موارد المياه الجوفية في جنوب مكة المكرمة
تمهيد
تعتبر مدينة مكة المكرمة أقدس مكان لآلاف الملايين من المسلمين الـذين ينتشـرون في دول عديدة على سطح الكرة الأرضية، وتتميز هذه المدينة المقدسة عن أي مكان مقدس آخر في العالم بـأن هناك فرض على كل مسلم قادر أن يحج إليها، ومن هذا المنطلق كانت هذه المدينة ومازالـت تشـهد سنوياً تجمعاً هائلاً من الحجاج على مدى فترة زمنية محدودة. ليس هذا فحسب ولكنها تشهد أيضـا تجمعات أخرى على مدى العام في مواسم العمرة تبلغ ذروتها في شهري رجب ورمضان، وعلى مدى قرون عديدة يتزايد أعداد الوافدين عاماً بعد عام وساهم في ذلك في المرحلة الأخرى ثورة المواصـلات وأصبحت المدينة تستقبل أعداداً من الحجاج والمعتمرين تفوق كل التوقعات، وبالتوازي مع ذلك فقـد كان لزاماً على حكومة خادم الحرمين الشريفين توفير الخدمات المختلفة لهذه الأعداد الهائلة وبالتالي فإن وفود هذه الأعداد الهائلة تطلب أن تنمو المدينة بشكل مضطرد لمواكبة هذا النمو في أعـداد الوافـدين وتوفير الخدمات مثل الإسكان والمعيشة والتجارة وغير ذلك من الأنشطة التي يتطلبها هذا الوضع.
ومن أهم المتطلبات التي فرضها هذا الوضع الجديد هو توفير المياه اللازمة للاستهلاك الآدمـي والشرب والنظافة وغيرها بصورة متزايدة سنوياً حتى تفي بمتطلبات الوافدين والمقيمين اللـذين يتزايـد عددهم سنوياً. ولما كانت مصادر المياه لمدينة مكة المكرمة يتم استغلال معظمها في الوقت الحالي ولمـا كانت الحاجة تزيد عن هذه المصادر فلقد قامت حكومة خادم الحرمين الشريفين بإنشاء محطة تحلية على ساحل البحر لإمداد مكة والطائف بمياه محلاه، ولكن التزايد المستمر في الطلب على المياه استلزم التفكير في دراسة علمية منظمة لموارد المياه الجوفية حول مدينة مكة المكرمة وضرورة استغلال كافة هذه الموارد الرخيصة أولاً.
ولقد كان مركز أبحاث فقيه للأبحاث والتطوير سباقاً إلى التفكير في إجراء دراسـات علميـة حديثة ومتطورة لهذه الموارد والأسلوب الأمثل لاستغلالها وبدأ فعلاً بمنطقة المسفلة بجنوب مكة المكرمة حيث يعتقد أنها أكثر المناطق انخفاضاً في محيط المدينة وتنحدر إليها المياه الجوفية من الوديان المختلفة.
وفي البداية فلقد تعاقد مركز فقيه مع مؤسسة الجزار للمهندسين الاستشاريين لتنفيـذ هـذه الدراسة. ولما كانت هذه الدراسة جيولوجية وهيدرولوجية في المقام الأول فإن التقريـر المقـدم مـن ٤ مؤسسة الجزار لم تعطي هذا الجزء في العقد التغطية الكافية ورأى مركز فقيه للأبحاث أنه لابد من إجراء دراسة للجوانب المشار إليها باعتبارها الأساس الأول لأي استغلال اقتصادي لموارد المياه الجوفية في هذه المنطقة. ولهذا فقد قام المركز بالتعاقد مع جامعة الملك عبد العزيز لإجراء هـذه الدراسـة في تـاريخ ١٤١٧/٤/١٤هـ وخصصت إدارة البحث العلمي مجموعة متخصصة لإجراء هذه الدراسـة علـى أحدث المستويات وتم تكوين فريق بحثي على النحو التالي:
١- د. عبد الرحمن محمد الدخيــل رئيسا لفريق البحث عضو هيئة تدريس بقسم جيولوجيا المياه ومتخصص في أبحاث الهيدرولوجيا والهيدرولوجي .
٢- أ.د. حمدي سيف النصر صادق باحث مشارك أستاذ الجيوفيزياء الاستكشافية بقسم الجيوفيزياء بكلية علوم الأرض.
٣- أ.د. محمد مأمون السعيد باحث مشارك أستاذ الجيوفيزياء بقسم الجيوفيزياء بكلية علوم الأرض.
وتمت الاستعانة بالدكتور عصام الفيلالي كاستشاري للدراسات الجيولوجية اللازمة لإتمام هذه الدراسة.
مقدمة
تقع منطقة المسفلة في الجزء الجنوبي في مدينة مكة المكرمة (شكل-١) الذي يخترقـه وادي إبراهيم منحدراً إلى الجنوب (شكل-٢)، وبالتحديد فإن اسم المسفلة يطلق حالياً على ذلك الجزء من المدينة الذي يقع جنوب الحرم الشريف ويحتل الكتلة السكنية المحيطة بشارعي إبراهيم الخليل وريع زاخر ويمتد جنوباً حتى الطريق الدائري الثالث. وفي السنوات الأخـيرة امتدت الكتلة السكنية جنوب الطريق الدائري الثالث حتى وصلت إلى محطة تنقيـة ميـاه المجاري وأصبحت تحتل ما يعرف الآن باسم الكعكية وهي تقع جنوب المسفلة مباشرة.
تحتل منطقة الدراسة الحالية تلك المناطق الواقعة جنـوب المسـفلة (شـكل-٣) والتي يخترقها وادي إبراهيم ابتداءً من منطقـة الكعكيـة شمـالاً وحـتى مصـب وادي إبراهيم في وديان عرنة- نعمان ووادي ملكان جنوباً فيمـا يسـمى بمنطقـة الحسـينية، وهذه المنطقة تشمل ما يعـرف بالكعكيـة والعكاشـية والحسـينية، كمـا أن منطقـة الدراسة تشمل أيضا وادي الحسينية ومنطقة وادي ثور.
وتعتبر منطقتي المسفلة وجنوب المسفلة منخفضتين عن باقي أجزاء مدينة مكة المكرمة وتحتل أسفل انحدار وادي إبراهيم، وبالتالي فإن المياه الجوفية المنحدرة من الوادي تتجمع في هـذه المنطقة وتنحدر جنوبا إلى الوديان المؤدية للبحر الأحمر. إلا أن هذه المياه الجوفية كانـت في الماضي تتعرض للتلوث بسبب النفايات السائلة التي تتكون من مياه الصرف المنحدرة مـن منطقة الحرم من البيارات في والمساكن المحيطة، ويعتقد أن تلوث المياه الجوفية يحـدث مـن تسرب بعض مياه الصرف المنحدرة على سطح الوادي خلال الرسوبيات إلى أن تصـل إلى المياه الجوفية وفي كثير من الأحيان كانت مياه الصرف تتجمع في الأماكن المنخفضة علـى سطح الوادي مكونة بعض البرك والمستنقعات التي تمثل مصدراً دائماً لتلوث المياه الجوفيـة عندما يتسرب بعضها خلال الرسوبيات. ليس هذا فحسب ولكن بعد إنشاء محطة االمجـاري مباشرة كانت نواتج صرف مياه المجاري تنحدر في قناة سطحية في جنوب المحطة إلى مجرى وادي عرنة بعمان جنوباً ثم تنحرف إلى الجنوب الغربي في اتجاه البحر الأحمر، وكانت هـذه القناة تمثل مصدراً دائما لتسرب التلوث من مياه المجاري إلى المياه الجوفية في ذلك الجزء مـن وادي إبراهيم.
ولكن بفضل الجهود الهائلة التي بذلتها حكومة خادم الحرمين الشريفين وإمارة مكـة المكرمة وعلى رأسها صاحب السمو الملكي أمير منطقة مكة المكرمة وأمانة العاصمة المقدسة فلقد تم تكثيف الجهود في كافة المجالات لتطوير الخدمات بالعاصمة المقدسة وشملت تلـك الجهود نظافة المدينة وخدمات الصرف الصحي. فقد أنشئت شبكة صرف صحي تمتد على طول وادي إبراهيم وحتى محطة تنقيةالمجاري وبعد ذلك أنشئ خط أنابيب آخر يحمل نواتج الصرف الصحي المعالجة من محطة تنقية المجاري وحتى نهاية وادي إبراهيم عند التقائه بمجرى عرنة - نعمان، ونتيجة لهذه الجهود فلقد اختفت النفايات السائلة المنسابة على سطح الوادي واختفت البرك والمستنقعات وحلت محلها مناطق سكنية أقيمت على ردميات تكدست فوق سطح هذه البرك. كما اختفى مجرى قناة التصريف من محطة المجاري إلى جنـوب وادي إبراهيم كل ذلك ساهم في تقليل فرص تلوث المياه الجوفية إلى أكثر حد ممكن وأصـبحت المياه الجوفية المنحدرة في بطن الوادي في اتجاه الجنوب معزولة إلى حد كبير عـن مصـادر التلوث السطحــية.
وفيما يخص مصادر المياه بمكة المكرمة فلقد كانت مدينة مكة المكرمة على امتـداد تاريخها منذ أن تفجرت عين زمزم المباركة تحت قدمي إسماعيل عليه السلام تعتمد اعتمـاداً مباشراً على عين زمزم في إمدادات المياه. وبعد أن بعث الرسول الكريم إلى الدنيا كافة مـن هذه البقعة الطاهرة وأنعم الله على عباده بنعمة الإسلام فرضت فريضة الحج، وأصبحت عين زمزم لا تمد أهالي مكة فقط بالمياه بل والوافدين إلى تلك الأرض المقدسة لأداء مناسك الحج والعمرة، وبعد تزايد أعداد الحجاج والمعتمرين بشكل كبير فلقد كان لابد من وجود مصادر أخرى للمياه، فقديماً استخدمت عيون أخرى للمياه الجوفية كانت تنساب منها المياه مـن مصادر حول مدينة مكة المكرمة مثل عين زبيدة (تنبع من وادي نعمان) وعين الهميجــة (تنبع من وادي العشر) وعين زعفران (تنبع من شمال شرق وشمال مكة)، كما دقت العديد من الآبار، ومع اضطراد زيادة الحجاج فلقد استخدمت خطوط أنابيب لنقل المياه من آبـار
في الوديان المحيطة إلى مدينة مكة المكرمة وجدة فمنها ما كان مصدره وادي فاطمة ووادي نعمان ووادي رهجان. إلا أن النمو الهائل في مدينة مكة المكرمة والتزايد المستمر في أعـداد الحجاج في العقود الأخيرة تطلب إمدادات إضافية أخرى من المياه لم تتوانى عـن توفيرهـا حكومة خادم الحرمين الشريفين فأنشئت محطة لتحلية المياه المالحة أنشئت لهذا الغرض علـى ساحل البحر الأحمر (محطة الشعيبة) لإمداد المدينة بالمياه، وأنشئت كـذلك العديـد مـن الخزانات الهائلة لتخزين كميات كبيرة من المياه لاستغلالها في حالة الطـوارئ وتعطـل أي مصدر من مصادر المياه.
ولقد كان النمو السنوي في أعداد السكان بالمدينة والتزايـد المضـطرد في أعـداد السكان باعثاً قوياً على التفكير في استغلال كافة موارد المياه المتاحة حول المدينة المقدسة مع المصادر الأخرى المتاحة حالياً خاصة إذا كانت مأمونة واقتصادية في نفس الوقت، ولقد كان مركز فقيه للأبحاث والتطوير سباقاً إلى إجراء دراسة خاصة لموارد المياه الجوفية في مدينة مكة المكرمة بدأت بمنطقتي المسفلة وجنوب المسفلة التي تنحدر إليها الميـاه الجوفيـة مـن وادي إبراهيم بأجمعه وكذلك بعض الوديان المحيطة، ولقد كان للتطور في أساليب الصرف الصحي بالمدينة المقدسة وفي وادي إبراهيم بالذات أكبر الأثر في بدء هذه الدراسة حيث أن مصادر تلوث المياه الجوفية في تلك المنطقة قد انحسرت إلى حد كبير وأصبح التفكير في استغلال هذه المياه ضرورة إستراتيجية يجب دراستها .
ولهذا السبب فلقد لجأ مركز فقيه للدراسات والأبحاث إلى مكتب الجزار للدراسـة والاستشارات لإجراء هذه الدراسة في البداية ولكن تلك الدراسة لم تغطي موضوع البحث بالدقة والتفاصيل المطلوبة. ونظراً لإصرار مركز فقيه على متابعة هذه الدراسة الإستراتيجية الهامة متوخيا أحدث وأدق الأساليب العلمية المتطورة، فلقد أسندت هذه الدراسة إلى فريق بحثي متخصص في جامعة الملك عبد العزيز، ووقع عقداً لذلك مع إدارة البحـث العلمـي بالجامعة.
ولقد وضع الفريق البحثي خطة دراسة تفصيلية تضمنت إجراء دراسات استكشافية تحت سطحية على طول عدد كاف من الخطوط التي تقطع بعرض وادي إبراهيم وتغطـي ١٢ منطقة جنوب المسفلة وكذلك عدد آخر من الخطوط في مناطق الحسينية والعكاشية ووادي ثور، واقترح فريق البحث أن يتم الاستكشاف الجيوفيزيائي تحت السطحي باستخدام الطرق الكهربية والمغناطيسية والسيزمية على الترتيب حسب أهميتها، وأوضح أن هذه الطرق تعتبر الأكثر فعالية في الوسط الجيولوجي والهيدروجيولوجي السائد في منطقة المسـفلة وجنـوب المسفلة، وتهدف خطة البحث لفحص المسارات تحت السطحية للمياه الجوفية وتقدير أبعـاد الطبقات الحاملة لها وأعماقها وحجم الخزان الجوفي في المرحلة الأولى، وتعتبر هذه المرحلـة أساساً جيداً لبدء مرحلة تالية تشمل دراسات هيدرولوجية وهيدروجيولوجية وجيولوجيـة تهدف في النهاية للتعرف على مصادر المياه الجوفية والقدرة التخزينية للخزان الجوفي وحساب كمية المياه الجوفية وكمية المياه المنحدرة إلى هذا الخزان الجوفي سنوياً، وبنـاءً علـى هـذه الدراسات يمكن في النهاية حساب كمية المياه التي يمكن استخراجها من الخـزان الجـوفي وتحديد المواقع المقترحة لحفر الآبار الإنتاجية.
ولقد راعى الفريق البحثي ضرورة الاستفادة من المعلومات الدقيقة السابقة والمتاحـة عن هذه المنطقة وكذلك الأوضاع الخاصة باستغلال المياه فيها وخاصة الآبار المحفورة المتاحة والمنتجة للمياه، وتهدف الدراسة الحالية إلى معرفة نوعية وصلاحية المياه الموجودة في المنطقة من حيث صلاحيتها للاستخدام ومقدار التلوث بها إن وجد، ومثل هذه الدراسة سوف تفيد في معرفة الخطوات والتكاليف المطلوبة لتنقية هذه المياه حتى تصبح مطابقـة للمواصـفات السعودية القياسيـة أكثر من أي مصدر آخر للمياه الجوفية المستخرجة مـن الآبـــار والوديـان المحيطة بمدينة مكة المكرمة.
أو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق