التسميات

الأحد، 1 أبريل 2018

الاستيطان العمراني الفرنسي في الريف الجزائري: مقاربة سوسيوتاريخية ...


الاستيطان العمراني الفرنسي في الريف الجزائري

مقاربة سوسيوتاريخية 

الدكتور عثمان فكار

جامعة سعد دحلب البليدة - الجزائر

مجلة جامعة دمشق - المجلد 29 - العدد 3و4 - 2013 - ص ص 587 - 610:

الملخص

  يتناول هذا المقال قراءة سوسيوتاريخية لظاهرة الاسـتيطان العمرانـي فـي الريـف الجزائري، خلال مرحلة الاستعمار الفرنسي (1962-1830)، وهذا بالتركز على أهـم العمليات التي أدت إلى وضع الأيدي علـى الأراضـي الخـصبة وتفكيـك الطـابع الاجتماعي للملكيات العائلية والجماعية، وإعمار ديموغرافي فرنسي أوروبي، وتوطين عمران كلونيالي (قرى، ضيعات ...الخ )، نفذت عمليات لتجـسيد مـشروع مجـالي ونموذج ثقافي غريب عن المجال التقليدي، فمع توسع الاستيطان أضـحى المجـال الريفي يجسد ثنائية مجالية وتضاداً بارزاً بين مجال المستوطن المنفتح (المتمثل فـي الضيعات أو القرى الكلونيالية) ومجال الأهالي المنغلق (المتمثل فـي قـرى العـرب والسكنات الحصرية)، وهكذا طوال المرحلة الاسـتعمارية تغيّـرت البنيـة المجاليـة ومازالت بعض رواسبها باقية بعد الاستقلال.

مقـدمة:

   إنَّ المتصفح لتاريخ الاستعمار1 الفرنسي للجزائر(1962-1830)، يدرك للوهلة الأولى أن الملامح الأولى للتحول في السكن الريفي، تزامنت وعمليات امتلاك المجال الريفي، حيث أقام الاستعمار نمطاً سكنياً وعمراناً يخدم في مجمله سياسة الاسـتيطان، من خلال الاستحواذ على العقار، وإقحام نماذج سكن مغايرة للنمط التقليدي من حيـث2 الشكل، والمواد البنائية المستعملة، والتهيئة والتنظيم المجالي لها...إلخ

  في تناولنا لهذا الموضوع، لا نتطرق بالتفصيل إلى مراحل امتلاك المجال الريفي، فهذا ليس من أغراض هذا المقال، وإنما نشير فقط إلى العمليات الكبرى التي من خلالها تمَّ التحكّم في الريف،وهذا على مستوى المصادرة،استغلال المجـال، وإقامـة عمـران كلونيالي، فضلاً عن عمليات أخرى شملت التجميع القصري التي انتهت بظهـور مـا يسمى بالعمران المحتشدي، وعليه يتضمن العـرض سـبعة عناصـر، يعـالج الأول عمليات الاستيطان الريفي، وتعالج العنصر الثاني الاسـتيطان العمرانـي وأوضـاع الإقامة في الدوّار، أمّا الثالث فيصف أنماط الاستيطان العمراني في الريف الجزائري، فيما يتطرق العنصر الرابع إلى أوضاع الإقامة في الدوار، في حين يركـز العنـصر الخامس على ملامح التحول في العمران التقليدي، أخيراً يتناول كـل مـن العنـصر السادس والـسابع حالـة مـا يـسمى بـالعمران المحتـشدي ومـشروع قـسنطينة (1963-1959) الذي تزامن بداية تنفيذه مع الحرب التحريرية.

________________

1 سنرى مع مسار العرض أن الاستعمار الفرنسي هو استعمار إسكان ديمغرافي ( colonialisme de peuplement) وليس مجرد استعمار استغلال(colonialisme d’exploitation)
2. من الأنماط السكنية التي كانت سائدة في الريف الجزائري الخيم، والكوخ، والمسكن المبني بالسطح، والمسكن التقليدي المبني بالقرميد.

1) عمليات الاستيطان الريفي وتجلي ملامح العمران الكلونيالي:

   جرت في الفترة الأولى من الاستعمار عمليات متعددة، كانت تشير بوضـوح إلى التخطيط الشامل للاستحواذ على المجال الوطني على المديين المتوسط والبعيـد، هذا التخطيط استهدف -كما هو معلوم- الريف الجزائري، بدءاً بسهوله الخصبة كما هو الحال بمنطقة المتيجة، والشلف، ومستغانم، ومعسكر،...إلخ، وكذا السهول العليـا الشرقية كمنطقة: سطيف، قسنطينة، عنابة...إلخ.

     امتد التوسع من خلال الصيغ التشريعية المتعددة، وفرض آليات يمكن بواسـطتها الاستيلاء على أجود الأراضي لتهيئة مجالات يوطن فيها عمرانـاً معـداً لاسـتقبال الجالية الفرنسية وإيوائها بالدرجة الأولى، ثم الأوروبية فيما بعد.

   وهكذا، تجلت ملامح العمران الكلونيالي تدريجياً على مـستوى منـاطق عـدة، فالشريط الساحلي على سبيل الذكر بدا على شكل مجمّعات سكنية في مناطق حضرية، مخصصة لهذا الغرض، وقد برز إلى الوجود نسيج عمراني جديد يحمل في معالمـه قيماً ومواصفات عمرانية غريبة عن المعالم العمرانية المحلّية.

   إنَّ المجمّعات السكنية الحضرية المشيدة من طرف المستعمر، كانت تقام عموما على محاور أربعة تأخذ شكلاً صليبياً، تتوزع عبره الشوارع الرئيسة التي تتفرع منها شوارع ثانوية، يقيم المستعمر عادة على الجوانب الأربعة: تمثلها البنايات الرئيـسة: مركز بريدي، ومركز ضرائب، وبنك، ومساحة خضراء، ثم تتبع البنايـات الـسكنية الجماعية والفردية، والمحلات التجارية، ومرافق التعليم...إلخ.

   هذا التخطيط كان مستلهماً في الواقع من التقسيم الوظيفي للعمران الغربي، الذي قام على أنقاض العمران العثماني الذي كان سائداً من قبل، في حين التجمعات السكنية في الريف كانت تبدو إمّا على شكل منازل واسـعة وضـياع منفـردة، أو متقاربـة بمحاذات الحقول الزراعية، أو قرى استيطانية تأخذ شكل مركز لسكن مجمّـع، هـذه البنايات بأشكالها المعمارية وبموادها البنائية المميزة، كانـت تقـدم نقيـضاً واضـحاً للعمران الريفي التقليدي.

    إنَّ الضيعة الريفية التي كان يملكها المستوطن الفرنسي بالخـصوص، وبغـض النظر عن حجمها وسعتها مستمدة أصلاً من التراث الإغريقي الروماني النهـضوي، هذا الإطار المبني والدخيل على الريف الجزائري كثيراً ما كان يظهـر الحنـان إلـى الريف الفرنسي، حيث حلم راود المستوطنين، وأضحى انشغالهم منصباً فـي امـتلاك الضياع والمنازل الفردية المحاطة بالمساحات الخضراء . إنَّ أول ما قام به الاستعمار هو توطين قرى جنينية خاصة بالمعمّرين الأوائـل، في قلب السهول، بدأت تظهر في الأفق ثنائية مجالية: مجال تقليدي بعمرانه المتواضع ونشاطاته التقليدية، ومجال كلونيالي غريب عن ثقافة وسوسيولوجية العـالم الريفـي. تعمقت الثنائية المجالية وتجذرت في مختلف المناطق، بدعامة العمليات والإجـراءات الاستحواذية للمجال الريفي ويمكن ترتيبها إجمالاً في نمطي الاستيطان:

أولاً: الاستيطان العسكري للمجال الريفي:

     امتّد هذا النمط من الاستيطان من سنة 1830 إلى نهايـة الأربعينيـات، بإقامـة القرى العسكرية النموذجية تحاذيها مزارع جماعية، وهـذا بقيـادة ضـباط الإدارة1 العسكرية، وأخذ بذلك المجال الريفي طابعاً عمرانياً عسكرياً .

    إنَّه المشروع العسكري للسكن الذي تجسد على شكل مستوطنات عسكرية فلاحية في المناطق الريفيـة كلّهـا التـي شـملت الأراضـي الخـصبة، فخـلال مرحلـة (1845-1842) أُنجِزَ خمسة و ثلاثون ألف (35000) "مركز تعمير" وسبع وعشرون

1 Jean MAURICE et al, Structures foncières et développement rural au Maghreb, Paris,Ed : P.U.F, 1969, p.69.


(27) " قرية استيطانية" في الساحل والمتيجة1 وحدها* .

      وقد تزامنت عمليـة التوسـع العمراني مع إجراءات الاستيلاء على المناطق السهلية الثلاث: الـشرقية، الوسـطى، الغربية، ووصلت طوال الإدارة العسكرية إلى سبعمئة (700) "قرية"، غيّرت بـدورها من مرفولوجية المجال الريفي السابق للاستيطان.

ثانياً: الاستيطان الرّسمي للمجال الريفي و توسع العمران الكلونيالي: إن مبدأ الاستيطان الرّسمي جاء على أنقاض الاستيطان السابق وكان قائماً علـى إدارة الأراضي بواسطة القوانين التشريعية، بإدخال فكرة الملكية الخاصة حيز التنفيـذ وتسهيل الصفقات التجارية للعقّار، وعلى إثرها وزعت أجود الأراضي على الجاليـة القادمة خاصة من الشمال الغربي، والجنوب الشرقي، فخلال مرحلـة 1882-1871 أنجز ما يقارب مئة وسبع وتسعين (197) قرية استيطانية، كانت تأوي مـا يقـارب2 ثلاثين ألف (30.000) ساكن، وبالموازاة لعمليات التعمير الغربي فقد الفلاحون مـا يقارب "النصف مليون" هكتار من أجود الأراضي كانت بحوزتهم إلى نهاية 1870. 

   وهكذا، بعد مضي أربع سنوات من الانتفاضة الريفية1871، بلغ عدد المراكـز الاستيطانية مئة وأربعة وأربعين مركز(144 )، سبعين(70) منها في الجهة الشرقية، أمّا الباقي فموزّع على المنطقتين الوسطى والغربية، وفيما يأتي الجدول الآتـي الـذي يقدم صورة إجمالية لتوزيع المراكز الاستيطانية3:

جدول رقم (01) 

يبيّن نمط العمران الغربي في المناطق الثلاث بالريف الجزائري 


________________
1 Charles-Robert AGERON, Hitoire de l’Algérie contemporaine (1830-1962), Paris,Ed :P.U.F,1964,p.p.18,20.

* تمثل المتيجة أجود الأراضي الفلاحية بالريف الجزائري حولها المستعمر طوال حكمه إلى منطقـة تخدم مصالحه التجارية، أقيم بها أول خط سكة حديدية تماشياً مع سياسة الاستيطان.
2 Ibid,p.p.47-48. 

3 PEYERIMOHOFF, Enquête sur la colonisation officielle in Djillali SARI, La dépossession des fellahs. Alger, S. N. E. D , 1975, p.40.



   قراءة سريعة للجدول تبرز عملية التوسع للمحيطات العمرانية و القرى، وهذا علـى عاتق الملكيات العائلية والقبلية المغتصبة، ومع توسّع المساحات المملوكة مـن قبـل المستوطنين، توسع انتشار المراكز العمرانية، فمنذ سـنة 1841 إلـى 1933 أُنجِـزَ تسعمئة واثنان وسبعون مركز تعمير بين موسع ومنجز جديد (972 مركزاً)، ولعـلّ1 الجدول الآتي يقدم فكرة عن التطور العددي للمراكز العمرانية

جدول رقم (02)

 يبيّن تطور المراكزالعمرانية والحراك الأوروبي


 يبيّن الجدول جملة من الملاحظات: أولاها تظهر العلاقـة الارتباطيـة بـين العوامل الثلاثة، إِذْ كلما تمَّ الاستحواذ على الأراضي ازداد الحراك الأوروبي وتوسـع مراكز التعمير. كما تظهر معطيات الجدول أنَّ المرحلة الوسطى الممتدة بـين 1871 و1900 هي الأكثر انتشاراً من ناحية التعمير، إِذْ وصلت إلى 474 مركز تعمير، هذه المرحلة بالنظر إلى الامتيازات التي كانت تقدمها للوافدين أسهمت إسهاماً مباشراً فـي توطين المعمرين بالريف الجزائري، طمعاً في ذلك تحقيق " وهم الإعمار الـديمغرافي الفرنسي"، وهذا على عاتق الفلاحين الأهالي.

__________

1 OP.cit , p.60.

2) الاستيطان العمراني في الريف الجزائري:

  قبل أنْ نعرض لأنماط الاستيطان العمراني في الريف الجزائـري، نـشير إلـى عاملين أسهما بدورهما في تدعيم عملية الاستيطان أيضاً وهمـا: الأشـغال الكبـرى1 والري الزراعي ،ومثل مشروع السكة من بين المشاريع الكبرى التي أسـهمت فـي الاستيطان العمراني. أمّا بالنسبة إلى العامل الثاني فعدّته الإدارة الكلونياليـة عنـصراً ديناميكياً للإمداد العمراني أيضاً.

  وهكذا، يلاحظ أن أشغال التهيئة الريفية كانـت مـشروعاً ضـارباً للاسـتيطان العمراني والديمغرافي، ولعلّ المجمّعات السكنية الريفية الصغيرة والـشبه الحـضرية مثلت الطّابع المميز للمناطق الغربية، يشير (سمود بوزيان) إلى أن الساحل الـوهراني أضحى مع مسار التعمير، المنطقة الأكثر كثافة، على الرغم من التغيّرات في التوزيع2 الديمغرافي، وقد مثل نمط الضيعة الريفيـة(La ferme coloniale) الإقامـة الأكثـر انتشاراً في هذا النوع من الإقامة، من شروط هذا الأخيـر أنـه لا يـوطن إلاّ فـي الأراضي التي جرى عليها سبر مائي (Sondage hydraulique)، إِذْ عدَّ المورد المائي

___________

1 نشير في هذا الصدد أن بعض المكاتب العربية الذي لجأ المستعمر إلى تأسيسها عمدت في إنجـاز مساكن من الحجر لا تتعدى غرفة واحدة، ونظراً إلى الرطوبة الموجودة بها وسوء التهوية والإنـارة تفشت بها أمراض كثيرة كـ: السقام، أمراض العين....إلخ، وللاستنزادة في الموضوع يمكن الرجوع أيضاً إلى:

Xavier YACONO, Les bureaux arabes et l’évolution des genres de vie indigènes dans l’ouest du tell Algérois (Dahra ,Chelif, Ouarsenis, Sersou), Paris, Ed : LAROSE, 1953, p.p.369-374. 
2 Bouziane SEMOUDE ,Industrialisation et espace régional en Algérie , le cas de L’Oranie, t.2, Alger, Ed : O.P.U ,1986,p.440.

ذا بعد اقتصادي أكثر منه ذا بعد اجتماعي يمد القيمة المضافة للعقار، باتباع الأسلوب المكثف، وهو الأسلوب ذاته الذي كان متبعاً في الريف المغربى والتونسي أيضاً1.

    وبالمقارنة بالمجال الذي كان يتمركز فيه الأهالي، فإن التفـاوت كـان واضـحاً للعيان، فالتقسيم النطاقي للعمران جسد التفاوت والتناقضات التي كانت سائدة، إِذْ مـن جهة المراكز الكلونيالية المدعمة بمستلزمات الحياة كلّها، ومن جهـة ثانيـة مـساكن الأهالي المفتقرة لأي تنظيم عمراني مشكلةً بذلك حزاماً بائساً، وعلى هـذا الأسـاس يمكن القول: إنَّ المجال الريفي، منذ الاحتلال وحتى بداية الاستقلال تطـور عمرانيـاً لصالح المعمرين، من أجل تحقيق الحلم الاستيطانى "التعمير الـديمغرافي العمرانـي"، الذي طالما راود كثيراً من المخططين والمنظرين الذين شجعوا حتى مبدأ إجبارية بقاء المعمّر، للحصول على الأرض والمسكن.

3) أنماط الاستيطان العمراني:

  إنَّ العابر للريف الجزائري آنذاك يصادفه التفاوت النطاقي: العمران الكلونيـالي والعمران المحلي في المجال الريفي، تظهر قراءة سوسيولوجية لهذا الواقع ميزة انفتاح الإطار المبني الكلونيالي على العالم الخارجي وهذا عكس ما كان سـائداً مـن قبـل، فضلاً عن تموقع هذا الإطار في مناطق إستراتيجية دفاعية، لا تتداخل مـع الإطـار المبني التقليدي، فمن ضيع واسعة ومنازل ذات سقوف حمراء(قرميد) إلى القرى، ومن كنيسة موطنة في الوسط ومن حامية عسكرية في الأطراف إلـى المقبـرة المحاطـة بأشجار السرول..إلخ، كلها معالم كانت تظهر تقطعـاً وتمـايزاً مجاليـاً بـين البيئـة * الاجتماعية للمعمّر وبيئة الإنسان الريفي .

 ___________

1 للتوسع حول الموضوع ، انظر مقال لـ (بيار مارتولو ) :

Pierre MARTHELOT, Les Implications Humaines de l’irrigation moderne en Afrique du nord, A. A. Nord ,1962, ,Paris , Ed : C. N. R. S , 1964, p.p.137,138.

* بعض التقطّعات المجالية بين المحيطات العمرانية والدواوير مازالت واضحة معالمها إلى اليوم، في بعض المناطق الريفية خاصة التضاد البارز القرية الكلونيالية وقرية الأهالي.

    مثّل الريف الجزائري حقل تجارب شيدت فيه بنايات سكينة ومرافق من نمط مخـالف تماماً عن المألوف، فقد غمر المجال الكلونيالي المجال التقليدي المنغلق دون أن يكون هناك تداخل، حافظ الأهالي على طابعهم السوسيولوجي للسكن، هذا الأخير لم يطـرأ عليه تغيير إلاّ تحت الظروف القهرية، وفي مراحل لاحقـة للاسـتيطان، كانـت أول ملامح التغيير في السكن التقليدي تغيير توطين الإقامة من الأعـالي إلـى المنـاطق السفلية الهامشية، وحراك مجالي مرغم فرضته ظروف الحياة القاسية بحثاً عن العمل. نتج عن إنجاز المشاريع العمرانية المدّعمة بالخرائط الطبوغرافية، عدة أنمـاط مـن الاستيطان العمراني في الريف الجزائري كلّه يمكن تلخيصها إجمالاً في1:

- الاستيطان عبر الضيع الكبيرة استفادت منه البرجوازية الفرنسية الراقية، وقد انتشر في مناطق سهلية مختلفة وعلى الرغم من عدده المحدود طبع بنشاطاته الوسط الريفي.

- الاستيطان عبر الضيع الواسعة متمركزاً في المحيطات الزراعية المسقية.

- الاستيطان عبر القرى الصغيرة يبدو على شكل تجمع صغير للضيع.

- وأخيراً نمط الضيعة المنعزلة، يغطي عدة مئات من الهكتـارات مخـصص لفئـة برجوازية راقية في السهول الشرقية والغربية أيضاً، هذا الأخير مثّل في الواقع أحياء مغلقة في محيطات منعزلة تحت تصرف الكولونيات الكبار والمؤسسات الخاصة2.

    في خضم هذا المد العمراني تغيّرت إذن البنية المجالية، بـدءاً مـن الـشريط الساحلي والسهول، وامتدت نحو الأحواض التلية حتى تخوم السهول العليا والمنـاطق الجبلية، وانتهى بذلك برنامج واسع للاستيطان العمراني مستفيداً من بـاطن المجـال الريفي وسطحه، لكن ماذا كان نصيب العنصر الجزائري من هذا العمران؟ ما الفئـة التي استفادت منه؟ ذلك ما سيُعالَجُ في العنصر الموالي.

________

1 Xavier YACONO . La Colonisation des plaines de Chélif , de la vigerie au confluent de la Mima, Alger , Imprimerie d’édition Imbert , , Tome I, , 1955 p.370,. 2Ibid, p.370.


 4) أوضاع الإقامة في الدّوار:

   واضح من العناصر السابقة الذكر، أنَّ الاستيطان كان يهدف بالدرجة الأولى إلى خلق مجتمع أوروبي جديد في الجزائر،يعيش- بحسب ما ادّعته الإدارة الاستعمارية - جنبـاً إلى جنبٍ مع المجتمع المحلّي، تأطره نظم وتسيره تشريعات كلونيالية، تخدم مـصالح المستوطن وتعمل على تغيير أنماط الحياة الريفية المحلّية.

   ووفقاً لهذه الرؤية تم تنظيم السكان عبر دواوير ولى قاعدة تفكيك القبائل، حيث استلزم الأمر بعد تأسيس الملكية الفردية للأرض تجميع العدد الكبيـر مـن الأفـراد المتحررين في إطار الدوار كدائرة –إلى حد ما - إدارية، والدوار بحسب هذا المنطق ما هو إلاّ مكان محصور يشدّ الخناق على الأفراد الذين كانوا يعيـشون فـي إطـاره قصراً، وشرع يُوسِّعُ نظام الإقامة الحصرية بعد الانتفاضات الريفية التي كانت تقـوم لمواجهة الاستحواذ العقاري.

   عاش السكان في إطار الإقامات المحصورة تنظيماً حياتيا،ً لم يكونوا متعودين عليـه، فمراقبة تنقلاتهم وفق مسارات محدودة نتج عنه تقلص النـشاطات التـي أضـحت لا تتعدى مواقع محددة، ولم يعد بإمكان الريفي توفير في محيطـه التقليـدي المجـالات المناسبة لأداء نشاطاته، و لا لتنظيم مأواه لأغراض التخزين ضماناً للأمـن غـذائي، وهذا عكس ما كان سائداً في مرحلة "ما قبل الاستعمار".

  تؤكد الدراسات السوسيوتاريخية، أنَّ العملية مست بصورة عنيفة حياة الرّحـل فـي مناطق السهوب والهضاب، وسارت وفق شعار كان له الأثر العميق في تلك المناطق وهو أن الجزائر بلد "بور" مناطقها فارغة من السكان، فقد أجبر السكان على اسـتبدال الخيم بالأكواخ أو منازل هشة بحكم قوة الأمور، وبهذا الأسلوب و مع مرور السنوات تشكّلت قرى الأكواخ وهو ما اصطلح على تسميتها بـ: الـڤرَابَا جمـع ڤُورْبِـي،  والمداشر التي كانت تجمع بين عدد من المنازل المتواضـعة بـالنظر إلـى تـردّي  الأوضاع، وأحياناً يتم اللّجوء مباشرة إلى الإقامة بجوار إحدى ضيعات الكولون1.

   من جهة أخرى ومن أجل التخفيف من حدة تردّي الأوضاع، عمدت بعض المكاتـب في إطار مشروع "قرى العرب" إلى بناء مساكن مـن * العربية (les bureaux arabes) الحجر، أغلبها متكون من غرفة واسعة ونادراً من غرفتين بنافذتين يفصل بينهما فناء، فضلاً عن مرافق أخرى، مدرسة لتعليم اللّغة الفرنسية، ومطحنـة، ومـسقاة للماشـية سجن، وبعض الأحيان مسجد...إلخ.

  إن المبادرات (المزعومة) لتحسين أوضاع أهل الريف (الإقامة في الدوّار) لـم تكـن سوى تجارب مخبرية إن صحّ التعبير، الغاية منها ترسيخ فكرة تثبيت السكّان الريفيين في نطاق الإقامات والحصر، فالذي يبتعد عن مكان دواره يعاد إليه بالقوة:
Ceux qui » s’écartent de leur tribu y sont ramenés de force et la tente doit disparaître » .

   هكذا، كان تصريح المولّعين بالاستيطان، تعويض الخيمة بالمنزل هـو أول خطوة حضرية والمقولة التي كانت سائدة "عندما نبني ليس فقـط نُـؤمِّن ولكـن نُحضِّرْ أيضاً" 2 ، وقد جربت طرائق أخرى لتشييد المنازل الفردية على الطريقة المحلّية (طريقة الأهالي)، وتركت الحرية في اختيار المواقع،غير أن هذه الطريقة لـم تُعَمِّـرْ

_________

1 Les formes de l’habitat et leurs réalisations avec les réalités psycho-sociales du monde paysan, communication présentée par Mme OUGOUAG, séminaire sur l’habitat rural, Alger, du 20-24/03/1977, p.02.
* فكرة المكاتب العربية ظهرت إلى الوجود مع سياسة الاستيطان العسكري لمعالجة قضايا الأهالي، حيث أسندت المهمة في البداية إلى الأغوات « agha des Arabes »، وتلتها إدارة الضباط وتوسعت هذه المهمة إلى الأقاليم التابعة للإدارة المد نية من 1854 إلى 1868، انظر المرجع الـسابق ذكـره للكاتب نفسه:
Les Bureaux arabes , OP.cit,p.10. 
2 Xavier YACONO , les bureaux arabes et l’évolution des genres de vie , Op.cit, p.p.372 .373.

طويلاً، حيث بقيت محدودة نطاقياً، بسبب تفضيل نمط القرى عن المنـازل الفرديـة المنعزلة.

  ذهب أيضاً دعاة متحمسي الاستيطان إلى اقتراح مآله، تجاور قرى المـستوطنين بقرى العرب، وهذا من أجل فتح أفاق تطوير الحياة المعيشية للإنسان الريفي، وتلقينـه قيم الحياة الحضرية كتغيير نمط الإقامة، والأثاث الداخلي، وإحاطتها ببستان، وتبييض الداخل بالجير من أجل النقاوة، إلى جانب إقامة إدارة تسيير شؤون العرب...إلخ1 . 

  هكذا كانت نظرة الإدارة و ممثليها إلى تغيير نمط الإقامة والحياة الريفيـة، إِذْ عُدَّتِ الإقامة الحصرية الجديدة حقيقة اجتماعية لابدَّ منها، و أنَّ ركود المجتمع الريفي يعود إلى تنظيمه الأركاييكي، لكن كيف كان موقف الأهالي؟.

    قوبلت هذه السياسة بالرفض إِذْ عَدَّ السكان صيغة التجميع، وفـرض الإقامـة الثابتة مساس بحريتهم وكرامتهم، فمنهم من عاد من جديد إلى الخيم، وهكـذا يمكـن القول: إنَّ تجربة قرى العرب وإنْ ظهرت في مناطق معينة، فإنَّ ذلك لا يمثل سـوى حالات محدودة، وأنَّ إجراءات الإسكان لم تُعَمِّْرْ طويلاً.

5) ملامح التحوّل في العمران التقليدي منذ القرن العشرين:

   تبيّن من العنصر السابق، أنَّ الإدارة الكلونيالية زعمت أنها عملت كل مـا فـي وسعها، من أجل تغيير نمط الحياة والإقامة الريفية، وترسيخ تقاليد عمرانية حـضرية جديدة، قائمة على مبدأ الاستقرار بالمجال ضمن نطاق الدواوير، كما اتضح أيضاً تراجع نمط حياة البداوة (ونصف البداوة)، الذي ميّز بصورة عامة السهوب والهضاب العليا، والتخلي عن نمط الخيمة، التي كانت تمثل ثلثي (2/3) الإعمار في الجزائر قبل 1830.
________

1 Louis DE BAUDICOUR , La guerre et le gouvernement d’Algérie , Paris, Ed : S et Bray, 1853,p.456.

   إنَّ الكوخ كإقامة دائمة، توسع نتيجة للصدمة العنيفة الناجمة عن سياسـة نـزع الملكية، وأضحى السمة الغالبة في جل الريف، كما عـرف تحـولات مختلفـة فـي عناصره البنائية، هذا التحول تجسد خاصة في المناطق التي عرفت تجمعـات سـكنية كثيفة، كما هو الحال في المناطق الشرقية كـ: قسنطينة، جيجل على سـبيل المثـال واستُبْدِلَ بها المواد التقليدية المحلّية في كثير من المناطق أيـضاً الأحجـار الـصلبة والخشب...إلخ.

    سهّلت مواقع التوطن لهذا النمط من السكن في تحسينه، فبتوافر المـواد الحديثـة ومحاذاة الطرق، هي من بين العوامل التي أسهمت في تغيير ملامحه، لكـن هـذا لا يعني تحولاً إيجابياً في أحوال العيش، فالمجال المبني وإن تحسنت مكوناته البنائية ظلّ دائماً يقدم صورة عن البؤس المعيش، مجال شخصه (أ.بارك-A. BERQUE) بالملجـأ الذي لا يولد الأمراض فقط، بل ينشر اليأس القلق وأحياناَ الانتفاضات1.

   أمّا بالنسبة إلى نمط السكن المبني بالسطيحة، المنتشر في الهـضاب والجنـوب، أشارت التحقيقات إلى أنَّ إطاره المبني لم يعرف سوى إضافات محدودة فـي بعـض المواد البنائية الحديثة، فعلى سبيل المثال لوحظ في منطقة "الواد" استعمال أحجار التنّ  (le tin)، ولتدعيم هياكل المساكن استُعمِلَ أيضاً الحجر المقولب والأخشاب وهي مواد جلبها العاملون في ورشات البناء الفرنسية.

    أمّا المسكن المبني بالقرميد فقد توسع وانتشر في منـاطق عديـدة، إِذْ لـم يعـدُّ مقتصراً على المناطق المعروفة بها كـ :القبائل، وجبـال البـابور، وڤرڤور مـثلاً، فبالمواد الإنشائية التي أضيفت إلى هيكله العام: كالرّمل، والإسمنت، والحديد، والجير، والخشب...إلخ، أصبح يميل في ملامحه أكثر فأكثر إلى السكن الأوروبي.

__________

1 Agustin BERQUE , l’habitation de l’indigène algérienne, revue Africaine, N°78, 1936, Alger , Ed : O.P.U, p.71

    التحول هذا، طبع المناطق الغربية أيضاً كنواحي: وهران، وبلعباس وبدرجة أقل منطقة مستغانم، ومعسكر فإلى جانب هذه المـواد أدخلـت المدخنـة (la cheminé)، وأضيفت الشرفة البيتونية (le balcon) كعنصر جديد ضمن عناصر الإطـار المبنـي، لكن يبقى هذا النمط من البناء غير منتشر بصورة واسعة في المناطق الشرقية، وذلـك لقلّة مراكز الاستيطان وللكثافة السكانية أيضاً مقارنة بالغرب والوسـط، ومـع ذلـك أدرجت المواد البنائية الأوروبية في المباني التقليدية.

   هذا واستناداً إلى التحقيق الذي أعد سنة 1921 حول السكن بـالجزائر، توصـل (B. AUGUSTIN– أڤستان .ب.)1 إلى النتائج المعروضة في الجدول الآتي:

جدول رقم (03)

يعرض إحصاء عام لأنماط السكن سنة 1921



 ومن قراءة سريعة للجدول يمكن استخلاص الملاحظات الآتية :

- الخيمة التي مثلت في السابق السمة الأكثر انتشاراً مجالياً، تقلصت إحصائياً إلى مـا يقارب (03%) من إجمالي السكن في الريف الجزائري.

- توسع انتشار نمط الكوخ كإقامة دائمة فرضتها ظروف الاستعمار، ومثـل نـسبة إجمالية مقدرة بـ (57%)، وهكذا فإذا عُّدَ الكوخ دخيلاً على المجتمع الجزائـري، فإنَّ الاستعمار نجح في فرضه إِذْ عَدَّهُ حقيقة سوسيولوجية، وجدت والمرحلة السابقة له كما تزعّم لتبرير انتشاره، بل راح بعض الضباط إلى اقتراحه كمسكن دائمٍ.

__________

1 Bernard AUGUSTIN , op.cit, p.146.
* نشير في الصدد أن العدد الإجمالي لأنماط الإقامة تقديري ويبدو أقل ممّا يقدمه الجدول العام لبلديات الجزائر بكاملها.

- أضحى الدوار قاعدة مجالية لهذا النمط من الإقامة بوصفه إطاراً جغرافياً وإداريـاً، جمع العديد من الأفراد المقتلعين من قبائلهم، ممثلين إمّا احتياطاً لليد العاملـة فـي الزراعة الكلونيالية أو للهجرة إلى مناطق أخرى.

- يمثل المنزل المبني بالقرميد نسبة جيدة أيضاً (26%) من إجمالي السكن، في حـين يلاحظ ظهور نمط السكن الأوروبي وانتشاره خاصة في المنـاطق التـي عرفـت استيطاناً قوياً، وهذا ما أوضحته النسبة (02%) من التشكيلة الـسكنية، فـي حـين حافظت المناطق الأخرى على النمط التقليدي مع تعديل في المواد البنائية، كما هـو مبيّن في نمط المسكن المبني بالسطيحة (12%) متمركزاً في المناطق التلية أو فـي الأراضي المنخفضة أوالجبلية، مشكلاً النمط المجمع أو المبعثر: مشتة، دشـرة أو قرية.

   هكذا، ارتسمت خلال هذه المرحلة بعض معالم التحول في أسلوب الحياة، وكذا في مواد البناء التقليدي في مناطق نفوذ الاستيطان، وبقي بعضها الآخر محافظاً علـى الطابع المحلي، على الرغم من دخول تقنيات البناء الغربية وتوسيعها في مجال البناء. 

   إنَّ مظاهر التحوّل في السكن الريفي سبر آخر أعدّ سـنة 1936، وقـد شـمل المناطق الأساسية، أظهرت المعطيات من خلاله أنَّه على الرغم مـن انتـشار نمـط "السكن المبني بالسطح"، وبقاء نمط "الخيمة" في بعض المناطق التلية، فإنَّـه يلاحـظ إدخال مواد بنائية جديدة كـ: الإسمنت، والجير، والخشب في نمط الكوخ، مع توسـع انتشار النمط المبني "بالقرميد".

    أشار السبر من جهة أخرى إلى ظهور تدريجي للـسكن الـذي يحمـل الطـابع الغربي، وعرفت مناطق عديدة أيضاً نشاطاً مكثّفاً للبناء المدعّم بالإسـمنت، وأصـبح الميل أكثر فأكثر لإنجاز مسكن من نمط حضري. 

  أَضِف أيضاً أن الأحياء القديمة في منطقة القبائل * تفككت وقامت على أنقاضـها أحياء جديدة في المواقع المنخفضة، كذلك أُدخِلَتِ النجارة كعنصر أساسي في طريقـة الإنجاز، فضلاً عن توسع نمط البناء الأوروبي واستعمال أكثر فأكثر للشرفات، هـذا التحول الدخيل على المنطقة علّق عليه أحد ممثلي الإدارة، بأنه الدليل علـى التحـول الجذري للعمارة التقليدية بالمنطقة، ومن مؤشرات التحـول تلـك المتعلقـة بالتأثيـث الداخلي كاستبدال الفراش الأرضي بالسرير الحديدي، وإحلال الشمعة محـل الـسراج الخزفي، وفقدت بعض المواد التقليدية مبرر وجودها وندرت في الوقـت نفـسه اليـد العاملة اللاّزمة للحرف التقليدية.

    هذا التعليق المغري وإنْ بدا منطقياً -إلى حد ما- لكن لا يمكن قبوله إلاّ بتحفظ، لأنَّ ظاهرة التحول أو بالأحرى ملامح التحول في العمران التقليدي بالمنطقة، لا تعود إلى العوامل المذكورة آنفاً، بل إلى عوامل أخرى أسهمت في تغيير بعـض معالمـه، فالأموال المستدعاة من الهجرة (المغتربين في فرنسا) وُظِّفَت هي الأخرى إمَّـا لبنـاء منازل، أو لتغيير بعض موادها أو أجزاء منها أو لشراء منازل أوروبيـة، الظـاهرة الأخيرة لم تكن عامة في القبائل، حيث تعلق الأمر بإجراءات فرديـة محـدودة لـدى بعض الفئات التي مكّنها وضعها المادي في الهجرة.

   وفي الخلاصة، يصل السبر إلى ملاحظة سوسيولوجية مؤداهـا أنَّ الميـل إلـى التحضر، وتحسين ظروف السكن مرتبط أساساً بالوسائل المحققة له.

   هذه المعالجة لوضعية السكن الريفي التقليدي والظروف التي مرَّ بها، بيّنـت لنـا الجوانب التاريخية التي تحكمت فيه، والآليات التي خضع لها في إطـار إسـتراتيجية خطط لها، من أجل قلب أنماط الحياة الريفية، بحيث اتّضح أنَّ التحـول مـس بعـض معالم العمران التقليدي من نواحٍ عدة، إنشائية هيكلية، مرفولوجية، وظهور عناصـر 

__________

* يعنى السبر بالخصوص منطقة القبائل الكبرى شرق الجزائر.

معمارية جديدة (الشرفات مثلاً) في المجال المبني، وكذا نمط المسكن الأوروبي فـي مناطق خاصة بفضل التأثير القوّي للاستيطان، هذا إلى جانب عوامل أخـرى ثانويـة أسهمت في بروز ملامح التحول كانتشار المواد البنائية الأوروبيـة، وتوظيـف اليـد العاملة المحلية في قطاع البناء، واكتساب تقنيات وفنون البناء ومؤهلاته...إلخ.    

   إنَّ معالم التحول هذه، وإنْ بدت مؤثرة في المجال الريفي، فـإنَّ ذلـك لا يعبّـر إطلاقاً عن تحول منظم وعقلاني للعمران، بالنظر إلى ما استنفع به المستوطنون طوال مرحلة الإعمار (975) قرية كلونيالية1، إلى جانب ضيعات وعدد لايستهان بـه مـن منازل فردية ريفية، منتشرة عبر المجال الريفي، وهذا ما يبيّن غياب سياسـة ترقيـة السكن الريفي، التي تزّعمت الإدارة تحقيقها، فالمشاريع التي أدرجت في إطار سياسـة الاندماج، كانت محدودة نطاقياً لصالح فئات معينة، وكثير منها لم يظهر تمامـاً إلـى الوجود، بسبب تعنت ممثلي الإدارة ومضايقة المعمرين لها، لأنه في نظـرهم يـزاحم مصالحهم مجالياً واقتصادياً.

6) العمران المحتشدي:

   من السمات الأساسية للعمران الريفي خلال هذه المرحلة،خضوعه لآليات التهديم (منازل فردية، مداشر، قرى،...إلخ) و الإفراع للمناطق الآهلة بالسكان وترحيلهم فـي مناطق مطوقة في إطار خطّة المراقبة، والسيطرة على المجال الريفي.

 وجد أكثر من مليوني (2.000.000) جزائـري فـي أواخـر الحكـم (1961) محتشدين في أكثر من ثلاثة آلاف (3.0 00) مركز، بعيدين عن أماكن سـكنهم وفـي وضعيات لا تتوافر فيها أدنى شروط الإقامة والصحة، وهو ما كان يتنافى مع شـعار الدراسات حول القرى الريفية المنجزة في إطار سياسة التجميع"، إنَّ المهمـة إنـسانية تحمل في ثناياها الرقي والاستقرار التدريجي لسكان الريف"،

________

1 Jean François TROIN. vers un maghreb des villes en l’an 2000 , Revue Maghreb Machrek, n° 96, 2tri, Paris, Imprimé : Chirat st-J-, 1982, p.11.

  وذلك بتنظيم المجمعـين ضمن ثلاثة أنماط من التجميع1:

 أ) النمط الأول: يمثل مراكز إعادة إسكان (recasement) ، تضم العائلات الفارة مـن المناطق الجبلية غير الآمنة، ومجموعات، ومجموعات متتابعة، في هذه الحالة يهجـر السكن والممتلكات ويتم التجميع أمام قرى السهول أو المجمّعات السكنية القريبة،هـذا النوع من الترحيل لا يؤدي إلى خلق مراكز تجميع.

بـ) النمط الثاني: دائماً ضمن ظروف تأطير صارمة ومقننة، يتم التّرحيل الجمـاعي لسكان المشاتي (جمع مشتة)، وتجميعهم في مناطق سكنية بمحاذاة السهول والأمـاكن المنخفضة، قرب الجبال تفصلها مسافات بعيدة عن مواطنهم الأصلية، هذا النمط مـن الترحيل يسمى بإعادة التجميع (regroupement)، هذا النوع من الترحيل يـؤدي إلـى خلق مراكز تجميع.

ج) النمط الثالث: خاضع لمخطط محدد سلفاً من قبل الإدارة، إِذْ سبق عملية ترحيـل العائلات اختيار الموقع وإمكانيـة التـوطن فـي إطـار إعـادة "حـصر الـسكان" (resserrement) في المجال الجغرافي الأصلي نفسه، بحذف نمـط الـسكن المبعثـر واستبداله بسكن مجمّع.

   لقد نجم عن هذا التجميع تقهقر الوضعية الاقتصادية والاجتماعية، فمن النقص الذريع في المواد الغذائية إلى الاكتظاظ في المجال المحصور بين هذين العاملين مـثلاً القاعدة العامة التي مست سكان الريف، وخير دليل على حالة البؤس وضـع سـكان القبائل السفلية التي تجزأت إلى أسر بائسة، عجزت عن الاستقرار والتحضّر لافتقارها إلى موارد العيش2 ، والوضعية نفسها عاشتها المناطق الأخرى.

 __________

1 Xavier DE PLANHOL, Nouveaux villages Algériens Atlas blidéen, Chenoua, Mitidja occidentale, Paris, Ed : P.U.F, 1961, p.12. 2 Pierre PEILLON, L’occupation humaine en basse kabylie :peuplement et habitat d’une zone intermédiaire du Tell Algérien ,thèse 3 cycle en géographie Université de Lyon UER des Sciences de l’homme et de son environnement, 1972 , p. 122

    ومحاولة منها لاستيعاب أزمة العالم الريفي، قامت الإدارة الاستعمارية بوضع برنامج لإحياء الريف عن طريق الإعمار سمي بـ: "مشروع قسنطينة-Plan de Constantine" يمتد من 1959 إلى غاية 1963، برنامج كان يهدف في الحقيقة إلى زيادة التقرب من المواطن الريفي لخنق روح "التمرّد" فيه، عن طريق إجراء تعديلات في نمـط حياتـه وتحسين ظروف سكنه، عن طريق بناء مجمّعات سكنية، وتوفير شروط إنتاج فلاحي * أفضل... إلى غير ذلك من الإجراءات .

7) مشروع قسنطينة * ووهم ترقية السكن الريفي:

  كان الغرض من تطبيق مـشروع قـسنطينة (1963-1959) هـو إحيـاء الريـف (la renaissance du bled) عن طريق إجراء تعديلات في نمط الحياة وتحسين ظروف السكن ببناء مراكز سكن، واستصلاح الأراضي وإنشاء تعاونيات فلاحية...إلخ. كانت تمثل طريقة الإسكان في القرى الريفية، الوسيلة النهائية لتثبيت العائلات داخل مراكـز ساكن * * سكنية جديدة، مقرر أنْ تأوي بحسب أهداف المشروع مليون (1.000.000) ريفي، رصد للبرنامج إمكانات مالية وبشرية وفنية ضخمة، فـالمهم عنـد الإدارة أنْ تنجح في إشعار السكان الريفيين، باهتمام السلطات بتحسين ظروف معيـشتهم قـصد الاستمالة.

__________

* نشير في هذا الصدد إلى أن مشروع قسنطينة اندرج ضمن مشروع شامل وهو إحياء الريـف( la renaissance du Bled)
* * عُدَّت مسألة التجميع من الطابوهات وكانت محور تقييمات متناقضة فمـثلا: (م.كورنـاتون .M CORNATON) قيّم عدد المجمّعين ب: 2.157.000،مجمّع، الكتابة العامة للجزائر الوسطى قيّمـت الوضعية ب: 2.500.00 مجمع، (عبد اللّطيف ابن اشنهو) قيّم العدد بـ: 2.100.000 مجمّع ، انظر مرجعه : تكوين التخلف في الجزائر: محاولة لدراسة حدود التنمية الرأسـمالية فـي الجزائـر بـين عامي1962-1830،ترجمة (نخبة من الأساتذة). الجزائر، ش.و.ن.ت،1979،ص450. 

 وهكذا، شرع استعجالياً يُنَفَّذُ المرحلة الأولى، بهدف جعل التجميع نقطة انطـلاق لترقية الريف وإحيائه، بدءاً بالفئة الأولى أي بمناطق التجميع القابلـة للحيـاة، جـرى توسيع العملية إلى المناطق الأخرى1، وقد خصص لبرنامج التجهيز الريفـي غـلاف  مالي مهم، شمل مختلف الأشغال بما فيها أشغال السكن الريفي، خطط لكل قرية ريفية متوسط (120) إلى (150) مسكناً يأوي بين (800) و(1000) ساكن ريفي، وخطـط لبعض القرى الكبيرة أن تأوي بين (5000) إلى (7000) سـاكن ريفـي، ويفتـرض إنجاز بين (1200) إلى (1500) مسكن.

  أمَّا متوسط حجم الأسرة فمخطط له أنْ يتقلص إلى 6,66 فرداً2، ممَّا يبيّن غرض المخطط تفكيك العائلة الكبيرة، حيث نمط الحياة المقترح هو الانتقـال إلـى الأسـرة الزواجية مع تكلفة إنجاز (500) فرنك فرنسي لكل ساكن3، وقد تمَّ إقرار على إشراك المجمعين في إنجاز عمليات التشييد المختلفة من المساكن، هذه المهمة على حد تعبيـر الإدارة ستسهم في تغيير نمط الحياة الريفية، لأنَّ التغيير في نمط السكن يعني التغييـر في نمط الحياة4.

    أدخل المشروع مفهوماً جديداً للسكن الريفي، قائماً على تفكيك "المنزل الكبيـر" إلى أسر متفرقة تلاشى معه التضامن العائلي الكلاسيكي وخلق نمط آخر للعيش قـائم على الجيرة. خطط لكل مسكن أن يحتوي على غرفتين، مطبخ ومرحاض مع استعمال المواد البنائية المحلية (حجر، طين مجفف...إلخ)، إذن المجال المبني يظهر إطـاراً محـدوداً للحياة، أحادي الوظيفة، عوض السكن التقليـدي المتميـز بالفنـاء وتعـدد وظـائف الغرف،والتوابع المجالية الأخرى، ملجأ الحيوان، ومكان تخزين المواد، ومكان ترتيب
________

1 Rapport Général Plan de Constantine 1959-1963 .Délégation général du gouvernement en Algérie, Juin 1960, p.183. 
2 Ibid, p.184 
3 Ibid, p.185 
4 Xavier DE PLANHOL, Op.cit, p.89.

أدوات الفلاحية...إلخ، يتعلق الأمر هنا بسكن العامل دون أرض يعمل فـي مزرعـة السيد، إِذْ لا يملك لا أدوات ولا مواشي ولا منتوجاً."1.

   إنَّ المخطط المعماري المقترح مستوحى في الواقع من مخطط قرى المتروبـول الصغيرة، مع إضافة نقاط مراقبة وأسلاك تحصر المجال الاجتماعي، وساحة مركزية تضم مرافق اجتماعية وبعض المدارس، وبلدية تتـضمن مـصالح طبيـة، ومكاتـب تعاونية، ومركزاً بريدياً...إلخ. السكنات المنجزة تأخذ شكلاً خطياً مـستقيماً بالتقابـل منفتحة على المحيط الخارجي (استعمال النوافذ)، حتى عيون الماء وطنت في مجـال مركزي في المجال العام، يسهل عملية تنقل المرأة الريفية وارتقائها، وهكـذا صـمم المخطط في إطار التقسيم الوظيفي للمجال، الذي يحدّ من النشاط التقليدي، فضلاً عـن المنع التام لأي تعديل لعناصر المجال المبني، وحتى الطرق صـممت لتكـشف عمَّـا بالدّاخل وهو مخطط يذكر المجمعين "بالسجن" بوصفه غريباً عن ثقـافتهم ومعيـشتهم التقليدية، فقد فرض عليهم بطريقة مغايرة لتصوراتهم وقيمهم، احترم أغلـب الـسكان إطار الحياة الذي فرض عليهم.

  بعد الاستقلال قاموا بتعديل المجال كيّفـوا المـساكن بحسب ظروف حياتهم أعطت الإضافات طابعاً مغايراً لما كان سائداًَ من قبل. كانت تناقضات المشروع ترمي إلى إحياء الريف وإقامة قرى وظيفية، مدعّمـة بمنشآت بمرافق عامة، من شأنها تطوير الريف وتحسين مستوى المعيـشة، جنـدت إمكانات من أجل إنجازه قصد وضع حد للثورة التحريرية، وتـذويب روح النـضال والتمرد في وسط الريفيين. بيد أنَّ الذي أصبح واضحاً فيما بعد، أنَّ المشروع قد لقي صعوبات غير متوقعة في السعي لتحقيقه، وذلك لاعتبارات عدة منها:

__________

1 Ibid, p.p.100.101.


- الاعتبار الاجتماعي: ويتمثل في أنَّ البرنامج كان خياليا أكثر من اللاّزم، لأنه كـان يرمي إلى تحويل سريع من نمط حياة تقليدية إلى نظام تعاوني، وما يحملـه هـذا الأخير من تناقضات جوهرية مع الحياة التقليدية البسيطة.

- الاعتبار السياسي: يتعلق الأمر بالدور الذي أدّع الجناح السياسي للجـيش الـوطني ودعوته إلى مقاطعة البرنامج، أضف إلى ذلك أنَّ المشروع نفّذه الجيش الفرنـسي، ولذلك ارتاب منه الجميع وعدّوه حرباً نفسية ضد الثورة التحريرية.

- الاعتبار الاقتصادي: النقص الذريع في المواد الغذائية، مثل القاعدة العامـة التـي أحاطت بالمجمعين، يضاف إلى ذلك عمليات فرض الرقابة والتوقيف بالجملة لمنـع أداء أي نشاط له علاقة بالفلاحة، كل ذلك ساعد على تعميق الهوة بين المعمـرين والمجمعين الذين عاشوا البطالة والإعانة العمومية، مجتمعين على حواشي الطرق، في انتظار حصة التوزيع الغذائية.

خلاصة:

   في ضوء العناصر الواردة في المقال، يمكننا أنْ نفهم بوضوح أنَّ الاسـتيطان الفرنسي للريف الجزائري، بدأ مع عمليات الاسـتحواذ الأولـى علـى العقـار إلـى الاستيطان العمراني (من القرن 19م إلى القرن 20م)، وكان يهدف من وراء ذلك إلى تحقيق الحلم "الديمغرافي العمرانـي"، الـذي طالمـا راود الكثيـر مـن المنظـرين والمخططين، فضلاً عن تسخير الوسائل المختلفـة (الماديـة، التـشريعية التنظيميـة البشرية) لتحقيق ذلك. نجم عن هذه المرحلة الاستعمارية تحولات كبرى، تركت بصماتها القوية ورموزهـا الكلونيالية1 على المجال الريفي ورواد، الوهم الاستيطاني المعمر الكلونيالي إلى نهاية 1962. توسع الإطار المبني الكلونيالي، المتمثل كما رأينا في سلـسلة وشـبكة مـن (de Aumale,de Lamoricière , Félix faure )بالاستيطان المولعين أسامي تحمل القرى مروراً بـالدوق (Rovigo )، والأمرال (Gueydon )، وهذا على عاتق الإطار المحلي التقليدي، فارضاً نفسه علـى المجـال بمظهره العمراني وتركيبه المرفولوجي المتميز، انقطاعات عنيفة أيضاً فـي التكامـل الثلاثي: مجتمع/اقتصاد/مجال. الغاية الاستعمارية بمختلف أبعادها هي فـي الأسـاس فرض منطق قائـم على تهيئة مجالية كلونيالية قائمة بدورها على المفارقة والتمـايز: عمران عصري وظيفي/عمران تقليدي هامشي غير مندمج، آخـذاً طابعـاً قـصرياً احتشادياً طرح على المنظر الجزائري إشكالية التهيئة الإقليمية، وإيجاد حلّ لمعـضلة السكن الناجمة عن عمران مدمّرٍ مع بداية الاستقلال.

1 الساحة المركزية ،البلدية ،الكنيسة،الأرصفة المغروسة بالأشجار المصبوغة جذوعها بالأبيض دلالة على النقاوة...إلخ هذا المجموع كلّه المنسجم والجميل كان يتناقض مع الـضواحي وقـرى ودواويـر الأهـالي .

 المصادر والمراجع

· Bouziane SEMOUDE ,Industrialisation et espace régional en Algérie , le cas de de L’Oranie, t.2, Alger, Ed : O.P.U ,1986. 

· Charles-Robert AGERON, Hitoire de l’algérie contemporaine (1830-1962), Paris,Ed :P.U.F,1964. 

· ENCYCLOPAEDIA UNIVERSALIS , volume 1, lettre A. France, 1978. · Jean MAURICE et al, Structures foncières et développement rural au Maghreb, Paris,Ed : P.U.F, 1969. 

· Louis DE BAUDICOUR , La guerre et le gouvernement d’Algérie , Paris, Ed : S et Bray, 1853. 

· Pierre MARTHELOT, Les Implications Humaines de l’irrigation moderne en Afrique du nord, A. A. Nord ,1962, ,Paris , Ed : C. N. R. S , 1964. 

· Pierre PEILLON, L’occupation humaine en basse kabylie :peuplement et habitat d’une zone intermédiaire du Tell Algérien ,thèse 3 cycle en géographie Université de Lyon UER des Sciences de l’homme et de son environnement, 1972 . 

· SARI Djilali, La dépossession des fellahs. Alger, S. N. E. D , 1975. 

· Xavier DE PLANHOL, Nouveaux villages Algériens Atlas blidéen, Chenoua, Mitidja occidentale, Paris, Ed : P.U.F, 1961. 

· Xavier YACONO , La Colonisation des plaines du chelif de la vigerie au confluent de la Mima, Alger , Imprimerie d’édition Imbert ,Tome II, 1955. 

· Xavier YACONO, Les bureaux arabes et l’évolution des genres de vie indigènes dans l’ouest du tell Algérois (Dahra ,Chelif, Ouarsenis, Sersou), Paris, Ed : LAROSE, 1953. 

دوريات ووثائق

· Rapport Général Plan de Constantine 1959-1963 

.Délégation général du gouvernement en Algérie, Juin 1960. · Revue Africaine, N°78, 1936. 

· Revue Maghreb Machrek, n° 96, 2tri, Paris, Imprimé : Chirat st-J-, 1982. .

للقراءة والتحميل 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا