التسميات

الخميس، 24 أغسطس 2017

تغيـر المناخ والتخطيط الإستراتيجي فــي السـودان ...


تغير المناخ والتخطـط الإستراتيجي فــي السـودان 

د. عمر محمد علي أحمد

جمعية خريجي كلية الدراسات الاقتصادية و الاجتماعية – جامعة الخرطوم

بسم الله الرحمن الرحيم
مؤتمر الحوار الوطني
المنبر الاقتصادي

ورقة حول :
تغيــــر المناخ والتخطيط الإستراتيجي في السودان

رؤى حول

آفاق التنمية في أقاليم الهامش

د. عمر محمد علي أحمد
الخرطوم
الأول من أكتوبر 2015م

بسم الله الرحمن الرحيم
مؤتمر الحوار الوطني
المنبر الاقتصــاد

الفهـــــرس
الرقم الموضوع الصفحة
الفصل الأول
1 مقدمة 1
2 جذور أزمة البيئة والمناخ 6
3 تغير المناخ بيينا 13
4 تغير المناخ والزحف الصحراوي في شمال السودان والخطر على السدود 25
5 الغلاف الجوي أو مسرح الجريمة 31
6 اللاعبون الأهم في تشكيل المناخ 33
7 عودة إلى التاريخ 33
8 الاحتباس الحراري الحميد 35
9 لماذا تغير المناخ؟ 36
10 الاستخدام الكثيف للوقود 37
11 إزالة الغابات 40
12 الانفجار السكاني في العالم والتحولات الديمغرافية 43
13 الحروب والبراكين 46
14 تغير المناخ .. حقائق ماثلة أم خيال علمي 51
15 الدول الأكثر تسبباً في الإنبعاثات 54
16 كيف تغير المناخ؟ 55
17 صدمات المناخ 58
18 غرق السواحل والمدن والدلتاوات وزوال بعض الدول! 66
19 جزر توقالو. 66
20 تغير المناخ وبنوك المياه 68
21 تغير المناخ وصحة الإنسان 72
22 الخرطوم .. الحر قبل الإحترار 74
الفصل الثاني
واقع وآفاق التنمية البشرية بأقاليم الهامش
23 موقع السودان في ترتيب التنمية البشرية 95
24 مواقع أقاليم الهامش في التنمية البشرية 97
25 الرعاة والرحل .. هامش الهامش 98
26 المؤشرات الاحصائية 100
27 الرحل وعناصر الغذاء متناهية الصغر 102
28 كماشة المراعي وتداعياتها 106
29 إستحفال أزمة الهامش وموجبات القفز فوق الزمن 112
30 القفز فوق الزمن Jumping over Time 118
31 إقتصاد المرتفعات Altonomics 121
32 الملاذات الآمنة من حرارة الطقس 125
33 الهضاب المقترحة لقيام قطبيات التنمية 133
34 هضبة شرق درديب 133
35 العمق الزراعي لهضبة شرق درديب 136
37 هضبة المناقل 137
38 السكان 140
39 هضبة الإنقسنا 140
40 قبيلة الإنقسنا 141
41 ميزات موقع هضاب الإنقسنا 144
42 هضاب جبال النوبة 145
43 رشاد 146
44 كاودا وهيبان 147
45 هضاب جبل مرة أو الدرادو السودان 149
46 دارفور .. بعض المراجع 154
الفصل الثالث
47 فعول هونغ كونغ The Hong Kong Effect 157
48 هونغ كونغ النشاة والتاريخ المعاصر 160
49 هونغ والبداية المتعثرة 165
50 هونغ كونغ في عالم متغير 177
51 هونغ كونغ والحصيلة المبهرة 179
52 عجائب هونغ كونغ 181
53 دور هونغ كونغ في إنطلاق الاقتصاد الصيني 183
54 رأس التنين The Dragons’ Head 185
55 قناة السويس 188
56 الأهمية الاقتصادية والسياسية للقناة 195
57 مشاريع محور القناة 197
58 قناة بنما 198
59 بدائل القناتين حقائق أم هو الحسد 204
60 الخلاصة 205
الفصل الرابع
السيادة المستعارة Borrowed Sovereignity
61 الفكر والرؤي Theme and Visions 208
62 معوقات الاستثمار في السودان 209
63 الفكرة The Theme 216
64 القواسم المشتركة 217
65 هونغ كونغ .. حالة إستثنائية 218
66 أوجه الشبه 221
67 تفعيل مفعول السيادة المستعارة وتوظيف مفعول هونغ كونغ 228
68 المستثمر الخليجي والبدائل المتاحة 231
69 طبيعة الشراكة الذكية بين السودان ودول الخليج 233
70 تعويضات وحوافز المتأثرين 234
71 كيف يصنع رأس المال؟ 236
72 القبول الشعبي والأطر القانونية 237
73 تخصيص الهضاب 240
74 دلتا القاش 241
75 المساحة المقترحة للمناطق الاقتصادية 244
76 الاضافات ومعالجة التضاريس 245
77 الرؤي The Visions 248
78 الصناعات الغذائية 248
79 المعهد العالي الخليجي – السوداني للبحوث الزراعية التطبيقية 250
80 المدن العلمية والبحث العلمي 253
81 مراكز التميز في الإدارة المتقدمة 258
82 قرى اللغات الأجنبية 259
83 بيوت الخبرة الاستشارية والإنتشار الخليجي الاقليمي 261
84 سياحة الطفل والأسرة 266
85 العوامل الطاردة لسياح الدول النامية في الدول الغربية 269
86 سياحة الاسترواح 272
87 سياحة الطفل 273
88 السياحة النيلية 275
89 سياحة الجعاش 275
90 سياحة الآثار 276
91 الأمارات وعجائب الدنيا 277
92 مراكز الاغاثة الدولية 277
93 البنيات الأساسية 279
94 السكة الحديد 280
95 مبررات إنشاء الخطوط الرأسية 283
96 التكلفة 284
97 الميناء البحري 289
98 الطقس والمياه 291
99 المطارات 292
100 الطريق السريع: الخرطوم – هضبة المناقل 293
قطاع المياه
101 حصاد المياه 295
102 التصدير الافتراضي لمياه الأمطار 296
103 كيف يتحقق التصدير الافتراضي لمياه الأمطار 297
104 مكاسب أخرى لحصاد المياه 298
105 أهمية حصاد المياه 300
106 قناتا الجزيرة والمناقل 301
107 الامتداد الثالث لمشروع الجزيرة 302
108 نقل المياه إلى مشروع شرق عطبرة 303
109 أوقاف الخليج لدعم التعليم بأقاليم الهامش 303
110 كيف تدعم الأوقاف الخليجية التعليم في السودان؟ 307
البشارات
111 البشارة الأولى : سد النهضة والزراعة الشتوية 310
112 البشارة الثانية : آفاق الاستثمار في المعادن 314
الفصل الخامس
إضاءآت وإضافات ضرورية
113 دول الخليج والتحديات الاقتصادية والمائية 320
114 الهضاب منصات انطلاق للمستثمر الخليجي 331
115 السيادة المستعارة: هل هي دعوة لهجرات إنتقائية 337
116 السيادة المستعارة والعولمة 339
117 المناطق الاقتصادية الخاصة .. العامة والحضرية 342
118 مرحلة الوعي: أهم مطلوبات التنمية 350
119 السيادة المستعارة وتغير المناخ ومياه النيل 356
120 البعد السياسي لمفهوم السيادة المستعارة 361
121 السيادة المستعارة والاقتصاد الكلي 363
122 السيادة المستعارة والمقاطعة الأمريكية 365
123 الخاتمة 373

تغيــر المنــــاخ والتخطيـــط الإستراتيجــي فــي الســــودان

الجزء الأول تغير المناخ

مقدمة:

  لقد تأكد للجميع أن العالم قد انتقل بالفعل إلى عصر تغير المناخ منذ ما يقرب من الثلاثة عقود وأن هذا التغير سيتواصل ويتسع ويترسخ في كل أنحاء العالم في الثلاثة عقود القادمة، أي حتى مشارف عام 2050…
  حدث هذا التغير بسبب ما ظل يتراكم طوال القرنين الماضيين من غازات الإحتباس الحراري Green-house gases في الغلاف الجوي. لهذا يتطلع العالم إلى إجازة الاتفاقية الدولية الخاصة باحتواء هذه الظاهرة وذلك عند انعقاد قمة المناخ في باريس في ديسمبر القادم.
   يرجح كثير من الخبراء ألا تحقق تلك الاتفاقية النتائج المرجوة إلا بعد منتصف القرن الحالي أو عند نهايته! يُعزى هذا التشاؤم لاقتناع كل الأطراف بأنه يستحيل عملياً التحول بين يوم وليلة من الوقود الأحفوري – المصدر الرئيسي لغازات الاحتباس الحراري – إلى البدائل النظيفة.
  يعزى هذا التشاؤم أيضاً إلى عدم الالتزام الصارم – المتوقع- من بعض الدول وذلك بسبب السباق الدولي المحموم لتحقيق أعلى معدلات النمو كما يُعزى إلى فقر الإمكانات وشُح الدعم الذي يسمح للدول النامية بالتحول إلى الطاقات المتجددة أو توطين ثقافة الاقتصاد في استهلاك الطاقة.
  تأكد أيضاً أن معظم دول العالم ستتأثر سلباً بتغير المناخ وذلك بفعل الأحداث المناخية المتطرفة Extreme climate events كالأعاصير والعواصف والأمطار الغزيرة والسيول والفيضانات أو كموجات الحرارة العالية والجفاف الممتد والمتكرر ومن ثم من تداعيات تلك الأحداث..
   إن الأحداث المناخية المتطرفة التي تم رصدها وتلك الأكثر عنفاً وتطرفاً التي يتوقع الجميع حدوثها في ظل تفاقم ظاهرة تغير المناخ قد تولّد – لهولها- لدى البعض إحساساً بأن كوكب الأرض الذي عمرّه الإنسان بالتكاثر وبالحضارات ما عاد ذات الكوكب أو كأنما أصبحنا أمام كوكب آخر!! خشية أن يتوهم القارئ السوداني بأنه غير معني بتغير المناخ طالما ظل بعيداً عن الأحداث المناخية الكبرى التي ظلت تتكرر في شرق آسيا والكاريبي ، أوردنا ضمن هذه المقدمة بعض صور ونماذج من الأحداث المناخية التي شهدها السودان في الثلاثة عقود الماضية. أننا نرى في تلك الأحداث حالات لمناخ متغير وقد يرى البعض أنها مجرد حالات مناخية استثنائية Climatic anomalies وليست أعراض لمناخ متغير… والله أعلم!
   لعل من بين الأسباب التي تجعل المواطن السوداني لا يأخذ ظاهرة تغير المناخ مأخذ الجد هو أن السمة الغالبة للطقس في السودان هي ارتفاع درجات الحرارة والتباين الحاد في القراءات! على سبيل المثال نشير هنا إلى أن درجات الحرارة في موسم الشتاء في السودان قد تقفز من 15 درجة مئوية في الصباح الباكر إلى 35 درجة بعد الظهر. في بيئة مثل هذه قد يرتفع المتوسط السنوي لدرجات الحرارة بدرجة أو درجتين دون أن يشعر به أحد! .
  من زاوية أخرى تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن تغير المناخ ما هو بالكارثة التي تباغت الناس كما هو الحال في التسونامي والزلازل وإنما هو كارثة إنسانية تتشكل وتتكشف ببطء عبر الزمن..

لقد صيغ هذا المعنى بالإنجليزية على النحو التالي:

“climate change – unlike a Tsunami in the Indian ocean or the earth quake in Kashmir – threatens not a onetime catastrophe, but a slowly unfolding disaster”

  في ذات المعنى يشير أحد تقارير الأمم المتحدة إلى أن “تغير المناخ ليس هو بالحدث المباغت وإنما هو كارثة تتشكل ببطء ”
“Climate change is not an abrupt occurrence, but a slow unfolding disaster”.
  لقد أعددنا هذه الدراسة في جزئين وخصصنا الجزء الأول منها للتعريف بظاهرة تغير المناخ.. جذورها اتساعها، تداعياتها ومآلاتها. أوردنا ما يقترحه الخبراء حول تخفيف آثارها Mitigation والتكيف معها adaptation باعتبارهما أهم مرتكزين لاتفاقية المناخ التي ينتظر التوقيع عليها من قبل رؤساء الدول في قمة باريس.
  ألحقنا بهذا الجزء نبذة عن “الندوة الدولية حول العمل في الجو الحار” التي نظمتها وزارة الصحة السودانية في نهاية يناير من عام 1988. شاركت في الندوة نخبة من الخبراء والباحثين والأكاديميين السودانيين في مجالات الطب، البيطرة والهندسة كما شارك فيها علماء وخبراء من عدة دول.
   أما الجزء الثاني من الدراسة فقد خصصناه لعرض إستراتيجية ورؤى جديدة لتنمية أقاليم الهامش وهي إستراتيجية تستصحب الحقائق التالية:
1- اتساع الفجوة التنموية – الموجودة أصلاً – بين المركز والهامش إذ تعثرت التنمية في الهامش بسبب الاختلال الأمني مما أتاح الفرصة للمركز لأن يستأثر بمعظم مكاسب الطفرة النفطية على قصر عمرها! .
2- أن سد الفجوة التنموية يتطلب اختزال الزمن وذلك من خلال ابتكار رؤى ومشاريع غير نمطية ليستخدمها الهامش كمنصات يقفز بها فوق الـــزمن أي to jump over time .
3- تجمع كل الدراسات حول تغير المناخ على أن أكثر المجتمعات التي عانت وستعاني من تداعيات تغير المناخ هي مجتمعات الهامش الفقيرة ذات الهشاشة العالية بالدول النامية.
4- لحسن الطالع تحظى أقاليم الهامش في السودان بميزات اقتصادية كبرى وأهم تلك الميزات هي غزارة الأمطار ووفرة المياه السطحية والجوفية، الأراضي الزراعية والرعوية، الثروة الحيوانية وذلك بالإضافة إلى الثروات المعدنية والنفطية.
5- تحظى أقاليم الهامش أيضاً بوجود أربعة كتل جبلية تصطف في شكل هلال حول وادي النيل، والكتل هي : جبل مرة، جبال النوبة، جبال الأنقسنا جبال البحر الأحمر. تتميز معظم هذه الكتل وبما عليها من هضاب بغزارة الأمطار نسبياً وبكثرة المجاري المائية المناسبة لحصاد وحفظ المياه، باعتدال الطقس وباتساع الأراضي الزراعية حولها ولكنها تفتقر للبنيات الأساسية والأمن.
6- تقترح الدراسة توظيف مفهومي السيادة المستعارة Borrowed Sovereignty ومفعول هونغ كونغ The Hong Kong Effect في الدخول في شراكة ذكيّة مع دول مجلس التعاون الخليجي الست وهي المملكة العربية السعودية، الكويت، قطر، الإمارات العربية المتحدة، البحرين، سلطنة عمان. تهدف الشراكة المقترحة إلى إقامة قطبيات للتنمية Pole of Development في ست هضاب بأقاليم الهامش وبحيث يكون النشاط الإقتصادي الأهم في تلك القضبيات هو التصنيع الزراعي بشقيه الزراعي والحيواني وذلك بالإضافة إلى صناعة النسيج. ترى الدراسة أن الموارد المائية والزراعية والحيوانية الهائلة التي تنعم بها أقاليم الهامش في السودان لكافية لتدفع بطموحات المستثمرين الخليجيين إلى أن تتخطى الأسواق العربية إلى الآفاق العالمية في بعض السلع ذات القيمة التجارية العالية High Value Product . كما حدث في هونغ كونق ستتطور قطبيات التنمية لاحقاً لتتحول إلى قواعد ومنصات إنطلاق للمستثمرين الخليجيين وشركاؤهم لإرتياد آفاق أرحب للإستثمار في السودان وفي دول الجوار وهو الأمر الذي يعني ضمناً إنتعاش السياحة وبصفة خاصة سياحة رجال الأعمال.
  سيجد القارئ الكريم في سياق هذه الدراسة توضيحاً لمفهومي السيادة المستعارة ومفعول هونغ كونغ لمزيد من الإيضاح قدمت الدراسة نبذه عن التجارب المشابهة لتجربة هونغ كونغ وهما تجربتي قناتي السويس وبنما.
  من جهة أخرى قدمت الدراسة مقترحات حول تعويض المتأثرين بقيام القطبيات والمكاسب التي سيحققونها كما أعطت بصورة مبدئية ملامح للصيغة التعاقدية بين السودان ودول مجلس التعاون الخليجي الست.
  تخاطب بهذه الدراسة كل شرائح المجتمع وذلك لإقتناعنا التام بأن قضية تغير المناخ ستغدو أكثر إلحاحاً في مقبل الأيام. لهذا نرى أن الإلمام بجذور هذه الظاهرة ضرورة لمن يرغب في فهم تداعياتها. إن من رأينا أن التعرف على ظاهرة تغير المناخ أسبابها وتداعياتها يمثل أحدى ركائز ثقافة القرن الواحد وعشرين ومن يجهلها تصبح ثقافته منقوصة!
  بالطبع هناك تخصصات لصيقة بتغير المناخ ولعل أهمها هو التخطيط الاستراتيجي الذي ما عرّف بالاستراتيجي إلا لكونه يرسم لنا معالم المستقبل وكما سنرى لاحقاً سيكون للمناخ دور محوري في صياغة المستقبل.
أن التخطيط في كل تفرعاته – العمراني والزراعي والاقتصادي.. الخ – الذي لا يستصحب ظاهرة تغير المناخ هو بلا شك تخطيط خارج إطاره الزمني anachronistic ومآله الفشل الذريع.
  بهذا الفهم نهدي هذه الدراسة إلى المهندسين والأطباء والبياطرة والبيئيين وفوق ذلك إلى المعنيين بالتخطيط الإستراتيجي وبوضع السياسات وتنفيذها.
  نهدي الدراسة أيضاً إلى أساتذة مادتي الجغرافية والبيئة في المراحل التعليمية الثلاث. أن أستاذ الجغرافيا هو القادر على استثارة عقول طلابه ليتدافعوا من تلقاء أنفسهم لتصيّد وجمع الدراسات حول تغير المناخ من مظانها، سيما وقد أصبحت المعرفة في متناول يد الجميع بفضل الشبكة الدولية للمعلومات “الانترنت”.
   إن طموحنا يذهب إلى أبعد من ذلك إذ نأمل أن تقترن ثقافة تغير المناخ برفع مستوى طلابنا في اللغة الإنجليزية . لهذا جمعنا عدة أقوال – أو اقتباسات quotations – باللغة الإنجليزية ثم قمنا بترجمتها إلى العربية لتنشر في كبسولات مع حلقات الدراسة. أننا على يقين تام أن دراسة هذه الاقتباسات لغوياً وحفظ الكلمات سيحقق طفرة في اللغة الإنجليزية عند الكثيرين. لقد دلت التجارب أن أقصر الطرق لتعلم اللغات الأجنبية هو تعلمها عبر المواد والمواضيع الشيقة وتلك التي يتحمس لها متعلم اللغة وهذا ما نأمله بنشر هذه الورقة.
   اما الإعلام بأفرعه الثلاثة فهو الأداة الأهم للثقافة الجماهيرية ولذلك ندعو الإعلاميين بصفة عامة والصحفيين بصفة خاصة ندعوهم لمتابعة حلقات هذه الدراسة ودعوة الجمهور لنقدها عبر صحفهم وغيرها حتى نسهم جميعنا في تقويمها وإزالة ما قد يظهر فيها من قصور!

جذور أزمة البيئة والمناخ :

  بعد ثلاثة عقود متعاقبة (1914 – 1945) اندلعت فيها وبأن حربان عالميتان وتفجرت أزمة اقتصادية عالمية طاحنة أقبلت الدول الأوروبية. بحماس نحو إعادة بناء ما دمرته الحرب كما اتجهت جميعها نحو إحياء وتجديد اقتصاداتها. كما هو معروف ما كان لغرب أوربا أن يعيد بناء اقتصاداته لولا المساعدات المالية السخية التي تدفقت نحوه عبر مشروع مارشال الأمريكي.
  لم يكن مشروع مارشال محصوراً في إعادة بناء وتأهيل البنيات الأساسية فحسب، وإنما جاء مستصحباً معه المستثمرين ورجال الأعمال الأمريكيين. وجاء هؤلاء حاملين معهم بذور المجتمع الاستهلاكـي علـى الطريــقة الأمريكية الباذخـة Society of Affluent Consumption كما شخصه عالم الاقتصادي الأمريكي روستو W.W. Rostow في كتابه الشهير “مراحل النمو الاقتصادي Stages of Economic Growth. صدر الكتاب في عام 1960 وقدم البروفسير روستو من خلاله رؤية ونظرية بديلة للنظرية الماركسية حول تطور ونمو المجتمعات الإنسانية.
   جاء المستثمر الأمريكي إلى أوروبا – قلب العالم القديم – ليجعل منها منصة انطلاق للترويج لنمط الحياة على الطريقة الأمريكية The American life style بكل ما فيه من بذخ وإسراف. عاد المستثمر الأمريكي إلى قارته الأم ليجدها في بحبوحة من العيش إذ بدأت تحصد ثمار النمو الاقتصادي العالي والمضطرد طوال الخمسينات والستينات من القرن الماضي. أن أبلغ مؤشر للنمو الاقتصادي ومجتمع الرفاهية هو الطفرة السكانية التي عُرفت لاحقاً بالـ Baby Boom وهم كهول وشيوخ اليوم ! ساد حينذاك شعور جمعي بالأمن والطمأنينة وبضرورة تعويض الفاقد السكاني الضخم الذي تسببت فيه الحرب العالمية الثانية.
   لقد بلغ عدد ضحايا الحرب أكثر من خمسين مليون من الموتى على نطاق العالم وكان معظمهم من أوروبا وروسيا والصين أبن الإحتلال الياباني.
   أقبلت المجتمعات الغربية على الحياة المترفة بشراهة وبكثير من الإسراف وإهدار الموارد. لقد أصبحت السيارة الخاصة ضرورة اقتصادية واجتماعية فبإمتلاكها حقق المواطن الأوروبي قدراً كبيراً من الحرية الشخصية. في ذات السنوات شُيدت الامتدادات والمجتمعات السكنية حول المدن بما يتوافق مع إمكانات وأمزجة كل شرائح المجتمع. تم تزويد تلك المجتمعات السكنية بكل ما هو حديث بدءاً بنظم التدفئة المركزية وانتهاءً بالتجهيزات الكهربائية العصرية.
  كان المحرك والمرتكز الرئيسي لذلك النمو الاقتصادي هو الطاقة الأحفورية الرخيصة “Fossil Energy” ممثلة في البترول، الفحم الحجري والغاز. كان سعر برميل البترول في تلك السنوات دون الثلاثة دولار أمريكي كما كان – وما زال- الفحم الحجري والغاز الطبيعي أكثر وفرة وأقل سعراً.
  في تلك السنوات لم تكن المفاعلات النووية لتوليد الكهرباء قد شاعت بالقدر الذي نراه اليوم إذ كانت التقانة في مراحلها الأولى كما كان الدمار الذري الذي لحق بهيروشيما وناجازاكي حياً في الذاكرة وأصبح بمثابة الحاجز النفسي.
  لهذا كان الوقود الاحفوري يستأثر بنسبة 97% من مصادر الطاقة وكانت محطات التوليد المائي Hydroelectricity تغطي معظم الباقي.
   في علاقة عكسية كان تصاعد استهلاك الوقود الاحفوري يقابله تدهور في البيئة ومع تسارع النمو الاقتصادي كان إحتياطي العالم من الوقود الاحفوري والموارد المعدنية والمائية يتراجع. كان غاز ثاني أوكسيد الكربون (Co2) يتراكم في الغلاف الجوي بمعدلات عالية كما كانت مخلفات الصناعة تلوث المجاري المائية والبحيرات وسطح الأرض وباطنها!
  لم يكن الساسة والحكام يحفلون بقضايا تلوث البيئة أو بتراجع احتياطي العالم من الموارد الطبيعية إذ كان همهم الأول هو تحقيق أعلى معدلات النمو الاقتصادي ليظفروا بقلوب مواطنيهم ويكسبوا أصواتهم في الانتخابات، إضافة لذلك كان التوجه الوطني الضيّق يعلو على قضايا مستقبل البشرية! وكان الوعي البيئي غائباً.
    من زاوية أخرى أصبح لرأس المال والشركات متعددة الجنسيات تأثير قوي على متخذي القرار كما توفرت الأموال لإنشاء أعداد لا تحصى من وحدات البحث العلمي والتطوير لإبتكار السلع الجديدة “Rand D – Research and Development
كان لرأس المال ما أراد إذ تدفقت عشرات الآلاف من السلع منها ما هو ضروري وكثير منها ما كان يصنّف تحت بند الكماليات. لتقليل تكلفة الإنتاج وتعظيم الأرباح كان لابد من توظيف فنون الترويج والدعاية ومن ثم توسيع الأسواق لتشمل الدول النامية. كان للطاقة وجود في كل سلعة سواء أكانت عود ثقاب أم طائرة نفاثة كما كان المصدر الاحفوري يستحوذ على 97% من المصادر كما سبق أن ذكرنا.
   كانت مراكز البحث العلمي ودراسات المستقبل Futurology ترصد تلك المستجدات الاقتصادية بقلق شديد كما كان العلماء في تلك المراكز أوفياء لرسالاتهم في تبصير مجتمعاتهم بالمخاطر التي ستواجهها الإنسانية إذا ما استمر استنزاف الموارد والتعدي على البيئة على نحو ما كان سائداً.
  في تلك الأجواء وتحديداً في عام 1972 صدر كتابان اهتز لهما العالم المستنير واهتمت بهما بصفة خاصة جمعيات حماية البيئة ومراكز دراسات المستقبل والمعنيون بالتخطيط الإستراتيجي. احتفت الدوائر الإعلامية والصحفية بهذين الكتابين وتمت ترجمتهما إلى عشرات اللغات. أحدث ذلك الانتشار حراكاً فكرياً وجدلاً فلسفياً واسعاً حول مستقبل الإنسانية في ظل التدهور البيئي واستنزاف الموارد.
   صدر الكتاب الأول تحت عنوان: “حدود النمو “The Limits to Growth وهو عبارة عن التقرير الضافي الذي أعده نادي روما بالتعاون مع نخبة من علماء معهد ماساشوستش للتقانة (MIT) Massachusetts Institute of Technology لتعريف الأجيال الصاعدة من طلاب الجامعات وخريجيها بهذا المعهد نذكر أنه يعتبر من بين أهم المراكز البحثية في العالم إن لم يكن أهمها. ومقر المعهد من مدينة بوسطن بالولايات المتحدة. تبوأ المعهد هذه المكانة بما توفر له من تمويل وأجهزة فنية وأجواء حياتية مكنته من اجتذاب عدد كبير من صفوة علماء وخبراء العالم في شتى التخصصات. عبر هذا المعهد حاز عشرات العلماء على جائزة نوبل في عدة تخصصات علمية كما رأت فيه النور آلاف الاختراعات التي تحولت إلى سلع يستخدمها الناس. في هذا المعهد نضجت كثير من الرؤى والأفكار فتحولت إلى سياسات وخطط تبلورت لاحقاً كمشاريع وفرت أسباب الاستقرار والرفاهية للكثيرين.
  أما نادي روما Club of Roma الذي تأسس في عام 1968 بأكاديمية دي لينش Dei Lincei بروما فهو تجمع طوعي لمجموعة من علماء وحكماء العالم وعدد ممن سبق لهم العمل في المنظمات الدولية والإقليمية والشركات العالمية وذلك بالإضافة إلى بعض الحائزين على جوائز نوبل والمهتمين بالشأن الإنساني بصفة عامة. نستطيع القول أن نادي روما هو الأب الشرعي لمنتدى منتجع دافوس Davos السويسري الذي يتم تنظيمه في يناير من كل عام.
    طلب نادي روما من معهد ماساشوستش للتقانة (MIT) أن يعد دراسة حول “مأزق الإنسانية Predicament of mankind مستصحباً القضايا التالية:
   الفقر في عالم الوفرة، تدهور البيئة، فقدان الثقة في المؤسسات، النمو الحضري الجامح، البطالة، تغريب الشباب Alienation of Youth والاستلاب الفكري.
   أما المواضيع الرئيسة التي تناولها التقرير فهي: الانفجار السكاني في العالم وتداعياته، إنتاج الغذاء، التصنيع ، التلوث واستهلاك الموارد الطبيعية غير المتجددة.
   تناول الكتاب أيضاً الثروات المعدنية والبترولية المهددة بالنضوب وذهب إلى أبعد من ذلك إذ قدم تقديرات عما تبقى لها من سنوات إذا ما استمر استهلاكها بالوتيرة التي كانت سائدة. وأورد الكتاب عشر معلومات أساسية عن تسعة عشر مورداً كان من بينها تقديرات عن الاحتياطي العالمي منها، أكثر الدول انتاجاً لها وأكثر الدول استهلاكاً لها. شملت القائمة البترول، الفحم الحجري، الغاز، الحديد النحاس، الألمونيوم.. الخ.
  أشار الكتاب أيضاً إلى أن العالم كان يعتمد في تلك الفترة – أي بداية السبعينات – على الوقود الاحفوري بنسبة 97% . لهذا كان متوسط وزن ما يستقبله الغلاف الجوي سنوياً من غاز ثاني اكسيد الكربون (Co2) .يقدر بعشرين بليون طن كان نصف تلك الكمية يذوب في البحار مما زاد من نسبة الحموضة فيها كما كانت غابات العالم تمتص جزءً كبيراً لتصنع منه غذائها وتنفث بدلاً عنه الأوكسجين، لهذا كان ما يقارب النصف من الانبعاثات يتراكم في الغلاف الجوي.
   حذّر التقرير في تلك الفترة المبكرة من الآثار الوخيمة المترتبة على ما أسماه التلوث الحراري Thermal Pollution الناتج عن تراكم غاز ثاني أكسيد الكربون والغازات المصاحبة له. للإفلات من مأزق النمو المتوحشPredicament of wild growth اقترحت مجموعة العلماء أن يتجه التخطيط الإستراتيجي في العالم إلى إيجاد صيغة للنمو تحقق التوازن الكوني الشامل Global equilibrium .
   أما الكتاب الثاني فقد صدر بعنوان: “كوكب في خطر “Planet in Peril” وقد قامت بنشره اليونسكو عبر دار النشر “بنقوين”. مؤلف الكتاب هو عالم البيئة السويسري ريموند داسمان Raymond F. Dasman الذي كان حينذاك كبير خبراء البيئة بالاتحاد الدولي لحماية الطبيعة ومقره سويسرا “International Union for the Conservation of Nature – I.U.C.N” نشرت اليونسكو هذا الكتاب في سياق سعيها لإشاعة الوعي بقضايا البيئة ولتوفير مادة علمية يستعان بها في إحياء الحوار في الندوات والمؤتمرات وفي شتى المنابر.
  تناول الكتاب موضوع “الإنسان والمحيط الحيوي ” Man and the Biosphere كمدخل لقضايا البيئة .
  عرّف البروفيسير داسمان المحيط الحيوي بأنه:
” “The layer of soil lithosphere water Hydrosphere” and Air ‘ at morpheme upon the surface of the Earth within which all life exists and of which it forms a part” .
  أي بما يعني : “هي الطبقة من سطح الأرض المكونة من التربة، المياه والغلاف الجوي التي توجد بها الحياة وتشكل جزءً منها”
  تناول البروفيسير داسمان قضايا التنوع الحيوي من خلال المؤثرات الرئيسية وهي: الانفجار السكاني في العالم، التوجه العالمي نحو التصنيع، قطاع النقل، الزراعة وأثر المبيدات والأسمدة الكيميائية، الازدياد المضطرد في الثروة الحيوانية، الإقبال المتزايد على الحياة الحضرية Urbanization وتكاثر المدن المليونية، تراجع مساحات الغابات، مخلفات الطاقة الاحفورية من غازات ومخلفات المفاعلات النووية من مواد مشعة .. الخ
  في واقع الأمر شهد النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي حراكاً مكثفاً في أروقة اليونسكو حول قضايا البيئة. في سياق هذا الحراك ناقش المؤتمر العام لليونسكو في دورته لعام 1966 موضوع تدهور البيئة على الصعيد العالمي وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية. خرج المؤتمر العام بتوصية بعقد مؤتمر حول المحيط الحيوي The Biosphere وقد عقد المؤتمر بالفعل بعد عامين من ذلك التاريخ وكان ذلك في عام 1968. تصاعد الاهتمام بقضايا البيئة ففي المؤتمر العام لليونسكو لعام 1970 أجيزت توصية بقيام برنامج ممتد للبحوث البيئية وهو برنامج “الإنسان والمحـيط الحيوي” Man and the Biosphere المعروف بالماب MAB الذي دعيت كل الدول الأعضاء في المنظمة للإسهام فيه بخبراتها أو بالتمويل أو بالاثنين معاً.
   اتسعت دائرة الاهتمام بقضايا البيئة وكان لابد من إيجاد دعم سياسي ومالي دولي عبر منظمة الأمم المتحدة. لهذا تم تنظيم مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة وهو مؤتمر “الإنسان والبيئة” “Conference on the Human Environment” الذي استضافته العاصمة السويدية استكهولم في عام 1972.
   لقد مهدت تلك المؤتمرات وما أثير فيها من قضايا مهدت لقيام وكالة أو برنامج جديد لينضم إلى منظومة الأمم المتحدة وهــو برنامـــج الأمم المتحدة للبيئة United Nations Environment Programme (UNEP) وفرت المؤتمرات المذكورة وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة ذخيرة ضخمة من البحوث في الشأن البيئي وبدفع منها اتسع وتعمق الاهتمام بقضايا البيئة والمناخ.
   في تلك الأجواء رصد العالم إرهاصات تغير المناخ من خلال ما حدث للكائنات الأكثر هشاشة وحساسية جراء ارتفاع متوسط درجة حرارة سطح الأرض. تلك هي الأجواء التــي ولدت فيــها المنظمــة الحكــومية الدولية لتغير المناخ أيThe Intergovernmental Panel for Climate Change(IPC) التي تشكل تقاريرها أهم مصادر هذه الدراسة.

تغير المناخ بيننا؟

  شهد السودان في الثلاثة عقود الماضية (1984-2014) أحداثاً مناخية غير طبيعية في تاريخه المعاصر. هي أحداث إذا ما أخذت منفردة فإنها تبدو وكأنها أحداث مناخية استثنائية وهو الفهم السائد عند الكثيرين. أما إذا نظرنا إليها مجتمعة وأخذنا في الاعتبار معدلات تكرارها فإننا سنكتشف أن تلك الأحداث أصبحت تشكل ظاهرة لم يشهد السودان مثلها على الأقل في تاريخه القريب.
  إن الأحداث المناخية التي تحدثنا عنها ما هي إلا تجسيد محلي لظاهرة كونية Global phenomenon تشكلت ملامحها في الثلاثة عقود الماضية. بداهة تشكلت تلك الملامح وفقاً للمعطيات الجغرافية في كل أقليم من أقاليم العالم وهي في مجملها ظاهرة تغير المناخ.
 لقد استشعرت الأمم المتحدة خطورة مآلات تغير المناخ فقالت عنه: ”
“Climate change will be among the biggest of those challenges over the coming decades. it is , at a very profound level, an existential threat”
  أي بما يعني : “ان تغير المناخ سيكون بين أكبر التحديات في العقود القادمة. أنه في معناه العميق – تهديد للوجود الإنساني”.
  إن الأحداث المناخية غير الطبيعية التي شهدها السودان في الثلاثين عاماً الماضية أحداث كثيرة عشنا بعضها في العاصمة وتابعنا ما حدث منها بالأقاليم عبر وسائل الإعلام. نتناول بعضها أدناه حتى تتحول في ذهن القارئ من أحداث استثنائية متفرقة ومتباعدة من حيث المكان والزمان إلى ظاهرة ينبغي على السودان أن يعد العدة للتعامل والتكيف معها كظاهرة مستمرة ولن يتحقق ذلك إلا عبر التخطيط الاستراتيجي .
   لتكن بدايتنا في استعراض تلك الأحداث بما عاشته العاصمة في النصف الأول من أكتوبر من عام 2014 – ومن ثم نصعد مع الزمن حتى منتصف ثمانينات القرن الماضي.
   على غير العادة ظلت سحب الخريف تتجمع في سماء العاصمة وظلت السماء تبرق وترعد قبل هطول زخات من المطر هنا وهناك حتى منتصف أكتوبر وهو الشهر الذي اعتاد الناس فيه أن يروا الفاصل المداري وقد رحل إلى ملكال وما بعدها جنوباً معلنا نهاية فصل الخريف. كان من المفترض أن يفسح الفاصل المداري المجال لرياح الشمال لتهب بقوة معلنة بداية فصل الشتاء منذ منتصف اكتوبر.
   هناك حدث آخر غير طبيعي عاشه السودان وهو يودع شهر اكتوبر والحدث هو عودة مناسيب النيل للارتفاع بعد انحسار كان هو الآخر بطيئاً ومتأخراً عن ميقاته المعتاد.
   لقد ارتفعت المناسيب في الأحباس العليا للنيل الأزرق بالقدر الذي دفع المجلس الأعلى للدفاع المدني إلى أن يطلق تحذيراً للمرة الثانية لسكان القرى التي تقع في حضن النيل بولايتي نهر النيل والشمالية كما أعاد نقاط الارتكاز والمراقبة في المواقع النيلية المنخفضة بالعاصمة القومية.
  جرت العادة أن يُطلق هذا التحذير في الثلث الأخير من شهر أغسطس والثلث الأول من شهر سبتمبر من كل عام عند بلوغ الفيضان ذروته المعتادة وليس في نهاية شهر أكتوبر!
   لقد حدث بالفعل ما حذر منه المجلس الأعلى للدفاع المدني وهو أمر لم يكن متوقعاً ويصعب تداركه..!
  كما شاهدنا على قنوات التلفزيون إجتاحت مياه بحيرة سد مروي بعض القرى بشمال محلية أبو حمد. زحفت مياه البحيرة إلى جنائن النخيل والمزارع أولاً ثم زحفت نحو القرى المتاخمة للنيل. شهدنا سكان تلك القرى يتنقلون بالمراكب في شوارعها. في ذات النشرة أفاد الطبيب المسئول عن المركز الصحي بأنه رصد ازدياداً ملحوظاً في حالات الإصابة بالملاريا. أفاد أيضاً بأن إحاطة المياه بالمركز الطبي واجتياحها لشوارع القرية تجعل من الصعب وصول المرضى وهو أمر في غاية الخطورة إذا ما طرأت حالات صحية حرجة كالنزيف الذي يتطلب تدخلاً طبياً عاجلاً.
  إن تفسيرنا لما حدث هو أن حوض سد مروي كان قد امتلأ تماماً إذ يرجح أن يكون التخزين السنوي بدأ منذ بداية أكتوبر في تزامن مع بداية انحسار الفيضان كما جرت العادة. تفاجأت إدارة السد بالموجة الثانية من الفيضان في وقت كانت فيه بحيرة السد قد امتلأت فعجز المفيض The spillway – الذي يستخدم كصمام أمان للسد من الاجتياح المائي – عجز عن تصريف الموجة الثانية من الفيضان – وهي حالة نادرة – فحدث الاحتقان الذي ارتدت بسببه بحيرة الخزان إلى الخلف وكانت ضحاياها هي الأحياء المطلة على النيل بقرى شمال أبو حمد أسوة بجنائن النخيل والحقول التي كانت تتهيأ للعروة الشتوية.
   من زاوية أخرى شهد الريف الجنوبي لمدينة أم درمان عودة الحياة إلى المجاري المائية النائمة – وهي الـ dormant water courses = لقد ظلت تلك المجاري نائمة لعقود طويلة تعاقبت فيها عدة أجيال فغابت عن الذاكرة الجمعية. لذلك وفي زحف العاصمة المتوحش نحو الأطراف تحولت بطون تلك المجاري إلى مستوطنات وأحياء معظمها عشوائي وقليل منها مخطط.
   لهذا وعندما هطلت أمطار غزيرة على المستجمع Catchment الذي تنحدر منه السيول – وهو الامتداد الجنوبي لجبال المرخيات بغرب أم درمان – تدفقت تلك السيول الجارفة عبر خور “القيعة” الذي كان مجهولاً لدى الكثيرين.
   غمرت المياه المناطق السكنية والساحات وتحولت الشوارع إلى مجاري للمياه. كان الدمار واسعاً حسبما رأينا من التغطية الإعلامية وكان الضحايا من الشرائح الفقيرة والهشة التي قد تعني لها صيانة غرفة تصدعت أو إعادة تشييد حائط انهار أو حفر مرحاض بديل قد تعني “مشروع” قد تمضي سنوات قبل أن يتحقق . إن ميزانيات تلك الأسر هي ميزانيات في “حافة الهاوية” التي لا تتحمل أي صرف غير منظور أو مفاجئ.
   في خريف ذات العام شهدت محلية المتمة بولاية نهر النيل سيولاً جارفة ويبدو أنها انحدرت من خط تقسيم المياه ما بين نهر النيل ووادي المقدم. اندفعت تلك السيول نحو النيل عبر أودية ظلت نائمة لعقود طويلة فتضررت منها مدينة المتمة وقرية السيال من بين قرى أخرى بجنوب المحلية.
  تكررت نفس الأحداث بالولاية الشمالية وذلك بمحلية الغابة وفي أرقو غرب بأرض المحس في أقصى الشمال. أن السيول التي تتجمع في تلك الصحراء القاحلة والعطشى لابد وأن تكون بفعل أمطار غزيرة للغاية وبالقدر الذي أترع رمال الصحراء ومن ثم أيقظ الوديان النائمة.
   في خريف ذلك العام تعرضت منطقة كبوشية بولاية نهر النيل لعواصف ترابية بالغة القوة والسرعة فأحدثت دماراً في بعض المرافق كأسقف المدارس ومعظمها من الزنك الذي طار بعيداً كما انهارت بعض الحيطان. تلك صور ونماذج لتفلتات المناخ أما خور القاش فقد تخطى في خريف 2014 المناسيب السابقة وأثار الهواجس عند سكان كسلا. لقد زحفت مياه الخور شمالاً على أرض الدلتا حتى مدينة أروما التي انهار جسرها الواقي أمام ضغط المياه. اجتاحت المياه بعض أحياء المدينة وسوقها كما اجتاحت عشرات القرى الصغيرة المبعثرة على أرض الدلتا. كما شهدنا وأفاد المسئولون غطت مياه الفيضان مساحة تقدر بثمانين ألف فدان وللقارئ الكريم ان يتخيل ظهور بحيرة بهذا الحجم وأن تسرب ماؤها سريعاً إلى جوف الدلتا ذو التربة ذات المسامية العالية أو تبخر بفعل الحرارة. من زاوية أخرى فمثل ما تجدد فيضان النيل الأزرق فقد تجدد جريان القاش في أكتوبر فكلاهما من منبع واحد.
   الآن دعونا نعود عاماً إلى الوراء … إلى عام 2013 . في خريف ذلك العام صعد الفاصل المداري (I.T.C.Z) إلى شمال وادي حلفا وظل معلقاً هناك إلى حين وهو الأمر الذي جعل كل أرض السودان تحت تأثير الرياح الجنوبية الغربية الرطبة. هطلت الأمطار بغزارة عالية على صحراء العتمور وعلى الواجهة الغربية لجبال البحر الأحمر فاندفعت سيول جارفة نحو النيل. واجتاحت في طريقها المزارع والقرى وحتى خط السكة الحديد .
   بعد انحسار السيول فوجئ سكان أحدى القرى بجنوب محلية أبو حمد بإنكشاف عدة مقابر وتبعثر ما بها من رفاة الموتى. سبب المفاجأة هو أن حتى المسنين من سكان القرية لم يكونوا يعلمون بوجود تلك المقابر إذ يبدو أنها اندثرت منذ زمن طويل! .
   أن من رأينا أن ظهور تلك المقابر يشي بوجود وديان أو مجاري مائية دارسة وهي الـ palechannels ودعونا نطلق عليها الأودية الدارسة أي القديمة Paleo wadies. نطرح هذا الرأي لإفتراضنا أن المجموعة السكانية التي دفنت موتاها في تلك القبور ما كان لها أن تفعل ذلك أن كانت تعلم أن تلك المدافن تقع في مجري السيل. تخلص من هذا الافتراض. أن توقف جريان الوديان، كان سابقاً لاستيطان تلك المواقع. نستنتج أيضاً أن تلك المدافن لابد وأن تعود إلى تاريخ بعيد بدليل أن معالمها قد اختفت بفعل تراكم الأتربة والرمال عليها مما أخفاها حتى عن المسنين المعاصرين.
   في العام الماضي أيضاً شهدت هضبة البطانة أمطاراً غزيرة للغاية تشبعت بها أرض الهضبة وأترعت الميعات والحفائر – فاضت أرض البطانة – أو أم هبج كما يطلق عليها أهلها – بمياه الأمطار فاندفعت في سيول جارفة في كل الاتجاهات. اتجهت بعض السيول غرباً نحو نهر النيل عبر وادي العواتيب ووادي الهواد فتعطلت الحركة على طريق التحدي الذي جرفت السيول بعض أجزائه. سيول أخرى أيقظت مجاريها النائمة في شرق النيل بولاية الخرطوم. اجتاحت تلك السيول قرى مرابيع الشريف والكريّاب وأجزاء من الدروشاب كما انهارت بسببها أجزاء من طريق العيلفون فارتبكت الحركة.
    لم تكتف سيول البطانة بذلك إذ اتجه بعض منها نحو شرق الجزيرة ومشروع الرهد الزراعي. كانت حصيلة الاجتياح المائي أن تضررت (57) قرية بمحلية أم القرى وستة عشر قرية أخرى بمحلية تمبول. كانت أكثر القرى تضرراً هي القرية (38) بمشروع الرهد. لقد تسببت السيول المنحدرة من هضبة البطانة في انهيار الترعة التي تمر بالقرب من القرية فاندفعت مياهها لتختلط بمياه الأمطار والسيول فكان أن ازداد الطين بلة وكان الخراب شاملاً !.

نواصل صعودنا مع الزمن ومحطتنا هذه المرة هي عام 2011..

   في تلك السنة تعرضت هضبة البطانة إلى موجة جفاف حادة كادت أن تقضي على الأخضر واليابس. كان ذلك العام عام محل إذ جفت المراعي الباذخة التي عرفت بها أم هبج وانحسر الماء في الميعات والحفائر والفولات.
   بتاريخ 17 نوفمبر نشر الأستاذان صديق رمضان وعبدالوهاب جمعة الصحفيان بصحيفة الصحافة نشرا تحقيقاً صحفياً ضافياً حول الأخطار التي تعرضت لها الثروة الحيوانية بسبب جفاف ذلك العام. نُشر التحقيق تحت عنوان: “خطر النفوق يهدد ثلاثين مليون رأساً من الماشية” تناول التحقيق تداعيات الجفاف، ندرة الأمطار، وانحسار المراعي في أرض البطانة وفي ولايتي شمال كردفان والنيل الأبيض. أوضح التقرير أن حالة الجفاف تلك وفرت الأجواء لحدوث النزاعات حول موارد المياه تارة بين الرعاة أنفسهم وتارة أخرى بين الرعاة والمزارعين . أورد التحقيق الصحفي بعض الحقائق عن تداعيات الجفاف فذكر أن ولاية القضارف التي بها (6) مليون رأس من الماشية تواجه أزمة حادة بسبب انحسار وجفاف المراعي كما أن الحفائر التي تتسع بها دوائر المراعي قد جفت هي الأخرى أو هي آخذه في الجفاف وذلك بعد أقل من شهرين فقط من نهاية فصل الخريف وهو أمر غير مألوف!
   أما عن ولاية شمال كردفان فيذكر التقرير الصحفي أن بها 25 مليون رأس من الماشية وتعاني مراعيها في مناطق سودري وجبرة الشيخ وبارا من ندرة الكلأ وقلة المياه. لهذه الأسباب ارتحل الرعاة إلى منطقتي الخوي والكريزم.
  ونحن ننتقل إلى عام 2010 نجد من الصحفيين من يهتم بأثر الجفاف على البيئة والتنوع الإحيائي . في عموده الراتب ” إضاءات” بصحيفة آخر لحظة كتب الأستاذ طه النعمان بتاريخ 10/1/2010 مداخلة سلط بها الضوء على معاناة حظيرة الدندر من شح المياه وهو الأمر الذي دفع الحيوانات البرية بالحظيرة إلى الهروب شرقاً عبر الحدود.. ففي الجوار الأثيوبي تجد تلك الحيوانات ملاذات آمنة وكل ما تشتهيه من ماء وكلأ وحماية!
  كان عام 2009 هو الآخر عام جفاف ومحل في هضبة البطانة إذ امتدت موجة الجفاف حتى محلية الدندر التي عُرفت بغزارة أمطارها . وجدت موجة الجفاف تلك متابعة من الصحف اليومية أما صحيفة التيار فقد ذهبت إلى أبعد من ذلك إذ بعثت باثنين من صحفيها البارعين إلى محلية الدندر وهما الأستاذان حسن محمد علي وعوض الصديق اللذان نشرا تحقيقاً ضافياً في ثلاث حلقات بتاريخ 9، 10 و13 أكتوبر 2009.
كشف التقرير الصحفي عن الحالة المأسوية التي كان يعيشها إنسان المنطقة بسبب موجة الجفاف إذ لم يكن الموسم الزراعي مبشراً ولذلك تصاعدت أسعار الذرة كما إنتاب ملاك الماشية والرعاة قلق شديد وهواجس لا حد لها بسبب فقر المراعي وشح المياه.
   أورد التحقيق فيما أورد أن السيد أحمد الإمام العوض مربي الماشية ومساعد الأمين العام لاتحاد مزارعي الزراعة الآلية حذّر من انتشار النزاعات حول موارد المياه. استدل السيد أحمد بالاحتكاك الذي حدث بين الرعاة حول ميعة كتكو. حذّر أيضاً بأن مؤشرات الأسعار بأسواق الماشية بالولاية تتجه نحو الانخفاض فبعض صغار الملاك يخشون من نفوق القليل الذي يمتلكونه أما كبار الملاك فإنهم يبيعون بعض قطعانهم ليستعينوا بالعائد في نقل المياه بالتناكر وفي شراء الأعلاف حتى يتمكنوا من رعاية ما يتبقى من القطعان.
  من جانبي إنفعلت بما جاء في ذلك التحقيق الصحفي وبما كانت تنشره الصحف حول تداعيات الجفاف بأرض البطانة. عبّرت عن ذلك الانفعال من خلال دراسة نشرتها لي صحيفة “التيار” في الأسبوع الأول من نوفمبر من عام 2009 وكانت الدراسة بعنان: “أحزان البطانة ومأزق بترولنا الأحمر” اختتمت الدراسة بطرح حلول إغاثية عاجلة للإنسان والحيوان وأخرى أجلة لحل مشكلة المياه من خلال المشاركة المجتمعية في سهل البطانة . أرجو أن أتمكن من تحديث تلك الدراسة ونشرها من جديد علها تفيد؟
   أنفعل أيضاً بتداعيات الجفاف بمنطقة الدندر، ابن المنطقة الدكتور منصور يوسف العجب. أهدى الدكتور منصور قراء صحيفة “السوداني” دراسة تشخيصية متعمقة حول أسباب وتداعيات موجة الجفاف على الصعيدين الاقتصادي والإنساني . نُشرت الدراسة في حلقتين بصحيفة السوداني بتاريخ 19، 20 ديمسبر 2009 وكانت تحت عنوان: “الحقيقة المرة لمن لا يرغب أن يدري”.
   نرجع بعجلة الزمن هذه المرة إلى عام 1988. كما يعلم الكثيرون شهدت بداية أغسطس من ذلك العام أحداثاً مناخية غير عادية وغير مسبوقة فكان أن تمخضت عنها كارثة السيول والفيضانات الأشهر في تاريخ السودان المعاصر. في ليلة الرابع من أغسطس من ذلك العام تعرضت ولاية الخرطوم ووسط السودان بصفة عامة لعاصفة ممطرة إمتدت إلى إثنتي عشر ساعة أي حتى الثامنة من صباح الخامس أغسطس كما إستمرت الأمطار تهطل متقطعة وغزيرة لمدة أسبوع كامل. وثّق لتلك العاصفة خبيرنا في الأرصاد الجوي المرحوم أحمد محمد أحمد علي الذي فقدته أسرته كما فقد وطنه وهو ما زال شاباً في قمة عطائه. أُعدت الدراسة بالإنجليزية تحت عنوان: “الأمطار الغزيرة بإقليم الخرطوم في 4 أغسطس 1988 – دراسة حالة ” ونشرت في ديسمبر من ذات العام . كشفت الدراسة أن معدلات الأمطار بالخرطوم سجلت في تلك الليلة وحدها 210 مليمتر، أي بما يفوق المعدل السنوي للفترة (1940 – 1970) بثلاثة وأربعين مليمتر.
   أوضحت الدراسة أيضاً أن حصيلة الأسبوع الممتد من 4 إلى 11 أغسطس من الأمطار بالعاصمة كانت 320 مليمتر وأن مجموع هطول الأمطار في خريف 1988 على العاصمة كان 420 مليمتر، أي ما يعادل 250%! المتوسط السنوي. شملت الأمطار الغزيرة معظم أقاليم السودان وبالطبع الهضبة الإثيوبية. لهذا تزامنت كارثة 4/5 أغسطس مع فيضان فوق العادة في نهر النيل. في ذروة فيضان ذلك العام بلغ منسوب النيل في الخرطوم 16 متر و99 سنتمتر، أي أقل باثنين سنتمتر فقط من فيضان 1946 الشهير!
   وثّق لتلك الكارثة أيضاً المرحوم البروفيسير الهادي أبو سن أستاذ الجغرافية بجامعة الخرطوم بالتعاون مع الأستاذ مصطفى حربي. نشرت الدراسة تحت عنوان: “Greater Khartoum Vulnerability to Disaster Hazards : The Case of 1988 Rains and Nile flood”
   أي بما يعني: هشاشة الخرطوم الكبرى أمام الكوارث دراسة لحالة أمطار وفيضان 1988. نشرت هذه الورقة ضمن 29 ورقة قام بجمعها وتحريرها محمد الهادي أبو سن و هـ. ر. ديفيس لتصدر في كتاب بعنوان:
“The future of Sudan’s Capital Region: A Study in Development and Change”
  أي ” مستقبل إقليم العاصمة السودانية: دراسة حول التنمية والتغيير”.
  قامت بنشر هذا الكتاب مطبعة جامعة الخرطوم في 1991 وهو كتاب قيم للغاية ولا غنى عنه لكل المهمتين بأمر العاصمة القومية ومستقبلها .
   في ورقة أبو سن وحربي نجد تشخيصاً وافياً لأوجه الهشاشة في إقليم الخرطوم ووصفاً دقيقاً لما نجمت عنه الكارثة . أورد الكاتبان بيانات وإحصاءات حول الأضرار. وكان من بين الإشارات التي ينبغي التوقف عندها – صفحة 121- أن أكثر من 50% من مساحة الخرطوم الكبرى تعتبر مناطق هشاشة ولذلك فهي معرضه لمخاطر الكوارث إذا ما حدثت فيضانات عالية متزامنة مع هطول أمطار غزيرة.
   أما ما اختزنته الذاكرة – وقد عشت مع سكان العاصمة تلك الأيام العصيبة- فهو الدمار الواسع واجتياح المياه لبعض الأحياء المطلة على النيل والمنخفضة كحي قاردن سيتي والكلاكلات. أصيبت العاصمة بشلل شبه تام بعد أن توقفت وسائل النقل.
   سادت حالة أشبه بالمجاعة بعد أن تعطلت الأفران لعدم توفر الدقيق كما انقطعت الكهرباء عن الأفران الآلية وابتل الحطب بالنسبة للأفران البلدية . تعذر وصول الخُضر والألبان من مناطق إنتاجها. ازدادت حالات الإصابة بالنزلات المعوية والملاريا واجتاحت جيوش الذباب أحياء العاصمة . تخوف الناس من ظهور وانتشار وباء الكوليرا بعد أن انهارت المراحيض وطفحت بما فيها.
    اعترفت الحكومة بوجود كارثة واستنجدت بالمجتمع الدولي. بلغت كثافة الطائرات في سماء الخرطوم الحد الذي أربك الملاحة الجوية وسلطات الطيران المدني. كانت أكثر الدول عطاءً هي المملكة العربية السعودية إذ أقامت جسراً جوياً.. امتد لما يزيد عن الشهرين أما أول الدول الأوروبية استجابة وأكثرها عطاءً فهي إيطاليا إن لم فيما أذكر؟
   فسّر خبير الإرصاد الجوي الراحل أحمد محمد أحمد علي بأن عاصفة ليلة 4/5 أغسطس 1988 كانت بسبب انخفاض حاد في الضغط الجوي في وسط السودان. أدى ذلك الانخفاض لاجتذاب السحب المشبعة بقدر عالي من الرطوبة. هبت الرياح الرطبة من مصدرين. كان المصدر الأول هو المصدر المعتاد وهو الرياح الجنوبية الغربية التي تهبت من جنوب الأطلنطي بينما كان المصدر الثاني هو الرياض الجنوبية الشرقية التي هبت من المحيط الهندي وهو أمر غير معتاد! .
   إن من رأينا أن تلك العاصفة تجسد بامتياز حالة من الحالات المناخية الحادة Extreme Weather Events وهي إحدى سمات ظاهرة تغير المناخ وفقاً لما جاء في أدبيات المنبر الحكومي العالمي لتغير المناخ (I.P.C.C).
   أشرت إلى تلك العاصفة الممطرة في سياق دراسة نشرتها لي صحيفة “السوداني” وفي عدة حلقات في الفترة ما بين 16 مايو و 9 يونيو من عام 2007. نشرت الدراسة تحت عنوان : “هل تشكل قناة جونقلي خطراً على الخرطوم وعطبرة؟.
   دفعني إلى إعداد تلك الدراسة ما تناولته الصحف في تلك الأيام حول موافقة حكومة جنوّب السودان على الطلب المصري باستئناف عمليات الحفر في قناة جونقلي وتطهير مجرى “نهر بحر الغزال” .
   تنتهي رحلتنا مع الزمن عبر الثلاثة عقود الماضية في متصف ثمانينات القرن الماضي. لقد شهدت السنوات 84/1985م أسوأ موجة جفاف عرفتها بلاد الساحل الإفريقي في تاريخها المعاصر. في تلك السنوات ضرب الجفاف كل البلاد الممتدة من السنغال غرباً وإلى إريتريا وإثيوبيا شرقاً. تسببت موجة الجفاف تلك في كوارث ومآسي لحقت بشعوب كل بلاد الساحل وكان للسودان نصيب كبير منها بحكم اتساع مساحته. في تلك السنوات العجاف نضبت المخازن والمطامير من الحبوب ولم تتجدد المراعي وجفت الفولات والتردات والحفائر من المياه كما غارت المياه إلى أعماق بعيدة في الآبار.
   نتج عن موجة الجفاف تلك أن استشرى الفقر وبات الناس يواجهون شبح المجاعة كما نفقت حوالي أربعة مليون رأس من القطيع السوداني
   وقف معنا المجتمع الدولي فكان “عيش ريقان” وكان أن تدافعت عشرات الجمعيات الطوعية جالبة معها مواد الإغاثة. فقد الكثيرون كل شيء فكان النزوح الجماعي الكثيف إلى أطراف المدن وحينذاك ظهرت معسكرات المويلح. اختل الأمن في دارفور عندما زحف الأبالة من الشمال نحو مناطق الزراعة المطرية ومراعي البقارة في الجنوب، تكاثرت الاعتداءات على الأراضي الزراعية خاصة في مرحلة الحصاد كما تحول بعض الأبالة إلى بقارة فأصبحوا منافسين في المرعى.. تلك هي الأجواء التي تفجرّت فيها النزاعات في دارفور.
   وجدت كارثة الجفاف والتصحر والمجاعات في بلاد الساحل الأفريقي أصداء عالمية كما حظيت بتغطية إعلامية واسعة. شارك أهل الفن في جمع التبرعات وذلك من خلال الحفلات الخيرية التي نُظمت في أوربا وأمريكا ومن منا لا يذكر الاداء الجماعي لمشاهير المغنيين في العالم لأنشودة “نحن العالم” We Are The World”” .
  تناول علماء البيئة والتنمية والاقتصاد وغيرهم تناولوا بالدراسات المعمقة أسباب الكارثة وتداعياتها وفاضت مكتبات مراكز البحوث والجامعات بآلاف الدراسات والكتب والتقارير.
  عندما استفحلت ظاهرة تغير المناخ اتضح للباحثين والخبراء أنها كانت حاضرة بقوة في بلاد الساحل وأن ما حدث يمثل تجسيداً لحالة من حالات المناخ المتطرفة، شأنها في ذلك شأن أمطار وفيضانات خريف 1988 رغماً عن الاختلاف البيّن بينهما!
لا يفوتنا أن نضيف أن بين إفرازات تغير المناخ التي شهدنا مؤخراً ما أعلنته السلطات الصحية بمدينة الفاشر في نهاية 2014 حول ظهور ثمانية عشر حالة إصابة بحمى الدانق dengue fever وهو أمر توقع حدوثه المنبر الحكومي لتغير المناخ كما سنرى لاحقاً.

تغير المناخ والزحف الصحراوي بالشمالية والخطر على السدود:
   هناك ظاهرة بيئية لم يكن لها وجود بارز من قبل ولكنها بدأت تتشكل وتتسع منذ حوالي الأربعة عقود لتكتسب أبعاداً كارثية. بتك الكارثة نعني الزحف الصحراوي الكثيف على الضفة الشرقية لنهر النيل في إمتداده من شكال ولاية نهر النيل وحتى وادي حلفا.
    لقد عمّر الإنسان السوداني ضفتي نهر النيل منذ القدم فعلى تلك الضفتين إزدهرت الحضارات القديمة التي نعتز ونفاخر بها. ظل مواطن ذلك الإقليم يعمّر الأرض بالزراعة وبالقرى والمدن التي تكاثرت على الضفتين كحبات السبحة.
    شهدت السنوات الماضية ضموراً في النشاط الزراعي في الضفة الشرقية يقابله توسع بالضفة الغربية، نتيجة لهذا الضمور تراجع عدد سكان القرى بالضفة الشرقية بسبب موجات النزوح المتواصلة إلى وسط السودان وإلى بلاد المهجر فماذا حدث؟
   إنطلاقاً من فهمنا لتداعيات تغير المناخ فأننا نرى في الزحف الصحراوي الذي تشهده الضفة الشرقية للنيل تجسيداً حياً لتلك التداعيات. نستند في رأينا هذا إلى مستجدين.
    يتمثل المستجد الأول في الإرتفاع المتدرج لحرارة سطح الأرض. بسبب هذا الإحترار تصبح ذرات الرمل في صحراء النوبة في شمال شرق البلاد وفي صحراء العتمور بشرقها تصبح – حتى في غير فضل الصيف- أقل تماسكاً وأكثر سيولة – بمعنى Loose – مما يجعلها أكثر قابلية للحركة بأٌل المؤثرات الهوائية. أما المستجد الثاني فهو إنخفاض الضغط الجوى في شمال البلاد بسبب إرتفاع درجات الحرارة لفترة أطول من ذي قبل. يعلم الجميع أنه كلما أرتفعت درجات حرارة الأرض كلما إنخفض الضغط الجوي مما يجعل المنطقة – أول الإقليم – جاذبة لتيارات الهواء التي تهب حاملة معها الأتربة وذرات الرمل السائبة؟ هذا ما تفعله الرياح الشمالية الشرقية والشمالية في الضفة الشرقية ونستدل على هذا التفسير بالقدر المحدود من الزحف الصحراوي، بالضفة الغربية للنيل. ذلك لأن مجرى النيل يقوم بدور المصيدة Atrap الرمال الزاحفة. لهذا يلاحظ سكان القرى حول النيل الجروف الشرقية وقد غطتها الرمال وزحف الشواطئ الرملية وتكاثر الجزر الرملية.
   لقد إهتم بهذه الظاهرة المخرج السينمائي الأستاذ/ الطيب مطر فأخرج الفيلم الوثائقي ” الرمال الزاحفة” الذي يبثه التلفزيون القومي من وقت لآخر ضمن برامجه الصباحية أنه فيلم جدير بالمشاهدة وأدعو المهتمين بقضايا البيئة لمشاهدته.
  يكشف لنا هذا الفيلم بوضوح حجم الدمار الذي تعرضت له الحقول وجناين النخيل كما يصوّر لنا المنازل التي طُمرت بالرمال. في بعض الحالات أضطر المُصرون على البقاء بالقرية أضطروا لإزالة أسقف الغرف ليشيدوا غرفاً أعلى مستوى وعلى ذات حيطان الغرف التي غطتها الرمال!
   حكى الأهالي لمخرج الفيلم عن مدرسة ” أم كرابيج” التي أضطروا لبناء مدرسة بديلة… هي الأخرى تحاصرها الرمال الزاحفة… تحدث بحسرة أحد سكان القرى عن حوض السليم الذي إبتلعت الصحراء نصفه! عُرف عن حوض السليم أنه أحد أخصب الأحواض الفيضية في السودان وأكثرها إتساعاً. كان الحوض في زمان بعيد عبارة عن منخفض يتنفس فيه النيل في ذروة الفيضانات العالية، لهذا تراكم عليه الطمي ليكسبه خصوبة عالية كما هو الحال مع منخفض القيوم في جمهورية مصر العربية. من زاوية أخرى نرى أن الرمال الزاحفة كما رأيناها في الفيلم الوثائقي تشكل خطراً ماثلاً على سد مرةي والسد العالي! يتمثل هذا الخطر في تراجع طاقة التخزين طرداً مع كميات الرمال تزحف نحو المجرى. أن الجزر والشطوائ الرملية التي يكشف عنها الفيلم الوثائقي نا هي – في معظمها- إلا حالات أرساب مؤقت إذ من المرجح أن تجرفها المياه مع أول فيضان لتستقر في أحواض السدود… وهكذا. أن إضافة الرمال الزاحفة إلى الأطماء السنوي الناتج عن الفيضان تجعلنا ندق ناقوس الخطر لسلطات السدود في كل من السودان ومصر.
  تمثل الرمال الزاحفة وكثافة الأطماء البعد الإقتصادي لتغير المناخ. أن تعاقب الفيضانات العالية في نهر النيل في العقدين الماضيين يعني مضاعفة كميات الطمي المترسب في بحيرة السد العالي وإذا ما أضفنا لذلك الرمال الزاحفة فإننا نرجح أن تكون بحيرة السد العالي قد فقدت منذ بداية التخزين في عام 1967 ما يقارب الخمسة عشرة مليار متر مكعب. بدلهة يعطي هذا الفقد مبرراً آخر لقيام سد النهضة فهو على الأقل سيقوم بتحييد عامل الأطماء.
   أما سد مرةي بسعته المحدودة – نسبياً في التخزين- فإن حماية الحوض من الرمال الزاحفة يفرض التحرك العاجل لإقامة حزام شجري على إمتداد شرق البحيرة (176 كيلومتر). أن أسرع وأنجع وسيلة لإقامة هذا الحزام هي توزيع ضفاف البحيرة على صغار المستثمرين – بدءً بأهل المنطقة – ليزرعوها نخيلاً وأشجار مثمره وما أسهل التمويل أن إنتظموا في جمعيات تعاونية.

قمة المناخ في كوبنهاجن .. صحوة العالم !
  شهدت العاصمة الدانماركية كوبنهاجن في الفترة ما بين 16 و 19 ديمسبر من عام 2009 شهدت حدثاً عالمياً فريداً من نوعه. لم نهتم بذلك الحدث كما ينبغي فقد كنا – وما زلنا – غارقين في دومات صراعاتنا ومتاهات قضايانا التي نراها كبيرة ولكنها تتضاءل وتصغر أمام مخاطر وتحديات كُبرى يبدو أننا ندرك كنهها وأبعادها بعد!.
   إن الحدث الذي نحن بصدده هو انعقاد قمة المناخ التي شاركت فيها كل دول العالم بأرفع قياداتها استشعاراً منها بمدى خطورة القضايا المطروحة للتداول. شارك في تلك القمة مائة وخمسة عشر من رؤساء الدول ورؤساء الوزارات كما شارك تسعة وسبعون من قيادات الصف الثاني من نواب ومساعدي الرؤساء مما يعني مشاركة كل الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة وعددها 194 دولة. كان ذلك التجمع هو أكبر تجمع لرؤساء الدول يتم خارج مقر الأمم المتحدة نيويورك!
   لأهمية القمة الاستثنائية وارتباطها الوثيق بمستقبل البشرية أبدى نحو أربعون ألف من ممثلي مراكز البحث العلمي، والناشطون في الجمعيات الطوعية المعنية بالبيئة، جمعيات حقوق الإنسان، مراكز دراسات المستقبل وبطبيعة الحال الإعلاميون والصحافيون.. الخ أبدى هؤلاء رغباتهم في حضور القمة كمراقبين ومتابعين ولكن..
  واجهت الدولة المضيفة – الدانمارك- حرجاً بالغاً وهي تكتشف أن قاعات المؤتمرات بعاصمتها لا تتسع لذلك العدد الضخم. لهذا أخضعت قائمة المنظمات والهيئات والإعلاميين للمراجعة الدقيقة حتى تتمكن من توزيع الخمسة عشرة ألف فرصة المتاحة بأقصى قدر من الحيادية والعدالة.
  كان موضوع الساعة هو دعوة الأمم المتحدة كل الدول الأعضاء في المنظمة لمناقشة مسودة الاتفاقية الشاملة حول تغيير المناخ. تهدف الاتفاقية إلى التوصل إلى التزامات من كل الدول لاحتواء ظاهرة تغير المناخ ولمساعدة الدول النامية والفقيرة المتضررة من تداعيات هذه الظاهرة.
   لهذا كان حضور زعماء دول العالم بالكثافة التي أشرنا إليها. لقد كانت مسودة الاتفاقية المقترحة بمثابة تتويج لعشرين عاماً من العمل المضني والاجتماعات المارثونية التي عقدتها اللجان المنبثقة عن اللجنة الحكومية الدولية حول تغير المناخ وهي:
Intergovernmental Panel for Climate Change (IPCC)
   كما حدث لاجتماعات منظمة التجارية الدولية (W.T.O) من قبل، تنقلت اجتماعات اللجنة المتخصصة بين الدول وعبر قارات العالم الست.
   كانت أبرز المحطات هي: كيوتو باليابان، مونتريال بكندا، بانكوك بتايلاند، بالي باندونيسيا ديربان بجنوب افريقيا ، بون بألمانيا، الدوحة بقطر، وارسو وبوذنان ببولندا، كان كن بالمكسيك، بيونس ايرس بالأرجنتين.. الخ.
كانت ضربة البداية لهذا الحراك في عام 1988 حينما رصدت مراكز البحث العلمي المعنية بالبيئة أعراض غير طبيعية وشاذة في مناخ العالم. لوحظ أيضاً أن لتلك المتغيرات آثار سالبة على الإنسان وعلى التنوع الإحيائي Biodiversity في عدة أقاليم من أقاليم العالم.
  كان من بين تلك الأعراض على سبيل المثال لا الحصر الجفاف الممتد الذي ضرب إقليم الساحل الإفريقي وكاليفورنيا في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي. تزامن ذلك الجفاف مع بداية ذوبان الكتل الجليدية في القطبين الشمالي والجنوبي وفي قمم سلاسل الجبال الشاهقة.
  لإستقصاء أسباب تلك الأعراض الشاذة اتفق برنامج الأمم المتحدة للبيئة (U.N.E.P) مع المنظمة الدولية للإرصاد الجوي (W.M.O) على قيام اللجنة الحكومية الدولية لدراسة ظاهرة تغير المناخ (I.P.C.C) أختير لعضوية اللجنة حوالي ألفين وخمسمائة عضو من صفوة علماء وخبراء العالم في علوم المناخ ، الإرصاد، البيئة، السكان، الاجتماع الاقتصاد أسوة بالعلوم التطبيقية كالطب والهندسة وعلم الحيوان وغيرها مما يمس حياة الإنسان والحيوان والبيئة. تفرّع المنبر إلى عدة لجان ومجموعات عمل استطاعت أن تعقد جلساتها في شتى مدن العالم كما أسلفنا.
  في معرض كلمته التي خاطب بها الجلسة الافتتاحية لمؤتمر قمة المناخ قال رئيس الوزراء الدانماركي راسموا سين L.L Rasmussen “أن العالم يحبس أنفاسه في هذه اللحظات الحاسمة.
“ The world is literally holding its breath In these decisive moments of change” ليخفف من الهواجس التي كانت تعصف بالحضور – خاصة زعماء الدول الأقل نمواً والأكثر تعرضاً لتداعيات المناخ – استطرد رئيس وزراء الدانمارك قائلاً : “أننا في الدانمارك نأمل في إنجاح هذه القمة حتى تصبح عاصمتنا مدينة الأمل للإنسانية وحينها سنسعى إلى تغيير أسمها من Kopenhagen إلى Hopenhagen. أما الأمين العام للأمم المتحدة فقد كان قاطعاً في كلمته التي خاطب بها القمة إذ قال في سياقها : “أننا هنا اليوم لنكتب تاريخاً جديداً للعالم” أي بما يعني ميلاداً جديداً ! “We are here today to write a new history for the world” من جانبنا نستطيع القول بأن الإنسان اشتط في تعامله مع البيئة وأن تغير المناخ ما هو في نهاية الأمر إلا رد فعل البيئة لتعديات الإنسان عليها. نستطيع القول أيضاً أن التداعيات الكارثية الناتجة عن تغير المناخ ما هي إلا وسيلة البيئة في التعبير عن نفسها وفي الرد على العدوان الذي وقع عليها. نستطيع القول أيضاً أن معظم ضحايا تلك الكوارث هم من غير الذين قاموا بذلك العدوان! .
   أن من يرصد علاقة الإنسان بالبيئة سيكتشف أن البيئة ترد الصاع صاعين متما أُعتدي عليها وتلك وسيلتها لتعيد الإنسان إلى رشده ولتتواصل الحياة على وجه الأرض. لهذا نرى في قمة كوبنهاجن درجة متقدمة من عودة الرشد!.
  نستطيع القول أيضاً أن ظاهرة تغير المناخ تمثل أبلغ إدانة للمجتمع الاستهلاكي الموغل في الإسراف. نما هذا المجتمع وترعرع في حضن الدول الغربية الغنية ثم انتقل عبر وسائل الإعلام الحديثة وقنوات التجارة العالمية إلى المجتمعات الجديدة والمستلبة فكرياً في الدول النامية. لاحقاً أصبحت تلك المجتمعات بدورها مفارخ محلية للمجتمعات الاستهلاكية. أن الأمر برمته في نهاية المطاف يمثل الوجه الآخر لحضارة القرن العشرين التي يتم الترويج لإبتكاراتها والتسويق لإبداعاتها التي لا تحصي ولا تنتهي طالما ظل رأس المال محركاً لها في سعيه المحموم لتراكم الثروات عبر الأرباح والمزيد من الأرباح!

الغلاف الجوي … أو مسرح الجريمة!

  ترتبط ظاهرة تغير المناخ ارتباطاً وثيقاً بالغلاف الجوي الذي يحيط بالكرة الأرضية وهو الـ Atmosphere . لذا نرى أن خير إستهلاك للحديث عن ظاهرة تغير المناخ هو التعريف بالغلاف الجوي الذي كان مسرحاً لأبشع جريمة ارتكبها الإنسان في حق البيئة.
يتكون الغلاف الجوي من ست طبقات تبدأ بالغلاف الجوي الأسفل وهو الـ Troposphere الذي تحتشد فيه العناصر الصانعة للحياة والمكونة للمناخ . يقدر ارتفاع هذه الطبعة حوالي ستة عشر كيلومتر وهو رقم ينخفض إلى عشرة كيلومتر في بعض المراجع. إذا ما تخطينا حدود الغلاف الجوي الأسفل فإننا نجد طبقة صغيرة من الأوزون وهي الـOzonosphere العازلة لندخل بعدها في حيز الغلاف الجوي الأعلى وهو الـ Stratosphere الذي يمتد إلى أعلى بمسافة ثمانمائة كيلومتر وتعقبه طبقات غير سميكة من بعض الغازات. من تلك الطبقات يتكون الـ Mesosphere ويليه الغلاف الحراري – وهو الـ Thermosphere – وأخيراً الغلاف الجوي الخارجي – وهو الـ Exosphere – الذي يتمدد في الكون الشاسع. لا يتأثر الغلاف الجوي الأعلى the Stratosphere بدرجات الحرارة على سطح الأرض وذلك لطول المسافة ولذات السبب تتراجع الحرارة فيه إلى أدنى الدرجات. يُعرف أيضاً عن الغلاف الجوي الاعلى أنه يخلو تماماً من ذرات البخار ولذلك لا توجد به سحب ولا تيارات هوائية كما هو خالي من الأوكسجين صانع الحياة.
   بالطبع يهمنا الغلاف الجوي الأسفل The troposphere الذي يتحكم في الحياة على سطح الأرض . يبدو هذا الغلاف من حيث الشكل بيضاوياً أكثر من دائرياً وذلك لكونه أعلى ارتفاعاً عند خط الاستواء بينما يتراجع إرتفاعه عند القطبين.
   كما نوهنا للغلاف الجوي الأسفل تأثير مباشر على الحياة في كل أشكالها ومكوناتها على سطح الأرض. اكتسبت هذه الطبقة من الغلاف الجوي هذه الخاصية بما فيها من غازات على رأسها الأوكسجين وبفعل المناخ والدورة المائية الناتجة عن تفاعلاته.
    مما تقدم نستطيع القول بأن الغلاف الجوي الأسفل الذي نظنه بارتفاع عالي واتساع غير محدود ما هو في حقيقة الأمر إلا حيّز ضيّق لا يتجاوز الستة عشر كيلومتر. لهذا الضيق تعزى هشاشة الغلاف الجوي الأسفل وبسبب هذا الضيق أحدث تراكم الغازات المنبعثة من أنشطة الإنسان أحدث اختلالاً في التوازن البيئي . تسبب هذا الاختلال في تداعيات مناخية خطيرة وهي التي جعلت العالم أجمع يهرول إلى قمة كوبنهاجن ينشد عندها النجاة.

اللاعبون الأهم في تشكيل المناخ:

    من غير الغلاف الجوي The astmosphere بجزئيه الأعلى The stratosphere والأسفـــل The troposphere يوجد ايضاً الغلاف المائـي The Hydrosphere الذي يتكون من المحيطات والبحار والبحيرات والأنهر وذلك بالإضافة إلى ذرات المياه العالقة بالهواء ومنها تتكون السحب وغيرها من التكوينات المائية. توجد ايضاً الكتل الجليدية The crysphere وتشمل الجليد المتراكم في القطبين وعلى قمم الجبال والجزر الجليدية وأهمها قرينلاند. ثالثاً هناك القشرة الأرضية اليابسة بما عليها من تضاريس وهي الـ The lithosphere.
من هذه التكوينات الطبيعية يتشكل المحيط الحيوي The biosphere وقد سبق أن عرفناه وفقاً للبروفيسير داسمان في كتابه االتي سبقت الإشارة إليه. هنا ينبغي التذكير بأن اللاعب الأهم هو الشمس حرارة وضوءً .

عودة إلى التاريخ:
  كانت بيئة العالم قبل الثورة الصناعية بيئة معافاة وخالية من كل أشكال التلوث ولذلك كانت في توازن تام مع نفسها كان ذلك على سطح الأرض أو في الغلاف الجوي الأسفل أو في أعماق المحيطات . في تلك الحقبة كانت أهم الغازات الموجودة في الغلاف الجوي الأسفل هي: النيتروجين (Nitrogen-N) بنسبة 78% ، الأوكسجين (Oxygen-O) بنسبة 21% ثاني أكسيد الكربون (Carbon dioxide- Co2) بنسبة 03% . أما النسبة القليلة المتبقية فيتقاسمها غاز الأرجون (Aragon- Ar) غاز الهيليوم (Helium- He) والأوزون (Ozone- O3) إلى هذه الغازات يضيف لنا البروفيسير داسمان مجموعة أخرى من الغازات التي توجد بكميات قليلة للغاية وهي غاز : (Radon- Ra) وهو غاز مشع، وغازات خامدة تشمل : (Neon-Ne) ، الكريبتون(Krypton- Kr) الزنون (Xenon-Xe) ، الهايدروجين (Hydrogen-H) الميثان (Methaine) الأمونيا وثاني أكسيد الكبريت Sulphur dioxide .
   مع بدايات الثورة الصناعية في غرب أوربا (1750- 1800) دخل الفحم الحجري بقوة كمصدر اساسي للطاقة وذلك لصهر المعادن وفي تشغيل ماكينات البخار. نتج عن ذلك التحول أن بدأ غاز ثاني أكسيد الكربون والغازات المصاحبة له في عملية الاحتراق بدأ في التراكم في الغلاف الجوي الأسفل بطبيعة الحال.
   كان أول من اكتشف هذه الحقيقة عالم الطبيعة الفرنسي فورييه J.B.J. Fourier نشر هذا العالم في منتصف القرن التاسع عشر أطروحته حول احتفاظ الغلاف الجوي بقدر من الحرارة نتيجة لوجود الغازات التي تحبس الحرارة. في سياق شرحه لأطروحته شبه عملية الاحتباس الحراري بمفعول الصوبة وهو بالفرنسية L’effet de serre الصوبه هي بيت الزجاج الذي كان ولا يزال يستخدم في الحدائق الخاصة والقصور في البلاد الباردة لإيجاد بيئة دافئة في فصل الشتاء وهي في لغتنا المتداولة البيت المحمي والمعني يقابله بالإنجليزية Greenhouse. هو ذات الهيكل المغطى بالمشمع الذي شاع استخدامه مؤخراً في السودان في الزراعة المحمية علماً بأن الحماية عندنا من حرارة الطقس لإنتاج الخضر الشتوية صيفاً وذلك بعد أن شاع إستخدامه في البلاد الباردة لإنتاج الخضر والورود الصيفية شتاءً. كما هو معروف يسمح البيت المحمي بتطبيق الحزم التقنية وفي الاقتصاد في الري.
   التقط القفاز عالم الفيزياء البريطاني جون تبندال John Tyndal الذي أكد في ورقة علمية نشرت في عام 1863 أكد أن تراكم غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي يساعد في احتفاظ سطح الأرض بالقدر من الحرارة الذي يبقى على الحياة كما نعيشها.
بحلول عام 1903 نضجت نظرية الاحتباس الحراري على يد العالم السويدي سافانت ارهينوس Savante Arrhernius قام هذا العالم بعمليات حسابية دقيقة حول حجم إنبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون (Co2) توصل عالمنا من خلال تلك العمليات الحسابية إلى خلاصة مفادها أن زيادة كمية إنبعاثات هذا الغاز في الغلاف الجوي ستؤدي في نهاية المطاف إلى ارتفاع درجة الحرارة على سطح الأرض إلى ما يتراوح ما بين 1,5 و 4 درجات مئوية “سنتقريد” الآن وبعد مضي أكثر من قرن على نشر تلك الدراسة ها هي الدراسات المعمقة التي تستخدم أحدث الحواسيب ووسائل رصد وقياس الغازات تتطابق بدرجة مذهلة مع ما تنبأ به هذا العالم السويدي المتفرد.. لقد كرّمه وطنه بمنحه جائزة نوبل في الفيزياء كما تحتل لوحة مرسومة له “بورتريه” مكاناً بارزاً عند مدخل الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم باستكهولم التي تمنح جوائز نوبل السنوية .
الاحتباس الحراري الحميد Benign Earth Heating:
  اتضح للعلماء الرواد في شأن المناخ والبيئة أن الاحتباس الحراري بمعناه المطلق ما هو بالشر المستطير فالقدر المحدود منه يعتبر إحتباس حميد!
   أكد هذا الرأي خبير البيئة الفرنسي ج. سافيلي G. Savelli في ورقة قدمها إلى السمنار الذي نظمه الاتحاد الدولي للسكة الحديد(U.I.C) بالعاصمة الهندية نيودلهي في الفترة ما بين 9 , 12 ديسمبر 1998 . جاء في ورقة الخبير سافيلي أن القدر اليسير والمحدود من انبعاث وتراكم غازات الصوبه (G.H.G) وبصفة خاصة ثاني أكسيد الكربون – ضرورة للحياة على كوكب الأرض. ذلك لأن القدر اليسير من الغازات يتسبب في احتباس حراري محدود.
    يرى سافيلي أنه لولا هذا القدر المحدود من الاحتباس الحراري لما حافظ سطح الأرض على متوسط درجة حرارة مئوية بمقدار 15+ ولتراجعت درجات الحرارة إلى 18- درجة أي دون الصفر بثماني عشر درجة! إن تراجع درجات الحرارة إلى هذا المستوى يعني عودة العصر الجليدي وانتهاء الحياة على سطح الأرض.
صاغ سافيلي هذا الرأي على النحو التالي:
“… The effect of G.H.G itself is a natural and beneficial in making the earth inhabitable by heating it to a mean temperature of +15 0C instead of – 18 0C .

لـماذا تغيـــر المنـــاخ؟
   على نقيض الاحتباس الحراري الحميد فإن الاحتباس الحراري الخبيث Malignat earth heating هو المسؤول عند رفع درجات حرارة سطح الأرض بما يفوق كثيراً القدر المطلوب لاستدامة الحياة عليها.
  حدث الاحتباس الحراري الخبيث بسبب التراكم المضطرد في الغلاف الجوي الأسفل بما عُرف بغازات الاحتباس الحراري Green house gases – GHG
لقد ظل هذا التراكم يتواصل وتزداد وتيرته منذ بدايات الثورة الصناعية وطوال القرن العشرين. من هذا التراكم تشكل ما يشبه الغطاء A blanket فوق سطح الكرة الأرضية وهو غطاء قد نعجز عن رؤيته بالعين المجردة وبالرؤية الراسية ولكن تأكد وجوده باختبار العينات التي تؤخذ من طبقات الجو العليا وبوسائل الرصد الدقيقة وعالية الحساسية التي تُجهز بها الأقمار الصناعية.
  نستطيع تشبيه هذا الغطاء بالمرشح – أي الفلتر Filter – ذو الاتجاه الواحد . يسمح هذا الغطاء الغازي بمرور أشعة الشمس بما تحمله من حرارة إلى سطح الكرة الأرضية ولكنه يمنع ارتدادها إلى أعلى أي إلى الغلاف الجوي الأعلى – أي الـ stratosphere – وما بعده في الكون الواسع العريض.
   لمزيد من الإيضاح نضيف أن الغطاء الغازي يقوم بدور المصيدة – The Trap- التي تمنع حرارة الشمس من الانفلات من الغلاف الجوي الأسفل والعودة من حيث أتت .
   لقد ساق لنا البروفسير داسمان Dasmann خير دليل على أن الاحتباس الحراري على سطح الأرض يحدث بسبب تراكم غاز ثاني أكسيد الكربون (Co2) مما ثبت علمياً عن كوكب فينوس “Venus” . لقد تأكد أن 95% من الغلاف الجوي لهذا الكوكب يتكون أصلاً من غاز ثاني أكسيد الكربون و 4% من النيتروجين. بهذه الكثاقة العالية لغاز ثاني أكسيد الكربون يتم احتباس كل الحرارة الواصلة عبر أشعة الشمس. هذا ما يفسر أن درجات الحرارة على هذا الكوكب أعلى بمئات المرات من نظيرتها على كوكب الأرض و هو الأمر الذي يجعل كوكب فينوس كالكرة الملتهبة.
لقد تراكمت غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي بالفعل المشترك لعدة عوامل وهي:
‌أ) الاستخدام الكثيف للوقود الاحفوري.
‌ب) الزيادة المضطردة في عدد سكان العالم وازدياد معدلات التحضر Urbanisation
‌ج) إزالة الغابات للأغراض التجارية وللتوسع الزراعي.
‌د) الحروب والبراكين.
   الآن دعونا نتناول هذه العوامل بشيء من الإيضاح .

أولاً: الاستخدام الكثيف للوقود الاحفوري:
   أن الوقود الاحفوري Fossil fuels الذي نعنيه هو الفحم الحجر والبترول في المكان ثم يأتي الغاز الطبيعي في المرتبة الثانية. لقد كان اعتماد الثورة الصناعية في بداياتها (1750- 1900) اعتماداً كاملاً على الفحم الحجري سيما وأراضي أهم الدول التي كانت محاضن للثورة الصناعية كانت تختزن كميات هائلة منه ومن خام الحديد .
   شملت تلك الدول بريطانيا، ألمانيا، فرنسا وبلجيكا. في بريطانيا اجتمعت الخامتان في منطقة يوركشير والميدلاندس وفي غرب أوربا تشكل المثلث الصناعي بين فرنسا، بلجيكا ولكسمبورج وألمانيا معتمداً على الفحم الحجري في مناطق اللورين والسار.
   عند اختراع السيارة في بداية القرن العشرين كان لابد من استخدام ما يناسبها من وقود. منذ تلك اللحظة دخل البترول كمصدر ثاني للطاقة وظل استهلاكه يتصاعد في قفزات. يعزى هذا التصاعد لتنوع استخدامات مشتقات البترول. فبغير السيارات كانت هناك أيضاً قطارات الديزل والطائرات ومحطات التوليد والصناعات البتروكيماوية.
   لقد بدأ استهلاك البترول يزداد على الصعيد العالمي من لاشيء في بداية 1900. وما زال يتصاعد يوماً بعد يوم ففي كل ثانية تدخل آلاف السيارات في الخدمة وتحلق آلاف الطائرات لذا يُقدر استهلاك العالم اليوم بحوالي 5 مليار طن/ السنة.
   من جهة أخرى ظل استهلاك الفحم الحجري – وهو الأكثر تلويثاً للجو – يتصاعد خاصة في التوليد الكهربائي وفي صهر المعادن. يتواصل استخدامه لوفرته واعتدال أسعاره مقارنة بالمشتقات البترولية. لعله من المناسب أن نشير هنا إلى أن الصين التي تكاد تتصدر الاقتصاد العالمي كما هي الدولة التي بها أكبر عدد من السكان (1,35 مليار نسمة في 2012) تعتمد على الفحم الحجري بنسبة (70%) في توليد الكهرباء، أما الغاز الطبيعي وإن كان أنظف المصادر الاحفورية الثلاثة إلا أن كثافة استخدامه تجعله أحد مصادر التلوث. ذلك لأنه يتصدر المصدرين الآخرين في الاستهلاك المنزلي، في التدفئة كوقود يحظى بموقع متقدم في التوليد الكهربائي. لهذا تمتد الأنابيب الناقلة له من سيبيريا غرباً إلى وسط أوربا وشرقاً إلى اليابان والصين. أما جنوب أوربا ممثلة في أسبانيا وفرنسا وإيطاليا فتصلها الأنابيب الناقلة للغاز الجزائري عبر محورين غربي عبر إسبانيا وشرقي عبر تونس.
  للاستدلال على ما أوردناه حول تصدر الوقود الاحفوري لمصادر الطاقة الأخرى في انبعاث غازات الاحتباس الحراري (G.H.G) نستعين بتقرير الإحصاءات السنوية للطاقة في العالم الذي تعده شركة البترول البريطانية (B.P) . اقتبسنا الإحصاءات التي تهمنا من كتاب: “تغير المناخ “Climate Change الذي صدر في 2009 عن الناشر One world – Oxford ومؤلفتاه هما: .E. Boyd and E. Tompkins جاء بالإحصاءات أن أهم مصادر الطاقة في عام 2009 كانت على النحو التالي:
– المصدر النسبة المئوية
– البترول 34,8
– الفحم الحجري 29,2
– الغاز الطبيعي 24,1
– الكهرومائية من السدود 6,4
– المفاعلات النووية 5,5
– المجموع 100,00%
   نلاحظ من الجدول أعلاه أن البترول يتصدر كل مصادر الطاقة ويُعزى ذلك لاعتماد قطاع النقل عليه بدرجة عالية. كما هو معروف يشهد هذا القطاع تصاعداً متواصلاً ومنتظماً في عدد السيارات سواء أكانت صوالين أو شاحنات أو نصف نقل وأبلغ مثال هو ما نشاهده اليوم في السودان رغماً عن اقتصاده المتعثر. تأتي بعد ذلك القطارات والطائرات والبواخر. هذا بالطبع بالإضافة إلى التوليد الكهربائي وتشغيل المصانع.
نلاحظ أيضاً أن الإحصائية تجاهلت الطاقات المتجددة renewable energies غير الكهرومائية وذلك بسبب إسهامها المحدود في ميزانية الطاقة على الصعيد العالمي.       
  رغماً عن ذلك نجد كثير من الشواهد التي تؤكد النمو المضطرد لمصادر الطاقة المتجددة. تشمل الطاقات المتجددة : الطاقة الشمسية المباشرة لأغراض التدفئة والتسخين والطبخ والطاقة الكهروضئوية Photovoltaic ، طاقة الرياح Wind Energy، الوقود الحيوي Biofuel ممثلاً في الايثانول والميثانول، الطاقة الحرارية الجوفية Geothermal التي تتصدر أيسلندا دول العالم في إنتاجها. نشير هنا إلى أن أيسلندا تغطي أكثر من 84% من حاجتها من الكهرباء من المصادر المتجددة ممثلة في الطاقة الحرارية الجوفية والكهرومائية.

ثانياً: إزالة الغابات:
  كانت بيئة العالم سليمة والغلاف الجوي معافاً قبل الثورة الصناعية . في تلك الحقبة التاريخية كان يسود توازن بيئي كان ذلك على سطح الأرض أو في الغلاف الجوي الأسفل أو في البحار كما أسلفنا.
   كما سبق أن ذكرنا كان غاز ثاني أكسيد الكربون موجوداً ولكن بقدر محدود وبما يفرضه إستمرار الحياة على وجه الأرض. كان مصدره تنفس البلايين من الأحياء في مملكتي النبات والحيوان كما كان موجوداً بسبب الحرائق التي كان الإنسان يشعلها في الغابات لأغراض الصيد والزراعة ويصعب عليه السيطرة عليها. كانت نيران الغابات تشتعل أحياناً بفعل الطبيعة كالصواعق أو بزحف الحمم البركانية متما ثار بركان.
  في مقابل ذلك كانت الغابات المطرية الكثيفة تغطي مساحات شاسعة من سطح الأرض. كانت الغابات وما تزال بكراً في أحواض الأنهر الكبيرة كالأمازون، الكنغو، المسيسبي ، النيل، اليانج تسي كيانج الفولتا، الميكونج والفولقا.. الخ.
   بذات القدر كانت السهول الاستوائية والمدارية والباردة مغطاة بالغابات .. كان عالماً أخضراً.. شكلت تلك الغابات رئة العالم فالأشجار تتنفس ثاني أكسيد الكربون لتصنع منه غذاءها الذي به تنمو و تثمر وتنفث الأوكسجين بدلاً عنه.
   اختل هذا التوازن حينما احتاج الإنسان للغابات لأكثر من غرض .. فالأخشاب كانت مصدر الطاقة الأوحد كما كانت مصدر الدفء في شتاء الأقاليم الباردة. استخدم الإنسان الأخشاب أيضاً في تشييد مسكنه وصناعة أثاثاته كما هي الخامة الرئيسة في صناعة الورق ومدخل أساسي في صناعة السفن والقطارات … الخ . أن كانت هناك سياسات إحلال صارمة للأشجار التي تقطع في الدول الغنية كالدول الاسكندافية وكندا فقد غابت هذه السياسة إلى حد بعيد في الدول النامية حيث أقبل إنسانها على الغابات تقطيعاً وإزالة لمختلف الأغراض نذكر منها: التصدير للحصول على العملات الحرة كما نذكر صناعة الفحم النباتي خاصة عند ظهور أزمة الطاقة.
  من جهة أخرى فلأغراض التوسع الزراعي لإنتاج الحبوب للغذاء ومحاصيل الصادر أزيلت مساحات شاسعة من الغابات، خاصة في الأقاليم المدارية. كثيراً ما تتناول أجهزة الإعلام العالمي ما شهدته غابات الأمازون من إزالة لصالح التوسع في زراعة قصب السكر وفول الصويا وغيرهما من المحاصيل النقدية ولكنها لم تهتم بذات القدر بما حدث للغابات الاستوائية وغابات السافنا في أفريقيا.
   تؤكد المسوحات التي تجريها الهيئة العامة للغابات أن مساحة غابات السودان شهدت انحساراً كبيراً. أسهمت في هذا الانحسار الزراعة الآلية بمناطق القضارف، جبال النوبة وفي جنوب النيل الأزرق في مناطق أقدي والقرابين والدالي والمزموم، إلى هذه الأسباب نضيف موجة الجفاف في منتصف الثمانينات من القرن الماضي كما نضيف الطلب المتصاعد للفحم النباتي قبل توفر الغاز. نضيف أيضاً التوسع العمراني في كل المدن والقرى في إقليمي السافنا وشبه الصحراوي.
   للاستدلال على ما ورد أعلاه أسوق مثالين.. يشهد على المثال الأول معد هذه الورقة والأحياء من جيله، أي من تجاوزوا السبعين!! إلى الشمال مباشرة من القطاع الأوسط من مدينة أم درمان، أي عند الأطراف الشمالية من حي العمدة كانت توجد حتى منتصف الخمسينات غابة متفرقة من أشجار السيال والكتر والطندب . تبدأ تلك الغابة من الموقع الذي يحتله حالياً قسم شرطة شمال أمدرمان وقشلاق الشرطة الملحق به وتتواصل حتى “جبل كرري” وما بعده وأن أفسحت المجال لمساحة صغيرة لمقابر أحمد شرفي! .
   عند حلول فصل الخريف تينع وتخضّر أشجار تلك الغابة وتغطي أرضها النباتات الطفيلية “النتق” والأعشاب. لم يكن الرعاة الذي يجمعون كل صباح جديد أغنام أحياء ود نوباوي وحي العمدة والسوراب في حاجة للذهاب بعيداً بمئات الإغنام ففي تلك الغابة كانوا يجدون المرعى ومن البرك المتناثرة يسقون الأغنام.. أن بدت أشجار الغابة متفرقة لمن يتجول فيها فإن المشهد الفوقي “البانورامي” يجعل منها غابة مكتملة التكوين في فصل الخريف.
   كنا – ونحن صبية آنذاك – نمتع أعيننا بجمال تلك الغابة كلما سنحت لنا الفرصة للصعود إلى أسطح المنازل لإحضار كرة “الشراب” أو عندما يطلب منا معالجة مصدر تسرب مياه الأمطار من الأسقف البلدية!
  بدأت إزالة تلك الغابة عند قيام الحارات الست الأولى من مدينة الثورة إبان نظام 17 نوفمبر وتواصلت الإزالة مع زحف مدينة أم درمان شمالاً وبعد أن فاق عدد حارات الثورة المائة حارة. تلك شهادة قد تدهش سكان الثورات والأجيال الصاعدة من أبناء أمدرمان وحتماً سيجدون المزيد من المعلومات الشيقة والمثيرة عند كبارهم.
   أما الشهادة الثانية فهي من شرق الجزيرة.. سعدت في بداية الثمانينات بالإقامة لفترة بقرية الحرقة، سعدت للغاية بالصداقات التي ما زلت أعتز بها. كان من بين الذين أقمت معهم علاقة صداقة قوية المرحوم العمدة محمد التاي، روى لي العمدة – رحمه الله- أن غابة كثيفة كانت تغطي منطقة الخيارى وتمتد حول نهر الرهد حتى الحدود الأثيوبية ! حكي لي عن خروجه في ثلاثينات القرن الماضي مع أبناء جيله من شباب القرية للقنص في تلك الغابة. كانت غابة الخيارى تعج بالغزلان كما كانت تجوب فيها الأفيالوالزراف وكثير من الحيوانات البرّية .
   لم يتبق اليوم من تلك الغابة إلا النذر اليسير من أشجار متباعدة حول نهر الدندر ولا يشاهد المسافرون على طريق بورتسودان سوى السهول الجرداء التي يتهددها الزحف الصحراوي.
  وهكذا .. في كل بقعة من بقاع السودان نشهد إزالة وموت الأشجار ونفجع باندثار الغابات التي ما زالت ذكراها حيّة عند كبار السن.

الانفجار السكاني في العالم والتحولات الديمغرافية:

  لقد ظل عدد سكان العالم يتزايد منذ بدايات الثورة الصناعية كما ازدادت معدلات الزيادة في الخمسة عقود الماضية. من زاوية أخرى تحققت التنمية البشرية على نطاق واسع وكان من مؤشراتها ارتفاع متوسط الأعمار وازدياد الهجرة إلى المدن.
    أدناه يجد القارئ إحصاءات عن عدد سكان العالم بالمليار نسمة على مدى ما يزيد قليلاً عن القرنين ونصف القرن وقد جمعنا هذا الإحصاءات من مصادر مختلفة.
1650- 0.5 مليار 1750 – 0.75 1800- واحد مليار
1860-1,2 مليار 1900- 1,7 مليار 1950 – 2,5 مليار
1960 – 3 مليار 1975- 4 مليار 1992 5,45مليار
1997- 5,7 مليار 2011- 6,97 مليار
  تجدر الإشارة هنا إلى أن إحصاء 1650 – وهو نصف مليار نسمة يمثل حصيلة النمو لمدة مليون سنة وهو ذات النمو الذي تحقق في عشر سنوات ما بين 1950 و 1960 – نلاحظ أيضاً أن نصف القرن الماضي شهد نمواً سكانياً بمقدار 4,22 مليار نسمة!
  منذ بدايات الثورة الصناعية ظل الإنسان يحقق طفرات في كل مناحي الحياة فاقترنت الزيادة السكانية بأنماط متجددة من الاستهلاك المعتمد على الطاقة في كل صورها.
في قطاع النقل على سبيل المثال… كان النقل “البري ” يعتمد على الدواب بينما كان النهري يعتمد تارة على “طاقة” السواعد وتارة أخرى على طاقة التيار المائي وطاقة الرياح.
   بطاقة السواعد والرياح أبحر المكتشفون الأوائل أمثال فاسكو دي جاما وماجلان وبارثليميودياز وكريستوفر كولمبس عبر المحيط الأطلنطي غرباً ليكتشفوا الأمريكتين وجنوباً ليصلوا إلى سواحل أفريقيا الغربية والشرقية عبر رأس الرجاء الصالح ثم إلى آسيا ليكتشفوا استراليا ونيوزيلندا.
  أصبحت الأمور ميسرة عند اختراع الماكينة فكان القطار ثم تبعته السيارة ولحقت بها الطائرة وكان الفحم الحجري والبترول.
   لقد تكرر المثال الذي سقناه في كل مناحي الحياة وما من سلعة أو خدمة في عالم اليوم إلا وفيها قدر من الطاقة تشكل الأحفورية منها اليوم 80%.
   في يومنا هذا ما عادت الصناعة حكراً لدى الذين فجروا ثورتها إذ نراها قد انداحت إلى كل بلاد العالم وأن كان ذلك بدرجات متباينة. في نصف القرن الماضي (1965 – 2014) أصبح لكل دولة من دول العالم النامي قدر من وسائل النقل الحديثة وقدر من الصناعات. من بين اقتصادات تلك الدول ما ظل يحبو أو يتعثر في مشيه بسبب أمراض الطفولة، منها ما اشتد عوده فانتقل إلى مرحلة الصبا والشباب وأصبح يجري ويقفز. منها ما بلغ سن الكهولة والنضج فأصبح منافساً لعجائز الغرب الصناعي!.
   تــلك هي الدول التي يطلق عليها دول الاقتصادات الصاعدةemerging economies التي تأتي على رأسها الصين والنمور الآسيوية بشرق آسيا مروراً بالهند ثم جمهورية جنوب افريقيا وعبر الأطلنطي إلى البرازيل والأرجنتين.
   أفرز توطين الصناعة والنقل الحديث في كل دول العالم – وأن كان هناك اختلافات في المستويات – تغيرات ديمغرافية واجتماعية كبرى. كانت أبرز تلك التغيرات ازدياد نسبة التحضّر Urbanization . في هذا الصدد تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من نصف سكان العالم يعيشون اليوم في المناطق الحضرية – أي في المدن – كما تتوقع ذات المصادر أن نسبة التحضر ستبلغ 75% من سكان العالم بحلول عام 2050 . ترى ذات المصادر أن معظم هذا التحول سيكون في الدول النامية. تؤكد صحة تلك التقديرات ما نراه اليوم من خلال تكاثر المدن المليونية Megalopolis كالخرطوم والقاهرة ومروراً بلاغوس وريودي جانيرو وانتهاءً بجاكرتا وبانكوك وغيرها من مدن وعواصم الدول النامية.
   لهذه النقلة الاقتصادية الديمغرافية آثار مباشرة على النمط الاستهلاكي بصفة عامة وعلى قطاع النقل بصفة خاصة لهذا لم يكن غريباً أن يشير أحد تقارير اللجنة الحكومية الدولية لتغير المناخ (I.P.C.C) إلى أن السنوات (1970-2011) شهدت زيادة كبيرة في انبعاثات غازات تغير المناخ – وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون- في الدول النامية إذ ازدادت بنسبة 248% بينما كانت الزيادة في الدول الصناعية في ذات الفترة 42% فقط.
   لقد كان من نتائج عولمة الاقتصاد التي اطرّت لها منظمة التجارة العالمية W.T.O وسعت إلى ترسيخها عبر وسائل النقل والاتصالات الحديثة أن انتقل نمط الاستهلاك الغربي إلى مجتمعات الصفوة والرأسمالية الناشئة – أي البرجوازية الصغيرة وفقاً للمصطلح الماركسي – في مدن العالم الثالث دون أن تكون تلك المدن مهيأة لتلك النقلة.. خاصة في مجال النقل .

رابعاً: الحروب والبراكين:
   لم نجد فيما أتيح لنا من أدبيات اللجنة الحكومية الدولية (IPCC) إشارات إلى الحروب كأسباب لإنبعاث غازات الاحتباس الحراري، رغماً عن ذلك لدينا من الحجج ما يدفعنا إلى إضافتها إلى مصادر الانبعاثات الضارة بالبيئة.
   ثبت الفضائيات بصورة شبه راتبة لقطات من أعمدة الدخان المتصاعدة من إحدى الآليات العسكرية عقب إصابتها بقذيفة . يحدث ذلك تارة في سوريا والعراق في حرب داعش وتارة أخرى في أوكرانيا. يستمر تصاعد الدخان عادة إلى أن تلتهم النيران كل ما هو قابل للاشتعال في الناقلة العسكرية أو المدرعة . إننا نتساءل كم يعادل حجم ووزن الدخان المتصاعد من ناقلة عسكرية واحدة محترقة مقارنة بما تنفثه سيارة صالون واحدة في أي من مدن العالم؟ نترك الإجابة لتقدير القارئ الكريم.. أن الحرائق التي تشعلها الحروب ليست قاصرة على المدرعات وناقلات الجنود وإنما تتسع لتشمل مستودعات الوقود وأحياناً مدن وقرى بأكملها كما تشمل المصانع وقد تشعل القذائف النيران في الغابات وفي الحقول وفي صوامع الغلال. أن الحرائق التي حدثت وتحدث حالياً في العراق وسوريا وليبيا تعيد إلى الذاكرة بعضاً من مشاهد حروب المائة عام الماضية (1914-2014) .
   من أهم حروب بداية القرن الماضي هي بلا شك الحرب العالمية الأولى التي يطلق عليها أيضاً الحرب العظمى . كان مسرح تلك الحرب بصفة أساسية هو أوروبا بشقيها الغربي والشرقي بما في ذلك الإمبراطورية العثمانية ومستعمراتها في الشرق الأوسط والأدنى . لم يمض عقدان من الزمان وإلا اندلعت الحرب العالمية الثانية التي امتد مسرحها من شمال الأطلنطي غرباً إلى المحيط الهادي شرقاً بما فيه من جزر متناثرة احتلتها جيوش إمبراطورية الشمس المشرقة. انتهت تلك الحرب بسقوط النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا وبهزيمة الإمبراطورية اليابانية. انتهت الحرب بعد أن دمرت طائرات الحلفاء معظم المدن الألمانية وما حولها من مصانع وكانت أكثر المدن دماراً هي درسدن. أما اليابان فما كان أمامها إلا الاستسلام بعد أن ألقيت القنبلتان الذريتان على مدينتي هيروشيما وناجازاكي . انتهت الحرب العالمية الثانية وقد راح ضحيتها ما يزيد عن الخمسين مليون قتيل كان لروسيا منهم عشرين مليون.
   بُعيد نهاية الحرب اتفقت دول العالم آنذاك على تنقيح وترفيع اتفاقية عُصبة الأمم التي سبقت أن وقعت عقب الحرب العالمية الأولى – إلى ميثاق دولي أكثر شمولاً وهكذا ولد في عام 1945 ميثاق الأمم الذي تأتي في مقدمة أهدافه ترسيخ الأمن والسلام في العالم، هو ذات الميثاق الذي ينظم العلاقات الدولية اليوم .
لم يمنع ميثاق الأمم المتحدة ظهور الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، بل تحولت الحرب الباردة أحياناً إلى حروب ساخنة بالوكالة وهي الـProxy wars في كثير من أقاليم العالم ولعل أشهر تلك الحروب هي الحرب الكورية في عام 1952 التي انتهت بتقسيم كوريا إلى دولتين. تفجرت بعد ذلك حروب التحرير في المستعمرات وكانت تشوبها ظلال من الحرب الباردة. لعل من أهم تلك الحروب هي حرب فيتنام الأولى ضد الاستعمار الفرنسي والثانية لتوحيد الدولة وطرد الوجود الأمريكي من شبه جزيرة الهند – الصينية. كانت هناك أيضاً حرب الجزائر وحروب التحرير في المستعمرات البرتقالية في أفريقيا – غينيا بيساو وأنجولا وموزمبيق. أما الحروب العربية – الإسرائيلية فقد امتدت عبر ست جولات وهي: 1948 عام النكبة، 1956 حرب السويس، 1967 حرب يونيو وحرب أكتوبر 1973 لتحرير سينا ثم حرب غزة الأولى والثانية والتي لم تندمل جراحها بعد.
   شهد عام 1982 غزو إسرائيل للبنان “صبرا وشاتيلا” كما شهد حرب الفولكلاند، أما السنوات منذ 1979 فقد شهدت حروب العراق العبثية والمأساوية إذ كانت البداية بالحرب العراقية – الإيرانية التي امتدت لثماني سنوات، حربي احتلال وتحرير الكويت في عامي 91/1990 ، ثم الحرب ضد صدام في 2003 وما أعقبها من شلالات دم ما زالت تجري وأخيراً الحرب ضد داعش الجارية الآن.
  بعد ثورات الربيع العربي ظلت المنطقة العربية تشهد ما يشبه الحروب الأهلية في سوريا وليبيا واليمن كما لا تخلو الحرب في العراق من المؤثرات الطائفية.
  أما شبه الجزيرة الهندية فقد شهدت نزاعاً حدودياً بين الصين والهند انتهى بحرب محدودة كما شهد إقليما باكستان الشرقي والغربي – أي البنغال والبنجاب – شهدا حرباً ضروس انتهت بقيام دولة بنغلاديش. من جانب آخر تدور بين الهند والباكستان حرب باردة – تتحول أحياناً إلى ساخنة – بسبب النزاع حول إقليم كشمير . في شمال شبه الجزيرة الهندية خاض التحالف الغربي حرباً بلا هوادة ضد نظام طالبان في أفغانستان وفي سيرلانكا خاضت الحكومة حرباً امتدت لأكثر من ربع قرن ضد ثوار التاميل.
  شهد العالم أيضاً في الخمسين عاماً الماضية ظهور الحركات المتمردة والحروب الأهلية وكان للسودان نصيب كبير منها إذ أحاطت الحركات المتمردة بالمركز بدءً بجنوبه وغربه وجنوب شرقه وشرقه. كانت أطول تلك الحروب هي حرب الجنوب التي انتهت بانفصاله. نشطت الحركات المتمردة أيضاً في نيجيريا “حرب الايبو” وتشاد وأفريقيا الوسطى واريتريا وأوغندة والكنغو الديمقراطية وليبيريا وحتى مالي والنيجر. أما في أمريكا اللاتينية فقد كانت (حركة التوبا ماروس) في الأرجنتين وحركة اليسار الثوري “مير MIR” في كولمبيا والسانديتستاس في نيكاراقوا.. الخ.
   لم تخلو أوربا نفسها من الحروب الصغيرة فكانت حرب البوسنة والهرسك التي شكلت البداية لتشظي يوغسلافيا وكانت الحرب في إقليم نقورنو كارباخ بين اوزبكستان وأرمينيا المتنازعتان على السيادة على ذات الإقليم.
تلك هي أهم الحروب والصراعات الإقليمية وحركات التمرد التي اختزنتها الذاكرة وكلها تعني العنف والموت كما تعني الخراب والحرائق… الكثير من الحرائق والكثير من الدخان . لا يفوتنا هنا أن نذّكر بحرائق آبار البترول في الكويت التي أشعلها الجيش العراقي قبل إنسحابه منها في شتاء عام 1991. لقد كان دخان آبار البترول المحترقة بالكثافة والحجم الذي حوّل نهار العاصمة السعودية الرياض إلى ليل وذلك رغماً عن بعدها بحوالي الخمسمائة كيلومتر! من جهة أخرى دفعت الرياح بدخان الحرائق شرقاً إلى جبال الهملايا حيث لوحظ هطول أمطار سوداء تحولت إلى ثلوج سوداء وذلك وفقاً للأخبار التي تم تداولها في تلك الفترة.
   لا يفوتنا أن نشير إلى مصدر آخر لغازات الاحتباس الحراري وهو البراكين ! أن البراكين وأن ظلت خامدة لعقود طويلة إلا أنها عندما تثور فهي تضخ كميات هائلة من الغازات التي لا بد أن يكون لها أثر سالب على الغلاف الجوي . على سبيل المثال عندما ثار بركان بينا توهو Pinatuho في الفلبين في يونيو من عام 1991 قذف في الجو ما يقدر بعشرين مليون طن من غاز ثاني أوكسيد الكبريت (SO2) . نذكر أيضاً أنه وقبل عامين ثار بركان في جزيرة أيسلندا واستمر الدخان يتصاعد بكثافة عالية لعدة أيام. لقد وصلت كثافة الدخان والرماد المتصاعد من فوهة البركان إلى الحد الذي حجب أشعة الشمس في غرب أوربا. بسبب كثافة الدخان وانتشاره توقفت حركة الطيران في كثير من مطارات غرب أوربا كمطاري هيثرو وشارل ديجول الشهيرين .
خلاصة القول هي أن للغازات المحتبسة في الغلاف الجوي مصادر أخرى غير الوقود الاحفوري وتتمثل تلك المصادر في حرائق الحروب وكل أعمال العنف كما تتمثل في البراكين التي تثور من وقت إلى آخر في شتى بقاع العالم كان ذلك في الفلبين وأيسلندا أو في اندونيسيا وهاواي وإيطاليا والتشيلي.
   مؤخراً وفي الأسبوع الأخير من شهر مايو 2015 ثار بركان كالبوكو Calbuco في وسط القطاع التشيلي من جبال الأنديز بأمريكا الجنوبية. إستمر هذا البركان يقذف بالحمم والحصى والدخان الكثيف لعدة أيام. كذلك أضطرت السلطات لإخلاء القرى من محيط أربعين كيلومتر. من زاوية أخرى دفعت الرياح بالدخان إلى أجواء الأرجنتين المجاورة فتم تعليق الملاحة الجوية في مطار عاصمتها بيونس آيريس.
نتيجة لتفاعل الأربعة عوامل التي تناولناها – وهي للتذكير: الوقود الاحفوري، إزالة الغابات ، المتغيرات السكانية والحروب والبراكين- نتيجة لذلك تراكمت في الغلاف الجوي غازات الاحتباس الحراري.
   تتباين أوزان تلك الغازات في الغلاف الجوي وفقاً لأنواع الوقود المستخدم ولكن هذا التباين لم يمنع غاز ثاني أكسيد الكربون من أن يتصدر مجموعة الغازات إذ يشكل 72% من الوزن الكلي كما تشير بعض المصادر وذلك بفعل هيمنة مشتقات الوقود الاحفوري على مصادر الطاقة.
   لقد تمكنّا من حصر غازات الصوبه (GHG) من المراجع المختلف التي استعنا بها ونجملها في القائمة التالية:
1. ثاني أكسيد الكربون. o Carbon dioxide – Co2
2. أول أكسيد الكربون o Carbon monoxide – Co
3. النايتروجين أوكسايد o Nitrogen oxide – No
4. ثاني أوكسيد الكبريت o Sulphur dioxide – So2
5. أكسيد النايتروس o Nitrous oxide – No
6. الهايدرو فلورو كاربون o Hydrofluro carbons (HFCS)
7. الميثان o Methane
8. البيرفلورو كاربون o Perfluro carbon
9. سادس فلورايد الكبريت o Sulphur hexafluoride
10. الأوزون الأرضي o Ground ozone O3
11. غاز أجهزة التبريد “الفريون” o Thifluro Methane (HFC – 23)

تغير المناخ: حقائق ماثلة أم خيال علمي: ؟

  منذ أن لاحت في الأفق نذر تغير المناخ في سبعينات القرن الماضي عكفت معاهد البحث العلمي أسوة بمراكز الإرصاد الجوي والمناخ والبيئة عكفت جميعها على دراسة هذه الظاهرة. نُشرت آلاف الدراسات والتقارير والكتب من قبل العلماء والخبراء وتكشفت من خلالها حقائق مذهلة نسوق بعضها أدناهـ:
• ثبت علمياً أن هناك تغير قد طرأ على مناخ الأرض وذلك بسبب ارتفاع متوسط حرارة سطح الأرض بمقدار 0.75 درجة مئوية قياساً بما كان عليه الحال قبل الثورة الصناعية.
• ثبت أيضاً أن متوسط درجة حرارة المحيطات والبحار – التي تغطي 70% من مساحة الأرض- وقد ارتفعت هي الأخرى كما ازدادت نسبة النيتروجين في مياه البحار بفعل الأمطار مما رفع من درجة حمضيتها acidity .
• تأكد أن هذه التغيرات الضخمة في بيئة العالم لم تحدث عفوياً أو بفعل الطبيعة وإنما تعزى للعامل البشري . حدث ذلك بسبب استخدام الإنسان بإسراف وعلى مدى قرنين للفحم الحجري والبترول كمصدرين أساسيين للطاقة.
• ظل تركيز غازات الاحتباس الحراي يتزايد بوتيرة متصاعدة منذ بدايات الثورة الصناعية (1750 – 1800) وإلى يومنا هذا. شهد نصف القرن الماضي أعلى درجة من التركيز بسبب التحولات الاقتصادية – الاجتماعية التي شهدتها معظم الدول النامية، خاصة في آسيا وأمريكا اللاتينية.
   في تلك الحقبة الزمنية ارتفع تركيز غازات الاحتباس الحراري – وعلى رأسها ثاين أكسيد الكربون Co2 – من 250 ppm – أي 250 جزئية Molecules من الغازات – إلى 340 جزئية في المليون جزئية هوائية.
  بهذا التركيز ارتفع وزن الغازات المعلقة في الغلاف الجوي من 6 بليون طن إلى 40 ثم 48 بليون طن. تمثل نسبة الغازات الناتجة عن الوقود الاحفوري 80% من الوزن أعلاه بينما يمثل الأثر السالب لإزالة الغابات – أي بانتفاء دورها في امتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون – يمثل 17,4%.
• بسبب تراكم الغازات في الغلاف الجوي ارتفع متوسط درجات الحرارة على سطح الأرض بالقدر الذي ذكرناه وهو 75. درجة مئوية . أن هذا الارتفاع وأن بدأ طفيفاً إلا أنه أحدث فوضى مناخية هائلة أو تغير في المناخ. وبالقدر الذي تسبب في كوارث طبيعية لم يشهد العالم مثيلاً لها من قبل. أن أكثر ضحايا تلك الفوضى المناخية هي المجتمعات الفقيرة والأكثر هشاشة في الدول النامية.
• على ضوء تلك المستجدات توصلت اللجنة الحكومية الدولية لتغير المناخ (IPCC) إلى حقيقة في غاية الأهمية مفادها أن استمرار العالم في استهلاك الوقود الاحفوري بذات القدر سيعني بالضرورة المزيد من تراكم الغازات في الغلاف الجوي. أن هذا التراكم يعني تواصل ارتفاع درجات حرارة الأرض بمعدلات عالية قد تصل إلى سبعة درجات بنهاية القرن الواحد وعشرين.
• تأكد أيضاً أن ارتفاع درجات حرارة الأرض سيقود تارة إلى جفاف ومجاعات وتارة أخرى إلى أمطار غزيرة وسيول وفيضانات وفي كلتا الحالتين سيكون هناك ضحايا بالملايين كما سيدفع بهجرات جماعية وربما إلى حروب أهلية وإقليمية.
• استعان تقرير اللجنة الحكومية بما توصل إليه معهد ماساشوستش للتقانة (MIT) عبر التصور الحاسوبي computer simulation. توصل هذا المعهد إلى خلاصة هامة وهي أنه في غياب السياسات الجادة والالتزام الصارم من الدول الأكثر استخداماً للوقود الاحفوري بتخفيض الانبعاثات، سيكون من المرجح أن ترتفع حرارة الأرض بمقدار 5. 2 درجة مئوية بحلول عام 2100 . يذهب تقرير المعهد إلى أبعد من ذلك بالقول أن هناك احتمال بنسبة 90% بأن ترتفع درجة حرارة الأرض إلى ما يتراوح ما بين 3,5 و 7,4 درجة مئوية . في نهاية عام 2006 صدر تقرير استيرن Stern وهو التقرير الذي أعد بتكليف وتمويل من الحكومة البريطانية . تناول التقرير البعد الاقتصادي لتغير المناخ على الصعيدين العالمي و الإقليمي. اعترف التقرير بأن هناك مسئولية تاريخية وأخلاقية ينبغي على الدول الصناعية تحملها حيال ضحايا تغير المناخ في الدول النامية والفقيرة. اعترف التقرير أيضاً بأن تغير المناخ يجسد أكبر اخفاقات اقتصاد السوق التي شهدها العالم.
the greatest market failure the world has ever seen” بهذا الفهم المتقدم اقترح التقرير تفعيل مبدأ “الملوثون يدفعون “Polluters pay”
• تجمعت لللجنة الحكومية لتغير المناخ (IPCC) الشواهد والأحداث التي رُصدت على نطاق العالم في الأربعة عقود الماضية والتي أكدت بما لا يدع مجالاً للشك أن المناخ قد تغير وأن الأمر سيتطور إلى الأسوأ ما لم يتم تداركه . تم تجميع تلك الحقائق في ملفات “حمراء” وأرسلت إلى كل دول العالم ولذلك كانت الاستجابة واسعة لقمة كوبنهاجن في ديسمبر 2009! .
   تأكد للجميع أن فعل لا شيء the inaction سيجر العالم إلى كوارث لا يعلم مداها إلا الله . تشمل تلك الكوارث: المجاعات ، إزدياد حدة الفقر، تفشي الأمراض والأوبئة، النزوح والهجرات الكثيفة، التوترات بين الدول التي قد تتحول إلى حروب والتراجع المنتظم في التنمية والنمو الاقتصادي.
  تمخضت المداولات التي شارك فيه ممثلو دول العالم وخبراء اللجنة الحكومية لتغير المناخ تمخض عن إقرار مبدأ: مسئوليات مشتركة ولكن بمستويات مختلفة وتلك ترجمة لـ common, but differentiated responsibilities” ، تعني المسئولية المشتركة بالنسبة للدول النامية إعادة تشجير الغابات واستخدام التقانات الحديثة والطاقات المتجددة وذلك بدعم من الدول الغنية .

ما هي الدول الأكثر تسبباً في الانبعاثات؟
   للإجابة على هذا السؤال نستعين بتقرير التنمية البشرية لعام 8/2007 الذي يصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) خُصصت الإصدارة المشار إليها لتغير المناخ. وردت بالصفحة (69) قائمة بالثلاثين دولة الأكثر تسبباً في نبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون لعام 2012 . اخترنا من تلك الدول الخمس التي تتصدر القائمة وهي :

الدولة وزن الانبعاثات بالمليون طن النسبة المئوية
الولايات المتحدة 6046 20.9
الصين 5007 17.3
الاتحاد الروسي 1524 5.3
الهند 1342 4.6
اليابان 1257 4.3
أما إذا ما صنّفنا دول العالم وفقاً لمتوسط نصيب الفرد “Per capita” فسنجد أنفسنا أمام مفارقات مذهلة! بالرجوع إلى تقرير التنمية البشرية لعام 2013 فسنجد أن الدول الخمس التي تتصدر دول العالم من حيث نصيب الفرد من الانبعاثات هي:
الدولة نصيب الفرد بالطن 2008
قطر 49,1
ترينداد وتياقو 37,4
الكويت 30
بروني دار السلام 27,5
الأمارات العربية المتحدة 25
  تعزى هذه المفارقة إلى خمس عوامل وهي: قلة السكان، ارتفاع متوسط دخل الفرد، الاستخدام الكثيف للسيارة، وفرة الوقود ، صغر مساحة الدولة والكثافة السكانية على السواحل مما لا يعطى مبرراً قوياً لاستخدام القطارات أما لمن يتساءل عن متوسط نصيب الفرد في السودان في السنة فهو ثلاثمائة كيلو جرام فقط.

كيف تغير المناخ؟:
   سعينا في الصفحات السابقة للإجابة على السؤال الذي طرحناه حول لماذا تغير المناخ؟ في الصفحات التالية سنسعى إلى الإجابة على سؤال آخر وهو كيف تغير المناخ؟
  كما نوهنا يُعزى تغير المناخ لارتفاع درجة حرارة سطح الأرض بمقدار 75 C . أي ثلاثة أرباع الدرجة المئوية. تلك حقيقة أصبحت اليوم من المسلمات بعد أن تراجع المتشككون أمام الأدلة والشواهد الدامغة.
   لمزيد من الإيضاح نضيف… يعزى ارتفاع درجات الحرارة في كوكبنا الأزرق The Blue Planet الذي ما سمي بالأزرق إلا بسبب المسطحات المائية التي تغطي 70% من سطحه – يعزى لاستئثار المسطحات المائية. بمعظم الحرارة الواصلة من الشمس.
   أن الطبيعة الشفافة Transparent والسائلة للمياه تساعد في اختزانها للحرارة. ذلك لأن الشفافية تعني نفاذ الحرارة إلى عمق أكثر في المسطحات المائية أما الطبيعة السائلة للمياه فهي التي تجعل سطحها في حركة تبادلية مستمرة بين الساخن والبارد . بتواصل عملية الإحلال هذه يصبح مخزون البحار من الحرارة أكثر من مخزون اليابسة ولهذا السبب تقدر تقارير اللجنة الحكومية (IPCC) مخزون الحرارة في البحار بـ 80% أي أكثر من مساحة المسطح المائي على سطح الأرض ! تمخض عن اختزان البحار للحرارة تمدد المياه وزيادة حجم البحار مما يجعلها تزحف نحو السواحل المنخفضة وبصفة خاصة الدلتاوات ومصبات الأنهر والخلجان.
   في تطور موازي تسبب ارتفاع درجات الحرارة في ذوبان الكتل الجليدية في القطبين الشمالي والجنوبي وعلى السلاسل الجبلية الشاهقة كجبال الهملايا والألب والروكي والأنديز بما فيها من أنهر جليدية . بهذا الذوبان إزداد حجم المياه في المحيطات والبحار ليضيف سبباً آخر لارتفاع المناسيب. نظراً لإتساع مساحة المسطحات المائية وبفعل ارتفاع درجة الحرارة ازدادت معدلات التبخر فكان لهذه الزيادة أثر مباشر على الدورة المائية The hydrological Cycle. من هذا التبخر الكثيف تتجمع السحب المحملة بقدر كبير من الرطوبة. في ذات الوقت ترتفع درجات الحرارة على سطح الأرض اليابسة لتحدث انخفاضاً في الضغط الجوي ولهذا – وبفعل الرياح تندفع السحب المتجمعة فوق البحار لتهطل أمطاراً . تحت معطيات جغرافية إقليمية محددة تندفع الرياح نحو اليابسة تارة تحت مسمى أمطار المونسون وأن كانت أعنف يطلق عليها الأعاصير المدارية Tropical cyclonesهي ذات الـ Hurricanes في غرب الأطلنطي والـ Typhoons في المحيط الهادي . أما الدورة المائية الاعتيادية فتتمثل فيما يهطل من أمطار بمعدلات معتدلة أو خفيفة في معظم أقاليم العالم وذلك بتأثير مباشر من ذات العوامل. من زاوية أخرى يرجح علماء المناخ أن مياه البحار ستشهد تغيرات أخرى بسبب ارتفاع درجات الحرارة. ترتبط تلك التغيرات بطبيعة الدور الذي تقوم به التيارات المحيطية، أي الـ The Ocean currents . يعلم الجغرافيون أن هناك حركة لا تتوقف لتيارات مائية قوية في محيطات العالم الثلاث. بعض هذه التيارات باردة وأخرى دافئة . من بين التيارات الباردة نذكر تيار بنقويلا Benguela الذي يتحرك شمالاً من قبالة الساحل الجنوبي الغربي لأفريقيا وتيار بيرو الذي يتحرك من قبالة الساحل الجنوبي الغربي لأمريكا الجنوبية. أما التيارات الدافئة فمنها تيار غينيا ومنها تيار الخليج الدافئ الذي يطلق عليه The Gulf stream . لهذه التيارات أثر قوي على الطقس ونستشهد في ذلك بالشتاء المعتدل في جنوب غرب كندا بتأثير من تيار شمال المحيط الهادي الدافئ. بسبب هذا الاعتدال في الطقس نجد ميناء فانكوفر مفتوح للملاحة شتاءً وذلك في مقابل نهر سانت لورانس بشرق كندا الذي يتجمد في فصل الشتاء مما يمنع إبحار السفن إلى البحيرات الخمس وذلك رغماً عن تطابق خطوط العرض تقريباً!
   نستشهد أيضاً بشتاء الواجهة البحرية لغرب أروبا حيث الشتاء أقل برودة من شتاء شرق أروبا. للدلالة على ذلك تكفي المقارنة بين شتاء لندن وامستردام بشتاء العاصمة الأوكرانية كييف والعاصمة البولندية وارسو رغماً عن تقارب خطوط العرض! يعزى الاختلاف في درجات الحرارة شتاء بين شرق وغرب أروبا إلى تأثير تيار الخليج الدافئ على غرب أروبا المطل على المحيط الأطلنطي.
     يفسر الجغرافيون ذلك بأنه وقبل أن تظهر نذر تغير المناخ كان تيار الخليج يتحرك عادة من منطقة خليج المكسيك في اتجاه الشمال الشرقي أي نحو السواحل الغربية لأوربا فيعطيها شحنة من الدفء تمنع عنها التجمد . إضافة لذلك فعند اصطدام هذا التيار بالسواحل يتجه إلى أسفل، أي إلى العمق ليحل محله تيار بارد يرتد نحو الجنوب.. تلك هي الدورة الحرارية لمياه البحار المالحة Thermohaline circulation هناك مدرسة بين خبراء المناخ ترى أن ذوبان الجليد في الدائرة القطبية الشمالية وفي قرينلاند من شأنه أن يؤثر كيمائياً بتقليل تركيز درجة الملوحة في مياه المحيط الأطلنطي ومن حيث درجة حرارتها بفعل المياه الذائبة الباردة ولذلك يقل تأثير تيار الخليج وهو يقترب من السواحل الأوربية. لهذا ومع هذه المستجدات هناك احتمال كبير في أن يعجز تيار الخليج في التأثير على مناخ الدول الواقعة في غرب القارة كبريطانيا وأيرلندا وبلجيكا وهولندا كما كان عليه الحال. أن النتيجة الطبيعية لهذا التغير هي – كما يرى بعض خبراء المناخ – هي أن تتراجع درجات الحرارة في غرب أوربا شتاءً بما يصل إلى ثماني درجات مئوية وهو الأمر الذي قد يعني العودة إلى العصر الجليدي!.
  لقد تعرضت بعض أجزاء بريطانيا في السنوات القليلة الماضية إلى موجات من البرد والجليد تارة وإلى فيضانات وسيول تارة أخرى فهل تشكل تلك الأحداث المناخية تداعيات لتغير المناخ؟

صدمات المناخ Climate shocks

  يتفق العلماء والخبراء الأعضاء في اللجنة الحكومية الدولية (I.P.C.C) على أن لتغير المناخ آثار خطيرة على معظم أقاليم العالم. تحدث تلك الآثار في المكان الأول بسبب ارتفاع درجات الحرارة على سطح الأرض وتداعياتها. تتمثل تلك التداعيات في في الفوضى المناخية وفي تكاثر الأحداث المناخية المتطرفة وإرتباك النظم الأيكولوجية براً وبحراً. من بين تلك التداعيات نذكر على سبيل المثال: تكرار وتكاثر موجات الحر الشديد، ارتفاع حرارة مياه البحار مما يؤدي إلى تمددها وازدياد معدلات التبخر منها، تغيرات في الدورة المائية وارتباك في فصول السنة، هطول أمطار غزيرة وازدياد في عدد وعنف العواصف في بعض أقاليم العالم وموجات جفاف غير مسبوقة في أقاليم أخرى، ذوبان الثلوج والكتل الجليدية في القطبين وعلى سلاسل الجبال الشاهقة، تأثير سالب على التنوع الأحيائي، فيضانات وانزلاقات أرضية Land slides..
  يرى علماء اللجنة الحكومية الدولية (IPCC) أن 98% من المتأثرين بهذه التداعيات هم من شعوب الدول النامية وبصفة خاصة المجتمعات الهشة التي يعيش أفرادها على أقل من دولارين في اليوم ويبلغ عدد هؤلاء 2,6 مليار نسمة. من بين هؤلاء من يسكن في المناطق العشوائية بأطراف مدن العالم الثالث وعددهم يقدر بمليار ، تشير إحصاءات الأمم المتحدة في هذا الصدد إلى أن المتوسط السنوي لعدد الكوارث المناخية في السنوات 2000 إلى 2004 بلغ 326 كارثة وهو رقم يمثل ضعف المتوسط السنوي في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي ! أما عدد المتأثرين في ذات الأعوام- 2000/2004- فقد كان 262 مليون نسمة.
    تشير تقارير المنبر الحكومي (IPCC) أيضاً إلى أن أكثر الشعوب هشاشة أمام تغير المناخ هم شعوب الاثنين وعشرين دولة الأقل نمواً في العالم. بلغ عدد سكان تلك الدول 509 مليون نسمة في عام 2008. ترجع حالة الهشاشة لحالة الفقر المدقع والمستشرى، لسوء التغذية، لانخفاض مستوى التعليم ولانتشار الأمراض والأوبئة كما تعكسها مؤشرات التنمية البشرية التي يصدرها سنوياً برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. في تلك الدول تعجز أجهزة الدولة عن إغاثة المنكوبين ولذلك كثيراً ما تستغيث بالمنظمات الدولية والجمعيات الطوعية والدول المانحة.
    للتعريف بما فعله تغير المناخ ببعض الدول النامية نوجز أدناه بعض ما رصدته اللجنة الحكومية الدولية الحكومة لتغير المناخ (IPCC). نقدم هذه الحالات لسبب آخر وهو أنها تعطينا مؤشرات لما يمكن أن يحدث في السودان تحت المعطيات المذكورة.
النيجر: تعرضت هذه الدولة في عامي 2004 – 2005 لصدمتين متتاليتين في إنتاجها الزراعي. كانت الصدمة الأولى عندما توقفت الأمطار مبكراً فقضت على نسبة عالية من محاصيل الحبوب والمراعي، أما الصدمة الثانية فقد كانت بسبب غزو الجراد للأراضي المزروعة بالذرة والدخن. قدرت الفجوة في محاصيل الحبوب بحوالي 223 ألف طن ولذلك ارتفعت أسعارها بنسبة 80%. بسبب التوقف المبكر للأمطار لم تكن المراعي الطبيعية بالقدر الذي يكفي حاجة القطيع . لهذا لجأ أصحاب الماشية إلى بيع بعض الرؤوس حتى يتمكنوا من سد الفجوة العلفية بالشراء. اصطدم هؤلاء بانهيار أسعار الماشية ويعزى هذا الانهيار لثلاثة أسباب وهي: كثرة العرض، هزال الماشية، تصاعد أسعار العلف.
   في عام 2005 واجه خمس سكان النيجر – أي 2,5 مليون نسمة- واجهوا شبح المجاعة بسبب ندرة وغلاء الحبوب. إضطر فقراء المزارعين والرعاة وأسرهم إلى خفض وجباتهم اليومية من حيث عددها وكمياتها. في تلك الفترة سعت النساء إلى جمع الثمار البرية وإلى اقتلاع جذور النباتات الخلوية وذلك لتناولها كمصادر غذائية إضافية تقلل من شدة الجوع.
    شهدت تلك السنوات حركة نزوح نشطة نحو المدن الإقليمية والعاصمة نيامي وإلى الدول المجاورة. رصدت منظمة أطباء بلا حدود تفشي حالات سوء التغذية عند 19% من الأطفال في المجموعة العمرية 6 أشهر إلى خمس سنوات. لعل أخطر ما ورد عن تداعيات الجفاف في النيجر هو ما كشفت عنه الدراسات الصحية الميدانية حول حالات الهزال الجسدي والتقزّم Stunt وذلك بالإضافة إلى تكاثر حالات التخلف الذهني Mental debility عند بعض الأطفال الذين ولدوا لأسر فقيرة في سنوات القحط.
منشأ الخطورة في هذه الحالات هو أنها ستصاحب ضحاياها حتى نهاية حياتهم حتى وأن توفر لهم الغذاء الجيد والوفير فيما بعد! .
   من جهة أخرى تشير اللجنة الحكومية الدولية إلى موجة الجفاف الحاد التي اجتاحت أربع دول بشرق أفريقيا (أثيوبيا، كينيا، زامبيا وملاوي) في عام 2005. أما في العام التالي وهو عام 2006 فقد تعرضت ذات الدول لفيضانات عالية ومتكررة . في كلتا الحالتين حدثت أضرار للمحاصيل الزراعية وفي المراعي فازدادت حدة الفقر وإنتشرت حالات سوء التغذية كما تفشت أمراض مثل الملاريا والنزلات المعوية. لقد كانت تداعيات تغير المناخ أكثر قسوة على أثيوبيا، فبغير موجة الجفاف التي تعرضت لها في 83/1985 شأنها في ذلك شأن دول الساحل الأفريقي، فقد عاد إليها الجفاف مرة أخرى في عام 1995 ليستمر لمدة خمس سنوات. بسبب جفاف تلك السنوات كان هناك نقص حاد في الحبوب والمراعي. تملك أثيوبيا أكبر ثروة حيوانية في أفريقيا وللأبقار أهمية اجتماعية – اقتصادية كبرى في الريف الأثيوبي. إلى جانب توفيرها للألبان تعتبر الأبقار شكلاً من أشكال الثروة المتنامية ومصدر سهل للسيولة النقدية متى ما احتاج إليها القرويون كما هي وسيلة من وسائل الإنتاج الزراعي إذ تستخدم الثيران في حراثة الأرض.
   عند اشتداد وطأة الجفاف خاف القرويون والرعاة من نفوق قطعانهم فاتجهوا بها بأعداد كبيرة نحو الأسواق وهي تعاني من الهزال فإنهارت الأسعار. نتج عن ذلك أن تآكلت رؤوس الأموال على صغرها فاتسعت دائرة الفقر بما يعنيه من سوء تغذية وتفشي الأمراض خاصة في وسط الأطفال. كما حدث في النيجر ظهرت حالات الهزال والتخلف العقلي عند الأطفال الذين ولدوا في تلك السنوات العجاف. في هذا الصدد تشير المسوحات الطبية إلى أن الأطفال دون سن الخامسة تعرضوا بنسبة 36% لسوء التغذية وحالات التخلف العقلي.
  كينيا هي الأخرى تعرضت لموجة جفاف في الأعوام 2003/2005 وقد تأثر بذلك الجفاف 3,3 مليون مواطن كيني موزعون بين 26 مقاطعة. في تلك المقاطعات تراجع إنتاج الذرة الشامية واللوبيا وهما محصولان يعتمد عليهما سكان تلك المقاطعات في غذائهم . رصدت المراكز الصحية أن سوء التغذية انتشر بين الأطفال بنسبة 30%. في زمبابوي أجريت دراسة طبية على الشريحة العمرية 13-16 سنة من الذين ولدوا في سنوات الجفاف 82/1984 فاتضح أن قاماتهم أقل بـ 2,3 سنتمتر من المتوسط العام كما أن حالات التخلف العقلي Stunting شائعة بينهم ولهذا كان أداؤهم الدراسي ضعيفاً وهي حالة يستحيل علاجها – كما ذكرنا- حتى وأن طرأ تحسن في مستوى الغذاء.
  أما جمهورية ملاوي فقد تعرضت في عام 2001/2002 لأسوأ مجاعة في تاريخها المعاصر لم تكن المجاعة بسبب الجفاف كما جرت العادة وإنما بسبب الأمطار الغزيرة والسيول والفيضانات التي قضت على 30% من محصول الذرة الشامية التي تعتبر أهم مصادر الغذاء. راح ضحية السيول والفيضانات ما بين 500 إلى ألف مواطن من سكان المناطق الجنوبية الوسطى ولكن عدد الوفيات كان أكبر إذ ارتفع إلى عشرين ألف وفاة وذلك بسبب الأمراض والمجاعة التي أعقبت الكارثة. في مقاطعة “سليمة” ارتفعت حالات سوء التغذية من 9% إلى 19% على نقيض ذلك وفي عام 2005 – كما أشرنا – تعرضت الدولة لموجة جفاف وعانى 4,7 مليون نسمة من نقص في الغذاء وحالات سوء التغذية التي كان الأطفال أول ضحاياها.
   في كل هذه الحالات فقدت أرواح أما أثناء الكارثة أو في أعقابها وذلك بسبب النقص في الغذاء وما يعنيه من سوء تغذية ونقص في المناعة. في هذه الأجواء تكثر الأمراض والأوبئة التي تأتي على رأسها الاسهالات، الملاريا ، حمى الدانق، حمى الوادي المتصدع والكوليرا.لقد رصدت حالات من كل هذه الأمراض وغيرها في أعقاب الأمطار الغزيرة والعواصف.
  كان للقارة الآسيوية هي الأخرى نصيب من الكوارث الناجمة عن تغير المناخ . لقد شهدت بنغلاديش في عام 1998 أعتى فيضان في تاريخها وهو ما أطلق عليه فيضان القرن أي Century Flood . تصّنف بنغلاديش بين أكثر الدول كثافة سكانية إذ بلغ عدد سكانها في عام 2012 ما يزيد قليلاً عن 152 مليون نسمة بينما تبلغ مساحتها 144 ألف كيلو متر مربع. وفقاً لتقرير التنمية البشرية لعام 2013 تحتل بنغلاديش المرتبة 146 في سلم التنمية البشرية لتجد نفسها ضمن مجموعة دول التنمية البشرية المنخفضة، أي بين الدول الأقل نمواً.
   كما ذكرنا شهدت هذه الدولة في عام 1998 أحد صور الأحداث المناخية العنيفة وهو فيضان القرن. في فيضان ذلك العام غطت المياه ثلثي مساحة البلاد، أي 95 ألف كيلو متر مربع. فقدت البلاد ألف من الأرواح وتشرد ثلاثة مليون مواطن. فقدت البلاد أيضاً 10% من محصولها من الأرز وبسبب تمدد فترة الفيضان وتعثر حركة النقل واجه عشرات الملايين شبح المجاعة. استطاعت الحكومة تجنب المجاعة باستيراد الأرز كما تآزر المجتمع الدولي معها في محنتها بإرسال مواد الإغاثة. لقد كشفت المسوحات الاجتماعية أنه حتى بعد مضي عام وربع العام على كارثة الفيضان كانت نسبة الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية نسبة أعلى بكثير من النسبة المعتادة. كان للصين أيضاً نصيب من تداعيات تغير المناخ. في عام 2007 تسببت أعاصير المونسون في نزوح نحو ثلاثة مليون مواطن من أقاليمهم. حدث ذلك بعد هطول أمطار كانت معدلاتها الأعلى في تاريخ الإرصاد الجوي الصيني. قبل تلك الفيضانات بعام تعرضت الصين إلى أعاصير عنيفة أدت إلى تشريد الملايين من سكان الأقاليم المنكوبة.
  أما إذا ما انتقلنا إلى منطقة البحر الكاريبي ووسط وجنوب الولايات المتحدة فإن كثرة الأعاصير قد أضحت تمثل الهاجس الأكبر لسكان تلك الدول وحكوماتها . في عام 2005 وحده شهد ذلك الإقليم 27 اعصاراً.
  كانت أشد الأعاصير عنفاً هي ويلما Wilma، بيتا Beta، ميتشMitch ، ايفان Evan وذلك بالإضافة إلى إعصار استان stan الذي تسبب في موت 1600 من شعب المايا MAYA الذي يعيش في مرتفعات غواتمالا بأمريكا الوسطى. أما الاعصار الأشهر فهو بلا شك إعصار كاترينا Katerina الذي انطلق من خليج المكسيك في 2005 وأحدث دماراً واسعاً في جنوب الولايات المتحدة خاصة في مدينتي نيواورليانز وهيستون.
  أشارت تقارير اللجنة الحكومية الدولية (IPCC) إلى أن السنوات العشر (1992-2002) شهدت ذوبان الجليد من جزيرة قرينلاند بمعدل اثني عشر مليار طن (12 مليار طن) في السنة وهي كمية حتماً ازدادت في السنوات الماضية وستزداد أكثر كلما ارتفعت درجات الحرارة. أن تواصل ذوبان الجليد سيعني في نهاية الأمر أن يذوب كل الجليد المتراكم منذ زمن سحيق وتتحول جزيرة قرينلاند إلى جزيرة خضراء فعلاً لا إسماً!
  حتماً سعد الدنماركيون كثيراً بهذه التقارير فالجزيرة تخضع للسيادة الدنماركية كما أن مساحتها تبلغ 2,175,600 كيلومتر مربع أي ما يعادل خمسون ضعفاً مساحة الدانمارك يتطلع الدانماركيون إلى التوسع الزراعي والغابي كما يمنون أنفسهم بثروات معدنية هائلة في جزيرة قرينلاند وفي مياهها الإقليمية.
  أما في أفريقيا فبعد الرصد والمتابعة تأكد أن الثلوج في قمة جبل كلمنجارو في تنزانيا آخذة في الذوبان ويتوقع لها علماء المناخ أن تذوب تماماً بحلول عام 2020 ! بداهة تعزى سرعة ذوبان جليد كليمنجارو لوقوع الجبل في إقليم مداري وليس بعيداً عن خط الاستواء.

وكوارث بالجملـــة:
  تؤكد تقارير اللجنة الحكومية الدولية لتغير المناخ (IPCC) أن عدد الكوارث المناخية في العالم ارتفع من 132 كارثة كمتوسط سنوي في السنوات (1980 – 1985) إلى 357 كارثة سنوياً في السنوات (2005 – 2009).
   لقد سبق أن أشرنا إلى بعض الكوارث وهناك المزيد وقد أخترنا بعضها أدناهـ:
– في حالة مناخية غير مسبوقة في عام 2004 اجتاحت السواحل البرازيلية أعاصير مدارية بالغة العنف لم تشهد البرازيل مثلها من قبل.
– في ذات السنة تعرضت شبه جزيرة ايبريا . “أسبانيا والبرتقال “لاعصار عنيف من الأطلنطي وذكر المسئولون الأسبان أن بلادهم لم تشهد مثل هذا الاعصار من قبل سوى مرة واحدة في عام 1820.
– في خريف 2005 هطلت على الميناء الهندي مومباي أمطار بلغت 940 مليمتر وهو الأعلى في تاريخ المدينة. تسببت الأمطار في دمار وخراب في الأحياء العشوائية كما تسببت في وفاة خمسمائة شخص .
– تعرضت اليابان في عام 2004 لعشر أعاصير مدارية عنيفة وهو أكبر عدد من الأعاصير سجله تاريخ الارصاد الياباني في سنة واحدة على مدى قرن.
– في عام 6/2007 كان للقارة الآسيوية 37% من الكوارث المناخية في العالم وتمثلت أهم الكوارث فيما أكدته الرابطة الصينية للارصاد الجوي (C.M.A) أن أمطار وأعاصير عام 2006 تسببت في أكبر عدد من وفيات الأعصاير في تاريخ الصين كما أن ثلاثة مليون مواطن إضطروا للنزوح عن ديارهم.
– نشطت حركة نزوح داخلي في شبه الجزيرة الهندية إذ دفعت الأمطار الموسمية الغزيرة والأعاصير 14 مليون هندي و7 مليون بنغلاديشي دفعتهم إلى النزوح عن ديارهم وبلغ عدد ضحايا الكوارث أكثر من ألف حالة وفاة.
– غمرت الأمطار والسيول الأحياء السكنية المنخفضة من العاصمة الأندونيسية جاكرتا فنزح عنها 430 ألف مواطن. بالمثل ازدادت حوادث الانزلاقات الأرضية والسيول في فيتنام والفلبين .
– تعتبر الفلبين بموقعها وتعدد جزرها من أكثر الدول تأثراً بتغير المناخ ففي نوفمبر من عام 2013 تعرضت لأقوى أعصار في تاريخ العالم وهو اعصار هايان Hayan الذي بلغت سرعته 380 كيلومتر/ الساعة.
– بلغ عدد ضحايا ذلك الإعصار ستة آلاف وثلاثمائة من الوفيات وتشرد أكثر من ستة مليون مواطن بعد أن دمر الاعصار مدينة تالكوبان Talcoban وآلاف القرى الساحلية دماراً شاملاً. لم يمض عام وإلا تعرضت الفلبين لاعصار آخر ولكنه أقل عنفاً وهو اعصار هوقوبيتHugupit الذي ثار في الأسبوع الثاني من نوفمبر 2014 . في إفادة لأحد مواطني تالكوبان لإحدى القنوات الفضائية أوضح أن الأجداد حدثوهم عن الأعاصير العنيفة وفوق العادة وأنها تحدث متباعدة بعشرات السنين وليس كل عام كما يحدث الآن!

غرق السواحل والمدن والدلتاوات وزوال بعض الدولّ!!
   بناءً على ما ذكرناه حول تمدد مياه البحار بسبب الاحتباس الحراري، وعلى ما أوردناه في الصفحات السابقة حول ذوبان الأنهر الجليدية وحقول الجليد فإنه من المتوقع أن ترتفع مناسيب مياه البحار إلى مستويات تهدد سلامة الملايين من البشر الذين يسكنون على السواحل المنخفضة وفي الدول الجزيرية Islands States . يبلغ عدد تلك الدول الجزيرية 52 دولة وقلة من المستعمرات وهي موزعة بين المحيط الهادي ، المحيط الهندي والبحر الكاريبي.
  وفي واقع الأمر أن القدر اليسير من الاحترار الذي حدث رفع بالفعل مناسيب البحار بمقدار سنتمترات وترتب على ذلك نتائج وخيمة في بعض الجزر المنخفضة بالمحيط الهادي كما تؤكد الشواهد التالية:
جزر توفالو Tuvalu
   توفالو دولة ذات سيادة وعضو في منظمة الأمم المتحدة وتتكون من عدة جزر متقاربة في جنوب غرب المحيط الهادي، تعتبر جزر هذه الدولة الأدنى ارتفاعاً عن سطح البحر إذ لا يتجاوز ارتفاعها 1,83 متر! في عام 1990 اختفت بصورة نهائية أحدى الجزر المكونة للدولة، أما بقية الجزر فقد أصبحت الحياة فيها لا تطاق بسبب أمواج البحر التي تغمرها كلما ثارت الرياح وارتفعت الأمواج. تحولت الأمواج الغاشية إلى كارثة على المياه الجوفية وعلى الأراضي الزراعية التي ارتفعت نسبة الملوحة فيها بالقدر الذي يمنع زراعتها.
  نستطيع القول وبصفة عامة أن المخاطر الناجمة عن تغير المناخ بالنسبة للمناطق الساحلية والجزر المنخفضة تتمثل في :
أ/ ارتفاع منسوب مياه البحار بالقدر الذي سيؤدي إلى اجتياح المناطق المنخفضة والمأهولة بالمدن والقرى الساحلية أسوة بالأراضي الزراعية وهو الأمر الذي سيتسبب في كوارث إنسانية .
ب/ ستكثر العواصف التي تحمل مياه البحر إلى عمق السواحل والجزر مما يزيد من ملوحة المياه الجوفية ومن تدهور الأراضي الزراعية.
ج/ اختلاط المياه المالحة بالمياه العذبة عند مصبات الأنهار كما يحدث عند مصب نهر الزمبيزي ونهر قامبيا وغيرهما من الأنهر. من بين الدول المهددة باجتياح مياه البحار لسواحلها نذكر بنغلاديش، نيجيريا ، تايلاند ومصر عند دلتا النيل.
  تتصدر بنغلاديش الدول ذات المخاطر العالية High risk countries إذ يعيش في مناطقها المنخفضة ما يربو عن 110 مليون نسمة، بهذا الرقم تصبح تلك المناطق من بين المناطق الأعلى كثافة سكانية في العالم. لهذا يرى البنك الدولي أن ارتفاع منسوب البحار 1,8 متر سيعني فقدان 16% من أراضي بنغلاديش. من جهة أخرى ووفقاً لأحد سيناريوهات اللجنة الحكومية الدولية (IPCC) فإن ارتفاع درجات الحرارة بمقدار 2-3 درجة مئوية سيتسبب في كوارث يتأثر بها ما بين 134 و 332 مليون نسمة من سكان السواحل. أما إذا ما أضفنا عامل الأعاصير المدارية فسيرتفع العدد إلى 371 مليون نسمة على نطاق العالم. يمضي السيناريو مضيفاً أن ارتفاع منسوب مياه البحار بمتر واحد سيعني:
• ستغمر مياه البحر مساحة 4500 كيلو متر مربع من أراضي الدلتا في مصر.
• بفعل ارتفاع منسوب مياه البحار والعواصف سيضطر 22 مليون نسمة من سكان دلتا نهر الميكونج والأراضي المنخفضة في فيتنام إلى النزوح عنها.
• تتوقع اللجنة الحكومية الدولية أيضاً أن يتراجع الدخل القومي في الدول القائمة على جزر المحيط الهادي بنسبة 2 إلى 7% من بين تلك الدول: فيجي، ساموا وفانونو. أما دولة كيريباتي Kiribati التي يقدر أعلى ارتفاع لأراضيها عن سطح البحر بمترين فقط فمن المتوقع ان تفقد بعض أراضيها وأن يتراجع دخلها القومي بنسبة 17 إلى 34% أما جزء المالديف التي تقع 80% منها على ارتفاع دون المتر من سطح البحر فمن المرجح اختفاء هذه الدولة من الوجود إن لم يستعد العالم رُشده ويسعى بجدية والتزام كامل إلى تخفيض انبعاث غازات الاحتباس الحراري. تشير تقارير اللجنة الحكومية أن الاجتياح المائي سيطال كثير من مصبات ودلتاوات الانهر الكبرى مثل النيل، الزمبيزي والميكونج .
   نضيف أيضاً أن من بين المدن الكبرى التي ستتأثر بارتفاع منسوب مياه البحار نذكر . نيويورك ، لندن، طوكيو، دكا، شنغهاي ، مومباي، وريودي جانيرو. أشارت الدراسات أيضاً إلى أن ارتفاع منسوب مياه البحار بمتر واحد كاف لإغراق بعض المنشآت البنيوية الهامة بميناء مصوع الاريتري.

تغير المناخ وبنوك المياه Water Banks

  تغطي قمم الجبال الشاهقة كميات هائلة من الجليد المتراكم منذ حقب تاريخية بعيدة، بعضه متراكم بسمك يصل إلى عشرات الأمتار وآخر بمئات الأمتار في الأنهر الجليدية Glaciers والبحيرات المتجمدة والتي يرجع معظمها إلى العصر الجليدي! إضافة لذلك تغطي قمم ومنحدرات ذات الجبال طبقة من الثلوج الموسمية وهي حصيلة تساقط الثلوج الذي يحدث كل شتاء.
  تقوم هذه الثلوج بحفظ مياه الأمطار وهي في حالة تجمد كثلوج وتبدأ في “صرفها” مع بداية فصل الربيع ويكتمل صرف ما هو مختزن – بمعنى إذابة ما هو متجمد – بحلول الصيف. بقيامها بهذا الدور تصبح قمم ومنحدرات الجبال أشبه ببنوك المياه التي تحتفظ بها مجمدة عند وفرتها ثم تقوم “بصرفها” عند الحاجة.
الآن وتغير المناخ قد أصبح واقعاً . وحقيقة يتفق حولها الجميع فإن الدورة المائية للثلوج والجليد تشهد تغيرات جذرية.
  لتوضيح ما نرمي إليه نستشهد بما حدث ويحدث لأكبر كتلة جليدية خارج القطبين وهي الكتلة الموجودة على جبال الهملايا التي تقع في شمال شبه الجزيرة الهندية. في تلك الجبال توجد أعلى قمة في العالم وهي قمة جبل افرست الذي يقع عند الحدود بين نيبال والصين ويصل ارتفاع قمته إلى 29028 قدم فوق سطح البحر. أصل مفردة “هملايا” من اللغة السانسكريتية .. القديمة SANSKRIT والمفردة تعني “بيت الجليد” أو “أرض الثلوج” وهي اسم على مسمى.. كانت الدورة المائية قبل تغير المناخ تبدأ بذوبان ثلوج الشتاء تدرجاً لتتجمع عبر آلاف الروافد التي تمثل المنابع العليا للأنهر التي تنحدر من جبال الهملايا في كل الاتجاهات . من بين تلك الأنهر توجد سبعة أنهر يعيش على أوديتها 2,4 بليون نسمة. تشمل مجموعة السبعة أنهر: السند، القانج، البراهمابوترا، الميكونق، الهوانق هو، اليانغ تسي ونهر سالدين. بذلك التدرج في الذوبان ازدهرت الحياة في وديان تلك الأنهر فأصبحت محاضن لأعرق الحضارات.
  اختل نظام جريان تلك الأنهر بسبب ارتفاع درجات الحرارة إذ تسبب في الذوبان المبكر لثلوج الشتاء وإلى ما هو أخطر وهو ذوبان الجليد المتراكم منذ فجر التاريخ!
    يسبب الذوبان الكثيف والمبكر بدأت “بنوك” الماء في “صرف” ما لديها من مخزون مبكراً وفي غير المواقيت المعتادة والتي تتوافق مع الدورات الزراعية في أحواض ودلتاوات الأنهر المذكورة. عند ارتفاع درجات الحرارة صيفاً تــذوب حقول الثلج The snow fields ويرتفع خط تراكم الثلج the snow line على منحدرات الجبال. بهذا التحول في الدورة المائية تفيض الأنهر مبكرة لتغمر القرى والأراضي الزراعية ولعل ما حدث في الباكستان من كوارث في عام 2014 وقبل ثلاثة أعوام يجسد عواقب هذا التحول. أن النتيجة الطبيعية لهذا التحول هي ظهور شح في مياه تلك الأنهر في ذروة الصيف عندما يشتد الطلب عليها. هنا تتضح إحدى تداعيات الإحترار وأرتباك المناخ فذات النهر يفيض بالقدر الذي يسبب كوارث للملايين ثم يتراجع إيراده بالقدر الذي يتسبب في مجاعات.
  يرى علماء المناخ باللجنة الحكومية أن استمرار ارتفاع درجات الحرارة قد يعني تراجع ايراد نهر السند في فصل الصيف بنسبة 70% بحلول عام 2080 تكمن خطورة تلك التوقعات في أن عشرات الملايين من الهنود والباكستانيين يعيشون على عطاء هذا النهر. يرى الخبراء أيضاً أن نهر الغانج سيفقد ثلثي إيراده السنوي المعتاد في الفترة ما بين يوليو وسبتمبر من كل عام علماً بأن ثلث أراضي الهند المروية تقع على وادي هذا النهر وأن خمسمائة مليون نسمة يعيشون في هذا الوادي.
أما الأنهر التي تنحدر شمالاً من جبال كريقستان وطاجكستان – التي تقع في الشمال الغربي من هضبة التبت – فهي الأخرى معرضة لتراجع حاد في ايرادها السنوي . تتغذى تلك الأنهر عادة من ذوبان حقول الثلج والأنهر الجليدية التي تغطي قمم تلك الجبال. من تلك الأنهر. – كنهري آموداريا Amu Darya وسيرداريا Syr Daria وغيرهما تروي الأراضي الزراعية في السهول الجافة في كازخستان، تركمستان، كيغستان وازبكستان. أن تراجع أيراد الأنهر يهدد الإنتاج الزراعي والتوليد الكهرومائي في تلك الدول.
  من جهة أخرى تشير تقارير اللجنة الحكومية لتغير المناخ إلى أن الأنهر الجليدية The glaciers في أعالي الهملايا تغطي مساحة تقدر بـ2400 كيلومتر مربع وبذلك تشكل أحد أضخم بنوك المياه على سطح الأرض وأحد أهم مستودعات احتياطي المياه العذبة في العالم . بسبب ارتفاع درجات الحرارة ظلت الأنهر الجليدية تذوب بمعدل – أو بسمك- 10 – 15 متر سنويا . تتوقع الدراسات أن استمرار الذوبان بهذا المعدل سيعني في نهاية الأمر ذوبان ثلثا الغطاء الجليدي المتراكم على قمم الجبال وفي أحواض الأنهر الجليدية بحلول عام 2060 وذلك قبل اختفاءها بنهاية القرن الواحد وعشرين!
نعود إلى الصين مرة أخرى لنذكر أن الدراسات تشير إلى أن استمرار انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بالمستوى الحالي من شأنه أن يرفع درجات الحرارة بغرب الصين بمقدار 1-2,5 درجة مئوية بحلول عام 2050 . بقى أن نعلم أن بغرب الصين تتمدد هضبة التبت التي تغطي مساحة تعادل مساحة كل دول غرب أروبا مجتمعة وأن بهذه الهضبة يوجد أكثر من 4500 نهر جليدي. لقد اتضحت ملامح الأزمة المناخية التي ستواجهها الصين عندما تأكد لعلماء المناخ بمساعدة الصور التي وفرتها الأقمار الصناعية أن تلك الأنهر الجليدية تتراجع بمعدل 131,4 كيلومتر في السنة. لهذا فمن المتوقع أن تختفي جميعها بنهاية القرن الحالي. عند ذوبان هذه الأنهر سيزداد معدل الفيضانات العالية وفي مرحلة لاحقة ستفقد الصين هذا المصدر المائي المهم. لذات الأسباب تتوقع الدراسات أن يختل النظام الأيكولوجي مما قد يعني القضاء على التنوع الإحيائي في وديان تلك الأنهر ومصباتها ودلتاواتها.
  يتكرر ذات المشهد في بعض دول أمريكا الجنوبية التي تتغذي أنهرها من حقول الثلج ومن الأنهر الجليدية. بجبال الأنديز . أوضحت المسوحات الجوية والدراسات التي أعدها الجيولوجيون أن هناك 2500 كيلو متر من الأنهر الجليدية في جبال الأنديز. تتوزع هذه الأنهر بين جمهوريات بيرو (70%) وبوليفيا (20%) وتتوزع العشرة في المائة المتبقية بين كولمبيا والأكوادور. لقد أكدت الدراسات أيضاً أن مساحات الأنهر الجليدية قد انحسرت بنسبة (20%) في جمهورية بيرو وبنسبة (30%) في بوليفيا. بهذا الذوبان المتسارع يتوقع الخبراء أن تختفي معظم الأنهر الجليدية والثلوج بجبال الأندير بحلول عام 2018 وهو ليس ببعيد! لعل هذا هو السبب الذي استوجب اختيار العاصمة البيروفية ليما لعقد الاجتماع الدوري للجنة الحكومية الدولية (IPCC) في نهاية 2014.
  قبل أن نختم حديثنا عن بنوك المياه نشير إلى ما رصده علماء المناخ من أن الكتل الجيلدية الصلدة والملساء كانت في السابق تقوم بعكس أشعة الشمس بما تحمله من حرارة إلى طبقات الجو العليا مما يقلل معدلات الذوبان إلى الحد الأدنى.
الآن بعد أن أصبح الإحترار الكوني واقعاً فإن هشاشة وخشونة الكتل الجليدية وما ظهر عليها من تصدع وإنهيارات وشقوق وأخاديد عميقة، فإن أشعة الشمس قد أصبحت أعمق نفاذاً وأكثر تأثيراً. خلص العلماء إلى أن وتيرة الذوبان ستزداد وتتسارع بإيقاع تراكمي.
تغير المناخ وصحة الإنسان:
  منذ إنشائها في عام 1988 ظلت اللجنة الحكومية الدولية حول تغير المناخ (IPCC) تعد التقارير وتصدر الدراسات وتطلق التحذيرات حول الآثار المترتبة عن ارتفاع درجات حرارة الأرض على حياة الإنسان في كل جوانبها وبصفة خاصة الجانب الصحي.
  كان من بين المبادرين في الكتابة حول أثر تغير المناخ على صحة الإنسان الدكتور جورج ســاندرسون وذلك عبر ورقته التي نشرت تحــت عنوان : Climate Change and Human Health نشرت الورقة بمجلة “كوكبنا” التي تصدر بالإنجليزية تحت عنوان “Our Planet وذلك في عددها الثالث ، المجلد الثالث (1991). رغماً عن مضي ربع قرن على نشر الورقة فقد استطاع كاتبها أن ينفذ إلى معظم القضايا الصحية التي يدور حولها الحديث في مؤتمرات وتقارير اللجنة الحكومية الدولية (IPCC). أكدت الورقة على أن العالم أجمع مقبل على حقبة الاحتــرار الشامل (global warming) وان الإنسان قادر بصفة عامة على التأقلم على التغير المعتدل في درجات الحرارة بل حتى على درجات الحرارة العالية إذا ما حدثت متباعدة.
أوضحت الورقة أن الاحترار الشامل يعني ضمناً ارتفاع درجات الحرارة في الأقاليم الاستوائية والمدارية إلى مستويات عالية كما يعني أيضاً أن حدود الأقاليم المدارية الحارة ستتمدد شمالاً وجنوباً إلى أطراف الأقاليم المعتدلة مما يعني تحولها إلى أقاليم شبه مدارية.
   ترى الورقة أيضاً أن المناطق الحارة ستتمدد رأسياً إلى بعض الأقاليم الجبلية التي ظلت تنعم بطقس معتدل بسبب الارتفاع.
   تضيف الورقة أن ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة سيزيد من احتمالات الإصابة بأمراض مثلا الملاريا، التهاب الكبد الوبائي (ب)، السحائي cerebral meningitis مرض الالتهاب النخاع السنجابي poliomyelitis الكوليرا، مرض الدوسنتاريا العُصوية “الزُحار” Bacillary dysentery وذلك بالإضافة إلى الديدان الضاّرية Hookwarms . ترى الورقة أيضاً أن ارتفاع درجات الحرارة في المناطق الرطبة التي بها مستنقعات سيزيد من انتشار الأمراض التي تحملها القواقع مثل البلهارسيا ومرض الشيستوسومياسيس أو داء المستنقعات schistosomiasis من جهة أخرى تشير الدراسات التي أعدتها اللجنة الحكومية الدولية لتغير المناخ (IPCC) تشير إلى أنه نتيجة للتمدد الأفقي والرأسي للأقاليم الحارة فإن عدد الذين سيكونون عرضه لمخاطر تغير المناخ Populations at risk سيرتفع من 1,5 إلى 3,5 مليار نسمة بحلول عام 2080 وذلك إذا لم يتحقق تدخل دولي حقيقي للحد من انبعاث الغازات.
   تشير ذات المصادر- كما أوردها تقرير التنمية البشرية للعامين 8/2007 – تشير إلى أن عدد الإصابات بالملاريا سيرتفع من 220 مليون إلى 400 مليون مصاب/ السنة علماً بأن عدد الوفيات يصل حالياً إلى مليون حالة وفاة سنوياً وأن 90% من تلك الوفيات تحدث في أفريقيا كما أن عدد حالات الوفاة لمن هم دون سن الخامسة يبلغ ثمانمائة ألف حالة!
  من زاوية أخرى تشير مصادر اللجنة الحكومية الدولية إلى احتمال ظهور أمراض لم يعهدها الناس كما حدث في عام 2007 حينما ظهرت حمى الوادي المتصدع rift valley fever التي تنتقل من الحيوان إلى الإنسان. هذا بالطبع بالإضافة إلى الانتشار المفاجئ لبعض الأوبئة الخطيرة إذا ما هطلت أمطار غزيرة وصعب تصريفها. إن أكثر الأمراض والأوبئة المحتملة هي الكوليرا كما حدث في أثيوبيا إبان فيضان عام 2006، هي أيضاً حمى الدانق dengue fever وهي من الحميات عالية التأثر بالمناخ وتجد البيئة المناسبة لانتشارها في أحياء السكن العشوائي المزدحمة في أطراف المدن.
لقد استطاعت اللجنة الحكومية الدولية للمناخ أن ترصد السمات العامة لظاهرة الاحترار وكان من بين تلك السمات الآتي:
• أن درجات الحرارة ترتفع كل عشر سنوات بمعدل 0,2 إلى 0,3 درجة مما يعني ارتفاع درجة حرارة الأرض بدرجة مئوية واحدة كل ثلاثين إلى خمسين عاماً.
• أن خط التحارر – أي خط تساوي درجات الحرارة وهو الـ Isotherm- يتقدم شمالاً وجنوباً من مداري السرطان والجدي بمعدل 56 كيلومتر كل عشر سنوات أو 5,6 كيلومتر كل سنة.
أن ابتعاد خط التحارر شمالاً وجنوباً من مداري السرطان أو الجدي يعني ارتفاع متوسط درجات الحرارة في أقليم البحر المتوسط ثم الأقاليم المعتدلة والباردة التي تليها.
الخرطوم.. الحر قبل الاحترار Heat before heating
  في تاريخ سابق لقيام اللجنة الحكومية الدولية حول تغير المناخ التي نشأت في حضن الأمم المتحدة كانت تجري في الخرطوم الاتصالات وتعد العدة لانعقاد ندوة عالمية حول موضوع وثيق الصلة بالمناخ والحرارة وهو موضوع العمل في الجو الحار.
بعيداً عن أجواء الأمم المتحدة المترفة كان التخطيط والدعوات والإعداد للندوة العالمية يتم في مكتب متواضع بوزارة الصحة وبإمكانات الحد الأدنى!ّ رغماً عن ذلك تحول ذلك المكتب إلى خليّة نشطة وغرفة عمليات يتحرك فريقها داخل الخرطوم بما تيسر من وسائل النقل ويتواصل مع العالم الخارجي بما كان متاحاً في ذلك الزمن من وسائل الاتصال .. البرقيات والتلكس! كان فريق العمل يعد لتلك الندوة بإرادة لا تحدها حدود مستلهماً تلك الطاقة المعنوية من الشخص الذي بادر بطرح فكرة عقد الندوة وهو البروفسير مهندس عبدالمنعم عطية وذلك من موقعه آنذاك كمدير لإدارة الصحة المهنية بوزارة الصحة. كان القاسم المشترك بين هموم اللجنة الحكومية الدولية (IPCC) وهموم وزارة الصحة السودانية . وأن تباينت الأهداف – هو حرارة الجو فالاحترار من الحرارة! إن كان هاجس الأمم المتحدة هو التحوط واحتواء الآثار الكارثية لاحترار الأرض، فقد كان هاجس البروفسير عبدالمنعم عطية هو التوصل إلى صيغة عملية لدرء الآثار السالبة لحرارة طقس السودان على العمل والإنتاجية.
  تم تنظيم الندوة في الفترة ما بين 29 و 31 من شهر يناير من عام 1988. نجحت السكرتارية المنظمة للندوة في أن تحشد لها عدة مراكز بحث علمي فكان من بينها إتحاد جمعيات البحث العلمي العربية، مكتب الشرق الأوسط لمنظمة الصحة العالمية، المجلس القومي للبحوث وجامعة الخرطوم عبر كليات الطب والصيدلة والبيطرة.
شارك في الندوة مائة وعشرون عالماً كان معظمهم من السودانيين كما شارك أطباء من سبع دول عربية وهي: المملكة العربية السعودية، البحرين، الكويت، الأردن، سوريا، مصر والعراق . أما كليات الطلب ومراكز البحث العلمي الأجنبية التي شاركت فقد كانت في بولندا ، المملكة المتحدة، هولندا، الصين، روسيا، السويد أوكرانيا، سويسرا، الولايات المتحدة وألمانيا .
  خصصت الندوة جلسات لضربة الشمس وأخرى لصحة الطفل في الجو الحار ولكن معظم الجلسات والمداولات كانت حول موضوع الندوة وهو العمل والإنتاجية في الجو الحار. من جهة أخرى فقد كان قراراً حصيفاً وموفقاً من منظمي الندوة أن يوسعوا من مساحتها لتشمل المعنيين بالنصف الآخر من مملكة الحيوان. لذلك كان هناك حضوراً بارزاً ومميزاً لنخبة من أساتذة كلية البيطرة والباحثين في علم الحيوان. اتسعت الندوة أيضاً لتضم المهندسين الذين يصيغون لنا حياتنا عبر تخطيط المدن وعبر تصميم المباني واختيار مواد البناء بما يتلاءم مع بيئتنا الحارة. تناولت الندوة قضايا العمل في الجو الحار من عدة زوايا لعل أهمها:
   أثر الجو الحار على الأداء البدني والعقلي ومجمل الإنتاجية، دور العرق sweating في حفظ حرارة الجسم وكنظام تكييف طبيعي يعمل تلقائياً متما ارتفعت درجات الحرارة المحيطة بالجسم، دور الملابس في التقليل من أثر الحرارة وفي المحافظة على حرارة الجسم، مقارنة بين تحمل الرجال والنساء للإجهاد الحراري، الإجهاد الحراري عند مختلف الأعمار لدى الجنسين عند أداء فريضة الحج صيفاً، الأمراض الناتجة عن العمل في الجو الحار، الأضرار الصحية الجانبية لبعض الأدوية عند استعمالها في الجو الحار، المخاطر التي تواجه مرضي السكري وضغط الدم في الجو الحار الإرصاد الجوي الحيوي Biometeorology كتخصص علمي يُعنى بعلاقة الإنسان بالبيئة المحيطة به ممثلة في المناخ والطقس، نتائج لبعض التجارب العملية التي تمت تحت إشراف طبي وشارك فيها متطوعون من الشباب الأصحاء لمعرفة مدى تأثير عمل الإنسان في درجات الحرارة والرطوبة العاليتين، تجارب عملية أخرى لمعرفة الحدود القصوى لتحمل الحرارة Upper Tolerance Limits ، نتائج تجارب عملية في تقديم المشروبات الصحية Health Drinks لتخفيض آثار درجات الحرارة العالية على عمال الصناعات الثقيلة كصناعة صهر المعادن في الصين.
بعد الإطلاع على ملخصات synopsis الواحد وعشرين ورقة التي قدمها العلماء والخبراء من السودان والدول المشاركة وجدنا في ورقة البروفسير مهندس عبدالمنعم عطية ما يختزل معظم ما جاء بالأوراق وما يوضح ما كانت الندوة تهدف إلى تبيانه وتسليط الأضواء عليه.
  كان العنوان الذي قدم به البروفسير عبدالمنعم عطية ورقته هو: أثر الإجهاد الحراري على كفاءة العمل وهو بالإنجليزية: Influence of Thermal Discomfort on Work Efficiency بعد أن ذكر البروفسير أن التوازن الحراري لجسم الإنسان يبدأ عادة عند 37 درجة مئوية ثم يزداد قليلاً وفقاً لساعات اليوم استرسل موضحاً:
Thermal strain above a nominal level which is necessary to keep the system working. is eventually associated with reduced dexterity and efficiency of both mental and physical work. The probability of accidents and errors during work increases in direct proportionality to the severity, duration and frequency of thermal strain. Excessive thermal loads may lead to disorders”
أي بما يعني:
“إن تجاوز الإجهاد الحراري للمستوى الضروري لنشاط الجسم يؤدي في نهاية الأمر إلى تراجع المهارة والكفاءة في أداء العمل على المستويين الذهني والبدني. إضافة لذلك تزداد احتمالات الحوادث والأخطاء طرداً مع شدة ومدة وتكرار الإجهاد الحراري كما أن المبالغة في الأحمال الحراري في الجسم قد تقود إلى الإصابة بالأمراض”.
يصعب علينا في هذا الحيز المحدود استعراض ما جاء بكل الأوراق سواء أكانت في الطب البشري أو الحيواني إلا إننا نرى أنه من حق علمائنا الذين أثروا تلك الندوة التاريخية قبل أكثر من ربع القرن أن نعبّر لهم باعتزازنا بهم وبإسهاماتهم بذكر أسماءهم والمواضيع التي تناولتها أوراقهم . نهدف أيضاً إلى إنعاش الذاكرة العلمية وإلى تحفيز الأجيال الصاعدة من الأطباء والبياطرة والطلاب في كلا التخصصين ليحذوا حذوهم والسير على ذات الدرب.
أدناه نورد أسماء الأطباء المشاركين والمواضيع التي تناولتها أوراقهم:
1- M. Khogali and M.K.Y. Mustafa, ‘Heat – stroke: Critical Review”
2- Muustafa Abdalla M. Salih. “Childhood Thermoregulatory Dysfunctions in Tropical Climate; the Sudan Experience”.
3- B. Ayoub, A. H. Shemena. “Neurogical Manifestation of Heat stroke at the Makka pilgrimage”.
4- Zein M. Mirghani. “Effects of Temperature on Some Physiological Processes Occurring in and Across the Cell Membrane”.
5- Attia , M. “Influence of Thermal discomfort on Work Efficiency”
6- Abu Aisha, b. Yagub and Ali Saad. “Sweat Gland Fatigue is Not A feature in the Pathogenesis of Environmental Heat Stroke”.
   أما الأخوة الأطباء البياطرة الباحثين في علم الحيوان فقد تناولوا في أوراقهم تأثير الجو الحار والإجهاد الحراري على صحة ونمو وإنتاجية الحيوان.
قُدمت في الندوة ست أوراق تفصح عناوينها عن مضامينها والعناوين هي: أثر الجو الحار على البيض الملقّح ، أثر الحرارة على أجنة الماعز، تأثر الإجهاد الحراري على إنتاجية الحيوان، أثر إزالة الصوف في صحة الضأن الصحراوي، أثر المناخ والغذاء على العجول السودانية، أثر درجة حرارة المياه وعناصر علف الدواجن في إنتاج الدجاج البيّاض في حالة الإجهاد الحراري. لذات الأسباب التي سبق ذكرها ولتعميم الفائدة خاصة بين طلاب كليات البيطرة والإنتاج الحيواني وأصحاب مزارع الدواجن نورد أدناه أسماء الأطباء البياطرة الذين أثروا الساحة العلمية بإسهاماتهم كما نورد العناوين التي حملتها أوراقهم:
1- John Girgis Gouda and Faroug I. Mohed. “The Effect of Hot Climate on The Development of Chick Embryos”.
2- A.M. Humeida , Amna. E. Khalafalla, B.H. Ali and T. Hassan. “Effects of Temperature and Season on Corpus Lateum of the Goat- Caprine”.
3- M.E. Mohamed and N. Musharaf. ‘Effect of Heat Stress on Animal Productivity”.
4- Mona Mahgoub and A. M. Abdalatif. “Effects of Shearing and Exercise on Temperature Regulation, Nitrogen Balance and Blood Composition on Desert Sheep”.
5- Muna M. M. Ahmed, H, M. Elmahadi and Y.M . Hassan “The Effects of Hot Climate and Diet on Sudanese Calves” .
6- N. A. Musharaf and W. M. Janssen. “Effect of Water Temperature and Food Composition on Performance of Laying Hen During Heat Stress”.
   لعل أكثر الأوراق تشخيصاً وشمولاً في تناول أثر الإجهاد الحراري على إنتاجية الحيوان هي الورقة التي اشترك في تقديمها الدكتور نور الدين أحمد مشرف والدكتور م. محمد . ورد في هذه الورقة الآتي:
“,,, the metabolic rate was cut down to minimum to counteract the increased heat load imposed on the animal by heat stress. Concomitant with these physiological changes milk production, growth rate and conception rates were severely affected. Performance of birds is also influenced by heat stress. In young chicken both feed consumption and growth rate were reduced. During the laying period feed intake, egg production, egg weight and shell quality were adversely affected, similarly , the reproductive ability of male and female declined in hot environment, in contrast water consumption increased”.
   إن خلاصة ما يرمي إليه هذا الاقتباس هو: أن الإجهاد الحراري يؤثر سلباً على إنتاج الماشية والدواجن من اللحوم والألبان والبيض كما يضعف خصوبتها في التكاثر. يُعزى مقدماً الورقة تراجع الإنتاجية لإقبال الحيوان في حالة الإجهاد الحــراري للإكثار من شرب الماء خصماً على تناوله للأعلاف التي بها يكتسب الوزن وفيها يجد الخصوبة والقدرة على التناسل والتكاثر”
   لم نتحصل على ملخصات للأوراق التي قدمها المهندسون الذين شاركوا في الندوة ولكننا وجدنا في الصحف التي صدرت بُعيد الندوة إشارات لما قدماه المهندسان هاشم محمد أحمد نقيب المهندسين آنذاك – والمرحوم صلاح مازري رائد التخطيط العمراني في السودان.
  نشر المهندس هاشم محمد أحمد مقالاً صحفياً – أو بالأحرى ورقة – تحت عنوان : “أثر العمل في الجو الحار على الإنتاج والإنتاجية”. تضمن المقال عدة مواضيع وكان من أهمها:
  العمل في المصانع والورش ، الملابس الواقية والمناسبة للجو الحار، متطلبات مباني الورش والمصانع، العمل بنظام الورديات، العمل في الحقل، العمل في المكاتب، مواد البناء المناسبة.
   تطرقت ورقة المهندس هاشم إلى المباني الشعبية التي تقلل من أثر حرارة الجو وأورد بعضها.. المباني المشيدة من الطين والقش وتلك المشيدة بالطين المسلح التي شاعت في نيجيريا وبعض الدول الإفريقية. أشار المهندس هاشم أيضاً إلى المباني المشيدة بالطوب الأخضر والطوب الجيري والطوب الأحمر باستخدام المونة الجيرية والمونة الاسمنتية . تطرق المقال أيضاً إلى السقوفات وأشار إلى السقف القبابي بدون أبيام، السقف بألواح الطين المحروق المعروفة بالمارسيليا ، السقف بالخافجي، السطوح الخرسانية القبابية والمسطحة وسقوف الزنك مع استخدام العوازل والتلقيم.
   قبل الحديث عما قدمه المرحوم المهندس صلاح مازري لعله من المناسب أن نقدم لمحة عن سيرته . لقد كان المهندس مازري أول سوداني يشغل منصب المخطط العمراني بوزارة الحكومة المحلية (1959) كان المبادر باقتراح قيام وزارة للإسكان وعندما قامت كان أول وكيل لها، كان ذلك في عام 1969 . بعد تقاعده عمل كمستشار في التخطيط العمراني كما عمل كمحاضر متعاون مع بعض الجامعات السودانية.
   ساهم المهندس مازري بخبرته في الخطط الاسكانية وفي المخططات العمرانية التي اتسعت بها العاصمة كما كان المبادر بفكرة إعادة تخطيط الأحياء القديمة بمدينة أمدرمان وهي أحياء بيت المال، ابو روف والركابية. تعرفنا على بعض أفكار المهندس مازري من اللقاء الصحفي الذي أجراه معه الصحفي المخضرم الأستاذ محمد الطيب عبدالمكرم – متعه الله بالصحة والعافية – وقامت بنشره صحيفة الأيام في عددها بتاريخ 23 نوفمبر 1987 أي قبل شهرين من انعقاد الندوة. كان من رأي المهندس مازري أنه بمثل ما يختلف تخطيط المستوطنات البشرية في بيئتنا الحارة عن نظيره في البيئات الباردة ينبغي أن يتلاءم التخطيط العمراني في السودان وفقا”ًلطبيعة ومناخ أقاليمه المتعددة.
   تحدث أيضاً عن تأقلم الإنسان السودان على المناخ والطقس المحيط به واستدل على ذلك بتصميم الغرف بشمال السودان ومواقع نوافذها وبالمواد المستخدمة في أسقفها. تناول أيضاً القطية ومدى ملاءمتها للأقاليم غزيرة الأمطار وذوات التربة المتحركة . لاحظ أيضاً أنه في كلتا الحالتين يعيش الإنسان السوداني أكثر حياته خارج المبنى Outdoors life . انتقد المهندس صلاح مازري إعادة استنساخ التخطيط العمراني الشائع بالعاصمة في الأقاليم حيث يختلف نمط الحياة كما تختلف حاجات الإنسان اليومية. لهذا السبب يرى أن تكون القطع السكنية بالأقاليم – خاصة في القرى المخططة – أكثر اتساعاً “فالحوش” الذي قد يبدأ بغرفة واحدة أو غرفتين سيتواصل إعماره بمرور السنين لإسكان الأبناء عند زواجهم إلى حين انتقالهم إلى مساكنهم الخاصة. يرى أيضاً أن تتسع المساحات لتشجيع الاقتصاد المنزلي من خلال تربية الماشية والدواجن وهي أنشطة لا تكون مرغوبة في المدن. يرى أيضاً أن يهتم المعماري بتطوير القطية – لا إلغائها – فمن رأيه أنها قادرة على الاستجابة لمتطلبات العصر إذا ما وجدت من يثمن قيمتها ويطورها .
   في الجلسة الختامية للندوة تقدم البروفسير محمد عثمان خضر – بوصفه الأمين العام لاتحاد مجالس البحث العلمي العربية حينذاك – تقدم باقتراح بإنشاء المركز العالمي لأبحاث الإجهاد الحراري “The International Heat-Stress Research Center (I.H.S.R.C) اقترح أيضاً بأن تكون الخرطوم مقراً لهذا المركز وذلك باعتبارها العاصمة الأعلى حرارة وافق المشاركون بالإجماع على هذا الإقتراح وتم بالفعل إختيار مجلس أمناء للمركز بحيث يتكون من ثلاثة وعشرين عضواً. في أول جلسة لأمناء المركز اختير البروفسير سعد أحمد بشير العبادي رئيساً للمجلس والبروفسير عبدالمنعم عطية سكرتيراً لمجلس الأمناء .
   حظيت الندوة بتغطية إعلامية واسعة وقد كان للصحافة الدور الأكبر . استطعنا أن نحصر من الصحف التي غطت الندوة صحف: السياسة، الدستور، الشرق الأوسط، الأنباء أما صحيفة الأيام – وكما عودتنا الاهتمام بأمهات القضايا فقد كان لها قصب السبق في التغطية الصحفية . لم تكتف صحيفة الأيام بمتابعة الندوة منذ أن كانت مشروعاً في عام 1987 من خلال التقارير والمقابلات التي كانت تنشرها من وقت إلى آخر بل نشرت مقالات مطولة لنخبة من علمائنا الأجلاء فكان منهم: الدكتور هاشم محمد الهادي- البروفسير ومدير جامعة الخرطوم لاحقاً – جون جرجس، د. عبدالله عبداللطيف، المهندس هامش محمد أحمد ، د. عبدالله علي إبراهيم والبروفسير عبدالمنعم عطية.
   أما المجلة الطبية السودانية Sudan Medical Journal فقد وثقّت للندوة بإصدار ملحق خاص بها نُشر مع مجلدها رقم (22) الذي صدر متزامناً مع انعقاد الندوة في يناير 1988. في ذلك العدد نشرت المجلة ملخصات لواحد وعشرين ورقة فكانت عوناً لنا في إعداد هذه الدراسة.
   في خاتمة هذا الجزء من الدراسة لدينا كلمة لابد وأن تقال في حق البروفسير عبدالمنعم عطية. لقد أتضح لنا من التغطية الصحفية للندوة التي توفرت لنا ومن بعض الذين كانوا شهوداً للحدث أنه كان المبادر بالفكرة كما كان الدينمو المحرك في سنة الإعداد وعند انعقاد الندوة . شارك أيضاً بورقة علمية رصينة قال فيها ما لا نجرؤ على البوح به وهو أن حرارة الطقس في السودان تمثل أحد أسباب التخلف وكوابح التنمية، كما لم يبخل بالمقالات والمقابلات الصحفية. لقد حققت الندوة للسودان مكاسب علمية وأدبية مؤكدة إذ كانت الأولى من نوعها في أفريقيا وأن غاب عنها العلماء الأفارقة كما كانت الثالثة على الصعيد العالمي. كان من المفترض أن يُتوج هذا الجهد الكبير بقيام المركز العالمي لأبحاث الإجهاد الحراري (I.H.S.R.C) كوليد شرعي للندوة ولكنه طموح لم يتحقق! مازلنا نأمل أن ينفض عنه الغبار على يد السيد وزير الصحة الحالي سيما وحقائق الاحتباس الحراري وتغير المناخ قد أصبحت أهم قضايا العصر كما تكاثرت مصادر التمويل السخي والدعم الفني غير المحدود .
   إن إشادتنا بما أنجزه البروفسير عبدالمنعم عطية نابعة من معرفتنا بالأحوال التي كانت سائدة في السودان في عام 1987. كان ذلك عقب كارثة الجفاف التي ضربت غرب السودان وما أفرزته من مآسي إنسانية وانتكاسة اقتصادية – تلك سنة كان الوضع الأمني في جنوب السودان أقرب إلى الانهيار وكانت الأزمة الاقتصادية المستحكمه قد أفرزت ندرة في السلع الأساسية كالوقود والخبز. لهذا كان الإعداد لتلك الندوة وتنظيمها ضربٌ من الإعجاز وتحدي لا تقف أمامه إلا العناصر الصلدة.
   إننا نشعر بالاعتزاز بابن الشرق البروفسير عبدالمنعم عطية ونبعث له بأعطر وأندى التحايا وهو يعيش خريف عمره شأنه شأن جيلنا ممن تخطوا السبعين وندعو له بطول العمر ليرى غرسه في محيط أسرته الصغيرة وفي السودان قد أينع وأثمر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا