمتعون به من ذكاء. فمنهم العباقرة النابغون ، وهم يمثلون الفئة الضئيلة من المجتمع ، ومنهم متوسطي الذكاء وهم الكثرة الغالبة ، ومنهم ضعاف العقول أو قليلو الذكاء وهم الذين يعانون عجزاً أو نقصاً في قدراتهم العقلية يعوقهم عن انتهاج سلوك السبيل الذي يعينهم على التكيف والتلاؤم مع البيئة الخارجية ، وهم كالفئة الأولى عددهم قليل بين الناس.
ويمكن التمييز بين عدة أنواع من الذكاء. فهناك الذكاء العملي والذكاء الفكري والذكاء الفني. ومن هنا يتنوع الأفراد في مهنهم فنجد منهم المفكرون والفنانون ، الذين يتميزون بتفوق في قدرات الذكاء الفكري والفني ، كالتفكير وملكة التذكر والتخيل والتصور ، ونجد منهم الحرفيون أو المهنيون الذين يمكنهم استخدام ذكائهم العملي في الأنشطة المادية بدرجة عالية من المرونة تناسب حاجات المجتمع.
ويختلف الأفراد من حيث نطاق الذكاء ، فنجد من الناس من يتميز بذكاء عام يشمل كافة الإمكانيات والقدرات العقلية ، ونجد منهم من يكون الذكاء لديه خاصاً ، أي يتعلق بكفاءة أو قدرة خاصة ، كالقدرة على الإبداع.
ولقد أمكن للباحثين قياس معدل الذكاء Quotient intellectuel لدى الأفراد عن طريق ما يعرف باختبارات الذكاء أو الاختبارات العقلية Mental Tests ، وأهمها ما يعتمد على المقابلة بين العمر العقلي والعمر الزمني. ويعبر العمر العقلي عن الملكات الذهنية للفرد كما هي موجودة بالفعل بصرف النظر عن العمر الحقيقي له. ويتم قياس العمر العقلي من خلال مجموعة من الأسئلة ، يتم ترجمة معدل الإجابات الصحيحة وسرعة الإجابة عليها إلى درجات ، يساعد مجموعها على تحديد معدل ذكاء الفرد بغض النظر عن عمره الزمني ، أو المقارنة بين معدل ذكاء شخص وآخر أو بين مجموعة من الأفراد وأخرى.
وقد استخدم العالم الألماني ولهلم شتيرن Stern Wilhelm هذه الطريقة في صياغة قانونه حول قياس معدل الذكاء.
فلديه أن معدل الذكاء = (العمر العقلي ÷ العمر الزمني ) × 100
ويتحدد العمر العقلي للفرد عن طريق وضع عدة اختبارات تناسب أعماراً مختلفة تقارب السن الذي بلغه الفرد وقت الاختبار ، ويمكن تحديد مستوى ذكائه عن طريق المقارنة بين عمره العقلي وعمره الزمني. فإذا قدم لشخص عمره عشرون سنة عدة اختبارات أعدت لسن 15 سنة و 20 سنة و 30 سنة ، أمكن قياس معدل ذكائه كما يلي : إذا اجتاز الاختبار المعد لسن 15 سنة وأخفق في الأعمار اللاحقة ، فمعنى ذلك أن معدل ذكائه 75% أما إذا اجتاز الاختبار الثاني أي المعد لمن هم في مثل سنه ، فإن معدل ذكائه يكون 100% ، أي أن عمره العقلي يكون مساوياً لعمره الزمني. أما إذا اجتاز الاختبار المعد لسن 30 سنة فإن معدل ذكائه يكون 150%.
ويحدد علماء النفس الذكاء المتوسط بما يتراوح بين 90% و100% والذكاء الخارق بما يزيد عن 120 % والذكاء الأقل من العادي بما يقل عن 80% وهو ذكاء ضعاف العقول.
ويتدرج ذكاء ضعاف العقول بدوره إلى ثلاثة درجات : ذكاء المعتوهين ، ويتراوح بين صفر% و25% وهي نفس النسبة التي يكون عليها ذكاء الأطفال في الثانية أو الثالثة من عمرهم ، وتنعدم مسئولية هؤلاء الجنائية ، فهم غير قادرين على القيام بأعبائهم الشخصية ووقاية أنفسهم وتكون لغتهم غير مفهومة. وهناك ذكاء البلهاء ، وهو الذي يعادل ذكاء الأحداث في سن السادسة ويتراوح بين 25% و50% ، وتخفف بعض التشريعات المسئولية الجنائية لهؤلاء ، فهم عادة يكونوا قادرين على القيام بأعبائهم الشخصية ووقاية أنفسهم من أخطار الحياة اليومية ، ولكنهم عاجزين عن تعلم القراءة والكتابة. وأخيراً هناك ذكاء الحمقى ، ويتراوح بين 50 % و80% وهي نسبة تقارب ذكاء طفل العاشرة ، وهولاء تظل مسئوليتهم الجنائية كاملة ، إذ أنهم قادرين تماماً على القيام ببعض الأعمال البسيطة دون إشراف متواصل ، ولكنهم يحتاجون إلى إشراف عام إذ من اليسير إغراء البنين منهم على ارتكاب جرائم معينة وخاصة السرقة ، وإغواء البنات على ممارسة الرذيلة.
118- ثانياً : الصلة بين مستوى الذكاء والسلوك الإجرامي:
توزع الباحثون في مجال الدراسات الإجرامية حول تأصيل العلاقة بين الضعف أو التخلف العقلي Arriération mentale والظاهرة الإجرامية على رأيين. فقد اتجه البعض من التقليديين إلى التقرير بوجود علاقة مطلقة ووثيقة بينهما ، في حين أنكر البعض الآخر من أنصار الاتجاه الحديث وجود مثل هذه العلاقة المطلقة.
119- أ : الاتجاه التقليدي :
ينادي هذا الاتجاه بوجود علاقة وثيقة ومباشرة بين الضعف العقلي والظاهرة الإجرامية. فقد كان السائد في القرن التاسع عشر لدى بعض الباحثين الأمريكيين أن ثمة علاقة وثيقة ومباشرة بين الضعف العقلي والسلوك الإجرامي. فجميع المجرمين والمنحرفين وفقاً لهذا الاتجاه لديهم دونية عقلية ، وإن تفاوتت درجة هذه الدونية. ويترتب على ذلك أن سياسة التعقيم أو عزل ضعاف العقول هي الوسيلة الفعالة والوحيدة للوقاية من الجريمة ومعاملة المجرمين. ولقد أحصي فقط في الولايات المتحدة عام 1956 نحو خمسون ألفاً من حالات التعقيم الخاصة بمرضى العقول.
وهناك من الدراسات ما قطعت بوجود هذه الصلة. ففي مطلع القرن العشرين ذهب العالم الأمريكي هنري جودارد Goddard – على ما سنرى حين دراسة الوراثة الإجرامية - إلى التأكيد على أن معظم الأفراد الجانحين من ذوي العقليات الضعيفة وأن 89% من نزلاء المؤسسات العقابية الأمريكية من الأغبياء أو ناقصي العقول. الأمر الذي أثبتته دراسة العالم جلوك Gluek على نحو 608 من نزلاء سجن Sing Sing ، إذ قرر أن ما يزيد على 59% هم من المصابين بمرض وشذوذ عقلي ، وحوالي 28.1% من المصابين بالهوس ، و18.9% من السيكوباتيين.
وبين عامي 1930 و1940 أجرى العالم بانالي Banaly دراسة على نزلاء ذات السجن أثبت خلالها أن 1% منهم مصابون بالهوس ، ونحو 20% غير ناضجين عاطفياً ، و17% منهم من السيكوباتيين[72].
والحق أن هذا الاتجاه معيب ومنتقد . فقد تبين أن النتائج التي أسفرت عنها هذه الإحصاءات لم تكن دقيقة ، إلا أنها استخلصت على أساس عدد الذين تم القبض عليهم وإدانتهم ، وليس على أساس عدد الجرائم المرتكبة بالفعل. فضلاً عن أن كثيراً من المجرمين الأذكياء هم الذين يفلتون من أيدي رجال العدالة ، أما ضعاف العقول فيكونون عرضة للقبض عليهم ، وبالتالي فإنهم يكونون نسبة كبيرة من نزلاء المؤسسات العقابية ، الأمر الذي يلقي ظلالا من الشك حول مدى قيمة النتائج المستخلصة من هذه الإحصاءات. يضاف إلى ذلك أن هذا الاتجاه لم يقدم لنا تفسيراً لعدم ارتكاب كثير من ضعاف العقول للجرائم ، ولو صح الربط الحتمي بين الضعف العقلي والسلوك الإجرامي لوجب أن يندفع كل ضعاف العقول إلى تيار الجريمة وهو ما يناقضه الواقع.
120- ب : الاتجاه الحديث :
ذهب أنصار هذا الاتجاه إلى أن العلاقة بين الضعف العقلي والظاهرة الإجرامية علاقة غير مباشر ولا تتسم بالحتمية ؛ وأن نسبة الذكاء بين المجرمين لا تختلف عن نسبته بين الأسوياء ، فيما عدا الحالات القليلة التي يقف فيها الضعف العقلي وراء السلوك الإجرامي بشكل مباشر. وقد خلص العالم الأمريكي سذرلاند Sutherland إلى عدم الربط بين معدل الذكاء والسلوك الإجرامي من خلال دراسة شملت حوالي 175000 مجرم بين عامي 1925 و1928. وقد ذكر أن نسبة ضعاف العقول بين عينة الدراسة لم تتعدى 20% ، وأن المسجونين ضعاف العقول لا يختلفون عن غيرهم من المسجونين فيما يصدر عنهم من أخطاء داخل السجن أو في نسبة من يطلق سراحهم بناءً على الإفراج الشرطي. كذلك فإن نسبة العائدين إلى ارتكاب الجريمة من المجرمين ضعاف العقول لا تختلف عن نسبة العائدين المجرمين.
وقد أجرى هيلي Healy بعد ذلك دراسات على أربعة آلاف من الشبان المجرمين في شيكاغو وبوسطن وخلص إلى أن 72.5% منهم يتمتعون بملكات ذهنية معتادة ، وأن نسبة ضعاف العقول منهم لا تزيد على 13.5%. وهي ذات النتيجة التي توصل إليها كل من Weiss وSamoliner في دراسة شملت 189 شاباً مجرماً ما بين 16 و21 سنة.
ويذهب أنصار هذا الاتجاه إلى أن الضعف العقلي وإن عد أحد عوامل الظاهرة الإجرامية إلا أنه لا يعدو أن يكون سبباً مهيأً لهذه الأخيرة ، ويتوقف ظهور السلوك الإجرامي للعالم الخارجي على عوامل أخرى بعضها نفسي وبعضها اجتماعي.
فمن من المقطوع به علمياً أن الضعف العقلي يؤثر في الجوانب النفسية للفرد ، وأنه كلما قلت نسبة ذكاء الشخص كلما ضعفت لديه القدرة على نقد ذاته وتبصر عواقب الأمور ، وكلما غلب عليه التقلب النفسي والانفعالي ، وضعفت أيضا سيطرته وتحكمه في غرائزه فيسهل انقياده لنداء هذه الأخيرة ، فيحاول إشباعها ولو بسلوك سبيل الجريمة.
ومن المؤكد أيضاً القاصر عقلياً قد يندفع إلى سبيل الجريمة ، ليس بفعل ضعفه العقلي ، بقدر ما يعود الأمر إلى ظروف اجتماعية تفاعلت مع هذا الأخير. فغالباً ما يتسبب الضعف العقلي في انغلاق سبل الكسب المشروع أمام صاحبه ، وكثيرا ما يؤدي إلى إخفاق الفرد في دراسته ، فتضيق فرص العمل ، فيدفعه كل ذلك إلى سلوك سبيل الجريمة. وإن وجد المصاب بهذا المرض عملاً فهو في الغالب عمل متدني يقربه من أفراد الطبقات الدنيا والتي تمتزج حياتها بالسلوكيات الإجرامية. وغالباً ما يكون ضعاف العقول أولى ضحايا الأزمات الاقتصادية التي تدفع أصحاب الأعمال إلى الاستغناء عن بعض العمال ، فيدفعه ذلك إلى التشرد والتسول. وأخيراً فإن ضعيف العقل كثيراً ما يكون موضع سخرية من قبل النساء ، الأمر الذي قد يدفعه إلى ارتكاب جرائم العرض أو الإيذاء البدني تجاههن.
وهكذا لا يكمن القول بوجود رباط مباشر بين مستوى الذكاء والسلوك الإجرامي ، غاية ما هنالك أننا نستطيع أن نقسم الجرائم وفقاً لمعيار الذكاء ودرجته إلى جرائم الأذكياء وجرائم الأغبياء. ولا يعني ذلك أن هناك جرائم تكون وقفاً على الأذكياء وأخرى مقصورة على الأغبياء ، فالشخص قد يرتكب أية جريمة ، وكل ما هنالك أن الفرد بطبعه يميل إلى ارتكاب الجريمة التي تتناسب مع معدل قدراته وملكاته الذهنية.
ويفترض النوع الأول المكون لجرائم الأذكياء في شخص مرتكبها قدرا عالياً من المهارات الذهنية ، كما هو الحال في جرائم النصب وتزوير المحررات وتزيف العملة وجرائم الجاسوسية أمن الدولة وجرائم التهريب الجمركي والضريبي. أما النوع الثاني المتمثل في جرائم الأغبياء فهي التي لا يتطلب في شخص مرتكبها إمكانيات أو قدرات ذهنية خاصة. بل يغلب أن يقدم على ارتكابها أفراد يقل مستوى ذكائهم عن المستوى الذكاء العام. ومن أمثلتها جرائم التسول ، والسب والقذف والفعل الفاضح ، وجرائم الحريق ، والدعارة ، والجرائم الماسة بالأطفال ، وجرائم السرقة والضرب والجرح ، والجرائم غير العمدية كالإصابة والقتل الخطأ.
المبحث الثاني : الوراثة الإجـــرامـــيـة
121- تقسيم :
لإبراز الدور الذي يمكن أن تلعبه الوراثة Hérédité في الدفع نحو الجريمة يتعين علينا أن نوضح أولاً المقصود بالوراثة وأنواعها ، ثم نبين الأساليب المستخدمة في الكشف عن الصلة بين الوراثة والسلوك الإجرامي[73].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] حول نظرية هوتون بالتفصيل :
J. Léauté, op. cit., p. 464 et s ; Sue Titus Reid, op. cit., p. 133 et s .
د. يسر أنور علي ود. آمال عثمان ، المرجع السابق ، ص126 وما بعدها ، د. عوض محمد عوض ، المرجع السابق ، ص82 وما بعدها ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص137 وما بعدها ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، 104 وما بعدها ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص82 وما بعدها ، د. سليمان عبد المنعم سليمان ، المرجع السابق ، ص232 وما بعدها ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص71 وما بعدها ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص62 وما بعدها ، د. حسن محمد ربيع ، المرجع السابق ، ص101 وما بعدها.
[2] د. جلال ثروت ، الظاهرة الإجرامية ، المرجع السابق ، ص59 ، د. مأمون سلامة ، أصول علم الإجرام ، المرجع السابق ، ص10 وما بعدها ، د. محمد زكي أبو عامر المرجع السابق ، ص11-12 د. أحمد شوقى أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص60 ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبعية ، المرجع السابق ، ص173 وما بعدها.
G. Stéfani, G. Levasseur et Jambu-Merlin, Criminologie et science pénitentiaire, op.cit., p.27 et s.
[3] د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبعية ، المرجع السابق ، ص218.
[4] لمزيد من التفصيل حول نظرية فرويد :
P. Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 272 et s ; G. Stéfani, G. Levasseur et R. Jambu-Merlin, op. cit., p. 183 et s ; J. Léauté, op. cit., p. 72 et s ; Sue Titus Reid, op. cit., p. 159 et s ; R. Gassin , op. cit., p. 182 et s.
المستشار محمد فتحي ، المرجع السابق ، ص78 وما بعدها ، د. سعد جلال ، المرجع السابق ، ص137 وما بعدها ، د. علي كمال ، النفس : انفعالاتها وأمراضها وعلاجها ، ج1 ، ط1 ، الدار العربية ، بغداد ، 1988 ، ص55 وما بعدها ، د. رؤوف عبيد ، المرجع السابق ، ص216 وما بعدها ، د. فوزية عبد الستار ، المرجع السابق ، ص38 وما بعدها ، د. عبد الفتاح الصيفي ، المرجع السابق ، ص235 وما بعدها ، د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص154 وما بعدها ، د. عوض محمد عوض ، المرجع السابق ،ص90 وما بعدها ، د. جلال ثروت ، المرجع السابق ، ص97 وما بعدها ، د. مأمون سلامة ، المرجع السابق ، ص193 وما بعدها ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص211 وما بعدها ، د. يسر أنور علي ود. آمال عثمان ، المرجع السابق ، ص135 وما بعدها ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص106 وما بعدها ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص84 وما بعدها ، د. عبد المنعم العوضي ، المرجع السابق ، ص100 وما بعدها ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، 159 وما بعدها ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص73 وما بعدها ، د. حسن محمد ربيع ، المرجع السابق ، ص104 وما بعدها ، د. سليمان عبد المنعم سليمان ، المرجع السابق ، ص253 وما بعدها ، د. علي عبد القادر القهوجي ود. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص56 وما بعدها.
[5] د. حسن الساعاتي ، التحليل الاجتماعي للشخصية ، المجلة الجنائية القومية ، مارس ، 1958 ، ع1 ، ص80 وما بعدها.
[6] بالتفصيل حول تلك النماذج ، د. مأمون سلامة ، المرجع السابق ، ص193 وما بعدها ، د. سليمان عبد المنعم سليمان ، المرجع السابق ، ص259 وما بعدها.
[7] د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص154 ، هامش 16-17 ، د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص155-156 ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص215-216 ، د. عوض محمد عوض ، المرجع السابق ، ص92 ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص91-92 ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص111-112 ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص75 وما بعدها ، د. محمد حسن ربيع ، المرجع السابق ، ص109-110 ، د. سليمان عبد المنعم سليمان ، المرجع السابق ، ص257 وما بعدها.
[8] F. Alexander and W. Healy, Roots of Crime, Alfred A. Knopf, Inc. New York, 1935, p. 285-287.
مشار إليه بواسطة ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص217.
[9] لمزيد من التفصيل حول نقد نظرية التحليل النفسي :
G. Vold, Theoretical Criminology, Oxford University Press, 1955, p. 126 and s.
[10] حول تلك البحوث راجع :
G. Stéfani, G. Levasseur et R. Jambu-Merlin, op. cit., p. 250 et s ; J. Léauté, op. cit., p. 509 et s ; Sue Titus Reid, op. cit., p. 156 et s ; D. Szabo, op. cit., p. 19 et s.
د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص155 وما بعدها ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص217 وما بعدها.
[11] D. Abrahamsen,Crime and the Human Mind, New York, 1945, Columbia University Press, pp. 67-72.
مشار إليه لدى ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص220.
[12] A. Aichhorn, Wayward Youth, New York, 1955, Meridian Books, p. 155.
مشار إليه لدى ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص219.
[13] J. Constant, A propos de l’école franco-belge du milieu social au XIXe siècle, Annales de la Faculté de droit de Liège, 1959, p. 35 et s.
[14] د. حسن محمد ربيع ، المرجع السابق ، ص29.
[15] R. Gassin, op. cit., p. 151 et s ; P. Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 98 et s.
د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص16 ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص96-97 ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص61-62 ، د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص12 ، د. فتوح عبد الله الشاذلي ، المرجع السابق ص32.
[16] ويمكن كذلك الإشارة إلى دراسة العالم الأمريكي أدون كلاانت ديكستر Dextre للإجرام في مدينتي نيويورك ودنفر ، والذي أوضح خلالها ارتفاع عدد المقبوض عليهم في جرائم كلما ارتفعت درجة الحرارة وارتفع الضغط الجوي.
G. Dexter, Weather influence, New York, 1904.
مشار إليه لدى ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص227. وراجع ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص94.
[17] J. Léauté, op. cit., p. 30 et s ; P. Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 97.
راجع د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص16 ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص62 ، د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص12-13 ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص79-80 ، د. عوض محمد عوض ، المرجع السابق ، ص96-97 ، د. عبد الفتاح الصيفي ، المرجع السابق ، ص110 وما بعدها ، د. فوزية عبد الستار ، المرجع السابق ، ص22 وما بعدها ، د. مأمون سلامة ، المرجع السابق ، ص13 وما بعدها ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص95 وما بعدها. هذا وقد عيب على اتجاه المدرسة الجغرافية أو الخرائطية اعتمادها على الأسلوب الإحصائي في الدراسة رغم ما يشوبه من عيوب. كما لم ينصب اهتمام هذه إلا على نوعين فقط من الجرائم هما جرائم الأموال والأشخاص. كما أن هذه المدرسة لم تكشف عما إذا كانت عوامل الطبيعة والمناخ تقف سبباً مباشراً وراء الجريمة ، أم أن دورها يقتصر على كونها محرك لعوامل أخرى. كل هذا فضلاً عن إهمالها دور العوامل الفردية البيولوجية والنفسية رغم مالها من دور في تفسير الجريمة ، بدليل أن البعض ينحو نحو الجريمة دون البعض الأخر رغم وحدة الظروف المناخية والطبيعية. راجع د. عوض محمد عوض ، المرجع السابق ، ص98 ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص97-98.
[18] د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص95-96.
[19] وكذا دراسات فون ليست Von Liszt في ألمانيا ، وبرنز Prinz في بلجيكا ، وفون هامل Van Hamel في هولندا ، وفونتسكي Fontsky في روسيا.
[20] فيقول الأستاذ الأمريكي جون جيلين Gillin John أنه كلما تقدم الزمن بالعلماء والباحثين لدراسة أسباب الجريمة كلما اقتربوا بشكل ملحوظ من الاتجاه الاجتماعي في تفسير السلوك الإجرامي. ولهذا بات من الصائب أن يشار إلى هذا الاتجاه في علم الإجرام بالمدرسة الأمريكية فحسب.
J. Gillin, Social Factors Affecting the Volume of Crime, A Symposium, Easton, American Academy of Medicine, 1914, pp. 53-67.
مشا إليه لدى ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص229.
[21] Sue Titus Reid, op. cit., p. 173.
د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص98 ، قريب من ذلك ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص229-230.
[22] حول تلك النظرية راجع :
Th. Sellin, Culture conflict and crime, New York, 1938 , Traduction francaise (Conflits de culture et criminalité), par M. Ancel ; Th. Sellin, Conflits culturels et criminalité, Conférences faits de l’Université libre de Bruxelles, 23-24 mars 1960, traduit de l’anglais par Mme P. Cornil, RDPC. 1960, p. 815 et s. et 879 et s ; Sue Titus Reid, op. cit., p. 195 et s , P. Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 111 et s.
د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص118 وما بعدها ، د. فوزية عبد الستار ، المرجع السابق ، ص51 وما بعدها ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص105 وما بعدها ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص120 وما بعدها ، د. علي عبد القادر القهوجي ود. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص75 وما بعدها.
[23] د. رؤوف عبيد ، المرجع السابق ، ص193 ، د. فوزية عبد الستار ، المرجع السابق ، ص48 وما بعدها ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص117 وما بعدها ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص231 وما بعدها ، د. حسن محمد ربيع ، المرجع السابق ، ص115 وما بعدها.
[24] راجع حول تلك النظرية :
A. Turk, Criminality and Legal Order, Chicago, 1969 ; R. Quinney, The Social Reality of Crime, Boston, 1970.
مشار إليهما لدي ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص240. وراجع أيضاً ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص120 وما بعدها.
Sue Titus Reid, op. cit., p. 201 et s.
[25] Sue Titus Reid, op. cit., p. 138 et s.
[26] Sue Titus Reid, op. cit., p. 205 et s.
د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص121-122.
[27] ويمكننا في هذا الصدد أن نشير إلى ما قام به العالمان ماتسا Matza وسكايز Skyes. فقد أشارا إلى أن المجرمين الأحداث لا ينحرفون تحت تأثير عوامل خاصة بهم تختلف عن تلك السائدة في عالم البالغين. فقد قالا بأن إجرام الأحداث تقف وراءه مبررات ، ليس من بينها لفظ قيم المجتمع. فالجريمة بالنسبة لهم فشل مقترن بالاعتذار Apologetic failure عن عدم احترام قيم المجتمع. وقد أطلق الباحثان على وسائل المجرمين في تبرير جرائمهم وسائل التحييد Techniques of neutralization ومن بين ذلك إنكار المسئولية عن الجريمة أو حدوث ضرر ناشئ عنها أو إنكار وجود مجني عليه في الجريمة...الخ. ويرى ماتسا أن المجرم ينزلق أو ينحرف Drifts نحو الجريمة ، وهو موقف وسط بين حتمية الاتجاه نحو الجريمة الذي قالت به المدرسة الوضعية وبين حرية الاختيار الكاملة الذي قالت به المدرسة الكلاسيكية. وقد سمى ماتسا هذا الموقف الوسط "الحتمية المعتدلة" Soft determinism. وقد عيب على هذه النظرية تركيزها على تفسير إجرام الأحداث فقط. وحتى في هذا النطاق فإن هذه النظرية جاءت غامضة في بعض أفكارها ، لا سيما فيما أسمته وسائل التحييد والحتمية المعتدلة. كما عيب عليها إنكارها خصوصية إجرام الأحداث من زاوية العوامل التي تغاير عوامل الجريمة لدى البالغين. راجع
Sue Titus Reid, op. cit., p.185 et s.
د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص110-111.
[28] R. Gassin, op. cit., p. 175 et s.
د. أخمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص108 وما بعدها ، د. فوزية عبد الستار ، المرجع السابق ، ص42-43 ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص107-108 .
[29] ويتفق العالم ميلر Miller مع ما ذهب إليه كوهين من أن المجرمين المنتمين إلى الطبقات الدنيا يتجاوبون مع ثقافة فرعية خاصة بهم تتميز عن الثقافة الفرعية التي تلاحظ لدى أفراد الطبقة الوسطى. ومن ذلك القيم التي تعلي من دور الزوجة في الأسرة لدى الطبقة الدنيا ، تعادل دور الزوج لدى الطبقات الأخرى. وعلى النقيض مما ذهب إليه كوهين ، يرى ميلر أن الحدث المنتمي إلى الطبقة الدنيا في المجتمع ينشأ لديه رد فعل مضاد للقيم السائدة في الطبقة الوسطى ، وهي قيم صعبة التحقيق في نظره. ومن نتاج هذا تتوالد الجريمة في الطبقات الدنيا. ولا يخفى ما في هذه النظرية من عيوب ، كشفت عنها البحوث التي أجريت في الولايات المتحدة والتي أثبتت أن تكوين ثقافة خاصة بالطبقة الدنيا لا يؤدي بالضرورة إلى نمو عصابات مجرمين بين الأفراد المنتمين إلى تلك الطبقة. كما أن منطق نظرية ميلر يؤدي إلى اختلاف نظرة الحدث إلى النماذج التقليدية للسلوك في المجتمع بحسب الطائفة والطبقة التي ينتمي إليها. وقد أثبتت الدراسات أن الغالبية العظمى من الشباب يتفقون على تفضيل السلوك المتطابق مع قيم المجتمع على السلوك الإجرامي ، لا خلاف في ذلك بين أبناء الطبقة الدنيا وبين أبناء الطبقة الوسطى.
Sue Titus Reid, op. cit., p. 190 et s.
د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص113-114.
[30] Sue Titus Reid, op. cit., p. 187 et s.
د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص111-112.
[31] لمزيد من التفصيل حول نقد تلك النظرية :
Sue Titus Reid, op. cit., p. 189 et s.
[32] J. Léauté, op. cit., p. 32 et s ; Sue Titus Reid, op. cit., p. 175 et s.
د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص103-104 ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص236 وما بعدها ، د. علي عبد القادر القهوجي ود. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص72-73 ، د. عوض محمد عوض ، المرجع السابق ، ص102-103 ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص89-90.
[33]R. Merton, Social Theory and Social Structure, New York, 1957, The Free Press.
مشار إليه لدى ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص238.
Sue Titus Reid, op. cit., p. 84 et s.
[34] راجع بالتفصيل :
Sue Titus Reid, op. cit., p. 180 et s.
د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص107.
[35] راجع حول النظرية الاقتصادية ونقدها بالتفصيل :
P. Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 98 et s ; R. Gassin, op. cit., p. 168 et s ; Sue Titus Reid, op. cit., p. 173 et s ; J. Léauté, op. cit., p. 290 et s ; H. Souchon, Marx et la question du crime, Année sociologique, 1974, p. 467 et s.
د. رؤوف عبيد ، المرجع السابق ، ص180 ، د. فوزية عبد الستار ، المرجع السابق ، ص46 وما بعدها ، د. عوض محمد عوض ، المرجع السابق ، ص99-100 ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص99 وما بعدها ، د. يسر أنور علي ود. آمال عثمان ، المرجع السابق ، ص162 وما بعدها ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص99 وما بعدها ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص127 وما بعدها ، د. علي عبد القادر القهوجي ود. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص66 وما بعدها ، د. حسن محمد ربيع ، المرجع السابق ، ص128 وما بعدها ، د. سليمان عبد المنعم سليمان ، المرجع السابق ، ص271 وما بعدها ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص99 وما بعدها.
[36] وقد ربط البعض بين الجريمة وبين العامل الاقتصادي ليس من زاوية الحتمية الاقتصادية ولكن من زاوية أن هذا العامل يلعب دوراً مهياً أو مسهلاً في الدفع نحو الجريمة. فيرى Tannebaum أن المجرمين يمثلون جزءاً من المجتمع شأنهم شأن أجزائه الأخرى كالتجار والأطباء ولمعلمون والمخترعون ورجال الأعمال. ويقدم المجتمع لكل من هذه الطوائف وسطا مسهلا للعمل الذي تقوم به. ومن ثم إذا أريد تغيير معدل الجريمة في المجتمع وجب النظر إلى هذا الأخير بأكمله. فالمجرم ليس مظهراً Symptôme من مظاهر الجماعة وإنما هو من إفرازها. فهذه الأخيرة هي التي تضع تحت تصرف المجرم وسائله ومثله العليا وأهدافه.
[37] ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى الدراسة التي أجراها فون كان Van Kan ونشرها في مؤلف له عام 1903 تحت عنوان الأسباب الاقتصادية للإجرام. وكذا نشير إلى رسالة الدكتوراه التي قدمها روزنج في عام 1929 حول الجريمة كنتاج اجتماعي واقتصادي.
J. Van Kan, Les causes économiques de la criminalité, Paris, 1903 ; G. Rozeng, Le crime comme produit social et économique, th. Paris 1929.
[38] W. A. Bonger, Criminality and Economic Conditions, Translated by Henry Horton, Little, Brown and co., Boston, 1916.
مشا إليه لدى ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص106.
[39] د. عبد الفتاح الصيفي ، المرجع السابق ، ص273.
[40] راجع لمزيد من التفصيل حول الدراسات البيئية ونقدها : د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص96 وما بعدها ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص115 وما بعدها ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص91-92.
[41] ويمكننا أن نشير كذلك إلى دراسة العالم فردريك تراشر Thrasher حول عصابات الأطفال بمدينة شيكاغو عام 1926 وأثبت خلالها وجود نحو 1313 عصبة من عصابات الأطفال ينتشرون في مناطق متفرقة من المدينة، والتي أسماها "مناطق حضانة الجنوح". راجع د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص96.
[42] G. Stéfani, G. Levasseur et R. Jambu-Merlin, op. cit., p. 93 et s ; P. Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 217 et s ; Sue Titus Reid, op. cit., p. 196 et s.
[43] في نقد هذا التحليل ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص123.
[44] J. Léauté, op. cit., p. 32 et s ; Sue Titus Reid, op. cit., p. 209 et s.
د. عوض محمد عوض ، المرجع السابق ، ص102 ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص126-127 ، د. يسر أنور علي ود. آمال عثمان ، المرجع السابق ، ص162 وما بعدها ، د. علي عبد القادر القهوجي ود. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص70-71 ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص241 وما بعدها ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص88-89.
[45] ويطلق الفقهاء على تلك النظرية مسميات أخرى مختلفة منها : نظرية المخالطة الفارقية ، نظرية التجمع التفاضلي ، نظرية المخالطة الفارقة ، نظرية العلاقات المتباينة ، نظرية المخالطة المتفاوتة ، نظرية الاختلاط التفاضلي ، نظرية الجماعات المتباينة.
[46] E. Sutherland and D. Cressey, Principels of Criminology, 8th. Ed. J. B. Lippincott Company, 1970. (Principes de criminologie, Traduction française, par M. Ancel, Cujas, 1966). D. Cressey, Application of the differential association theory, Journal of Criminal Law, Criminology and Police Science, vol. 43, May-June, 1952 ; P. Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 112 et s ; R. Gassin, op. cit., p. 170 et s ; Sue Titus Reid, op. cit., p. 211 et s.
وراجع د. حسن المرصفاوي واللواء محمود السباعي ، مبادئ علم الإجرام (الترجمة العربية لمؤلف سذرلاند وكريسي) ، مكتبة الأنجلو المصرية ، 1968. ولمزيد من التفصيل حول مضمون تلك النظرية ونقدها : د. رؤوف عبيد ، المرجع السابق ، ص205 وما بعدها ، د. عبد الفتاح الصيفي ، المرجع السابق ، ص263 وما بعدها ، د. يسر أنور علي ود. آمال عثمان ، المرجع السابق ، ص141 وما بعدها ، د. جلال ثروت ، المرجع السابق ، ص91 وما بعدها ، د. مأمون سلامة ، المرجع السابق ، ص136 وما بعدها ، د. فوزية عبد الستار ، المرجع السابق ، ص43 وما بعدها ، د. عوض محمد عوض ، المرجع السابق ، ص99-100 ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص127 وما بعدها ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص108 وما بعدها ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص123 وما بعدها ، د. علي عبد القادر القهوجي ود. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص79 وما بعدها ، د. حسن محمد ربيع ، المرجع السابق ، ص122 وما بعدها ، د. سليمان عبد المنعم سليمان ، المرجع السابق ، ص280 وما بعدها ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص247 وما بعدها ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص92 وما بعدها.
[47] راجع في خصائص جرائم الأعمال وميكانيزم مواجهة الجرائم الواقعة في مجال إدارة الشركات ، رسالتنا للدكتوراه باللغة الفرنسية :
Ahmed Marei, L’abus de gestion en droit pénal des affaires, th. Nantes, 2000.
وراجع المحاضرات المطبوعة التي ألقيناها على طلبة الدراسات العليا بدبلوم القانون الجنائي 2001-2002 و2002-2003 حول "الحماية الجنائية لأموال وائتمان الشركات ، محاضرات حول السياسة التشريعية والقضائية في فرنسا".
[48] لمزيد من التفصيل حول مضمون ونقد تلك النظرية :
W. Reckless, The Crime Problem, 2th. Ed. Appleton-Century, New York, 1955 ; Sue Titus Reid, op. cit., p. 229 et s.
د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص134 وما بعدها.
[49] حول مضمون ونقد تلك النظرية :
Sue Titus Reid, op. cit., p. 234 et s.
د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص138 وما بعدها (ويسميها نظرية خلع الأوصاف) ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص263 وما بعدها.
[50] حول مضمون نظرية فيري ونقدها : التفصيل حول مضمون تلك النظرية ونقدها :
F. Colin, Enrico Ferri et l’avant projet de code pénal italien, Bruxelles, 1925, p. 29 et s ; G. Stéfani, G. Levasseur et R. Jambu-Merlin, op. cit., p. 33 et s ; R. Gassin, op. cit., p. 157 et s.
د. عبد الفتاح الصيفي ، المرجع السابق ، ص276 وما بعدها ، د. يسر أنور علي ود. آمال عثمان ، المرجع السابق ، ص165 وما بعدها ، د. جلال ثروت ، المرجع السابق ، ص113 وما بعدها ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص103 وما بعدها ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص132 وما بعدها ، د. سليمان عبد المنعم سليمان ، المرجع السابق ، ص297 وما بعدها ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص99 وما بعدها.
[51] والبعض من أنصار الاتجاه التكاملي يرون أيضاً أن التحليل النهائي لسببية الجريمة سون يرجعها إلى عامل أو عاملين رئيسيين وعد أكبر من العوامل الثانوية والمهيأة. وهذا ما ذهب إليه عالم النفس البريطاني سيرل بيرت Cyril Burt والذي قسم عوامل الجريمة إلى درجات أربع : عامل ظاهر ، وعامل رئيسي مساعد ، وعامل ثانوي مهيأ ، والظروف الحاضرة غير المؤثرة.
[52] حول مضمون ونقد تلك النظرية :
P. Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 292 et s ; J. Léauté, op. cit., p. 470 ; R. Gassin, op. cit., p. 163 et s.
د. رؤوف عبيد ، المرجع السابق ، ص329 ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص135 وما بعدها ، د. حسن محمد ربيع ، المرجع السابق ، ص148 وما بعدها ، د. عبد المنعم العوضي ، المرجع السابق ، ص86 وما بعدها ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص133 وما بعدها.
[53] وهى ذات الملاحظة التي أكدها العالمان ماكس شلاب Schlapp وادوارد سميث Smith في مؤلفهما حول علم الإجرام الجديد ، ويقصدان بهذا الأخير علم الإجرام الغددي.
M. Schlapp & E. Smith, The New Criminology, New York, 1928.
والغدد الصماء تشمل الغدة الدرقية Thyriod ، والغدة المجاورة لها Parathyroid ، والغدة النخامية Pituitary ، والغدة الصنوبرية Pineal ، والغدة الكظرية أو الادرينالية Adrenals ، والغدد الجنسية Sex glands.
[54] وهو ما يذهب بالفعل إليه بعض أصار تلك النظرية أمثال لويس برمان Berman الذي يرى بعدم مسئولية المجرمين جنائياً لأنهم غير قادرين على تحقيق التوافق الاجتماعي بسبب اضطراباتهم المخية والغددية.
[55] راجع لمزيد من التفصيل حول مضمون نقد تلك النظرية :
B. Di Tullio, Manuel d’anthropologie criminelle, Edition française, mise à jour par V. Stanciu, Payot, Paris, 1951, spéc., p. 31 et s ; aussi, Principes de criminologie clinique, PUF. Paris, 1967, spéc., p. 127 et s ; P. Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 296 et s.
د. عبد الأحد جمال الدين ، المرجع السابق ، ص38 وما بعدها ، د. رؤوف عبيد ، المرجع السابق ، ص314 وما بعدها ، د. عبد الفتاح الصيفي ، المرجع السابق ، ص219 وما بعدها ، د. جلال ثروت ، المرجع السابق ، ص84 وما بعدها ، د. فوزية عبد الستار ، المرجع السابق ، ص64 وما بعدها ، د. عوض محمد عوض ، المرجع السابق ، ص84 وما بعدها ، د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص257 وما بعدها ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص115 وما بعدها ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص139 وما بعدها ، د. علي عبد القادر القهوجي ود. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص49 وما بعدها ، د. حسن محمد ربيع ، المرجع السابق ، ص134 وما بعدها ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص134 وما بعدها ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص65 وما بعدها.
[56] R. Gassin, op. cit., p. 164 et s.
[57] B. Di Tullio, Manuel d’anthropologie criminelle, op. cit., p. 181 et s ; P. Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 296 et s.
[58] R. Gassin, op. cit., p. 457 et s.
د. عبد الأحد جمال الدين ، المرجع السابق ، ص38 وما بعدها ، د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص257 وما بعدها ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص121 وما بعدها ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، 143وما بعدها ، د. علي عبد القادر القهوجي ود. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص52 ، د. حسن محمد ربيع ، المرجع السابق ، ص138 وما بعدها.
[59] على التوالي المادة 15 والمادة 44 من القانون رقم 260 لسنة 1960 المعدل بالقانون رقم 11 لسنة 1965 في شأن الأحوال المدنية.
[60] د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص216.
[61] ولعل مرجع قصور الدراسات الإجرامية هو تركيزها على فكرة العوامل في علم الإجرام العام ، في حين أن الأوفق علمياً هو البحث في العوامل الإجرامية التي تقف وراء كل نمط إجرامي معين. فالتقدم في علم الطب لم يحدث إلا حينما انصرف العلماء عن دراسة أسباب المرض كظاهرة والتعمق في دراسة أسباب الأمراض على تنوعها.
B. Wooton, Crime and Criminal Law, Stevens, London, 1963, pp. 18-23.
ويتوجب إذاً للنهوض بالدراسات الإجرامية التعمق في دراسات علم الإجرام الفردي والأنماط الإجرامية ، وهو الأمر الذي سنوليه عنايتنا في الطبعات التالية من هذا المؤلف.
[62]P. Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 83.
د. محمود نجيب حسني ، أبحاث في علم الإجرام ، دروس لطلبة الدكتوراه ، جامعة القاهرة ، 1970 ، ص25 ، د. يسر أنور علي ود. آمال عثمان ، المرجع السابق ، ص166 وما بعدها ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص212-217.
[63] ينظر هذا التقسيم للعوامل من زاوية المصدر. غير أنه يمكن النظر للعوامل الإجرامية من زوايا أخرى. فتبعاً لنطاقها يمكن تقسيم العوامل إلى عوامل عامة وأخرى خاصة. والنوع الأول بخلاف النوع الثاني ة أفراد المجتمع دون تميز أو دون التركيز على طائفة بعينها. ومثالها البيئة الجغرافية والسلالة. ويعد من قبيل العوامل الخاصة مستوى الذكاء والمهنة والحالة العائلية...الخ. وهناك من يفرق في مجال العوامل الإجرامية بين العامل المهيأة أو المعدة سلفاً facteur prédisposant (الذي يساهم في مسار الجريمة منذ البداية ومثاله الوراثة التي قد تنقل للأبناء الميل للعنف أو سرعة الإثارة والاندفاع) ، والعامل المحضر Facteur préparant (الذي يزيد من حدة القوى والنزعات الإجرامية ، كإدمان الخمر والمخدرات والتفكك الأسري وامتهان وضيفة معينة) ، وعامل مُطلِق Facteur déclenchant (ويتمثل في مجمل الظروف المصاحبة للواقعة الإجرامية وأقربها زمنياً للجريمة). ويميز جان بيناتل بين العوامل المتصلة بالموقف Facteurs situationnels (وهي جملة الظروف الخارجية التي سهلت ارتكاب الجريمة ، ومنها طبيعة محل الجريمة ، أداة الجريمة ، وقت الجريمة ، علاقة الجاني بالمجني عليه ، حالة المجني عليه...الخ) والعوامل المتصلة برد الفعل Facteurs réactionnels (وهي جملة العوامل المتصلة بشخصية الجاني لحظة ارتكابه الجريمة (كالحالة المزاجية للجاني ، قدراته العقلية ، تعاطيه المسكرات والمخدرات...الخ).
J. Pinatel, Classification des facteurs criminogènes, RSC. 1957, p. 665 et s ; P. Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 484 et s.
د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص217 وما بعدها.
[64] ولقد أثبت بعض العلماء خطأ بعض النتائج التي قال بها لومبروزو ، ومن ذلك دراسة الأستاذ فليب راش Rasch التي أثبت عدم وجود علاقة بين الشعر الأحمر وبين السلوك الإجرامي.
Ph. Rasch, Red Hair and criminality, Journal of Criminal Law and Criminology, vol. 38, Nov. Dec. 1947, pp. 352-357.
[65] وقد نشر شلدون نتائج أبحاثه في ثلاث مؤلفات متتالية. أولها أواع البناء الجسمي لدى الإنسان Varieties of Human Physiques عام 1940 ، وثانيها أواع المزاج Varieties of Temprements عام 1942 ، وأخرها أواع السلوك الجانح Varieties of Delinquent Behavior عام 1949.
[66] راجع حول هذا العامل: د. عوض محمد عوض ، المرجع السابق ، ص210 وما بعدها ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص135 وما بعدها ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص156 وما بعدها ، د. علي عبد القادر القهوجي ود. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص196 وما بعدها ، د. حسن محمد ربيع ، المرجع السابق ، ص180 وما بعدها ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص144 وما بعدها ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص146 وما بعدها.
[67] راجع لمزيد من التفصيل :
J. Léauté, op. cit., p. 468 et s ; Di Tullio, op. cit., p. 80 et s.
د. محمود نجيب حسني ، المرجع السابق ، 204 وما بعدها ، د. عوض محمد عوض ، المرجع السابق ، 218 وما بعدها ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص314 وما بعدها ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص205 وما بعدها ، د. علي عبد القادر القهوجي ود. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص200 وما بعدها ، د. حسن محمد ربيع ، المرجع السابق ، ص208 وما بعدها ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص147 وما بعدها.
[68] راجع في صلة الشذوذ الغريزي بالسلوك الإجرامي :
P. Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 273 et s.
د. محمود نجيب حسني ، المرجع السابق ، ص57 وما بعدها ، د. مأمون سلامة ، المرجع السابق ، ص198 وما بعدها ، د. فوزية عبد الستار ، المرجع السابق ، ص120 وما بعدها ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص295 وما بعدها ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص145 وما بعدها ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص159 وما بعدها ، د. علي عبد القادر القهوجي ود. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص204 وما بعدها ، د. حسن محمد ربيع ، المرجع السابق ، ص183 وما بعدها.
[69] نسبة إلى الكاتب الفرنسي دوناتان ألفونس فرنسوا ماركيز دي ساد (1740-1814) والذي كان يرسم في رواياته بعض الشخصيات المولعة بالتعذيب الجنسي.
[70] نسبة للكاتب النمساوي ليوبيد زاخر مازوخ (1836-1895) والذي عبر في احدي رواياته عن هذا النمط من الانحراف الجنسي.
[71] د. محمود نجيب حسني ، المرجع السابق ، ص410 ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص305. وراجع في تعريفات أخرى ، د. يوسف مراد ، علم النفس ، دار المعارف ، 1962 ، ص316 وما بعدها ، د. أحمد عزت راجح ، أصول علم النفس ، الدار القومية للطباعة والنشر ، 1963 ، ص415 وما بعدها. وراجع حول الصلة بين الذكاء والسلوك الإجرامي :
P. Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 410 et s ; J. Léauté, op. cit., p. 480 et s.
د. يسر أنور علي ود. آمال عثمان ، المرجع السابق ، ص195 وما بعدها ، د. فوزية عبد الستار ، المرجع السابق ، ص126 وما بعدها ، د. عوض محمد عوض ، المرجع السابق ، ص190 وما بعدها ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص139 وما بعدها ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص164 وما بعدها ، د. علي عبد القادر القهوجي ود. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص202 وما بعدها ، د. حسن محمد ربيع ، المرجع السابق ، ص189 وما بعدها ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص153 وما بعدها ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص177 وما بعدها.
[72] وهي ذات الملاحظة التي أيدها المستشار محمد بك فتحي والذي لفت نظره من زيارته المتكررة للسجون أن أكثرهم من المصابون بأمراض نفسية وعقلية. راجع : علم النفس الجنائي علماً وعملاً ، ج2 ، المرجع السابق ، ص138.
[73] راجع بصفة عامة حول الموضوع :
J. Pinatel, Hérédité et criminalité, RSC. 1954, p. 574 et s ; P. Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 345 et s ; J. Léauté, op. cit., p. 440 et s ; Sue Titus Reid, op. cit., p. 139 et s.
د. يسر أنور علي ود. آمال عثمان ، المرجع السابق ، ص170 وما بعدها ، د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص168 وما بعدها ، د. عوض محمد عوض ، المرجع السابق ، ص124 وما بعدها ، د. فوزية عبد الستار ، المرجع السابق ، ص75 وما بعدها ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص152 وما بعدها ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص173 وما بعدها ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص73 وما بعدها ، د. علي عبد القادر القهوجي ود. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص184 وما بعدها ، د. حسن محمد ربيع ، المرجع السابق ، ص155 وما بعدها ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص155 وما بعدها ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص113 وما بعدها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق