التسميات

الخميس، 17 أغسطس 2017

أثر المتغيرات التاريخية والجغرافية في نشأة وتوزيع مراكز الاستيطان في إقليم بابل ...


أثر المتغيرات التاريخية والجغرافية 
في نشأة وتوزيع مراكز الاستيطان في إقليم بابل
د. جاسم شعلان الغزالي
كلية التربية الأساسية - جامعة بابل


 مجلة كلية التربية الأساسية - جامعة بابل - العدد 10 -  تموز 2013م - ص ص 396-413 :
مما لاشك فيه أن الحضارة وبناء المدن هي نبت العراق ومنه انتشرت إلى أنحاء العالم، ونجد من الناحية الزمانية أن الظاهرة الحضرية تضرب جذورها بعيدة في تاريخ الاستيطان البشري في هذا البلد، وترجع إلى ما قبل النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد، ومن ناحية المكان نلاحظ أن العراق يمتلك أوسع انتشار لهذه الظاهرة التي أغناها العرب في المراحل اللاحقة من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية.

وتزودنا المصادر التاريخية بأن إقليم بابل ملائما ومشجعا على نشأة ونمو المراكز الحضرية لقدرته على توفير مقومات نمو تلك المراكز وازدهارها، ومن ملاحظة السفر التاريخي للمدنية نجد إن الإطار المساحي لموقع الإقليم استثمر بمراكز حضرية عديدة ومهمة ابتداءً من الفترة الأكدية وحتى الوقت الحاضر، وتعددت مواضع تلك المراكز في هذا الموقع وأخذت الواحدة منها ترث الأخرى أو تكون بديلة لها، ولم ينقطع هذا التواصل الحضري على الرغم مما تعرض له الإقليم من ظروف طارئة سياسية وطبيعية إذ أن هذه الظروف التي كان الإقليم وعاءً لها لم تمنع من إن يستمر في احتكار الحضارة لفترة طويلة لاستمرارية احتفاظه بمزايا المكان الطبيعية والبشرية، وقد ورثت مدينة الحلة ذلك الثقل الحضاري والبشري الذي يمتلكه والذي انعكس على نموها وازدهارها وتنظيم خطتها وشكل مبانيها وتطور بناءها الوظيفي.
يهدف البحث إلى بيان دور العوامل التاريخية والجغرافية في نشأة مراكز الاستيطان في إقليم بابل في العهدين القديم والإسلامي ومراحل النمو والضعف التي أصابت تلك المستوطنات، فالمعروف تاريخيا إن الإقليم تعاقبت على حكمة وإدارته العديد من الإمبراطوريات والدول وانعكست المعطيات الموضوعية لها على واقع الاستيطان الذي هو جزء من الفعاليات الحضارية لتلك الشعوب، إذ كان الإقليم ساحة للنزاعات والمصالح المتضاربة للقوى الإقليمية وقتذاك، كما أن ظروف البيئة وما تفرزه من تغيرات على الواقع مثل تغير مجرى الأنهار والفيضانات أحدث تغييرا لا يتوقف في توزيع تلك المراكز.
أولا : المتغيرات التاريخية ونشوء مراكز الاستيطان
لقد بدأ تعمير واستيطان السهل الرسوبي قبل سبعة ألاف سنة، ولم يكن حينها يتكون من بيئة جغرافية واحدة وانما من عدة بيئات، واحدة منا تقع بين غرب دجلة وشرق الفرات، وتتكون هذه البيئة من بيئتين ثانويتين، الاولى تقع في جزئها الشمالي والثانية في جزئها الجنوبي، وتفصل بينهما بحيرات واسعة عرفت في العصر التاريخي باسم الاهوار البابلية(1)، وشهد هذا الجزء قيام العديد من المدن ودويلاتها عبر الادوار التاريخية حتى يمكن القول بأنه المنجم الذي أنتج كبريات المدن عبر تلك الأدوار، إذ أصبح مركزا وعاصمة لإدارة وحكم الإمبراطوريات الكبرى التي توالت على حكم هذه المنطقة من السهل الرسوبي والتي عرفت باسم ارض أكاد أو ارض بابل للفترة من 2100- 539 ق. م(2).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إبراهيم شريف، الموقع الجغرافي للعراق وأثره في تاريخه العام حتى الفتح الاسلامي، بغداد، بدون تاريخ، ص53.
(2) نفس المصدر، ص 49.

إن أقدم المستوطنات التاريخية المعروفة ظهرت في الالف الثالث قبل الميلاد في وادي الفرات وفي هذه المنطقة بالذات، وقد اتسمت نشأتها بنوع من انواع العمران، وهي ثورة حضارية كبرى لأنها اقترنت بظهور المدنية(1)، وكان ظهور هذه المدن على وادي الفرات وليس على وادي دجلة بسبب انخفاض مستوى الارض حول مجرى النهر مما يتيح ممارسة الزراعة المستديمة (الري السيحي)، فضلا عن وفرة المياه في فصل الصيف، وبطئ جريان النهر في هذا الوادي جعله أكثر استقرارا وثباتا واقل خطورة من دجلة في اثناء الفيضان(2)، وبذلك كان اكثر صلاحية للسكن والاستيطان. خارطة (1).
إن الزمن الذي ظهر فيه الاستيطان والمدينة في هذه المنطقة كان في العصر الذي سادت فيه ظروف المناخ الانتقالي الحالي، بين الفترة المطيرة وحلول الجفاف، حيث تعذر على السكان ممارسة الصيد، ولم تعد اسباب الحياة متيسرة(3) وهذا السبب هو الذي يفسر هجرة الاقوام والقبائل من شبة الجزيرة العربية والاستقرار على او حول وديان الانهار الدائمة الجريان في بلاد وادي الرافدين والهلال الخصيب.
لقد ضم اقليم بابل معظم المراكز الحضرية التي ظهرت في السهل الرسوبي العراقي ان لم يكن جميعها، وارتبطت تسمية العراق بإقليم بابل، فالعراق او بلاد ما بين النهرين Mesopotamia لم يعرف الا من خلال بابل وفي القران الكريم اشارة الى بابل الإقليم أو المدينة في قوله تعالى ((وما انزل على الملكين ببابل))(4)، وكان ملوك النبط وإبراهيم قد نزلوا بأرض بابل. والكلدانيون هم الذين نزلوها في الزمن الاول ويقال ان من سكنها نوحا وكان أول من عمرها(5)، وقبل أن يتخذ سرجون الأكدي من (أكد) عاصمة لإمبراطورتيه الكبيرة، فان مدينة كيش (تل الاحيمر) 2371 ق. م كانت العاصمة، وهي موضع ومنطقة شرق بابل على مساحة (10) كم وهي من المدن المهمة في بلاد بابل ومركز مهم من مراكز الإمبراطورية الأكدية، إذ حلت فيها الملوكية من السماء بعد انتهاء الطوفان(6).
وفي إقليم بابل أقام سرجون عاصمته الجديدة (أكد) على الضفة اليسرى لنهر الفرات وأصبحت فيما بعد مرفأ تقصده السفن من البحر السفلي (الخليج العربي) عبر الفرات باتجاه الجزيرة السورية(7) وعلى مسافة 50كم شمال شرق بابل توجد مدينة كوثى (تل إبراهيم) التي اتخذت قديما مركزا لعبادة الإله (نرجال)(8)، وتقع هذه المدينة على نهر كوثى الذي هو أول نهر اخرج بالعراق(9) وهي من ابرز مدن بابل الشمالية قبل نهوض بابل، وعلى الشاطئ الشرقي للفرات في مجراه القديم باتجاه كوثى بنيت مدينة سبار (تل أبو حبه) في أوائل الألف الثاني قبل الميلاد، وهي إحدى المدن الأربع التي كانت موجودة في العراق قبل الطوفان أي قبل الألف الثالث قبل الميلاد والمدن الثلاث الأخرى هي (كيش وشورباك واريدو) وهي من المدن المهمة في التاريخ البابلي وذات مقام مقام تجاري رفيع(10).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جوردن أيست، الجغرافية توجه التاريخ، تعريب جمال الدين الدنياصوري، مطابع دار الهلال، القاهرة، بدون تاريخ، ص79.
(2) احمد سوسه، وادي الفرات ومشروع سدة الهندية، مطبعة المعارف، بغداد، 1945، ص180.
(3)  جوردن اليست، الجغرافية توجه التاريخ، مصدر سابق، ص45.
(4) سورة البقرة، الآية 102.
(5)  ياقوت الحموي، معجم البلدان، الجزء الأول بيروت، ب. ت. ، ص309.
(6) طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، ج1،بغداد، 1973، 267.
(7) فاضل عبد الواحد علي، السومريون والاكديون، كتاب العراق في التاريخ، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1983، ص75.
(8)  طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، مصدر سابق ، ص427.
(9) ياقوت الحموي، معجم البلدان، مصدر سابق، الجزء الرابع، ص487.
(10) احمد سوسه وادي الفرات، مصدر سابق، ص 78
وفي العام 1894 ق. م اصبحت بابل عاصمة لسلالة بابل الاولى، واصبح لها شأن كبير في مجال الادارة والعمران على يد ملكها السادس حمورابي 1793 ق. م الذي شيد لها سورا ومد عمرانها الى الجانب الاخر من نهر اراهتو (شط بابل)، وبالإضافة الى بابل ، فان المدن البابلية الاخرى قد حظيت باهتمام حمورابي اذ قام ببناء الدور وتجديد العمارة وانشاء المدارس في كل من سبار وبورسيبا.
إن اختيار موضع بابل عاصمة لسلالة بابل الاولى يعود الى موقعها وسط بلاد الرافدين وتوسطها مناطق يتركز فيها السكان والعمران، الى جانب الميزة الدفاعية التي يوفرها نهر الفرات، وكان للنهضة التجارية التي شهدتها، وعنايته بنشر الأمن والعدل الدور الكبير في أن تكون بابل في عهد اشهر ملوكها نبوخذ نصر، وان موقعها على نهر الفرات جعل منها مدينة تجارية من الطراز الأول، إذ أنها حصلت والمدن الأخرى على أموال طائلة لمرور السفن والقوافل فيها، إذ استخدم النهر في نقل الأخشاب من الشام والقير من هيت بهدف بناء وتعمير المدينة وبناء معابدها ورصف شوارعها(1).
لقد أصبح رخاء مدينة بابل وإقليمها مضربا للأمثال ويرجع إلى البابليين الفضل في ضبط الفرات وصيانة أراضيه من أخطار الفيضان والقيام بإعمال التعمير والإنشاء وقال عنها هيرودتس ((في بابل كما هو الحال في مصر ترع وجداول تقطع أراضيها))(2).
ونظرا لما تتمتع به مدينة بابل من مقومات اقتصادية وعمرانية ودينية فانها كانت جذب واغراء وبصورة دائمة لمختلف الاقوام التي غزت بلاد الرافدين، اذ لقب ملوك الفرس الاخمينيون انفسهم (ملوك بابل والبلاد)بعد احتلالهم لها عام 539 ق.م. واتخذها السلوقيون عاصمة لهم قبل تأسيس سلوقية على نهر دجلة، وان قصة موت الاسكندر الكبير في بابل وحلمه في جعلها عاصمة الدنيا كانت تثير لدية الرغبة في احتلالها الذي تم له عام 331 ق. م(3).
لقد اصبحت بابل ومنذ عهد السلالة الأكدية مركزا للعراق لمدة خمسة عشر قرنا وعاصمة لعشر سلالات حاكمة(4)، واستوطنها البرثيون لاحقا وهم ملوك النبط وسموها ارض السواد لكثرة ما فيها من الزرع والنخيل بعد ان كانت تعرف سوريستان او سورا، واليها ينسب السريانيون وهم النبط ولغتهم السريانية(5)، ونزل هؤلاء في ارض السواد مما يلي قصر ابن هبيرة وسقي الفرات (بابل) والجامعين وسورا... واهتموا بالفلاحة(6).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صالح فليح حسن إلهيتي، طريق القير من هيت إلى بابل، مجلة الجمعية الجغرافية العراقية، العدد 23، 1989، ص18.
(2) أحمد سوسة، تطور الري في العراق، بغداد، 1946، ص32.
(3) مؤيد سعيد، الطرق في عهد الاحتلال الاخميني – السلوقي، العراق في التاريخ، مصدر سابق، ص251.
(4)  قحطان رشيد، الكشاف الأثري في العراق، بغداد، 1987، ص193.
(5) عبد المؤمن عبد الحق البغدادي، مراصد الإطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع، دار إحياء الكتب العربية، 1954، ص754.
(6)  المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج1، بيروت، 1965، ص257. 

ثانيا : تغير مجاري الانهار واثرة على اعادة توزيع مراكز الاستيطان.
ارتبط توزيع المدن الانفة الذكر بمتغير جغرافي مهم وهو الانهار، وان الحضارات التي قامت عليها كانت تسمى بالحضارات او المدن الإروائية التي يعتمد اقتصادها على الزراعة والتجارة وكلاهما يعتمدان الانهار، وسنلاحظ كيف تؤثر الانهار في اعادة توزيع مراكز الاستيطان بعد تغيير مجاريها في المنطقة، وانتقال تلك المراكز او المستقرات من موضع لآخر، إذ أن العمران والحياة تهاجر مع كل مجرى جديد لها، فالمعروف تاريخيا ان مجرى نهر الفرات الرئيسي قد غير مجراه القديم صوب سبار وكوثى وجمدة نصر ونفر شرقا الى مجرى جديد غربا محتلا مجرى نهر اراهتو (نهر بابل) الذي يأخذ من الضفة الغربية لنهر الفرات القديم ويمتد جنوبا حتى ينتهي عند مدينة كيش، ثم عند مدينة بابل متبعا مجرى شط الحلة الحالي، وان القسم الجنوبي من هذا النهر الذي يمر بكيش كان معروفا بشط النيل وهو النيل القديم، ويغلب الظن ان نهر الفرات كان قبل الطوفان يسلك هذا المجرى بحدود 3000 ق. م(1).
كان المجرى السابق للفرات يقترب كثيرا من نهر دجلة عند مدينة سبار جنوب نهر الملك خارطة (2)، حيث يمثل جدول اليوسفية الحالي ذلك المجرى ويستمر جنوبا حتى يصب في الخليج العربي (البحر السفلي)، وتقع على امتداد هذا المجرى وفروعة الذي يسمى تاريخيا كوثى عدة مدن منها سبار، كوثى، جمدة نصر، نيبور (نفر) ايسن، اوما، شروباك، الوركاء، اريدو ولكش، ولم تكن بابل في ذلك الطور 1865 ق. م سوى بلدة او قرية صغيرة لم تشتهر بعد يقنطها بعض الاعراب وبقايا الاكديين الذي كانت عاصمتهم اكد قريبة منها(2).
إن سبب تحول مجرى النهر غربا يرجع الى الترسبات الغرينية التي تراكمت في قعر النهر فادت الى تدفق مياه الفيضان في فرع بابل الذي اصبح المجرى الرئيسي للفرات، وفي الوقت الذي ادى هذا التغير الى تراجع مركز ودور المدن الواقعة على مجراه الشمالي والاوسط مثل كوثى وسبار وجمدة نصر ونفر، فانه ادى الى غرق المدن الواقعه في مجراه الاسفل مثل اور واريدو، ولذلك لم يكن امام سكانها الا الانتقال الى منطقة بابل التي غدت بفضل تحول مجرى الفرات اليها من اخصب المناطق واصلحها للسكن والزراعة(3). 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سامي سعيد الاحمد، حضارة العراق، ج2، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1985،ص722
(2) احمد سوسة، حضارة العرب ومراحل تطورها عبر العصور، بغداد، 1979،ص142
(3) ويلكوكس، من جنة عدن الى عبور نهر الفرات، ترجمة احمد سوسة، مطبعة الحكومة، بغداد، 1945، ص170. 
وفي الحقيقة فان تحول مجرى الفرات باتجاة فرع بابل الذي استمر من 2000 ق. م حتى اواخر حكم الساسانيين كان السبب المباشر في انتقال السكن والعمران والحضارة من المدن الجنوبية والشمالية الواقعة على المجرى القديم الى جهه المجرى الجديد، ولذلك فلا غرابة ان تتخذ الإمبراطورية البابلية القديمة من مدينة بابل عاصمة لها، وكانت بابل في الطور الاول من مجرى الفرات (الالف الثالث ق. م) قرية أو بلدة صغيرة) تقع على الضفة اليمنى من نهر بابل الذي كان فرعا من مجرى الفرات الرئيسي، ولما غير النهر مجراه السابق واصبح مجرى بابل هو المجرى الرئيسي اصبحت بابل المدينة والعاصمة على الضفة اليسرى منه(1).
وقام حمو رابي بحفر جدول حمل اسمه يبدأ من مجرى الفرات الجديد شمال بابل واسفل كيش ينحدر باتجاه الجنوب الشرقي ليصب في المجرى القديم للفرات، عرف هذا الفرع في العهد الاسلامي بنهر الصراة العظمى او النيل الذي اقيمت علية (فيما بعد) مدينة النيل عاصمة الامارة المزيدية قبل تمصيرهم الحلة والعديد من مراكز الاستيطان الأخرى(2).
وكان هناك فرع يتشعب من ضفة الفرات اليمنى جنوب مدينة المسيب الحالية يسير في اتجاه مجرى شط الهندية الحالي هو نهر بالاكوباس، وهو مجرى جاف كانت وظيفته تصريف المياه الزائدة عن الفرات في موسم الفيضان، ويرجع تاريخه إلى زمن البابليين إذ سموه نهر بالوكات، وسمي بالاكوباس في زمن الاسكندر وفي العهد الإسلامي سمي نهر الكوفة أو نهر العلقمي(3).
وفي أواخر عهد الساسانيين غير نهر الفرات مجراه ليأخذ من نهر بالاكوباس أعلاه مجرى رئيسيا له باتجاه الغرب واستمر حتى أواخر العهد العباسي، وبقى على هذا المسار حتى جاء الفتح الإسلامي للعراق فشيدوا على ذنائبه مدينة الكوفة التي اكتسب اسمها في عام 17هـ، وأصبح مجرى بابل بعد ذلك مجرى ثانويا أطلق علية نهر سورا، وكان القسم العلوي من سورا شمال بابل يعرف باسم سورا الأعلى، وفي جنوبها يعرف باسم سورا الأسفل، وأقيمت على الجانب الشرقي للمجرى الجديد مدينتي سورا وقصر ابن هبيرة.
لقد أعاد هذا التغير في مجرى الفرات وتفرعاته، أعاد توزيع مراكز الاستيطان في وادي النهر في المنطقة في هذا الطور والأطوار الأخرى اللاحقة التي تكرر فيها تغيير النهر لمجراه ما بين شط الحلة وشط الهندية كما سنرى ذلك في موضع أخر من البحث.
كما أدت التطورات المختلفة المتصلة بالفتح الإسلامي إلى تغيرات جديدة في اتجاه قنوات الري في منطقة كوثى وجنوبها، حيث اختفى نهر كوثى من الوجود وأصبح النيل (الصراة العظمى) المصدر الرئيسي للمياه في المنطقة، وان الفتوحات الإسلامية أدت إلى ترك 68% من المدن التي كانت موجودة في العهد الساساني فقد كانت المستوطنات والقرى الممتدة على نهر كوثى قد هجرت مواضعها قبل الفتح الإسلامي بفعل الفيضانات المتكررة خلال الفترات المتأخرة للحكم الساساني، إذ جرفت الفيضانات فرع كوثى وحطمت المنطقة بأكملها وان ماتبقى منه اصبح جزءا من نهر التيل، الذي اصبح هو ونهر سورا مركزين بديلين للاستيطان في العهد الاسلامي في هذه المنطقة(4) وقد ورثت العديد من المدن التي ظهرت في العهد الاسلامي في اقليم بابل مواضع المدن السابقة او قريبا منها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أحمد سوسة، وادي الفرات، مصدر سابق، ج1، ص180
(2) Maguire، Gibbson، The city and The Area of kish، Miami، Florida، 1972 p. 317. 
(3) أحمد سوسة، وادي الفرات، مصدر سابق ج 2،ص187
(4) إبراهيم شريف، الموقع العراق الجغرافي ، مصدر سابق ، ص63. 
وهناك من يرى بان تعمير السهل الرسوبي في اثناء الفتح الاسلامي وبعده ارتبط بحادث جغرافي مهم مثل تحول مجرى الفرات عند حافة الصحراء في اقصى الغرب الى داخل السهل الرسوبي(1) والذي حصل في القرن الرابع عشر وامتد حتى اواخر القرن التاسع عشر وهي من الفترات المظلمة في تاريخ البلاد والمنطقة اذ تعاقب في السيطرة على مقدرات البلاد كل من المغول الجلائريون، التتر، التركمان، الصنويون ثم العثمانيون. واستمر الحكم الاجنبي للبلاد خلال هذه المدة حوالي ستة قرون اصبح فيها العراق فريسة للفقر والاضطرابات، ولم تقم تلك القوى بأية اعمال اصلاحية، وتركوا يد الطبيعة نابضة على مقدرات البلاد وانهارها.
لقد شمل التعمير هذا الطور الذي تغير فيه مجرى الفرات نحو نهر بابل معظم اقليم بابل الذي اصبح يمثل منفذا طبيعيا للاتصال بين البادية والسهل ولعل هذا كان من الاسباب التي حفظت لمنطقة بابل مجدها بعد ان هجرتها السلطة منذ العهد الاغريقي، اذ قامت في نفس المنطقة مدينة النيل وتوابعها من الاعمال والقرى ومدينة الحلة التي تعد واحدة من اكبر المدن في داخل السهل الرسوبي واستفادت مدينة الحلة الجديدة التي اقيمت على مقربة من الجامعين من انقاض بابل القديمة في بناء عمارتها، وكانت بابل عاملا مساعدا على انشاءها وسرعة نموها(2).
وانتشرت ضمن الاطار المساحي لموقع مدينة الحلة او اقليم بابل العديد من المراكز الحضرية والريفية التي حافظت على مواضعها منذ الفتح الاسلامي والى وقتنا الحاضر، والبعض الآخر منها ورث مواضع مدن اخرى كانت موجودة قبل ذلك الفتح، خارطة (3). إذ شهدت هذه الفترة إنشاء العديد من المدن والحواضر الحافلة بالعمران والأسواق، واستفادت معظمها من موقعها النهري لتؤدي وظائف إدارية وسياسية وتجارية.
ويروى إن الخليفة عمر بن الخطاب (رض) سأل دهقان الفلوجة عن عجائب بلادهم فأجابه بأن في بابل سبع مدن في كل مدينة أعجوبة ليست في الأخرى(3).
ثالثا : توزيع الأنهار في العهد الإسلامي.
للأنهار دورا مهما في توزيع الاستيطان في المنطقة فضلا عن النقل والإرواء، وهنا لابد من الوقوف على جغرافية توزيع هذه الأنهار في المنطقة كما وردت في كتابات الجغرافيين العرب الذين عاصروا الفترة التي سبقت نشوء مدينة الحلة وما بعدها خصوصا بعد أن توضحت صورة توزيع تلك الأنهار في العهد البابلي.
لقد ورث الفرس الساسانيون الذين سيطروا على العراق مدة تزيد على عشرة قرون، ورث هؤلاء نسق بابل في تنظيم شؤون الري وأحسنوا فيه، وحضروا قنوات ثانوية، إلا أن القنوات الرئيسية كانت سابقة لهم حيث كان للنبط دور في الحفر والتشييد، ولعلهم حفروا الأنهار الكبرى سواد العراق ومنها على سبيل المثال الصراة سورا في حين أن الفرس حفروا كوثى والصراة الصغرى والنهروان.
وان نهر الفرات هو النهر الرئيسي في المنطقة الذي يغذي انهارا وفروعا كثيرة، وأثرت هذه الأنهار والقنوات الرئيسة منها والفرعية في تنمية الحياة الاقتصادية والعمرانية في المنطقة وتطويرها، إذ أشار معظم الجغرافيون والبلدانيون إلى أهميتها الاقتصادية، وبشكل خاص في مجال الزراعة والنقل والاستيطان(4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)  أبراهيم شريف، موقع العراق الجغرافي، مصدر السابق، ص65.
(2)  صلاح حميد الجنابي، جغرافية الحضر، مطابع دار الكتب الجامعية، جامعة الموصل، 1987، ص36.
ياقوت الحموي، معجم البلدان، الجزء الأول، مصدر سابق، ص33.
(3) هشام جعيط، الكوفة نشأة الإمارة العربية الإسلامية، الكويت، 1986،ص18
(4) المسعودي، التنبيه والإشراف، بيروت،1965،ص47 أيضا ياقوت الحموي، معجم البلدان، الجزء الرابع، مصدر سابق، ص241
ويعد سهراب (ابن سرابيون) من أوائل الجغرافيين الذين تناولوا ذكر المنطقة وأنهارها. إذ خصص في كتابة (عجائب الأقاليم السبعة) فصلا خاصا عن انهار العراق وقدم وصفا تفصيليا لانهار إقليم بابل بقوله إذا جاوز الفرات كوثى بستة فراسخ* انقسم قسمين، فيمر الفرات إلى منطقة الكوفة ويماس مدينة الكوفة وعلية هناك جسرا ويمر إلى منطقة البطائح، ويمر القسم الاخر نهرا عظيما اعظم من الفرات واعرض هو النهر الذي يقال له سورا الاعلى (نهر حلة بني مزيد**)(1).
ويقدم سهراب وصفا تفصيليا لنهر الحلة (سورا) فيقول بأن النهر يمر بقرى وضياع وبلدات، وتتفرع منه انهار كثيرة تسقي طسوج سورا** ويمر بإزاء قصر ابن هبيرة...... وهناك على النهر جسر هو جسر سورا ويحمل منه نهر ابن رحا أوله فوق القصر، ويمر هذا النهر مع مدينة القصر ويصب إلى سورا أسفل من القصر، وهناك يحمل منه نهر يقال له سورا الأسفل. وعلى فوهة هذا النهر قنطرة عظيمة يقال لها قنطرة القامغان والماء فيها منصب عظيم.
يمر نهر سورا الأسفل بقرى وعمارات ويتفرع منه انهار كثيرة تسقي طسوج بابل، الجامعين والفلوجتين، ويمر هذا فيما بين مدينة بابل، ويمر بالجامعين المحدث (الحلة)والقديم، ويمر إلى احمد اباذ وخطرا نية ويمر إلى قسمين ويتفرع منه هناك انهار تسقي طسوج جنبلاء وما والاها، ويصب في النهر الذي يأخذ من الفرات وهو نهر البداة أسفل من الكوفة في سوادها. ويحمل من نهر سورا الأسفل نهر يقال له النرس أوله مع الجامع العتيق يمر بقرى وضياع ويتفرع منه انهار تسقي سواد الكوفة أو بعضه ويمر بالحارثية وحمام عمر.
ومن قنطرة القامغان إلى فم النرس ستة فراسخ فيصب في البداة التي في سواد الكوفة الذي في شرق الفرات. وإذا جاوز سورا الأعلى قنطرة القامغان سمي هناك الصراة الكبير ويمر بالعقر وبقرى وضياع ثم يمر إلى صابربيثا، ويتفرع منه هناك نهر يقال له صراة جاماسب أوله عند النواعير ويمر فيسقي الضياع هناك ويصب في النهر الكبير، والصراة أسفل النيل. فإذا جاوز النهر القنطرة (قنطرة الماس) سمي النيل، ويمر بقرى وعمارات إلى موضع يقال له الهول بينه وبين النعمانية التي على شاطئ دجلة اقل من فرسخ، ومنه يميل إلى دجلة عند قرية سابس الراكبة على دجلة بهذه الأنهار التي تصب وتحمل من نهر الفرات(2).
إن الوصف التفصيلي الذي يقدمه سهراب لنهر سورا (شط الحلة الحالي) يغني عن التوضيح، فهو نهر عظيم اعرض وأعظم من الفرات (شط الكوفة) تقع عليه وروافده العديد من الضياع والقرى ومواضع المدن كما يظهر في الخارطة (3).
وأشار جغرافيون آخرون إلى الأنهار التي تقع بين دجلة والفرات شمال الإقليم قبل أن ينقسم الفرات إلى قسمين، فهناك نهر الملك وهي مدينة قصر ابن هبيرة وبعد ذلك يجري النهر حتى يصل سورا ... وهو كثير الماء وليس للفرات شعبة اكبر منه حتى ينتهي إلى سورا(3).
يتضح مما تقدم أن الأنهار التي تأخذ من الفرات هي نهر سورا وهو أكبرها ونهر الملك ونهر عيس وكوثى ونهر سوق أسد والصراة ونهر الكوفة. والفرات العتيق ونهر حلة بني مزيد وهو نهر سورا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الفرسخ يساوي ميل.
** المقصود هنا شط الحلة الذي اقام علية المزيديون مدينة الحلة عام 495 هـ - 1101م.
(1) سهراب (ابن سرابيون) عجائب الأقاليم السبعة إلى نهاية العمارة فينا، 1929، ص24.
*** الطسوج. كلمة معربة كانت موضع اختلاف في تحديد معناها، ولكن الكتاب المحدثين يرون أنها مقابل الناحية من حيث الحجم والمركز الإداري.
(2) سهراب (ابن سرابيون)، عجائب الأقاليم السبعة، مصدر سابق، ص25.
(3) الاصطخري، كتاب الأقاليم، نسخة مصورة في مكتبة كلية الآداب، جامعة الكوفة، ص48.
إما الأنهار الصغيرة الأخرى فمنها نهر المسبب بالقرب من قصر ابن هبيرة ونهر سنداد(1)، ونهر أبارها الذي سماه الطبري والذي يقع بين الكوفة وقصر ابن هبيرة ونهر نوارا الذي تقع علية قرية سورا، ونهر ماري الذي يقع فمه عند النيل(2).
لقد استمرت مراكز العمران على اختلاف أحجامها تؤدي وظائفها المختلفة ومنها مدينة الحلة وأعمالها في النيل وسورا والقصر خلال العهد الإسلامي إذ أن الفرات استمر يأخذ من مجرى الحلة مجرى رئيسيا له، ولكن المتغير الجغرافي المهم الذي اثر على تلك المراكز وأعاد توزيعها في المنطقة مره أخرى هو تغير مجرى الفرات باتجاه نهر الكوفة في نهاية القرن التاسع عشر والى يومنا الحاضر والذي يمثل الطور الخامس والأخير من تغير مجرى الفرات والذي ترتب علية تقلص في أحجام المستوطنات الواقعة على ضفاف فرع الحلة وهجرة القبائل والعشائر إلى المجرى الجديد في كل من الهندية والمسبب والكوفة والحيرة والمشخاب والشامية، وبعد إنشاء سدة الهندية وتنظيم تصريف المياه في فروع نهر الفرات عام 1913، أخذت تلك المراكز تستعيد أهميتها وفعاليتها الاقتصادية ومنها مدينة الحلة. فضلا عن ظهور مدن جديدة وقرى كثيرة ارتبط توزيعها بمجاري نهري الهندية والكفل ومجموعة الجداول المتفرعة من شط الحلة ابتداءً من شمال الإقليم المجاور لمحافظتي بغداد والانبار وجنوبا عند حدود محافظتي النجف والقادسية وان اغلب تلك المستوطنات أخذت تسمياتها من الأنهار أو الجداول التي تغذيها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ياقوت الحموي، معجم البلدان، الجزء الرابع، مصدر سابق، ص241
(2) نفس المصدر، الجزء الأول، ص70


للقراءة والتحميل اضغط هنا


  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا