التسميات

الخميس، 1 مارس 2018

الأسس النظرية والمنهجية لتقويم أثر العوامل الاقتصادية في التباين والتنظيم المكانيين للخدمات السكانية في المراكز العمرانية والأقاليم ...


الأسس النظرية والمنهجية لتقويم أثر العوامل الاقتصادية

في التباين والتنظيم المكانيين للخدمات السكانية

في المراكز العمرانية والأقاليم 

الدكتور ممدوح الدبس

قسم الجغرافية - كلية الآداب والعلوم الإنسانية - جامعة دمشق


مجلة جامعة دمشق - المجلد 30 - العدد الثالث والرابع - 2014 - ص ص 647 - 685 :

الملخص

   يعدُّ تقويم أثر العوامل الاقتصادية في التباين المكاني للخدمات السكانية من حيث الحاجة والاستهلاك والتنظيم المكاني أحد الاتجاهات الدراسية في جغرافية الخدمات. وتشكل العوامل الاقتصادية منظومة فرعية تنتمي إلى منظومة أكبر تشمل العوامل المؤثرة في جغرافية الخدمات. وتتألف منظومة العوامل الاقتصادية هذه من خمسة عوامل هي: الموقع الجغرافي الاقتصادي، وشبكة الطرق ووسائط النقل، ورأس المال، والبنية التحتية الخدمية، وكذلك الموارد الاقتصادية وأوجه النشاط الاقتصادي في المراكز العمرانية والأقاليم.

   وتتفاعل العوامل الاقتصادية مع بعضها بعضاً ضمن منظومتها، كما تتفاعل في الوقت نفسه مع منظومة العوامل البشرية ومنظومة العوامل الطبيعية في تحديد ملامح الشخصية الخدمية المميّزة للمكان من خلال إظهار التباين المكاني في حاجة السكان إلى الخدمات واستهلاكهم لها، وكذلك وتنظيمها المكاني في المراكز العمرانية والأقاليم.

   وتختلف العوامل الاقتصادية في قوة تأثيرها في هذا التباين والتنظيم المكاني لقطاع الخدمات السكانية، باختلاف ميادين الدراسة في جغرافية الخدمات أو اتجاهاتها، ويتمثل الاتجاه الأول في دراسة حاجات السكان إلى الخدمات ومستوياتها، والاتجاه الثاني يدرس استهلاك السكان للخدمات، أمَّا الاتجاه الثالث فيدرس التنظيم المكاني للخدمات السكانية.


أهمية الدراسة:

   تتمثل أهمية الدراسة في إظهار قوة تأثير العوامل الاقتصادية وتقييمها كل على حدة في جغرافية الخدمات من حيث حاجة السكان إلى الخدمات واستهلاكهم لها والتنظيم المكاني لقطاع الخدمات السكانية في المراكز العمرانية والأقاليم، وعدَّ هذه العوامل منظومة متكاملة تؤثر في توزع فروع الخدمات السكانية وتطورها وكفاءتها وتعطي المكان شخصيته الخدمية المميّزة، ولهذا المركز أهميته الكبيرة في التخطيط الإقليمي والقطاعي. 

مشكلة الدراسة:

  تكمن مشكلة الدراسة في ندرة الدراسات الجغرافية لقطاع الخدمات السكانية عموماً ولمنظومة العوامل المؤثرة فيها على وجه الخصوص. أهداف الدراسة: هدفَتِ الدراسة إلى تحقيق جملة من الأهداف، يمكن إيجازها بالآتي:

1- إظهار العوامل الاقتصادية المؤثرة في التباين المكاني للخدمات السكانية (من حيث الحاجة والاستهلاك والتنظيم المكاني) ودراستها بوصفها منظومة متكاملة ومتفاعلة بين عناصرها تسهم في تحديد الشخصية الخدمية للمكان.

2- تقويم مجموعة(منظومة) الظروف والعوامل الاقتصادية المؤثرة في تباين احتياجات السكان إلى الخدمات واستهلاكها وتنظيمها المكاني.

3- تسليط الضوء على أثر كل عامل من العوامل الاقتصادية وقوته في التباين المكاني في حاجات السكان إلى الخدمات واستهلاكها والتنظيم المكاني لفروع الخدمات السكانية في المراكز العمرانية والأقاليم.

مناهج الدراسة:

  اعتمدت الدراسة على مجموعة متكاملة من المناهج العلمية هي:

1- منهج التحليل العاملي: اعتُمِدَ على هذا المنهج في إظهار أثر كل عامل من العوامل الاقتصادية وتحليله وتقييمه في توزع فروع الخدمات السكنية وتطورها وكفاءتها في المراكز العمرانية والأقاليم، وفي التباين المكاني في حاجات السكان إلى الخدمات واستهلاكهم لها وتنظيمها المكاني أيضاً.

2- منهج المنظومات: وهو منهج فعّال في دراسة الخدمات والعوامل الاقتصادية المؤثرة في توزعها وتطورها ومستوى أدائها وكفاءتها لأنَّ هذه العوامل منظومة تتألف من مجموعة عناصر تتفاعل فيما بينها لإظهار خصائص الشخصية الخدمية للمكان، ويشمل هذا المنهج التحليل المنظومي والتركيب المنظومي.

3- منهج التحليل المكاني: يعكس هذا المنهج ويصور توزع الخدمة ومستوى تطورها وأدائها ودرجة كفايتها وتنظيمها المكاني من خلال ظروف المكان وموارده.

موضوع الدراسة:

  يعدُّ تقويم منظومة العوامل المؤثرة في توزع الظواهر الجغرافية وتطورها وتباينها المكاني من القضايا المهمة في الدراسات الجغرافية ومنها جغرافية الخدمات، إذ تشكل دراسة هذه العوامل وتقويمها أحد الاتجاهات المهمة في الدراسة الجغرافية للخدمات السكانية ، ويتضح ذلك جلياً من خلال تعريف الباحثين الروس لجغرافية الخدمات وتحديدهم لميادينها وموضوعاتها واتجاهات الدراسة فيها، بأنَّها "فرع من فروع الجغرافية البشرية يدعو إلى دراسة التباينات المكانية في حجم الحاجات الخدمية، وفي درجة تأمينها، وفي خصوصيات استهلاك السكان لها، وكذلك دراسة قضايا التنظيم المكاني لقطاع الخدمات في ظل التباين في الظروف الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية والأشكال العمرانية"1. 
_________

1- الكسيف أ. ي، كوفاليف. س.أن تكاتشينكو .أ.أ ، جغرافية قطاع الخدمات – المناهج والمفاهيم الأساسية، تفير، روسيا، 1991م ص23.

 يتضح من التعريف السابق لجغرافية الخدمات، أن هناك أربعة اتجاهات للدراسة في جغرافية الخدمات هي:

- الاتجاه الأول: يدرس التباين المكاني في حاجات السكان إلى الخدمات والطلب عليها .

- الاتجاه الثاني: يدرس التباين المكاني في استهلاك السكان للخدمات والمستوى الفعلي لهذا الاستهلاك، ويسمى هذا الاتجاه أحياناً جغرافية الاستهلاك.

- الاتجاه الثالث: ويهتم بدراسة قضايا التنظيم المكاني ومشكلاته للمراكز والمنظومات المكانية الخدمية.

- الاتجاه الرابع: ويتضمن تقويم العوامل المؤثرة في قطاع الخدمات1.  

  تتضح أيضاً أهمية دراسة أثر العوامل في توزع وتطور الخدمات السكانية في التعريف الذي أورده خلف حسين علي الدليمي لجغرافية الخدمات في كتابة تخطيط الخدمات المجتمعية والبنية التحتية بأنها تخصص جديد في الجغرافي البشرية يهتم بدراسة توزع أنواع الخدمات كلّها ومدى تطورها بمرور الزمن وكفاءة أدائها؛ وذلك من خلال تطبيق المعايير المعتمدة في مجال الخدمات، كما تهتم بدارسة المشكلات التي تواجه توفير الخدمات وتوزعها بالشكل الأفضل، والحلول المناسبة لمعالجة هذه المشكلات.

   وقد قصد الدليمي بالمشكلات دراسة الوضع الجيولوجي والطبوغرافي والمناخ السائد والكوارث الطبيعية والكثافة السكانية العالية وقلة الخبرة التخطيطية والتخصيصات المالية وسوء الإدارة وقلة استخدام التقنيات الحديثة وعدم التجانس في 
________

1- ممدوح شعبان دبس، جغرافية الخدمات، منشورات جامعة دمشق 2006-2005 م ص133.

 توزع استعمالات الأراضي، وأخيراً اتجاهات النمو العمراني في المكان، كما أكد أهمية دراسة التنوع في النظم الأرضية والبشرية وعلاقتها بتوفير الخدمات1.

   وقد أوضح محمد صافيتا وعدنان عطية في كتابهما جغرافية الوطن العربي البشرية والاقتصادية بأنَّ جغرافية الخدمات تهتم بدارسة أنواع وتوزعها ووسائل تحقيقها وأساليب تخطيطها وتطويرها بما يلبي حاجات السكان. وأكدا أن دراسة أعداد السكان وتراكيبهم وتوزعهم وكثافتهم وهجراتهم أمر لابد منه لمعرفة حاجة السكان والمراكز العمرانية إلى الخدمات2.

    إن الاهتمام بدراسة الظروف والعوامل المؤثرة في جغرافية الخدمات (من حيث الحاجة والاستهلاك والتنظيم المكاني) القائمة على التحليل والتعليل والتقييم لتوزع فروع الخدمات وتطورها وأدائها لوظيفتها، تتيح لهذا العلم الجديد (أي جغرافية الخدمات) الإسهام في التخطيط الإقليمي والقطاعي (الاقتصادي والاجتماعي) من خلال وضع أسس التباين المكاني لمعايير الاستهلاك الخدمي لفروع الخدمات السكانية في ظل الظروف والعوامل المحلية (وهذه المعايير تحددها جهات متخصصة، ومن ثمَّ اختلاف الطلب على الخدمات واستهلاكها اختلافاً جوهرياً من مكان إلى آخر). ويعدُّ تحليل منظومة الظروف والعوامل المؤثرة في جغرافية الخدمات السكانية وتقويمها من عمل الجغرافي ومهامه.

  إن دراسة العوامل المؤثرة في توزع فروع الخدمات السكانية وتطورها تضفي على الدراسة الصبغة الجغرافية وتعززها من خلال إسهامها في تحديد الشخصية الخدمية للمكان (مركزاً عمرانياً كان أم إقليمياً)، فالتباين المكاني في احتياجات السكان 
_________

1- خلف حسين علي الدليمي، تخطيط الخدمات المجتمعية والبنية التحتية- أسس، معايير، تقنيات، ط1، دار صفاء،عمان،2009م، ص 47-67.
2- محمد صافيتا،عدنان عطية، جغرافية الوطن العربي البشرية والاقتصادية، منشورات جامعة دمشق ،2003-2004، ص ص 1-52 
 إلى الخدمات واستهلاكها وتنظيمها المكاني يعد نتيجة من نتائج تفاعل منظومة متنوعة ومتكاملة متمثلة في الظروف والعوامل الطبيعية والبشرية والاقتصادية. وتتألف هذه المنظومة الكبيرة من ثلاث منظومات فرعية (ثانوية) هي منظومة العوامل الطبيعية ومنظومة العوامل البشرية وأيضاً منظومة العوامل الاقتصادية التي تشكل موضوع هذه الدراسة.

   تتألف منظومة العوامل الاقتصادية من مجموعة من العوامل يشكل كل منها عنصراً مهماً من عناصر هذه المنظومة، وتتفاعل هذه العناصر فيما بينها، مساهمة في تحديد شكل الحاجة والاستهلاك والتنظيم المكاني لفروع الخدمات السكانية ونوعهم ومستواهم في المراكز العمرانية والأقاليم.

   وتشتمل منظومة الظروف والعوامل الاقتصادية على خمسة عناصر هي:

1- الموقع الجغرافي الاقتصادي.

2- شبكة طرق النقل ووسائطه.

3- رأس المال، ممثلاً بحجم ميّزانية الدولة والإنفاق الحكومي والأهلي والخيري والاستثماري في مجال الخدمات السكانية.

4- مستوى تطور البنية التحتية الخدمية.

5- الموارد الاقتصادية وأوجه النشاط الاقتصادي في المراكز العمرانية والأقاليم والدولة عموماً.

   وتختلف قوة تأثير أي عامل من العوامل الاقتصادية باختلاف طبيعة الفرع الخدمي المدروس وخصوصيته ومقوماته ومرونة خدماته وعناصره ومستوى تطوره، كما تختلف باختلاف هدف الدراسات الخدمية واتجاهاتها وأيضاً المستوى المكاني لهذه الدراسة.

   وتركِّز البرامج والسياسات الخدمية على تطوير التنظيم المكاني للخدمات السكانية حاضراً ومستقبلاً. وتتمثل مهام هذه البرامج والسياسات في الجانب المكاني لمجال الخدمات، إِذْ أشارت إلى أنه يجب على المراكز السكانية أن تكون مجمعات منظمة من المناطق الإنتاجية ومناطق السكن وشبكات الهيئات الاجتماعية والثقافية والتربوية والتعليمية، والمؤسسات التجارية والمعيشية والمنشآت الرياضية والنقل الجماعي وغيرها التي تؤمن الظروف الملائمة لعمل الإنسان ومعيشته1 . 

  وتشير الاتجاهات الأساسية للبرامج والسياسات الخدمية إلى ضرورة التوزع العقلاني للمؤسسات والمنشآت والهيئات الخدمية، وكذلك إلى ضرورة التطوير المستمر لأداء الخدمات التي تقدمها هذه المؤسسات والمنشآت والهيئات وكفاءتها. تتناول هذه الدراسة بالتحليل والتفسير والتقويم أثر العوامل الاقتصادية في اتجاهات الدراسة في جغرافية الخدمات (أي ميادينها) التي تتمثل في احتياجات السكان إلى الخدمات واستهلاكهم لها وتنظيمها المكاني في المراكز العمرانية والأقاليم. وقبل تقويم أثر منظومة العوامل الاقتصادية المؤثرة في اتجاهات الدراسة في جغرافية الخدمات، لابدَّ من توضيح طبيعة كل اتجاه من هذه الاتجاهات وخصوصيته أي الحاجة إلى الخدمات واستهلاكها وتنظيمها المكاني.

أولاً- احتياجات السكان إلى الخدمات:

 تعرَّف الحاجة بأنَّها (حالة العوز أو عدم الكفاية في أيِّ من الضروريات التي لابدَّ منها من أجل الحفاظ على النشاط الحيوي للجسم أو الشخصية الإنسانية أو الفئات الاجتماعية أو حتى المجتمع بأكمله)2.

   والاحتياجات البيولوجية هي احتياجات أي كائن حي إلى الطعام والشراب والنوم وسواها، وتتحدد هذه الاحتياجات من خلال طبيعة الأيض (أي موت خلايا الأجسام

_________________________

1- علي محمد دياب، جلال بدر خضرة، جغرافية السياحة والخدمات، منشورات جامعة تشرين 2005- 2006م، ص409 .
2- الموسوعة السوفيتية الكبرى، موسكو، 1975م، المجلد 20، ص439 .

وتجدّدها) والعمليات الفيزيولوجية (أي عمليات الأعضاء داخل الجسم ووظائفها)، وهذه الاحتياجات ذات طابع موضوعي وحيوية جداً في حياة الكائن البشري.

   أمَّا فيما يخص الاحتياجات الاجتماعية لشخصية الإنسان أو الفئات الاجتماعية (الأفراد والمجموعات الاجتماعية) فيعتقد علماء النفس أن الحاجة هي وحدة موضوعية وذاتية، فهي ضرورة موضوعية إلى حد ما، وفي الوقت نفسه يجري التعبير والإفصاح عنها ذاتياً في العقل.

  وهناك جدل بين الباحثين بشأن تصنيف مستويات الاحتياجات (الطلب). وقد صنَّف باتروشيف . ف.د Patrocheev.F.D الاحتياجات في خمسة مستويات هي2:

1- المستوى الأول: الاحتياجات الطبيعية ذات الطابع البيولوجي (مثل الحاجة إلى الطعام والشراب والنوم والحفاظ على النوع وغيرها) وهذه الاحتياجات أساسية- حياتية لا يمكن للفرد أو المجتمع الاستغناء عنها وإلا تعرَّض للفناء.

2- المستوى الثاني: الاحتياجات الطبيعية – الاجتماعية، وهي احتياجات طبيعية مرتبطة بالمجتمع، وترتبط هذه الاحتياجات بنوعية الطعام واللباس وغيرها من الخدمات التي تتحدد بدخل الإنسان أو مقدرته على دفع ثمن الخدمات الجيدة، وترتبط هذه الاحتياجات في الوقت نفسه باعتبارات النفوذ والمكانة الاجتماعية التي يتمتع بها الشخص وسواها. ونشير هنا إلى أن الناس جميعهم يحتاجون إلى الطعام، ولكنهم يختلفون فيما بينهم في نوعية هذا الطعام، فالأغنياء يأكلون ما لذَّ وطاب ويلبسون أفخر الملابس وأغلاها ثمناً، أمَّا الفقراء فلا يستطيعون ذلك.

______________

1- ماركوليس أ.ف، ستيبانوف أ.ي، احتياجات الانسان- القضايا المنهجية للبحث المرَّكب - استعراض تحليلي للمؤلفات ، "مجلة قضايا الفلسفة" جامعة موسكو الحكومية. 1986م، العدد 4 .
2- باتروشيف.ف . د، التغيّرات المحتملة في استثمار موازنات الوقت، مجلة البحوث الاجتماعية موسكو 1982م العدد1. 

3- المستوى الثالث: الاحتياجات الاجتماعية داخل الجماعة أو الفئة الاجتماعية، وتتمثل في الأمن والعدل والانتماء إلى فئة اجتماعية محددة وفي احترام الذات والاحترام من قبل الأشخاص المحيطين والمقربين. وهناك مؤسسات خدمية مهمتها تلبية هذه الاحتياجات الاجتماعية للسكان.

4- المستوى الرابع: الاحتياجات العقلية غير الفاعلة وتتمثل في المعرفة والمؤثرات الجمالية.

5- المستوى الخامس: الاحتياجات العقلية الفاعلة وتتمثل في العمل المبدع والخلاّق وإثبات الذات.

   وهناك بعض الاحتياجات- لا تعدُّ مجرّد حاجة فحسب، وإنما هي أيضاً شرط أساسي لبقاء الإنسان على قيد الحياة. وإن تلبية حاجة ما لا يعني بالضرورة إرضاء * الإنسان، بل تظهر لديه حاجة جديدة بحسب قانون (تزايد الحاجات أو المطالب) ، ويخص هذا الأمر الاحتياجات الكمالية - الراقية أكثر من الاحتياجات الأساسية الضرورية التي يطلبها الناس جميعهم لأنه من دونها تصعب أو تستحيل الحياة1.

  وانطلاقاً من نوعية احتياجات السكان إلى الخدمات أظهرت مجموعة من الباحثين السوفييت (الروس) وهم الكسييف، كوفاليف، تكاتشينكو ثلاث عشرة مجموعة من الخدمات السكانية؛ وذلك بحسب الوظيفة التي تؤديها كل خدمة في تأمين النشاط الحياتي للسكان، وهذه الفروع هي (خدمات السكن والمرافق، تجارة التجزئة(المفرق)، وخدمات التغذية العامة (أي محلات تقديم الطعام والشراب للعامة)، والخدمات المعيشية العامة والشخصية، وخدمات التربية والتعليم، وخدمات الرعاية الصحية،

* يتمثل جوهر قانون تزايد الحاجات أو المطالب الخدمية في أن حاجات الإنسان ومتطلباته إلى الخدمات تزداد مع مرور الزمن نتيجة تطور مستواه المادي والمعيشي، وكذلك التقدم العلمي والتقني والحضاري الذي يشهده مجتمعه.
1- ممدوح شعبان دبس، جغرافية الخدمات، مرجع سابق، ص144.

 والخدمات الترويحية والسياحية، وخدمات الرعاية الاجتماعية والتأمين الاجتماعي، والخدمات الثقافية والروحية والرياضية، وخدمات حماية حياة الموطنين وممتلكاتهم وحقوقهم، وخدمات الاتصالات في جزئها الخادم للسكان، والخدمات المالية وخدمات الضمان الاجتماعي، وخدمات نقل الركاب)1. ويمكن أن نضيف إلى مجموعة الفروع الخدمية هذه خدمات الإدارة والبلديات أو الحكومات الالكترونية2 .

  وتقسم الخدمات السكانية تبعاً لضرورتها أو الحاجة إليها إلى أربع مجموعات هي:

1- خدمات ضرورية للجميع وعلى الدوام (مثل شراء المنتجات والسلع ذات الاستهلاك اليومي كالخبز والخضار وغيرها).

2- خدمات ضرورية لكثير من الناس وعلى الدوام (مثل نقل الركاب والتغذية العامة في مكان العمل).

3- خدمات ضرورية على الدوام وليست وليس للجميع (مثل المدارس، ورياض الأطفال، ودور الحضانة).

4- خدمات ضرورية ليست للجميع وغير دائمة (مثل المشافي للمرضى ومنتجعات السياحة)3.

ثانياً- استهلاك السكان للخدمات:

  إن دراسة نشاط السكان المرتبط باستهلاك الخدمات والمسمى (بجغرافية استهلاك الخدمات) يشكل ثاني اتجاهات (ميادين) الدراسة في جغرافية الخدمات.

1- الكسييف أ.ي، كوفاليف . س أ، تكاتشينكو. أ.أ، جغرافية قطاع الخدمات- المفاهيم الأساسية والمناهج ، مرجع سابق ص ص 8-12.
2 ممدوح شعبان دبس، جغرافية الخدمات، مرجع سابق، ص 38.
3 المرجع السابق، ص 163.

  ويرتبط استهلاك السكان للخدمات بمجموعة من العوامل أهمها أعداد السكان المستهلكين للخدمة ومستوياتهم العلمية والمعرفية ونسبة سكان المدن بينهم،وكذلك العادات والتقاليد والمعتقدات، ودرجة توافر الخدمات كماً ونوعاً وتنوعاً بما يلبي احتياجات السكان ورغباتهم المختلفة، كما يرتبط أيضاً بمستوى معيشة السكان، فقد تزيد الخدمات على طلب السكان بسبب عدم قدرتهم على دفع ثمنها إمَّا لغلائها أو لانخفاض الدخل لدى أغلب السكان. وقد تتحكم بعض الحكومات في استهلاك السكان للخدمات عن طريق إبقاء الأجور منخفضة كي لا تقدر إلا نسبة ضئيلة من السكان على شراء السلع النفيسة أو الشقق الفاخرة أو السيارات الحديثة وغيرها. ويضطر الناس إلى استهلاك المنتج الوطني حتى ولو كان رديئاً في نوعيته، ومن الشائع في البلدان النامية أن الطلب يكون أكثر من العرض على المساكن والخدمات الرديئة أو الرخيصة، في حين تنتظر المساكن الفاخرة والخدمات الراقية القلة القليلة من الأثرياء. وإن سعر الخدمات المأجورة يحدد إمكانية الحصول عليها واستهلاكها من الأفراد ذوي الدخل المرتفع، أمَّا الخدمات المجانية فيجب أن تلبي طلب مستهلكيها وحاجاتهم، ويكون الطلب عالياً على الخدمات المجانية التي غالباً ما تكون رديئة في نوعيتها.

   إن الاهتمام بالتباين المكاني في مستوى استهلاك السكان للخدمات وكذلك معايير الطلب عليها أو الحاجة إليها وشروط الحصول عليها وتحليل ذلك كلّه هو من عمل الجغرافيين1.

 ومن السمات المميّزة لإنتاج معظم أنواع الخدمات واستهلاكها في المكان، التوافق في زمان إنتاجها ومكانه واستهلاكها (مثل زيارة عيادة الطبيب، والتسوق من المحلات التجارية ... الخ )، وهذا يعني أن المنشآت الخدمية لهذه الأنواع يجب أنْ تقترب إمَّا من مكان إقامة المستهلكين للخدمات أو من مكان عملهم2.

___________

1- ممدوح شعبان، جغرافية الخدمات، مرجع سابق، ص 135.
2- المرجع السابق، ص 162 .

  ومما يميّز معظم الخدمات السكانية أيضاً تذبذب استهلاكها وتغيّره بحسب الزمن، وأحياناً يكون هذا التذبذب والتغيّر حاداً، فعلى مدار اليوم تزدحم وسائط النقل في الصباح وما بعد الظهيرة، والشيء نفسه بالنسبة إلى تجارة التجزئة والتغذية العامة، وعلى مدار الأسبوع تعمل بضغط وازدحام كبيرين الحمامات والخدمات المعيشية العامة والمسارح والملاعب والمنشآت الترويحية في أيام العطلة الأسبوعية والعطل خلال الأسبوع، أمَّا على مدار السنة فيشكل الانتقال الكبير للناس إلى مناطق الراحة والاستجمام خلال العطل والإجازات ضغطاً كبيراً على الخدمات في هذه المناطق، ويكون الضغط مميّزاً على قطاع التجارة والاتصالات والبريد ووسائط النقل بين المدن وداخلها في الأيام التي تسبق الأعياد1 .

   هذا ويمكن تقسيم المستهلكين (الزبائن) تبعاً للاستهلاك الفعلي للخدمات والحاجة إليها إلى أربع مجموعات هي:

1- المستهلك المتخلف: وهو الذي لا يستهلك أية خدمة ولا يحتاج إليها، وهذا غالباً إنسان جاهل ومتزمت ويعيش في بلد أو إقليم متخلف.

2- المستهلك شبه المتخلف (الكامن): وهو الذي لا يستهلك الخدمة ولكنه يحتاج إليها، وما يمنعه من استهلاكها إمَّا عدم توافرها أو عدم إمكانية دفع ثمنها، أو كونها لا تزال كمالية في نظره.

3- المستهلك القنوع (الراضي): وهو الذي يستهلك الخدمات المتاحة، ولا يطالب بتوسيع تشكيلة الخدمات الموجودة أو زيادة جودة الخدمات أو بناء منشآت خدمية جديدة ولا يجرّب الاحتياجات الكمالية، فهو مستهلك محافظ لا يحب التغيير.

4- المستهلك غير القنوع (غير الراضي): وهو مستهلك لما هو موجود من الخدمات، ولكن لديه شعور ورغبة وطلب على خدمات أكثر وأجود، وغالباً ما يسافر وراء الخدمات غير المتوافرة في المكان.

_____________

1 علي محمد دياب، جلال بدر خضرة، جغرافية السياحة والخدمات، مرجع سابق ص419-418 .

   ويعدُّ هذا المستهلك شرهاً للخدمات الجديدة والراقية، وهو غالباً إمَّا ثرياً أو يعيش في بلد متطور، ونشير هنا إلى أنه كلما تطور المستهلك قلّت قناعاته بالخدمات الرديئة1.

  وهناك مقياس آخر لتصنيف المستهلكين تبعاً لتوافر الخدمة في مكان الإقامة والاستهلاك الفعلي لها، مما يسمح بتمييز أربع مجموعات من المستهلكين هي :

1- المستهلكون المدبِّرون: لا يمتلكون أية منشاة خدمية في مكان الإقامة ولا يستهلكون .

2- المستهلكون الغرباء: يمتلكون الخدمات لكنهم لا يستهلكونها. 

3- المستهلكون المتنقلون: ليس لديهم خدمات في مكان إقامتهم ولكنهم مستهلكون للخدمات، فهم يسافرون وراء الخدمات.

4- المستهلكون المحليون: لديهم خدمات ويستهلكونها 2 .

 ثالثاً- التنظيم المكاني لقطاع الخدمات السكانية:

    ويشكل الاتجاه الثالث للدراسة في جغرافية الخدمات. وقد دخل مفهوم التنظيم المكاني في الدراسات الجغرافية حديثاً، واكتسب أهمية وشهرة كبيرة، لأنه أزاح بدرجة كبيرة مفهوم التوزيع المكاني، حتى أن هناك بعض الجغرافيين من يعرَّف علم الجغرافية بأنَّه علم المكان والتنظيم المكاني للظاهرات على سطح الأرض3.

1- ممدوح شعبان دبس، جغرافية الخدمات، مرجع سابق، ص 170- 171 .
2 علي محمد دياب، جلال بدر خضرة، جغرافية السياحة والخدمات، مرجع سابق، ص420 .
3 إبراهيم أحمد سعيد، ممدوح شعبان دبس، تطور الفكر الجغرافي، منشورات جامعة دمشق، 2010- 2011 م، ص 455 .و علي محمد دياب، مناهج البحث العلمي وطرائقه في الجغرافية البشرية، منشورات جامعة دمشق،2010-2009م، ص 84 .

   ويرى آلايف Alaev أن الجغرافية البشرية (الاقتصادية والاجتماعية) هي علم يدرس خصائص وقوانين التنظيم المكاني لحياة المجتمع1 . وعَدَّ التنظيم المكاني للمجتمع هو اقتران البنى الوظيفية المكانية (العمران البشري، والإنتاج، واستثمار الطبيعة)، مع البنى الإدارية في كليتها لتحقيق الانتاج الضروري لحياة المجتمع، وذلك بالتوافق مع الأهداف على أساس القوانين الاقتصادية المؤثرة في تكوين (نظام) اجتماعي محدّد2.

  ويفهم كرودسكي س.ك Krodcke.s.k تحت مصطلح التنظيم المكاني للإنتاج على أنه نظام للاقتران المكاني والتأثير المتبادل للفروع المختلفة والتفاعلات المكانية الإنتاجية. ويقام هذا النظام على أساس الاستثمار الحكيم للموارد الطبيعية المادية وموارد القوى العاملة، وتقليص نفقات النقل الأمر الذي يساعد على إيجاد فعالية عامة على مستوى الاقتصاد الوطني3. وما ينطبق على قطاع الإنتاج ينطبق على قطاع الخدمات.

  ويرى خوريف.ب.س،Koriv.p.s أن مفهوم التنظيم المكاني للمجتمع في المعنى الواسع للكلمة يشمل القضايا كلّها المتعلقة بالتقسيم المكاني للعمل، وتوزع القوى المنتجة، والتباين المكاني في العلاقات الإنتاجية، واستيطان السكان (العمران البشري) والعلاقات المتبادلة بين المجتمع والطبيعة، وأيضاً مشكلات السياسة الإقليمية الاقتصادية والاجتماعية.

________________

1- آلايف.ي.ب، الجغرافية الاقتصادية والاجتماعية- قاموس المفاهيم والمصطلحات، الفكر، موسكو، 1983م ص26.
2- المرجع السابق ص33.
3- كرودسكي.س.ك. التركز وفعالية الإنتاج في المجمعات المكانية الإنتاجية- قضايا منهجية، الاقتصاد، موسكو، 1980م، ص6.

   وبرأينا إن التنظيم المكاني لفروع الخدمات السكانية هو دراسة البنية المكانية والإدارية لهذه الخدمات بهدف تحقيق التوزع الجغرافي العقلاني لها المنسجم مع ظروف المكان وموارده وأنماط العمران فيه.

  ويضم التنظيم المكاني مكونات النشاطات الحيوية الإنتاجية والخدمية للمجتمع جميعها بصورة متكاملة، مركزاً على تراكيب الظاهرات واقترانها ومجمعاتها، بهدف تحقيق فعالية اقتصادية أو اجتماعية عامة أو كليهما معاً. ويُفهم التنظيم المكاني على أنَّه نتيجة (أي الموقع المكاني الراهن للظاهرات)، وفي الوقت نفسه كعملية لتطور الموضوعات وتعقيداتها1. فمثلاً إن التنظيم المكاني لقطاع الخدمات السكانية يسجِّل الحالة الراهنة لهذه الخدمات من جهة، ومن جهة أخرى فإنه يتضمن في ذاته عمليات التطور والتغيير التي تصيبها، فالتنظيم المكاني هو عملية مستمرة ومتبادلة ومتطورة مع الزمن2، ولذلك يمكن تناول التنظيم المكاني بمعنيين اثنين الأول كعملية والثاني كحالة (نتيجة لهذه العملية).

  ويمكن أن يحدث التغيّر في التنظيم المكاني لقطاع الخدمات السكانية من خلال التغيّرات في بنية قطاع الخدمات ذاته من خلال تطور شبكات المنشآت الخدمية والتغيّرات في التأثير المتبادل بين هذه المنشآت (مثل زيادة عدد المنشآت الخدمية أو تقليصها أو توسيعها أو إغلاقها أو إعادة تنظيمها... الخ)، وكذلك من خلال التغيّرات في انجذاب السكان (سلوك الزبائن) المرتبطة بحركة السكان والعمران وبتطور شبكة طرق النقل ووسائطه وغيرها. وتعدُّ دراسة التوطن المكاني (التوزع والتركز) والتباين المكاني لفروع الخدمات ومنشآتها والعوامل المؤثرة في هذا التوطن والتباين

________________

1 علي محمد دياب، مناهج البحث العلمي وطرائقه في الجغرافية البشرية، منشورات جامعة دمشق، 2009-2010، ص ص 84 -85 .
2 ممدوح شعبان دبس، جغرافية الخدمات، مرجع سابق ص181 وعلي محمد دياب ، جلال بدر خضرة، جغرافية السياحة والخدمات، مرجع سابق، ص423 .

المكانيين من الأمور المهمة عند دراسة البنية المكانية وإدارتها، ومن ثمَّ التنظيم المكاني لقطاع الخدمات السكانية بفروعه كلّها1

  ويعدُّ التوطن والتباين المكانيين من الخصائص الهامة المميّزة للتنظيم المكاني. ويعني التركُّز بالمعنى العام للكلمة التقليص المتتالي للمسافة بين الظاهرات المدروسة، ونقصد بهذه الظاهرات المنشآت الخدمية. وتتمثل الخصائص المعنوية الرئيسة للتنظيم المكاني في الاقتران والتكامل المكانيين للموضوعات والظواهر الجغرافية المتنوعة.

   أمَّا التنظيم فهو الضبط الداخلي لأجزاء الكل الواحد وتوافقها وتفاعلها. ويحدد التنظيم المكاني الضبط الجغرافي أو المكاني لعناصر الكل الواحد، أمَّا التنظيم المكاني للمجتمع فهو مفهوم تركيبي تكاملي يضم التوزع والاقتران (التفاعل) المكاني لمكونات النشاط البشري جميعها مثل الموارد والظروف الطبيعية والسكان والإنتاج والخدمات بشقيها الإنتاجي والسكاني (الاجتماعي).

   ويشتمل قطاع الخدمات السكانية 14 فرعاً خدمياً لكل منها مكوناته (عناصره)، فمثلاً تتمثل مكونات خدمات الرعاية الصحية في: المنشأة الصحية، البنية التحتية الصحية، الإطار البشري القائم على سير عملية الرعاية الصحية، وأخيراً المستفيدون من خدمات الرعاية الصحية وهم المرضى وغير المرضى أحياناً. ويتميّز التنظيم المكاني ببنية هرمية متعددة المستويات، وهي (المنشأة، المركز العمراني الريفي أو المدني، والإقليم، والبلد، ومجموعة من البلدان أو قارة بأكملها..الخ)

  ويجري التحليل الجغرافي لفروع الخدمات السكانية بالدرجة الأولى بحسب خصائص توزعها وتنظيمها المكاني، والتوجه نحو دراسة توزع هذه الفروع،

_______________

1- ممدوح شعبان دبس، جغرافية الخدمات ، مرجع سابق، ص181-182 .
2- علي محمد دياب، مناهج البحث العلمي وطرائقه في الجغرافية البشرية، مرجع سابق، ص86.

  وخصائص تنظيمها المكاني العام وارتباطها بالظروف والعوامل الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية، والأشكال العمرانية.

  إنَّ مفهوم التنظيم المكاني أكثر تعقيداً واتساعاً من مفهوم التوزيع، فتحليل التوزيع يبحث في توزع منشآت فرع معين من فروع الخدمات السكانية في نقطة سكانية معينة، أمَّا دراسة التنظيم المكاني فتتضمن تحليل توزع منشآت فرع خدمي معين، مع التركيز على دراسة التكامل والاقتران المكانيين، ونطاق النفوذ أو التأثير (أي مجال التخديم) لكل منشأة خدمية، والارتباطات (العلاقات) المشكِّلة للبنية المكانية لفروع الخدمات (الارتباطات الإدارية والتقنية والاستهلاكية). فبنية المنظومة هي مجموعة العناصر المكونة للبنية والارتباطات(العلاقات) المتبادلة بين هذه العناصر .

  إنَّ التأثير المتبادل بين المنظومة والوسط الجغرافي بظروفه وموارده، يحدد طابع الروابط الخارجية لهذه المنظومة، وتسمى هذه الروابط في تحليل المنظومات بالمدخلات والمخرجات، فالمدخلات تعكس تأثير الوسط المحيط في المنظومة، أمَّا المخرجات فتعكس ردة فعل المنظومة تجاه تأثير الوسط. وإن دراسة الارتباط بين المدخلات والمخرجات شرط ضروري لتطور المنظومة في الاتجاه المحدد لها1 .

  تتباين منشآت الخدمات في قوة تأثيرها وجذبها للزبائن، ومن ثمَّ في المساحة التي تغطيها خدمياً، وتتحدد دائرة استهلاك الخدمات بقيمتها (ثمنها) وموقعها في مكان سكن المستهلكين، فبقدر قرب النقطة السكانية( الحي، البيت) من المنشأة الخدمية بقدر ما تكون إمكانية انتفاع( استفادة) سكان النقطة السكانية من خدمات هذه المنشأة أكبر. وعندما تكون شبكة المنشآت الخدمية كثيفة، فإن منطقة التأثير يمكن أن تتغطى بالكامل. وتتداخل مناطق التأثير فيما بينها وتتغيّر مع الزمن مع وجود منشآت جديدة أو تغيّر الحدود الإدارية لمنطقة الدراسة.

________________

1 إبراهيم أحمد سعيد، ممدوح شعبان دبس، تطور الفكر الجغرافي، مرجع سابق، ص477.

 ويمثل التنظيم المكاني للخدمات نفسه على أنه منظومة ذات بنية معقدة متعددة المستويات. والمنظومة المكانية الخدمية هي منشأة خدمية كبيرة قوية التخديم أو مركز عمراني خدمي ونطاق تأثيره(أو مجاله الخدمي)، يضم مجمل النقاط السكانية التي يستفيد سكانها من هذه المنشأة أو المركز الخدمي.

   وهذه المنظومة المكانية الخدمية ذات طابع هرمي في بنائها، ويدخل المستهلك ضمن العديد من المنظومات الخدمية المختلفة في مستوياتها . وتتطابق درجات (مرتبة) المنظومة الخدمية أو مستوياتها مع أحجام المراكز العمرانية (المراكز الخدمية، لأن كل مركز عمراني هو مركز خدمي) وتتوافق مع درجات الوحدات الإدارية أو مستوياتها، وكثيراً ما تنحرف حدود المنظومات الخدمية عن حدود الوحدات الإدارية، لأن المنظومات الخدمية مفتوحة، في حين الوحدات الإدارية مغلقة ضمن حدودها1.

  يرتبط النظام الهرمي للخدمات بعوامل عديدة أهمها عتبة عدد السكان، فلكل خدمة عدد أو حدٌّ أدنى، لابدَّ منه لقيام المنشأة الخدمية بوظيفتها بشكل ناجح. ويتحدد عدد السكان بالطلب المتكرر على الخدمة وبنسبة السكان المستهلكين لها، فبقدر ما يكون عدد الزبائن كبيراً بقدر ما تنخفض عتبة عدد السكان، وعندما يقل عدد الزبائن يجب الأمر بإيجاد شبكة أكثر كثافة لهذه المنشآت الخدمية.

   ويتضمن التنظيم المكاني للخدمات دراسة البنية المكانية والإدارية، بمعنى آخر التوزع الجغرافي الملائم للمنشآت الخدمية بما يحقق أكثر الأرباح بأقل النفقات مع تلبية احتياجات السكان من الخدمات كماً ونوعاً.

  وتتضمن البنية المكانية الخدمية بوصفها عنصراً محورياً من عناصر التنظيم المكاني المنشآت والمراكز الخدمية جميعها في منطقة معينة مع الارتباطات

1- ممدوح شعبان دبس، جغرافية الخدمات، مرجع سابق، ص 177-179 .

(العلاقات) الناظمة والرابطة بين هذه المنشآت والمراكز بحيث تقدم أفضل الخدمات، وبعبارة أخرى تشكل البنية المكانية هيكل المنظومة الأسمى درجة، الذي يضم العديد من المنظومات الثانوية (الفرعية) الأصغر ذات الطابع المحلي ويرسّخها. 

  يتضمن التنظيم المكاني لقطاع الخدمات السكانية فيما يتضمن التوزع الجغرافي للمنظومات الخدمية، وإدارتها والروابط المكانية فيما بينها (الإدارية والتقنية والاستهلاكية). هذا ويتصف مفهوم التنظيم لمكاني بالازدواجية فهو من جهة يثبت الحالة الراهنة ويسجلها، ومن جهة أخرى يتضمن في ذاته عمليات التطور والتغيير.

  ومن المهم عند دراسة التنظيم المكاني لقطاع الخدمات السكانية أن ندرس التوطن المكاني لفروع الخدمات السكانية ومنشآتها والعوامل المؤثرة في هذا التوطن1.

العوامل الاقتصادية المؤثرة في جغرافية الخدمات (من حيث احتياجات السكان إلى الخدمات واستهلاكها وتنظيمها المكاني في المراكز العمرانية والأقاليم):

  يمكن أن نجمل العوامل الاقتصادية المؤثرة في جغرافية الخدمات (من حيث الحاجة والاستهلاك والتنظيم المكاني للخدمات السكانية) في خمسة عوامل تتفاعل مع بعضها ضمن منظومة العوامل الاقتصادية، وتتفاعل هذه المنظومة في الوقت نفسه مع منظومة العوامل الطبيعية والبشرية مشكلة منظومة متكاملة من العوامل الطبيعية والبشرية والاقتصادية، تسهم إسهاماً متبايناً في إعطاء ملامح الشخصية الخدمية المميّزة للمركز العمراني أو الإقليم وخصائصها .

  تختلف قوة تأثير هذه العوامل داخل المنظومة الواحدة وبين المنظومات من عامل إلى آخر ومن منظومة إلى أخرى باختلاف هدف الدراسة وأنواعها واتجاهاتها

________________

1- المرجع السابق، ص180 .

ومستوياتها المكانية. وسيُدرس لاحقاً أثر العوامل الاقتصادية في جغرافية الخدمات، مع تقييم هذا الأثر لكل عامل من هذه العوامل.

1- الموقع الجغرافي الاقتصادي: يؤدي هذا العامل دوراً فاعلاً ومؤثراً في التوزع الجغرافي العقلاني للخدمات وتطورها على أسس علمية ومنهجية صحيحة في المراكز العمرانية على اختلاف أنواعها وأحجامها. وقد تصوَّر بارانسكي مفهوم الموقع الجغرافي الاقتصادي بأنَّه "موقع موضوع ما (إقليم، مركز عمراني، منشأة... الخ) في منظومة التنظيم المكاني للمجتمع"1

  وبالاستناد إلى فكرة بارانسكي كتب ساوشكين" أن الموقع الجغرافي الاقتصادي يعني دراسة العلاقات المكانية للموضوعات الجغرافية الاقتصادية المدروسة (إقليم، مركز عمراني، منشأة.. الخ ) بالنسبة إلى الموضوعات الأخرى2. وتتوقف أهمية الموقع الجغرافي الاقتصادي للمدينة على جملة من الظروف والعوامل التي تشكل عناصر جغرافية اقتصادية أساسية لهذه المقولة (أي لمقولة الموقع الجغرافي الاقتصادي) أهمها الموقع من خطوط النقل والمواصلات الرئيسة وعقدها المختلفة، والموقع من الموارد الاقتصادية المختلفة، والموقع من أماكن تركز المنشآت أو المناطق الصناعية ومناطق الإنتاج الزراعي، والموقع من أسواق تصريف السلع والخدمات، والموقع من مناطق الكثافات السكانية المرتفعة، وأخيراً الموقع من المناطق أو المدن التي تقدم السلع (المنتجات) والخدمات نفسها، وهو يسمى الموقع التنافسي.

   تؤدي عناصر الموقع الجغرافي الاقتصادي هذه دوراً مهماً في التباين المكاني لحاجات السكان إلى الخدمات واستهلاكهم لها، وأيضاً في تنظيمها المكاني. فموقع

___________________

1 بارانسكي. ن .ن، الجغرافية الاقتصادية والمقولة الاقتصادية، المطبعة الحكومية، موسكو، 1956، ص 110.
2 ساوشكين يو. ك، الجغرافية الاقتصادية- التاريخ، النظرية ، المنهج، التطبيق، دار الفكر، موسكو، 1973م، ص ص 141-142.

المدينة من طرق النقل الجيدة والمتنوعة يعدُّ عاملاً مهماً في توزع قطاع الخدمات السكانية وتطور بفروعه كلّها كماً ونوعاً وتنوعاً، فوجود هذه الطرق يعزز الروابط الخدمية بين المراكز العمرانية ويسهم في زيادة كفاءة الخدمات ويرفع من مستوى أدائها لوظيفتها، وسهولة نيلها من قبل سكان المركز العمراني وظهيرة، كما يسهم موقع المدن من أماكن وجود الموارد الاقتصادية في ازدهار وظائفها الإنتاجية والخدمية، فهذه الموارد تحقق وارداً مالياً للمدن القريبة منها.

  ويسهم موقع المدينة من أماكن الإنتاج الصناعي والزراعي في تلبية احتياجات سكان المدينة وظهيرها من بعض فروع الخدمات مثل تجارة المفرَّق والتغذية العامة وغيرها، ونشير هنا إلى أن المعامل الصغيرة التي تصنِّع الطعام هي أقرب إلى الصناعات الغذائية منها إلى الخدمات السكانية المباشرة1.

  إنَّ موقع المدينة من أسواق تصريف السلع والخدمات التي تنتجها المدينة، وكذلك موقعها من أماكن الكثافات السكانية المرتفعة يسهم في تلبية احتياجات هذه الأسواق من السلع والخدمات التي تنتجها المدينة، وكذلك يسهم موقعها من الكثافات السكانية المرتفعة في تحسين الظروف المعيشية لسكان المدينة وظهيرها، ومن ثمَّ في ارتفاع مستوى رفاهيتهم من خلال الخدمات التي توفرها المدينة للسكان في المدينة وظهيرها أيضاً، الأمر الذي يسهم في ازدهار الخدمات وتنوعها، وهذا يحصل في حال توافرت الخدمات في المدينة كماً ونوعاً، أمَّا إذا لم يتحقق ذلك فإن المدينة ستعاني ضغطاً كبيراً على قطاع الخدمات السكانية فيها.

   ويعدُّ الموقع التنافسي للمدينة في مجال الإنتاج والخدمات حافزاً نحو تحسين نوعية الخدمات وكفاءتها وأدائها لوظيفتها بالشكل الأمثل. وأخيراًَ فإن موقع المدينة بالنسبة إلى البلد: هل هو متطور أم متوسط التطور أم متخلف، وهل تقع في بلد

__________________

1- ممدوح شعبان دبس، جغرافية الخدمات، مرجع سابق، ص31. 

أوروبي أو أسيوي يؤدي دوراً مهماً في اكتمال منظومة (رزمة) الخدمات السكانية ودرجة تلبيتها لاحتياجات الناس، وكذلك في مستوى تطور هذه الخدمات وأدائها الوظيفي، فالمراكز العمرانية في البلدان المتطورة تؤمن احتياجات سكانها من الخدمات بالكامل، إذ تمتلك هذه المراكز تشكيلة واسعة ومتنوعة من الخدمات السكانية المتطورة، أمَّا المراكز العمرانية في البلدان النامية فإنها على العموم تعاني شحاً، وعجزاً ورداءة في خدماتها السكانية، كما تعاني من فروق وخلل في توزع الخدمات وفي مستوى تطورها واكتمال طاقمها بين أحياء المراكز العمرانية، وكذلك بين المدن والأرياف.

  وعلى العموم إنَّ المدن التي تقع وسط مناطق واسعة تنجذب إليها وتقع تحت تأثيرها، ولاسيما إذا كانت هذه المناطق زراعية أو صناعية، وترتبط مع المدن الأخرى بشبكات كثيفة من خطوط النقل والمواصلات والعلاقات الإنتاجية والخدمية، ولها ظهير بشري واسع، إنَّ هذه المدن تمتلك إمكانيات كبيرة للنمو والازدهار عمرانياً وسكانياً وإنتاجياً وخدمياً، باعتبار أنَّ كل مركز عمراني هو مركز خدمي بطبيعة الحال. إنَّ هذا يخص الموقع الأكبري والمتوسط للمدينة أي ظهيرها القريب والبعيد، أمَّا الموقع الأصغري للمدينة أو موضعها فيرتبط ارتباطاً وثيقاً بمخططاتها والإمكانيات التقنية التي تحدد إمكانية نمو منشآتها ومرافقها العمرانية السكنية والإنتاجية وتوسعها والخدمية في مختلف الاتجاهات، كما تحدد أيضاً خارطة التوزع الجغرافي للمنشآت الخدمية داخل المدينة1.

2- شبكة طرق النقل ووسائطه: يعدُّ عامل النقل بشبكته ووسائطه عنصراً مهماً من عناصر البنية التحتية الخدمية، وأحد أهم العوامل الاقتصادية المؤثرة في جغرافية الخدمات في الوقت نفسه، (وانطلاقاً من هذه الأهمية دُرِسَ هذا العامل وأثره بشكل 

__________________

1- محمد إبراهيم صافيتا، عدنان سليمان عطية ،جغرافية المدن والتخطيط الحضري، منشورات جامعة دمشق ،2005م، ص ص 63-64.

مستقل عن البنية التحتية)، هذا ويعدُّ عامل النقل عنصراً مهماًَ في المنظومة الخدمية داخل المركز العمراني وعاملاً رئيساً مؤثراً في التركيب الداخلي للمركز العمراني وأهميته الوظيفية، بما فيها الوظيفة الخدمية وفي تطوره المستقبلي، كما يؤثر عامل النقل في استقرار السكان في المناطق الريفية والنائية والحد من هجرتهم.

  تمثّل شبكة الطرق الأوردة والشرايين التي تُلبَّىَ عن طريقها احتياجات النشاطات الإنتاجية والخدمية واختصار الوقت والوصول إلى المنشآت الخدمية المختلفة، ونقل العمال والموظفين إلى أماكن عملهم، وإيصال بعض الخدمات المباشرة إلى البيوت (مثل البريد، الطبيب، المدرس الخاص، وحرفييِّ الإصلاح وغيرهم)، كما تساعد شبكة طرق النقل ووسائطها على القيام برحلات السياحة والاصطياف وزيادة الأقارب والمعارف والأصدقاء، وفي تحسين شروط حياة الناس، ولاسيَّما المناطق الريفية والنائية التي تتميّز غالباً برداءة أوضاعها1 .

  يتضّح مما تقدم أن شبكة الطرق تؤدي دوراً مهماً في تأمين احتياجات السكان من الخدمات واستهلاكهم لها وتنظيمها المكاني أيضاً، فبقدر تخلف النقل والمواصلات بين المراكز العمرانية، بقدر ما يكون مستوى الاستقلالية والاعتماد على الذات كبيراً في هذه المراكز، وهذا يؤدي بدوره إلى زيادة الحاجة إلى المنشآت الخدمية وعدد المشتغلين في قطاع الخدمات2.

  وإنَّ الطرق الترابية في المناطق الريفية والنائية قليلة بل عديمة الجدوى من الناحية الخدمية ولاسيَّما فصل الشتاء. وعلى العكس من ذلك فإن وجود خطوط النقل والسفر السريع والمريح يسهم إسهاماً كبيراً في زيادة الخدمات، ومن ثمَّ زيادة حاجة السكان إلى هذه الخدمات واستهلاكهم لها في المراكز العمرانية لاسيَّما الريفية منها

________________

1 ممدوح شعبان دبس، جغرافية الخدمات، مرجع سابق، ص 91.
2 المرجع السابق نفسه، ص150.

 التي يعتمد سكانها في تأمين احتياجاتهم الخدمية على المراكز العمرانية المدنية المجاورة لقراهم (وذلك بسبب تعذر توفير الخدمات المختلفة في المراكز العمرانية كلّها)، وتشكل هذه المدن المجاورة على اختلاف أحجامها مراكز خدمية ونقلية أيضاً، وهذا يعزِّز الروابط الخدمية بين المراكز العمرانية. 

 وتؤدي شبكة الطرق والشوارع داخل المراكز العمرانية ذاتها دوراً مهماً في نيل السكان للخدمات (أي الحصول عليها) بسهولة ويسر .

   إنَّ كثافة شبكة الطرق بين المراكز العمرانية وداخل المركز العمراني ذاته تساعد على ازدياد حرية الحركة للسكان وتنقلاتهم وراء الخدمات، وهذا بدوره يزيد من استهلاك السكان للخدمات، ومن ثمَّ اتساع نطاق التخديم للمركز الخدمي وللمنشآت الخدمية بحد ذاتها. وترتبط كثافة شبكة الطرق ونوعيتها بشكل رئيس بكثافة العمران، ولاسيَّما المدن، وخاصة الكبيرة منها، وإذا أخذنا بالحسبان أيضاً الكثافة الكبيرة لشبكة الطرق في ضواحي المدن، فمن المؤكد أنَّ ظروف الخدمات هنا تكون أفضل منها في الأرياف النائية دوماً، لأنَّ هذه الطرق تساعد على الوصول إلى خدمات المدينة الأكثر في تنوعها والأرقى في نوعيتها والأكبر في كميتها. ونظراً إلى أنَّ جزءاً مهماً من الخدمات الدورية والعرضية* يحصل عليها سكان ضواحي المدن من محلات المدينة ومؤسساتها وأسواقها فإنَّ هذا يؤثر تأثيراً مباشراً في قطاع الخدمات السكانية في المدينة، لأن زبائن الخدمات ليسوا سكان المدينة وحدهم، بل هناك جزء من سكان الضواحي القريبة وأحياناً البعيدة يعتمدون في تأمين جزء كبير من احتياجاتهم الخدمية على المدينة القريبة. وتكون حركة النقل بين المدينة وضواحيها القريبة على أشدُّها

_____________________

* تصنف الخدمات السكانية بحسب دورية تسوقها إلى خدمات يومية تُسَوَّقُ بشكل يومي مثل الخبز والخضار، وخدمات دورية يتسوقها الإنسان بشكل أسبوعي أو شهري كشراء المنظفات وكوي الثياب، وهناك أيضاً خدمات عرضية تُسَوَّقُ بشكل سنوي أو أكثر أي كل سنة أو عدة سنوات مثل شراء المجوهرات وزيارة عيادة الطبيب أم مكتب المحامي .

بسبب تركز السكان والعمران ومناطق الراحة والمنشآت الخدمية والصناعية وغيرها من نشاطات شديدة الارتباط بالمدينة الأم التي تشكل إقليماً على مقاسها وبحسب حاجاتها الإنتاجية والخدمية. وتتراجع حركة وسائط النقل على الطرق الرئيسة كلما ابتعدنا عن المدينة1.

  وتعدُّ شبكة الطرق ووسائط النقل المتاحة أحد الضوابط المتحكمة في الرحلة إلى المنشآت والمراكز الخدمية، ومن ثمَّ في سهولة نيل الخدمة أي الحصول عليها2. ومن خلال طول الرحلة مسافياً وزمنياً ونفسياً يتحدد نطاق التخديم للمركز العمراني الخدمي ومنشآته الخدمية3. ونشير هنا إلى أنَّ ازدياد أعداد مالكي السيارات ونسبتهم من مجمل سكان المركز العمراني يزيد من تحركاتهم ومن استهلاكهم للمزيد من الخدمات بسبب سهولة نيل الخدمة من حيث المسافة والزمن، ومن جهة أخرى فإنَّ هذا يؤدي إلى مشكلات واختناقات مرورية داخل المدن بسبب كثرة أعداد السيارات.

  ويعتمد الأستاذ لويس عميد معهد الجغرافية في جامعة ميونيخ في تعريفه للمدينة الكبرى على طبيعة وسائط النقل فيها. فالمدينة في رأيه تصبح مدينة كبيرة ومركزاً عمرانياً وخدمياً كبيراً في الوقت الذي يصبح فيه استخدام وسائط النقل العامة أمراً ضرورياً 4، لا مندوحة منه . ويؤدي عامل المسافة أي طول الرحلة دوراً مهماً في تحديد قيمة الخدمة، فكلما طالت المسافة ارتفع ثمن الخدمة بسبب المصاريف التي ينفقها الزبون والمتمثلة في أجرة النقل ونفقات الإقامة والوقت والطاقة5.

________________

1- ممدوح شعبان دبس، جغرافية الخدمات، مرجع سابق، ص207.
2- محمد إبراهيم صافيتا، عدنان سليمان عطية، جغرافية المدن والتخطيط الحضري، مرجع سابق، ص461.
3- ممدوح شعبان دبس، جغرافية الخدمات، مرجع سابق، ص 389 .
4- ساطع محلي، جغرافية المدن- عمرانياً وتنظيمياً، منشورات جامعة دمشق 1992-1993، ص 248 .
5- علي محمد دياب ، جلال بدر خضرة، جغرافية السياحة والخدمات، مرجع سابق، ص 424.

  وعلى العموم إن تأمين شبكة ذات كفاءة عالية من طرق النقل ووسائطه، يسّهل عمليات نقل السلع الغذائية والاستهلاكية، كما يسهل انتقال الناس وحركتهم إلى مناطق الاصطياف والراحة والاستجمام وزيارة الأماكن المقدسة، وكذلك إلى المركز والمنشآت الخدمية الصحية والتعليمية والمالية والتجارية وغيرها، كما يسهل أيضاً عمليات نقل وسائل الثقافة الجماهيرية وتبادلها، إن هذا كلّه يجعل الحصول على الخدمات سهل المنال من قبل السكان، الأمر الذي يزيد من استهلاكهم لها، ويحسن من شروط حياتهم ولاسيَّما المناطق الريفية والبعيدة التي تفتقر إلى كثير من الخدمات، وإن وجدت فهي رديئة في نوعيتها على الغالب. فكلما كانت شبكة الطرق أفضل في نوعيتها كانت وسائط النقل أعلى كثافة وأكثر حداثة، وهذا يسهم في نجاح الخطط والبرامج الخدمية والإنتاجية وتطويرها في المراكز العمرانية والأقاليم.

3- رأس المال (ويتضمن هذا العامل ميّزانية الدولة والإنفاق الحكومي والأهلي والخيري والاستثماري في مجال الخدمات السكانية):

  يعدُّ رأس المال عصب التنفيذ الذي يكفل ويؤمن حاجة قطاع الخدمات السكانية من استثمارات وأصول، هذا ويزيد الإنفاق الحكومي على قطاع الخدمات من احتياجات السكان إلى الخدمات ويؤدي إلى تغطية المناطق المدنية والريفية بالخدمات وحسر الهوة الخدمية بينهما، عبر ما تقدمه الدولة للسكان من إنفاق مالي وتسهيلات وضمانات للقطاع الخاص وللاستثمارات الخارجية وخفض الضرائب في المجال الخدمي1.

  إنَّ توافر الأموال على اختلاف مصادرها مع الإدارة الرشيدة والحكيمة تعدُّ عاملاً حاسماً في تحديد حجم احتياجات السكان للخدمات واستهلاكهم لها على مستوى الدول والأقاليم، وفي تحقيق التوزع الجغرافي الأمثل للمنشآت الخدمية بما يجعل

___________________

1- ممدوح شعبان دبس، جغرافية الخدمات، مرجع سابق ص152.

خدماتها سهلة المنال وفي متناول السكان جميعهم الذين بُنيت هذه المنشآت لخدمتهم، فعندما تتوافر الأموال اللازمة وتبنى المنشآت الخدمية في المكان المناسب بما يلبي احتياجات السكان، ويتوافر الإطار الخدمي المؤهل والمدرّب، وكذلك البنية التحتية الخدمية المتطورة الأمر الذي يسهم في رفع مستوى الخدمات التي تؤديها المنشآت الخدمية للسكان كماً ونوعاً، وهذا يزيد من استهلاك السكان للخدمات الجيدة والمتطورة. وتعمل بلدان العالم على توفير المبالغ اللازمة لتقديم الخدمات بمختلف أنواعها بما يلبي حاجة السكان ويسد النقص في تلك الخدمات، إِذْ تعدُّ الخدمات معياراً ومقياساً لنجاح سياسة الحكومة أو إخفاقها1. فالخدمات تمثل العنصر الأساسي في حياة الإنسان فهي مؤشر على رفاهيته وراحته، لأنَّ الإنسان هو غاية الخدمات، ولذلك لابدَّ من تخصيص الأموال الكافية من أجل تلبية الاحتياجات الخدمية للإنسان وإشباع رغباته في هذا المجال. فعندما يزداد إنفاق الدولة على قطاع الخدمات السكانية، فإن ذلك سيعمل على تلبية الاحتياجات الخدمية للسكان كماً ونوعاً وتنوعاً، ومن ثمَّ يرتفع مستوى رفاهيتهم وراحتهم.

  إنَّ الإنفاق الحكومي في مجال الخدمات يرتبط بميّزانية الدولة بالدرجة الأولى، ففي البلدان الغنية تتوافر الأموال اللازمة لتأمين الاحتياجات الخدمية لسكانها كماً ونوعاً، أمَّا في البلدان الفقيرة ذات الميّزانيات الشحيحة فنجد عجزاً واضحاً في تأمين الاحتياجات الخدمية لسكانها، حيث تلبي الخدمات احتياجات شريحة محدودة من السكان وهم الأغنياء والمتنفذون وأصحاب القرار، أمَّا الخدمات الموجهة لعامة الناس فإنْ وجدت فهي قليلة في كميتها ورديئة في نوعيتها، كما هو الحال في كثير من البلدان النامية الإفريقية التي يعاني أبناؤها من تردي مستويات المعيشة نتيجة تردي

___________________

1 خلف حسين علي الدليمي، تخطيط الخدمات المجتمعية والبنية التحتية- أسس، معايير ، تقنيات،ط1، داء صفاء، عمان، 2009م، ص49.

قطاع الخدمات وتخلّفه وضعف اقتصاديات هذه البلدان النامية فالجوع والمرض والجهل، هذا الثالوث الهدام يعاني منه معظم السكان في العديد من البلدان النامية في العالم.

  ويؤدي تعاون السكان وتكاتفهم مع بعضهم بعضاً، وكذلك إيمانهم بمعتقداتهم دوراً مهماً في تأمين احتياجاتهم من الخدمات، وذلك من خلال بناء المنشآت الخدمية الأهلية والخيرية مثل دور العبادة والمدارس والمستوصفات والمستشفيات ودور رعاية المسنين والعجزة والأيتام، وكذلك الجمعيات التعاونية لنقل الركاب والبنوك وتأمين السلع التموينية وتوزيعها على الفقراء والمحتاجين وغير ذلك من المجالات الخدمية.

   إنَّ تشجيع الدولة للقطاع الخاص والأهلي والخيري وللاستثمارات الخارجية في المجال الخدمي يزيد من إنتاج الخدمات واستهلاكها وتطورها كما ونوعاً وتنوعاً، ويجعل خارطة التوزع الجغرافي للمنشآت الخدمية أكثر كثافة الأمر الذي يقلل من طول الرحلة الخدمية ويجعل الخدمة سهلة المنال من قبل السكان.

4- مستوى أداء البنية التحتية الخدمية وتطورها: تعدُّ البنية التحتية إحدى أهم البنى الإقليمية التي تدخل في نسيج الإقليم ومراكزه العمرانية لتكتمل بها اللوحة الإقليمية الجغرافية بعناصرها الطبيعية والبشرية والاقتصادية.

  إنَّ التوسع في شبكات ومنشآت ومرافق البنية التحتية وتطورها المستمر قضية مهمة تقتضيها عملية التطور الاجتماعي والاقتصادي لتلبية حاجات السكان والإنتاج، ويعدُّ بعض الباحثين أن مفهومها يتطابق مع مفهوم المرافق العامة والبنى القاعدية أو الارتكازية.

  ويعرّف آلاييف Alaev البنية التحتية بأنَّها مجمل المنشآت والمباني والمصالح اللازمة لسير الإنتاج المادي وتطويره بصورة طبيعية واللازمة أيضاً للنشاط الحيوي الطبيعي للسكان في منطقة معينة1. وبعبارة أخرى هي تنظيم مكاني يتضمن شبكاتالمرافق العامة ومنشآتها التي تتطلبها حياة السكان من جهة، وعملية الإنتاج الاقتصادي من جهة ثانية، وهذه الشبكات والمنشآت والمرافق يجب توافرها كلياً أو جزئياً وبحسب الحاجة إليها في كل مركز عمراني أو إقليم.

  وتتسم شبكات ومرافق البنية التحتية ومنشآتها (أي عناصرها) بخصائص عدة أهمها: الضرورة والجاهزية والديمومة والعمر الطويل والترابط وعمومية حق الانتفاع، ويضاف إلى ما تقدم الأمان والكفاية والمرونة والكفاءة والانسجام مع الظروف البيئية السائدة. كما تتميّز البنية التحتية بسمات ثلاث هي:

1- أنَّ عناصرها جميعها لا تنتج قيماً مادية.

2- إنَّ إنشاء البناء التحتي يسبق الاستثمار الاقتصادي للمنطقة. 

3- إنَّ مستوى تطور البناء التحتي يعكس سعة التوزيع في المنطقة، ويقُصد بذلك قدرة المنطقة على استيعاب مؤسسات جديدة أو توسيع المؤسسات القائمة من دون نفقات إضافية2

  ووفقاً للمساحة التي تشغلها عمليات إنتاج الخدمة وتوزيعها وتقديمها للمستهلك يمكن التمييز بين نوعين من البنى التحتية، الأولى تقنية أو شبكية وتشمل شبكة النقل والمواصلات والمياه النقية والكهرباء والصرف الصحي والاتصالات ونقل المعلومات، والثانية نقطية وتشمل الأبنية والأماكن التي تقوم على تأمين الخدمات الضرورية لكل من حياة الناس وعملية الإنتاج الاقتصادي3 .

________________

1- آلاييف. أ، التخطيط الإقليمي في البلدان النامية، باللغة العربية، ترجمة بشير الناشئ، دار التقدم، موسكو، 1980م ص19.
2- خلف حسين علي الدليمي، تخطيط الخدمات المجتمعية والبنية التحتية- أسس، معايير، تقنيات، مرجع سابق، ص ص 41-43.
3- محمد صافيتا، البنية التحتية دورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، المجلة الجغرافية السورية، العدد24 ك1، 2004م، ص68 .

   وتُقسم عناصر البنية التحتية تبعاً لوظائفها إلى البنية التحتية الإنتاجية (وتخدم الإنتاج) والبنية التحتية الاجتماعية (وتخدم المجتمع) ، ويعكس الأول القدرة الاقتصادية العامة للبلد أو الإقليم أو المركز العمراني، ويعكس الثاني رفاهية السكان، ومن الصعب الفصل بينها لأنَّ كلاًّ منهما يخدم الإنتاج والسكان في الوقت نفسه1. ويشكلان معاً البنية التحتية الإقليمية.

  إنَّ عناصر البنية التحتية من منشآت وشبكات ومرافق يجب توافرها في المراكز العمرانية، فهي شرط أساسي وضروري للإنتاج وللخدمات السكانية، وعاملاً مهماً في توزع فروع الخدمات السكانية ومنشآتها، ومقياساً لمدى تطور دول العالم اقتصادياً واجتماعياً ومدى التطور الحضاري للمجتمعات، فمنشآت البنية التحتية وشبكاتها هي بمنزلة رأس مال في الدولة وتطورها يعبِّر -إلى حدٍّ كبير- عن تطور الدولة.

   وقد عَدَّ أبراموف. م.أ أن Abramov.M.A البنية التحتية الاجتماعية تشكل الأساس المادي- التقني لميادين قطاع الخدمات2. وإنَّ وجود البنية التحتية أو المرافق المتطورة في المراكز العمرانية والأقاليم يؤثر في تلبية الاحتياجات الخدمية لسكانها، كما يؤدي إلى خلق حاجات خدمية جديدة، لهذا فإن تطور مجالات البنية التحتية يعدُّ عاملاً مهماً في تطوير الاقتصاد والمجتمع، من خلال إسهامها في تحسين ظروف العمل ومستوى معيشة السكان. وتتحدد أهمية المراكز العمرانية وعلاقاتها مع بعضها بعضاً من خلال المهام التي تقوم بها والخدمات التي تقدمها سواءً لسكانها أو لسكان ظهيرها القريب.

   وإنَّ لمجالات البنية التحتية وفروعها عتبة حدية أو ريعية اقتصادية تتناسب مع أحجام المراكز العمرانية وحاجات الإنسان والإنتاج وبما يحقق الجدوى الاقتصادية

1- ممدوح شعبان دبس، جغرافية الخدمات، مرجع سابق، ص152.
2- أبراموف. م.أ، جغرافية الخدمات - قطاع الخدمات في الاتحاد السوفيتي، دار الفكر ، موسكو، 1985م، ص14.

لمختلف هذه المجالات والفروع. وتنتمي إلى البنية التحتية الاجتماعية مجالات عديدة متنوعة منها أبنية المؤسسات التعليمية والثقافية بمختلف أنواعها وأشكالها، وأبنية الإذاعة والتلفزيون والمسارح والنوادي الرياضية وأماكن قضاء أوقات الفراغ، وكذلك أبنية المنشآت الاقتصادية وأماكن الرعاية وأبنية المنشآت الصحية (المستشفيات والمستوصفات والمصحات وغيرها) ومقرات قيادات المنظمات الشعبية والهيئات الإدارية والسياسية التي تدير شؤون المجتمع... وغيرها. أمَّا البنية التحتية التقنية فتتجسد في شبكات النقل والمواصلات وشبكات نقل الطاقة الكهربائية وشبكات نقل المياه النقية ومياه الصرف الصحي وشبكات الاتصالات ونقل المعلومات، يضاف إلى هذا كل ما يرتبط بهذه الشبكات من منشآت وهيئات وفروع ومجالات1

   إنَّ لكل فرع خدمي أو إنتاجي بنيته التحتية، فللزراعة بنيتها التحتية وللصناعة كذلك، كما أن لكل فرع من فروع الخدمات السكانية بنيته التحتية التي تؤثر في توزع هذه الفروع وتطورها وأدائها لوظيفتها بالشكل الأمثل بما يلبي احتياجات السكان من خدمات هذه الفروع ومنشآتها.

  وسنأتي على ذكر عناصر البنية التحتية لبعض فروع الخدمات السكانية مثل خدمات التعليم المدرسي والرعاية الصحية ونقل الركاب.

  تتضمن عناصر البنية التحتية لخدمات الرعاية الصحية المنشآت والمباني الصحية وتزويدها بشبكات المياه النقية والكهرباء والاتصالات والصرف الصحي وخطوط النقل والماء الساخن والتدفئة والتبريد، ونظام التخلص من القمامة وتوافر المساحات الخضراء المحيطة بالمنشآت والمباني الصحية، وكذلك المنشآت التعليمية التي تقوم بتهيئة الإطار الطبي وإعداده وتأهيله ومنشآت البحث العلمي الطبي وينتمي إلى عناصر هذه البنية أيضاً التجهيزات والمعدات الطبية على اختلاف أنواعها إِذْ لا يمكن لأية منشأة صحية أن تؤدي وظيفتها من دون ذلك،

1- محمد صافيتا، البنية التحتية ودورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مرجع سابق، ص68.

 كما تعدُّ الأسِّرة والكراسي المتحركة وبنك الدم ومغاسل الثياب والشراشف وورشة الخياطة والمطابخ والمرافق الأخرى من حمامات ومغاسل ودورات مياه وغيرها عناصر مهمة في البنية التحتية الخدمية1. ومن المهم في المنشآت الصحية الكبيرة كالمستشفيات والمصحات وجود مكان لممارسة الطقوس الدينية. 

  وتتضمن عناصر البنية التحتية لخدمات التعليم المدرسي منشآت التعليم المدرسي والمباني جميعها بما فيها المدارس وأبنية البث التلفزيوني للبرامج التعليمية والمقرات والمقررات والهيئات الإدارية المسؤولة عن قطاع التعليم المدرسي، كما تتضمن إمداد المدارس بشبكات المياه النقية والكهرباء والاتصالات وطرق النقل، وتوافر المساحات الخضراء والملاعب ووسائل التدفئة والتبريد ومستلزمات العملية التعليمية من سبورات ومقاعد ووسائل إيضاح ومكتبة ومختبر وتقنيات التعليم، وكذلك توافر المرافق من مغاسل ودورات مياه وغيرها، ومن الضروري أيضاً وجود صيدلية صغيرة تحوي مستلزمات الإسعاف الأولي وغيرها.

   أمَّا البنية التحتية لخدمات نقل الركاب فتشمل الطرق والأرصفة والجسور والأنفاق، وأيضاً محطات التزود بالوقود ومحلات إصلاح السيارات ودهانها وغسلها، يضاف إلى ذلك الاستراحات على الاسترادات ومحلات وقوف السيارات ومراكز انطلاق السيارات وغيرها من العناصر.

  والشيء نفسه بالنسبة إلى بقية فروع الخدمات السكانية، فلكل منها بنيته التحتية. إنَّ النقص أو الخلل في أي عنصر من عناصر البنية التحتية لأي من فروع الخدمات السكانية ينعكس سلباً على مستوى تطور الخدمة وكفاءتها وأدائها لوظيفتها بالشكل الأمثل.
___________________

1- ممدوح شعبان دبس جغرافية الخدمات، مرجع سابق، ص389.

5- الموارد الاقتصادية وأوجه النشاط الاقتصادي في المراكز العمرانية والأقاليم والبلد عموماً:

  إنَّ غنى البلد أو الإقليم بموارده الاقتصادية المعدنية وشبه المعدنية والطاقوية (موارد الطاقة) والموارد الحيوية (النباتية والحيوانية) والتوزيع العادل لهذه الثروة على السكان، ينعكس إيجاباً على مستوى حياتهم ورفاهيتهم من خلال إسهام العوائد المالية في تأمين احتياجات السكان من الخدمات إنتاجاً واستهلاكاً.

  وتعتمد كثير من البلدان النامية على ثروتها الباطنية أو الحيوية اعتماداً كاملاً في عمليات التنمية، مثل بلدان الخليج العربي التي بلغت مداخيلها من جراء النفط والغاز أرقاماً خيالية مكنتها من القيام بنهضة عمرانية نشيطة ومن إيجاد بنية تحتية خدمية متطورة، ممَّا أسهم في ارتفاع مستوى معيشة السكان ورفاهيتهم في هذه البلدان، بعد أن كانت مهددة بكثير من جائحات المرض والجوع وتعتمد على المساعدات الخارجية الاستعمارية قبل ظهور النفط والغاز فيها1. والأمر نفسه ينطبق على موريتانيا التي تعتمد في تأمين الاحتياجات الخدمية لسكانها على العوائد المالية من جراء تصدير خامات الحديد، كما ينطبق أيضاً على العديد من البلدان الإفريقية الاستوائية التي تعتمد على الثروة الغابية في إنتاج خدمات متواضعة للسكان واستهلاكها.

   وتحدد الموارد المتاحة في البلدان والأقاليم أنواع الحرف والنشاطات الاقتصادية السائدة التي تحدد بدورها حجم التجمعات السكانية وشكلها وكثافتها، ولهذا الأمر دلالته في حجم طاقم الخدمات وتطوره وتنظيمه المكاني. وتعدُّ حرفتا جمع الموارد النباتية (أخشاب الفلين، وحشائش الحلفا، والصمغ العربي وغيرها) والرعي أقل الحرف حاجة للأيدي العاملة وأقلها قدرة على إعالة السكان، لذا تقل التجمعات السكانية في نطاقاتها

1- إبراهيم أحمد سعيد، فيصل غرام قماش، جغرافية الوطن العربي، منشورات جامعة دمشق، 1999- 2000م، ص 226 . 

وتكون صغيرة الحجم ومبعثرة تعتمد في جانب كبير على ذاتها في تأمين احتياجات سكانها من الخدمات القاصرة بالأساس كما ونوعاً، وبالنسبة إلى حرفة صيد الأسماك واستغلال الموارد البحرية فإن الواقع الخدمي لا يختلف كثيراً عنه في الحرفتين السابقتين.

  ويزداد حجم التجمعات السكانية، ومن ثمَّ حجم الخدمات وأنواعها في الأقاليم والبلدان الغنية بمواردها المعدنية وشبه المعدنية وموارد الطاقة إِذْ تمارس حرفة التعدين، وهذا يفسر وجود العديد من التجمعات السكانية في بعض النطاقات الصحراوية، وتشكل هذه التجمعات مراكز خدمية مهمة في مناطق وجودها. ويتميّز النشاط الزراعي بحاجته إلى الأيدي العاملة والقادرة على إعالة أعداد كبيرة من السكان وتأمين الخدمات لهم لتنوع منتجاتها وتعددها وارتفاع قيمة معظمها، ففي الأقاليم الزراعية تتباين التجمعات السكانية في أحجامها وخصائصها وكثافتها ودرجة تأمينها بالخدمات تبعاً لطبيعة الزراعة وأنماطها.

  ومع ظهور الصناعة الحديثة وتطورها تقوّت عملية التقسيم الاجتماعي للعمل بصورة كبيرة داخل المجالين الإنتاجي وغير الإنتاجي1. وتعاظمت فوائض الدخول المتجهة من القطاع الصناعي إلى قطاع الخدمات، وبنتيجة ذلك ظهرت أنواعٌ جديدة من الخدمات مثل الخدمات المصرفية وخدمات الاتصالات ونقل الركاب، كما ظهرت أيضاً كثير من الخدمات التي كانت تنتمي في السابق إلى الخدمة الذاتية (مثل الاهتمام بشؤون البيت وأثاثه ومحتوياته ومراعاة الشروط الصحية وتربية الأطفال دون سن المدرسة وإعداد الطعام وإصلاح الأشياء الشخصية وأيضاً خدمات تأمين المياه والتدفئة وغيرها) .
______________

1- ممدوح شعبان دبس ، جغرافية الخدمات، مرجع سابق، ص98.

وبفضل الصناعة ظهرت المدن الضخمة وازداد دخل السكان واستهلاكهم للخدمات بأشكالها وأنواعها كلّها، الأمر الذي أسهم في تحسين شروط حياة السكان وزيادة رفاهيتهم.

نتائج الدراسة:

  بعد هذه الدراسة التحليلية والتقييمية لمجموعة (المنظومة) العوامل الاقتصادية المؤثرة في جغرافية الخدمات من حيث التباين المكاني في احتياجات السكان إلى الخدمات واستهلاكهم لها وكذلك تنظيمها المكاني يمكن استخلاص النتائج الآتية:

- إنَّ العوامل الاقتصادية المؤثرة في جغرافية الخدمات (حاجة واستهلاكاً وتنظيماً مكانياً) تشكل منظومة قائمة بذاتها تشتمل على خمسة عوامل أو عناصر هي: الموقع الجغرافي الاقتصادي، وشبكة طرق النقل ووسائطه، ورأس المال، ومستوى أداء البنية التحتية الخدمية وتطورها؛ وكذلك الموارد الاقتصادية وأوجه النشاط الاقتصادي في المراكز العمرانية والأقاليم. وفي الوقت نفسه تشكل منظومة العوامل الاقتصادية جزءاً لا يتجزأ من منظومة متكاملة وشاملة للعوامل كلّها المؤثرة في جغرافية الخدمات.

- إنَّ دراسة وتقييم مجموعة (منظومة) الظروف والعوامل تشكل واحدة من الاتجاهات (الميادين) الرئيسة للدراسة في جغرافية الخدمات والتي تؤثر بدورها في باقي اتجاهات (ميادين) الدراسة لهذا العلم متمثلة في التباين المكاني في حاجات السكان إلى الخدمات واستهلاكهم لها، وكذلك التنظيم المكاني لقطاع الخدمات السكانية بفروعه كلّها.

- توضيح مفهوم اتجاهات (ميادين) الدراسة وجوهرها في جغرافية الخدمات من أجل تسليط الضوء بصورة علمية ومنهجية صحيحة لأثر كل عامل من العوامل الاقتصادية في كل من هذه الاتجاهات مع تقيم هذا الأثر من منظور الجغرافية الخدمية.

- إنَّ العوامل الاقتصادية ضمن منظومتها من جهة ومع منظومة العوامل الطبيعية ومنظومة العوامل البشرية من جهة أخرى تتفاعل في إظهار التباين المكاني في احتياجات السكان إلى الخدمات واستهلاكها وتنظيمها المكاني في المراكز العمرانية والأقاليم، وعلى أساس هذا التباين تُحدَّدُ الشخصية الخدمية المميّزة للمركز العمراني أو الإقليم وخصائصها.

- تختلف قوة تأثير كل عامل من العوامل الاقتصادية في توزع الخدمات السكانية وتطورها والتباين المكاني في الحاجة إليها واستهلاكها وتنظيمها المكاني، باختلاف هدف الدراسة في جغرافية الخدمات، وكذلك أنواع هذه الدراسة واتجاهاتها ومستوياتها المكانية.

المصادر والمراجع

المراجع باللغة العربية

1- إبراهيم أحمد سعيد، فيصل عزام قماش، جغرافية الوطن العربي، منشورات جامعة دمشق 1999- 2000 م.

2- إبراهيم أحمد سعيد، ممدوح شعبان دبس، تطور الفكر الجغرافي، منشورات جامعة دمشق 2010 - 2011م .

3- خلف حسين علي الدليمي، تخطيط الخدمات المجتمعية والبنية التحتية- أسس، معايير، تقنيات،ط1، دار صفاء، عمان 2009م .

4- ساطع محلي، جغرافية المدن - عمرانياً وتنظيمياً، منشورات جامعة دمشق، 1992-1993م.  

5- علي محمد دياب، جلال بدر خضرة، جغرافية السياحة والخدمات، منشورات جامعة تشرين، 2005 -2006م.

6- علي محمد دياب، مناهج البحث العلمي وطرائقه في الجغرافية البشرية، منشورات جامعة دمشق، 2009-2010م. 

7- محمد إبراهيم صافيتا، البنية التحتية ودورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، المجلة الجغرافية السورية، العدد 24ك 2004،1م.

8- محمد إبراهيم صافيتا،عدنان سلمان عطية،جغرافية الوطن العربي البشرية واقتصادية، منشورات جامعة دمشق، 2003 -2004م.

9- محمد إبراهيم صافيتا، عدنان سليمان عطية، جغرافية المدن والتخطيط الحضري، منشورات جامعة دمشق، 2005م.

10-ممدوح شعبان دبس، جغرافية الخدمات، منشورات جامعة دمشق 2005- 2006م.

المراجع باللغة الروسية

1- أبراموف. م.أ، جغرافية الخدمات –قطاع الخدمات في الاتحاد السوفيتي، دار الفكر ، موسكو، 1985م.

2- آلاييف. أ.ب، التخطيط الإقليمي في البلدان النامية، باللغة العربية، ترجمة بشير الناشئ، دار التقدم، موسكو، 1980م.

3- آلاييف.أ.ب،الجغرافية الاقتصادية والاجتماعية- قاموس المفاهيم والمصطلحات، الفكر، موسكو،1983م.

4- ألكسيف أ. ي، كوفاليف. س.أ تكاتشينكو .أ.أ ، جغرافية قطاع الخدمات – المناهج والمفاهيم الأساسية، تفير، روسيا، 1991م.

5- الموسوعة السوفيتية الكبرى، موسكو 1975م المجلد 20. 

6- بارانسكي. ن .ن، الجغرافية الاقتصادية والمقولة الاقتصادية، المطبعة الحكومية، موسكو، 1956.

7- باتروشيف.ف . د، التغيّرات المحتملة في استثمار موازنات الوقت، مجلة البحوث الاجتماعية، 1982م، العدد1.

8- ساوشكين يو. ك، الجغرافية الاقتصادية- التاريخ، النظرية ، المنهج، التطبيق، دار الفكر، موسكو، 1973م.

9- كرودسكي.س.ك، التركز وفعالية الإنتاج في المجمعات المكانية الإنتاجية- قضايا منهجية، الاقتصاد، موسكو، 1980م. 

10- ماركوليس أ.ف، ستيبانوف أ.ي، احتياجات الإنسان – القضايا المنهجية للبحث المرَّكب (الكومبلكسي)- استعراض تحليلي للمؤلفات، مجلة قضايا الفلسفة، 1986م- العدد 4.

حمله 


من هنا

للقراءة والتحميل 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا