UMAR 2015 : أطرابلس ..
مدينة ذات بوابة بحرية متوسطية
مدينة ذات بوابة بحرية متوسطية
UMAR 2015
Twentieth Anniversary Conference
27-28 February 2015
Ports and Mediterranean
Tripoli: City of a Gate to the Mediterranean
ورقة من إعداد مصطفى المزوغي وأسيل البوراوي تمت المشاركة بها في اجتماع إتحاد معماريين البحر الأبيض المتوسط بإسم الهيئة الليبية للعمارة
ملخص..
ارتبطت نشأة العمران على الشواطئ الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط بوجود المياه مكانا للقاء الآمن مع اليابسة، وكانت سلسلة الصخور الطبيعية، التي شكلت الشعاب على شاطئ المتوسط منذ آلاف السنين، هي الوجود الآمن بين الماء واليابسة لنشأة وتكون عمائر أويا. باب البحر، هو أيضا ذلك المكان الذي شهد توافد ورحيل حضارات البحر الأبيض المتوسط. حضارات تجوب مياه المتوسط ترنوا نحو مرافئ، وكان مرفأ اطرابلس العتيقة مرساة للفينيقيين في القرن السابع قبل الميلاد، ليطأ أرضها من بعدهم الرومان، والوندال، والبيزنطيون، حين أصبح يطلق عليها أويا، وبقى هكذا الحال حتى الفتح العربي حين تغيرت تسميتها، وأحتفظت بإسمها الحالي أطرابلس منذ القرن الثامن ميلادي، وحتى يومنا هذا. اطرابلس نشأت كميناء على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، ونما عمرانها بفعل الحضارات الزائرة والمهاجرة، حتى أنها أصبحت بقعة تجارية عامرة ضمن شبكة التجارة البحرية بمدن ضفاف المتوسط، وكان لذلك الأثر في تنامي وتنوع الخليط الحضاري والثقافي الذي سكن مكان المدينة في تعايش وتسامح، فلقد شارك كل سكانها في نمو وإنتعاش مدينتهم، وهم أيضا من دافع عنها في زمن الحروب.
في العهد الحديث للمدينة، شهد ميناء أطرابلس عدة مراحل من التوسع والتطوير. وقد تكون البداية الملموسة مقترنة بمقترحات لويجي لويدجي، الذي تم تنصيبه كمسؤول لوضع مخطط للمدينة وميناؤها من قبل وزارة الأشغال العامة مباشرة بعد غزو الإستعمار الإيطالي للبلاد. جزء من مهامه كانت كما أفاد لويجي ضرورة إعادة تأهيل ميناء أطرابلس. عند تولى جوسبي فولبي مقاليد الحكم في أطرابلس، وجد في المعماري أرماندو برازيني، القدرة لترجمة أحلامه إلى أرض الواقع. ففي أغسطس من العام 1921، كان المحرك الأهم لسياسات فولبي العمرانية في أطرابلس هو استحداث وإستكمال قواطع أطرابلس العمرانية الحديثة بما في ذلك الميناء.
تلت مرحلة البداية الأنيقة والمتأنية، ردم جائر طال شاطئ المدينة وهدم واجهتها البحرية في سبعينيات القرن الماضي. فلقد تم ردم شاطئ المدينة، وفقدت اطرابلس بذلك صنع برازيني في واجهتها البحرية الأنيقة والتي أمتدت حوالي الكيلومتر شرق السرايا الحمراء، كما تم فصلها بطريق سريع للمركبات الآلية عن البحر فلم تعد طرابلس تطال شاطئها ولم يعد للبحر أن يسكن موجه على رمال يابستها .اليوم ميناء أطرابلس أكثر حاجة لإعادة التصميم والتطوير من أي وقت مضى لمواجهة التحديات المعاصرة. فكانت هناك بعض المحاولات التخطيطية من ضمنها مسابقة وطنية، وبعض الدراسات التخطيطة والحضرية لواجهة اطرابلس البحرية بما في ذلك الميناء. قد يتطلب الأمر تعزيز هذه الدراسات والمقترحات سياسياً وإقتصادياً لأجل مستقبل ميناء أطرابلس ودوره في إنعاش إقتصاد المدينة فضلا عن إستعادة الدور الحضاري له كمحطة للحوار بين موانئ البحر الأبيض المتوسط.
تقديم ..
إذا كانت الأرض تعني الجذور، فالمكان هو ذات الأرض التي تمنح موقع مستقر للجذور. فحوض البحر الأبيض المتوسط هو البحر الذي منح فرص الرسو لدى عديد الأمكنة على ضفافه، وكذلك الذي الأمر كان للإنسانية والثقافات. إن مياه المتوسط تعمل على الإشعاع الثقافي عبر نقلات زمنية، في حين يابسة شواطئه تمنح رسو آمن للجذور. العمران والأمكنة بيان لثقافات رست جغرافيا، وبيئيا، إنها تظهر هويتها وتعمل على تأصيل التلاحم الإجتماعي، وترسيخ قيمها واستقرارها. فالمكان الذي يمنح سكانه جذورهم من خلال عمائرهم على الرغم من تعدد وتنوع القيم واللغات والعرق والديانات والأعراف، كفيل بأن يحقق تجدد الجذور.
الأمكنة على شواطئ المتوسط، كانت دائما الأرضية لتكوينات من الكتل والفراغات الحضرية التي تعمل على تعزيز وتأكيد الثقافات بحضورها النزيه. إن عمائر ذلك المكان قد تجذرت في الزمن واالتحول الثقافي المستمر، فالمباني التي تملك حضورا توافقيا وأمكنتها وتتفاعل ومؤثراته، وتمنح العمق الكافي لتواصل التكوينات العمرانية لها عبر الزمن، هي حتما مباني ذلك المكان. إن مباني الأمكنة وحدها نتاج تجذر الثقافات في المكان والزمان بشكل توافقي تماما كما هو الحال في نمو المدن المتوسطية التقليدية. فالمكان يتحور بالمعطيات الثقافية الحضارية الوطنية والوافدة وينعكس ذلك في عمرانه، وفراغاته وحتى تفاصيله.
إن مدينة أطرابلس العتيقة اليوم بنيت على أثار أويا، التي وضع لبناتها التجارة البحرية الفينيقية في القرن السابع قبل الميلاد، واستمر عمرانها حتى يومنا هذا. إن العمر الزمني وتاريخ المدينة الثري قد خلف عدد كبير ومتنوع من الموروث المعماري التقليدي. فالرصيد العمراني للمراحل التاريخية المتتالية قد منح مدينة أطرابلس العتيقة طابع خاص وحضور متميز. أطرابلس عرفت بالمدينة البيضاء، فلقد دأب من سكنها على طلاء جدران عمرانها باللون الأبيض باستخدام الجير في فصول الصيف استعدادا لكل شتاء. نشأت أطرابلس عل مساحة بارزة من أرض تقع إلى الغرب من ميناء طبيعي آمن صنعته شعاب بحرية ممتدة بمحاذاة الشاطئ. على الجهة الشمالية من المدينة والمطلة على الأرخبيل تشكلت هضبة بارتفاع يقارب خمسة عشر متر من على سطح البحر، وتنحدر بسيطة المدينة إلى الجنوب الشرقي حيث يفترش المكان جزء كبير من المدينة وبارتفاع يقارب الثلاثة أمتار من على سطح البحر. إن شبكة المسارات بالمدينة هي الأخرى كانت قد تأسست على المسارات الرومانية في الفترة الممتدة من القرن الأول وحتى الرابع ميلادي، وأتسعت رقعة المسارات تباعا في الفترة العربية والعثمانية (1551 -1911)، وأخيرا في التحديث الإيطالي الكولونيالي في الفترة (1911-1943). المسارات الرئيسية حاكت الشبكة الرومانية التعامدية، ومسارات رئيسية أخرى وجدت لتصل إلى بوابات المدينة التي استحدث في الفترة العثمانية. أطرابلس بيئة عمرانية تقليدية، فالتكتل والفراغ الحضري لها نتاج نسيج متراص مألوف في المدن المتوسطية. إن مبانيها بتنوعها في مقياس كتلها وأشكالها وفراغات أفنيتها، إضافة إلى شبكة المسارات والطرق والأزقة المختلفة، جميعا رسمت جوهر الطابع العمراني الخاص للمدينة.
الخلفية التاريخية لميناء أطرابلس
تعود نشأة أطرابلس كمدينة وميناء للدور الحضاري المتوسطي، وكما سبقت الإشارة اليه في أن حجر الأساس كان قد وضعه الفينيقيون، إلا أنه لا توجد أية معلومات موثقة حتى الآن عن شكل وحجم المدينة أو ميناؤها. جغرافيا، تتمتع اطرابلس بموقع استراتيجي رابط بين الخطوط الملاحية البحرية المتوسطية من جهة وبين مسارات القوافل الصحراوية من جهة أخرى، إضافة إلى حضور ميناء المدينة الطبيعي ضمن محيط زراعي خصب، وأستمر سيطرة قرطاجنه البونيقية على أطرابلس حتى سقوط قرطاج أمام الرومان عام 146 قبل الميلاد.
صاحب التوسع التجاري الصحراوي المتوسطي، نشأة مدينتي لبدة الكبرى وصبراته، وكانتا وأطرابلس تحت السيطرة الرومانية ضمن حدود مملكة نوميديا الجديدة. بإنتصار يوليوس قيصر في الحرب الأهلية على بومباي عام 46 قبل الميلاد، تم تغيير إسم المدينة إلى أويا. يشير ويلارد[1] إلى أن المدن مثل أويا وصبراته كانت لهما وكالات تجارية بميناء أوستيا خلال الفترة الرومانية، حيث كانت الصادرات الرئيسية لهما: زيت الزيتون، والقمح، ومنتوجات الدول الأفريقية كالذهب والجواهر والعاج والأبنوس، إضافة إلى الحيوانات المفترسة كالأسود والنمور والضباع والفيلة التي يتم ترحيلها بشكل منتظم لحلبات المصارعة في الكولوسيوم، فالمدن الثلاث كانت مراكز تجارية هامة للقوافل. بالمقابل كانت الواردات من الملح والسكر والتوابل والملابس والمستلزمات المنزلية والخيول. إن أهم مسارات القوافل كانت تلك الرابطة بين (كانو وأغاديز وغات وغدامس واطرابلس) والأخرى الرابطة بين (بحيرة تشاد وبيلما ومرزق ومزده وأطرابلس)، حيث كان المسار الأخير أكثر طرق القوافل أهمية وهذا يشير إلى موقع اطرابلس الاستراتيجي جغرافيا.
في العام 429 ميلادي، قامت جيوش الوندال بغزو الشمال الأفريقي، ومع العام455 ميلادي سيطر الوندال على أطرابلس. في العام 476 ميلادي بدأ إنهيار الأمبروطورية الرومانية، ومع العام 533 ميلادي تمكنت الأمبروطورية الرومانية الشرقية من السيطرة على الشمال الأفريقي ودحر الوندال. تم إنطواء المدن الثلاث تحت سيطرة الأمبروطورية البزنطية، وبدت أويا المدينة الرائدة. كان الفتح العربي الإسلامي في العام 643 ميلادي، وخسرت أطرابلس نشاطها التجاري البحري وذلك لميل العرب في تبني مسارات طرق القوافل التي أمتدت من الشرق الوسط شرقا وحتى أسبانيا غرباً.
في العام 1509 أطرابلس تم الاستيلاء عليها من قبل الجيش الأسباني، ويشير باتيستينو دي تونسيس الذي شارك في الهجوم في وصفه لطرابلس بأنها أطرابلس تستقر على أرض منبسطة، حدودها مضلعة وبامتداد يصل إلى الميل. يحيط بها جدار مزدوج وخندق ضيق عميق، الحائط الأول صغير ومنخفض، في حين الحائط الثاني مرتفع وذو سمك، إضافة إلى أبراج وأسوار قوية وضخمة[2]. أطرابلس تحيط بها الأسوار من واجهاتها البحرية الثلاث وتتمتع بميناء كبير يسع لرسو قرابة من أربعمائة سفينة وقارب، كما أن هذه الفترة شهدت تحصين المدينة و قلعة السرايا بأسوار ومدافع .
تم الإستيلاء على أطرابلس بقيادة الأدميرال الرايس درغوت في العام 1551 ، وامتدت هذه الفترة حتى العام 1711 وعرفت بالعهد العثماني الأول. شهدت المدينة في هذه الفترة إنتعاشا إقتصاديا حيث كانت مواردها الإقتصادية تأتي من نشاط القرصنة البحرية، وهجمات إنتقامية من السفن البحرية الأوروبية التي كثيراً من سفنها التجارية كانت فريسة للقراصنة. كما شهدت فترة حكم الرايس درغوت تحصينات جديدة للمدينة بالقرب من مدخل الميناء، وتشييد برج التراب على الجهة الشمالية الغربية، وبناء دار البارود على السور الجنوب شرقي للمدينة.
ترسم اللوحة المقابلة مشهد للمدينة في العام وهي تحت حصار قوة آوروبية، بعد أن تم طرد فرسان القديس يوحنا بواسطة الرايس درغوت الذي كان يدعمه سنان باشا . هذا المشهد التفصيلي يوضح حال المدينة وأهم ملامحها آنذاك، فالأسوار المحصنة تبدوا ظاهرة بأبرجها العديدة وبواباتها الأربعة الرئيسية (جنو غرب و جنو وجنوب شرق وشمال شرق). يبدو أيضا مجموعة الشعاب البحرية مجزأة إلى جزئين بقناة مائية على الجهة الشمالية الغربية، في حين يقع الميناء على الجهة الشمالية الشرقية من المدينة منفصلاً عن البحر بصخور طبيعية ممتدة ويمكن الدخول للميناء عبر فجوة بين سلسلة الصخور. إن القناة المائية ومدخل الميناء تقترحان أن القناة كانت لغرض ملاحي فضلا عن كونها مرسى. اللوحة توضح وجود أرصفة ترسو على متنها أحد عشر قاربا كبيراً، وتبدو في الجنوب الشرقي أسطول صغير وسفينة شراعية تحمل راية قد تكون من البندقية أو أسبانية تهاجم الميناء بمدافعها. كما يبدو مدخل السرايا على الجنوب الغربي عبر جسر يعلو الخندق المائي.
في الفترة (1672 -1633) وقعت الدول الأوروبية معاهدات تجارية مع أطرابلس ، حتى أن عددا من القنصليات قد تم إعلانها داخل المدينة. كان المشهد الدفاعي للمدينة، على نحو يلوح بأفق للمدينة حيث البيوت المتراصة تعلوها المآذن ومدفعية تعلو برج درغوت في الجهة الشمالية الشرقية إضافة إلى مدفعيات تعلو برجي المندريك والسرايا الحمراء في الجنوب الشرقي للمدينة.
إستمرت خلال فترة حكم الأسرة القرهمانللية (1711–1835) فرض الأتاوات على السفن التجارية لحمايتها من نشاط القرصنة البحرية، وكان معها شهرة حرب السنوات الأربع حين أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية حالة الحرب وقامت بارسال أسطولها تتقدمه فرقاطتين ضخمتين “برزيدنت” و”فيلادلفيا”، حيث تم أسر الأخيرة من قبل البحارة الطرابلسية، ومع عجز الأمريكيون عن استردادها تسللوا اليها وتم حرقها حتى لا يستفيد منها الليبيون.في الفترة (1835 –1911) التي عرفت بالعهد العثماني الثاني، بخضوع اطرابلس مجددا للحكم التركي، كان عدد سكان المدينة يقارب الخمسة والعشرون الفا نسمة، وتباعاً كان إمتداد وتوسع عمران المدينة ونشأة عدد من الضواحي في الجنوب الشرقي من المدينة.كان وصف المدينة مع نهايات القرن التاسع عشر بأن أسوارها قائمة ولكنها بحالة سيئة بسبب تراكم مخلفات البناء وتراكمها. إلا أنه ومع بدايات القرن العشرين، كانت إيطاليا بحاجة لتعزيز حضور قوتها الوليدة للعالم، فكان معها الإحتلال الإيطالي لليبيا عام 1911. مع بداية الحرب العالمية الأولى، كانت المستعمرات الإيطالية محدودة في أطرابلس وبعض من أراض مجاورة، وإكتسب الحضور الاستعماري قوته مع تولي الحزب الفاشي الحكم، الأمر الذي دفع بالمواجهة العسكرية مع القوات التركية وحركة الجهاد الليبي، التي انتهت في اطرابلس بحلول العام 1924.
فترة الحداثة وعهد الإحتلال الإيطالي
إن مساهمة الفترة الإيطالية الكولونيالية في توسعات ميناء اطرابلس يمكن قراءتها ضمن مرحلتين؛ أولهما ترجع إلى إلى تاريخ وضع المخططات الأولى بتوقيع لويجي لويدجي، المفتش بسلاح الهندسة الإيطالية آنذاك. كان جزء من مهام لويدجي 1912، كما أشار لويدجي إلى ضرورة إعادة تأهيل الميناء، ووضع منظومات لمياه التغذية والصرف الصحي، وتنظيم مسارات الطرق، والشروع في تنفيذ المباني العامة والخاصة في أطرابلس وضواحيها[3]. إستند مخطط لويدجي على استحداث توسع حديث لأطرابلس العتيقة باتجاه الجنوب الشرقي، بمفهوم مدينة الحدائق، ويكون مركز المدينة بجوار قلعة السرايا الحمراء كمركز مشترك بين أطرابلس العتيقة وطرابلس الحديثة. الأراضي التي تقع في الجنوب الغربي للمدينة تم حجزها للإستعمال الصناعي، في حين تم تعيين بقية الأراضي لأن تكون زراعية. تم إعتماد شبكة الطرق الحديثة على أثر القائم منها لا سيما تلك المسارات الشعاعية المنطلقة من موقع السرايا، مع إضافة مسارات رابطة أخرى. تم إقتراح شبكة لقاطرات سكة الحديد لتسهيل التنقل بين مكان العمل بالمركز والسكن في الضواحي تماما كما أوصت به نظريات التخطيط للمدن الصناعية الحديثة.
يمكن تصنيف المرحلة الثانية من التوسعات الكولونيالية الإيطالية في الفترة (1922–1932)، والتي ترتبط بوصول الحزب الفاشي للحكم في إيطاليا بقيادة جديدة، وتحت الضغط لإثبات القدرة على السيطرة على المستعمرات، وحل أزمة التزايد السكاني في ايطاليا بتشجيع الإيطاليين على الهجرة إلى هذه المستعمرات، حيث كانت الوعود ببيئة عمرانية حديثة بإنتظار المستعمرين. كانت المخططات الأولى تقترح توسعة الميناء، وشبكة سكة الحديد، والطرق، ومباني المصارف والفنادق والأسواق العامة، على آن يكون تواجد مباني الحكم الإداري والعسكري بمركز المدينة لتعزيز دلالات السيطرة والحضور القوي للفاشية[4]. تكتب كلوديا كونفورتي عن جيوزيبي فولبي (1877–1947)، الحاكم القادم إلى اطرابلس من البندقية ذو الخبرة الدولية والمهارة المالية، سرعان ما حرص على إنهاء المقاومة، وعمل على تطوير أطرابلس بأن تكوين عاصمة متوسطية حديثة، بتنفيذ البنية التحتية لها وتشجيع القطاعين العام والخاص على الشروع في تنفيذ المباني[5].
إن طموح فولبي وجد المعماري آرماندو برازيني وسيطا لتحقيقه، ففي أغسطس من العام ، حين تم تنصيب فولبي كحاكما لطرابلس، أصبح المحافظة وحماية وترميم الفنون والعمارة التقليدية المحلية، هدفا واضحا بهدف تعزيز جاذبية المدينة لأن تكون مركزاً سياحياً دولياً. فكان أن عمل فولبي على رسم رؤيته لإدارة المدينة وسياستها التخطيطية بالمحاولة في إنعاش وتكملة أهم أجزاء المدينة من مخططها الذي اشتمل على الميناء والطرق والمباني الإدارية.
بدا الأمر ان قام برازيني بالعمل على مخطط منقح للمدينة، فلقد أشارت كونفورتي إلى ملاحظتها لإشارة برازيني في ذكر نقاط سيرته الذاتية في العام1921 ، “حين تم تكليفي من قبل الكونت فولبي حاكم أطرابلس، فلقد قمت برسم مخطط أطرابلس”[6]. فعلى المقياس الحضري حرص برازيني على تبني نمطية التكرار في الواجهات البحرية كتلك التي سادت في المدن الساحلية الايطالية في القرنين التاسع عشر والعشرون كالواجهات البحرية لمدينتي باري وتارانتو. قام برازيني بوضع تصور لواجهة أطرابلس البحرية الحديثة والتي أطلق عليها آنذاك تسمية منتزه الكونت فولبي البحري، الذي منح اطرابلس هيئة شريطية لواجهتها الجديدة لتمتد شرق قلعة السرايا الحمراء قرابة الكيلومتر، ولتعيد تأهيل إمتداد الواجهة الشرقية والشمالية لأطرابلس العتيقة وميناؤها.
كان ذلك في الفترة ما بين 1922 و1923 عندما قام برازيني بالشروع في وضع تصورات لتحسين هيئة قلعة السرايا الحمراء، فالقلعة التي كانت يوما حصناً عسكرياً لفرسان القديس يوحنا أصبحت محل تعديل وتحوير راديكالي مستلهم من قلعة تشارلس الخامس بتوقيع لويس اسكريفا[7]. قام برازيني أيضا بوضع حل لمداخل القلعة ومجموعة أقواس تتوج نهايات القلعة، الأمر الذي جعل للقلعة هيئة وشكلا جديدا كمعلم في المدينة، ولاشك كان ذلك يخدم توافق حضورها ومجموع سلسلة المباني المزمع تنفيذها بامتداد الواجهة البحرية.
في العام 1929 تم تعيين المارشال بيترو بادوليو كحاكم لأقليمي طرابلس وقورينا، وكان أن أصبحت مهام تخطيط أطرابلس من ضمن مسؤولية البيرتو نوفيللو، وأوتافيو كابياتي، وقويدو فيرازا[8] في العام 1931. استندت أطروحاتهم التخطيطية لطرابلس، والتي روعيت فيها المبادئ التي وضعها لويدجي في عام1912، على مراعاة توقع التوسع المستقبلي للمدينة بما يعادل الضعف وكان الرؤية التخطيطة قد تبلورت بهيئتها الشعاعية في العام 1933 .
ميناء أطرابلس اليوم
أطرابلس كانت دائما تنعم بموقعها الشاطئي على البحر الأبيض المتوسط، فنسيج المدينة العمراني يعكس تاريخ المدينة العريق والطويل من تأثير التفاعل الحضاري التبادلي. ميناء اطرابلس قد أختبر عبر الزمن سلسلة طويلة من ضغط الاختلاف والتعقيدات الذي أساسه القوى السياسية المؤثرة في كل حقبة مرت بها أطرابلس، والتي كانت دائما تنشد أن تكون الرؤية السياسية لها ظاهرة في عمران وعمارة المدينة لاسيما في واجهتها البحرية. لذا كان النمو العمراني وتحوره سمة لم تملك المدينة يوما أن تتحكم في مساره بشكل متزن، ففي سبعينيات و ثمانينات القرن الماضي، طال الواجهة البحرية للمدينة هدم لبعض أهم المباني كفندق المهاري والفندق الكبير، وبنك إيطاليا، إضافة إلى قرار جائر بردم الواجهة البحرية بحجة توسعة أرصفة ميناء أطرابلس. إن هذا الدمار الغير موضوعي الذي طال الواجهة البحرية، خلف أراضي جديدة دون غرض أو هدف أو حتى رؤية منطقية لتوظيف عملي، بل أن الطريق المروري السريع ضاعف من وضع الواجهة البحرية الكارثي حيث ساهم ذلك في فصل المدينة بشكل مادي قاس عن شاطئها وميناؤها لأول مرة في تاريخها منذ نشأتها آلاف السنين. في تسعينيات القرن الماضي وتحت وطأة حظر الطيران المدني المفروض على ليبيا حتى 2003، ساهم ذلك في إنعاش نشاط الميناء كمنفذ متاح ووحيد لحركة المسافرين، وعلى الرغم من ضعف إدارته وغياب الاستثمار الموضوعي له، إلا أنه خفف نسبيا من معاناة السكان وساهم في تخفيف الاختناق الإقتصادي للمدينة.
إن ردم الشاطئ الطرابلسي عملية توسع كارثية طالت رصيد المدينة العمراني والمعماري، فلقد شكل ذلك ضغطا متزايدا على إنهيار المدينة القديمة، وقلعتها الحمراء وأيقونات معمارية فارقة للمدينة. اليوم بدا الدمار جليا بكل المقاييس، فالمدينة القديمة صارت تخشى الإقتراب من ميناؤها في باب البحر لوجود مسار المركبات القاتلة، وقلعة السرايا الحمراء تعيش خدعة بحيرة سمجة لم ولن تعوضها يوما دغدغة أمواج شاطئها، كما أن ميداني إيطاليا والقلعة قد تم دمجهما بتدمير المباني وتحويلهما إلى ساحة (خضراء) كبيرة تخدم غرض سياسي في تجميع سكان المدينة لسماع الخطب.
في العشرون من شهر فبراير العام 2011 شهدت هذه الساحة مظاهرات شعبية لمعارضة نظام القذافي لأول مرة منذأربعة عقود من تاريخ المدينة، وفي شهر أغسطس من العام نفسه، وفي معركة أطرابلس أطلق ثوار المدينة اسم ميدان الشهداء على الساحة مجدداً، وكان أن تحولت الساحة في سبتمبر إلى فراغ تجمع شعبي ضخم وعامر محتفيا بنهاية نظام سياسي ظالم، وأصبح للميدان هوية جديدة. تجدر الإشارة هنا إلى أن ميدان الشهداء اليوم، كان بالأمس ميدان إيطاليا وميدان القلعة ومن ثم تحول إلى ساحة (خضراء)، هذا التحول مؤشر قوي للسياق المتغير الذي تصبغ الفراغات العمرانية وقيمتها الإستعمالية تبعاً لتغير الغرض من الاستعمال والقوى السياسية القائمة.
ميناء أطرابلس اليوم، هو في قلب الإقتصاد الحقيقي للمدينة، ويمكن أن يكون بمركز الدولة الليبية المالي الفعلي. فنشاطي الإستثمار والسياحة يجدان في أطرابلس اليوم مدينة تملك فرصا ورصيدا، لذا على خطط التطوير والتنمية المستقبلية مراعاة حقيقة أطرابلس كونها بالأساس من مدن الموانئ . لقد شاب المدينة صورة شاحبة بمجرد فصل عمرانها ويابستها عن شاطئها، فالمدينة قد خسرت عددا من المباني التاريخية والمعمارية كانت بالأساس قد صممت وشيدت لتعزيز حضور واجهتها البحرية المتوسطية الحضارية الأنيقة بمحاذاة ميناؤها . إن واجهة أطرابلس البحرية تملك موقعا يتيح مرونة عالية في تقبل تعدد الطرز المعمارية، فالواجهة البحرية أرضية مشتركة تتيح فرص التفاعل الحضاري المتوسطي الذي نلمسه في قيمة المعادلة التوافقية التي تحملها عمارتها وهي بإطلالتها على البحر تثري مشهد المدينة البحري.
النتائج .. هل من قراءات تخطيطية مستقبلية؟
في السنوات القليلة الماضية، تحول ميناء أطرابلس وواجهاتها البحرية قضية شائكة وتحديا للمخططين والمعماريون الليبيون. فلقد أجريت مسابقة مفتوحة، وتم التعاقد على جملة من الدراسات قام بها عددا من المكاتب الوطنية والأجنبية، وكانت جميعها تشترك في وحدة الأهداف، إنطلاقا من حرصها على تتبع أثر نشأة أطرابلس عبر ميناؤها، وجوهر تكامل الشاطئ واليابسة، وقراءات معمقة حول فرص ومحدودية جوانب التطوير والتحوير في هيئة الواجهة البحرية للمدينة ومخطط ميناؤها بل وحتى رؤى التوظيف المستقبلي.
كان طموح كافة الذين يشاركون في هذه الدراسات من مخططين ومعماريون يتمحور حول إسترجاع أطرابلس كمدينة متوسطية، بتعزيز دور الميناء كمحطة حضارية. من هنا يمكن ترجمة استنتجات الورقة بمجموع الخطوط العرضية للممقترحات وجملة الأهداف التي مهدت الدرب أمامها وحصيلة ورش العمل التي أشترك فيها عدد المهتمين لمناقشة شاطئ أطرابلس العتيقة ومركز المدينة وإمتدادات واجهتها الشاطئية، يتم تلخيصها على النحو التالي:ـ
- إن الشاطئ واليابسة يجب توظيفهما بشكل فاعل من خلال سلسلة فراغية وعناصر ومنشاءات وبما يحقق خبرة ممتعة ومتنوعة في إستعمال المكان
- يجب تحقيق التواصل المرن والسلس بين اليابسة والشاطئ.
- إيقاف كل مصبات الصرف الصحي من أي منشأ.
- إعادة تدوير النفايات ومياه الصرف بمفهوم الإستدامة.
- الأخذ في الإعتبار مبادئ تنسيق المدينة بالعناصر الطبيعية.
- العمل على الإقتراب من مياه البحر، حيث يمنح ذلك خبرة ممتعة للمشهد وتيارات الهواء إضافة إلى السباحة وركوب القوارب الشراعية وأنواع أخرى من الرياضات البحرية.
- العمل على إزاحة الفاصل المادي وتحديداً الطريق السريع والجسر على إمتداد الواجهة البحرية للمدينة.
يمكن إعتبار عرض نماذج من هذه الرؤى والمقترحات بمثابة دعم لما تم ذكره سلفا مختتمين بالرؤية المشتركة لدينا جميعا في العمل على ربط عمران أطرابلس بالبحر عبر تعزيز المحاور البصرية لمجموعة المسارات القائمة بشبكة نسيجها. إن هذه الخطوة ستعمل على تحسين وضع أطرابلس العتيقة ومركز المدينة عمرانياً لاسيما في معالجة إشكاليات واجهتها البحرية، ومعالجة تطبيقات الفراغات الحضرية على إمتداد الواجهة بما يخدم المكان الذي تستوطنه جملة مشروعات التطوير بشكل ملتحم ومتكامل وفعال.
إن الواجهة البحرية هي بوابة المدينة الأمامية، تعرف المدينة بموقعها المتفرد وطابعها العمراني والمعماري، لذا يجب أن يؤسس أي مقترح تخطيطي جديد أولا على تعريف الأرضية الفكرية التي بموجبها تتحقق الشبكة المترابطة والملتحمة بشكل وثيق لكل المشروعات على الواجهة البحرية. إنه بذلك وحده، يكون السبيل لأن تستعيد المدينة شاطئها التاريخي وإلتحامها العقلاني به.
[1] – James Willard, The Great Sahara, Hutchinson; 1st edition, 1964, p.49
[2] – ECOU, Tripoli Old City- Rehabilitation Project. City Code. Tripoli, (2010) p.13.
[3] – McLaren, Brian L. mentions in his book, ‘Architecture and Tourism in Italian Colonial Libya: an ambivalent modernism’ in page 21 the reference is : Luiggi, “Le opera pubbliche a Tripoli”, Nuova Antologia 47, 965 (March 1, 1912), p. 115-30.
[4] – Peter Friedl in his article ‘Secret Modernity’ (http://www.e-flux.com/journal/secret-modernity/), refers Carlo Enrico Rava, “Costruire in colonia,” in Domus 109 (1937), 25.states”the separation of colonial architecture into two parts, with indigenous people on one side and whites on the other’. Quoted from Robin Pickering-Iazzi, “Mass-Mediated Fantasies of Feminine Conquest, 1930–1940,” in A Place in the Sun, 208.
[5] – Claudia Conforti, ‘Armando Brasini’s Architecture for Tripoli’, Environmental Design: Journal of the Islamic Environmental Design Research Centre, 8-9 (1990) pp. 46-55.
[6] – As referred by C. Conforti; ‘this is the only printed publication that gives an overall picture of Brasini’s work. A first critical review is outlined by Gianpaolo Consoli in his degree thesis discussed at Rome Faculty of Architecure: A. Brasini, “Appunti autoblografici”, in L’opera architectonica e urbanistica di Armando Brasini dall’Urbe Massima al Ponte sullo Stretto di Messina, ed. L. Brasinin, Rome 1979, p.14
[7] – Claudia Conforti, ‘ Armando Brasini’s Architecture at Tripoli’, Environmental Design: Journal of the Islamic Environmental Design Research Centre. (1990) p.54
[8] – Brian McLaren, Architecture and Tourism in Italian Colonial Libya: An Ambivalent Modernism, University of Washington Press, Seattle and London, 2006, p.29.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق