قراءة في الجغرافيا الثقافية
الرق الممسوح
جريدة الغد : في 18 آب (أغسطس) 2008 . : مهند مبيضين
كانت الجغرافيا لا تخرج عن وصفها علما موضوعيا دقيقا مثل الفيزياء والعلوم الطبيعية, نظرا لاعتمادها على الملاحظة والبحث الميداني, لكنها عرفت في الآونة الاخيرة, تحولا مهما لا ينتقص من اهدافها العلمية الناقصة, هذا التحول يكمن في توجهين اساسيين الاول: في النتائج التي توصل اليها رواد ما بعد البينونة في دراستهم لعلاقة اللغة بالواقع وسلطة الخطاب سواء المكتوب او المنطوق في نشر الايدلوجيا, والثاني: في التحول الذي عرفته العلوم الانسانية والذي ارتبط بثنائية الذات والموضوع.
من هذا المنطلق الذي اصاب الجغرافيا, ينطلق مايك كوانغ مؤلف كتاب الجغرافيا الثقافية, حيث ينطلق المؤلف من الثقافة المادية في دراسته بمجالات معرفية متنوعة, بمعنى انه يدرس الثقافة من خلال تبلورها في المكان وارتباطها به.
الثقافة والمكان والجغرافيا
يدخل كرانغ كتابه بتحديد موقع الثقافة, بحيث يعرف بالثقافة والجغرافيا الثقافية, بحيث يسعى الى اثبات ان الثقافة لا يمكنها ان تكون مقفلة داخل الشعوب البعيدة او في الفن العالي, فالثقافة جزء من حياتنا اليومية بل هي التي تعطي المعنى لها.
ويعتقد المؤلف انه باستطاعته ان يحدد موقع الشرارة الاصلية للجغرافيا الثقافية في القرن السادس عشر، في اثنوغرافيا لافيطو واوليري OLERY حيث يصفان الشعوب والعادات في العالم الجديد وقد نتج فيما بعد مدارس مختصة لهذا العلم ومنها مدرسة بوركلي BERKELEY.
لكن المؤلف في ظل هذا النسب الذي يحاول ان يجده للثقافة الجغرافية يبدو متجاهلا لإلهام العلماء المسلمين من الجغرافيين الذين ضحوا بعادات الشعوب وتقاليدها وتراثها, ومنهم الادريسي وابن بطولة والمسعودي وغيرهم, اذ ان علماء المسلمين توقفوا عند العادات والتقاليد والفلكلور والتراث الانساني وقدموه بأوصاف مختلفة.
اقترح الفصل الاول من الكتاب وجوب اهتمام الجغرافيا الثقافية بأشياء بعيدة عن الثقافة العليا وبأساليب الحياة في الغرب قدر اهتمامها بالشعوب النائية, لكن ايا كانت الافضلية او حق النسب في ولادة ما يسمى جغرافيا الثقافة فإن حياة الناس وزمانهم ومشاهدة ايامهم كانت هي الاكثر عناية.
في هذا الاتجاه يأتي الفصل الثاني الذي يبحث عن مشاهد الثقافة ومناطقها وتوزيع اشكالها وانتشارها, وهنا فإنه في كل مدرسة درس الجغرافيون دور الجامعات المختلفة في تحديد مشهدهم في اشكال مميزة او مناطق ثقافية موسومة بمشاهد نموذجية للجماعة المعنية.
يعتقد المؤلف بمقولة غلبة الثقافة على مستوى الحضارة، وهو ما قالت به مدرسة بوركلي BERKELY أواخر السبعينيات بمعنى انهم اعتبروا الثقافة مجرد كل تام وانما كوجود منفرد بما ان الاقليم اصبح يوازي بسهولة كبيرة فاعلا منفردا دونما اعتبار للتميز الداخلي.
"الرق الممسوح"
اشتق مصطلح الرق الممسوح من لوح للكتابة كان يستعمل في القرون الوسطى, وهو يميل الى حيث يمكن محو الكلام المنقوش الاصلي وكتابة كلام آخر فوقه مرة بعد مرة فيما لم تمح الكتابات السابقة تماما ومع مرور الزمن كانت النتيجة في شكل مركب رق ممسوح يمثل مجموع كل المحو والاضافة والشذوذ والإسهاب على مر الزمن.
وهكذا تنمو الثقافات وتحل محل بعضها البعض, فهي لا تتصارع بقدر ما ترغب بالحلول مكان بعضها البعض وهذا ما عبر عنه بقضية الانتشار, فلم ينسب نزاع حول الارض بل طالب البعض بعودة تراثهم واسترجاعه الى ما كان عليه في سالف الأزمان.
حاول كرانغ ان يحدث مقاربات اصلية مع الثقافي وركز على الاهتمام بالمقاربة الكلانية التي تنظر الى الكل على انه اكبر من مجموع الاجزاء, والمآزق الممكنة الناجحة عن ذلك, والعلاقة بالثقافة كذلك, لقد اهتمت مدرسة الحوليات ومدرسة بوركلي بحقبة التطور الطويلة اي بالتغيرات عبر حقب طويلة من الزمان مما جعل تطبيق مقاربتي المدرستين عصبا في مواقع التغيير.
وبهذا يرى المؤلف ان المشهد يؤول بصفته مشكلا عن طريق قدرات وممارسات الشعوب ليلائم ثقافتهم, ومن هنا ينطلق لدراسة المشهد الرمزي بصفته نظاما رمزيا بمعنى انه يدرس الكيفية التي يتم بها تشكيله وفقا لمعتقدات السكان وكذا بحسب المعاني التي يوظفها ذلك المشهد, وقد اعتبر المشهد نظاما ذا دلالة يظهر القيم التي من خلالها ينظم مجتمع ما بهذا المعنى.
ولذلك نجده يدرس افقية المنزل ويدرسها ويربطها بالعلاقة مع المعتقدات حول الحياة الاجتماعية, ومن النماذج التي يدرسها المؤرخ المسكن القبائلي في الجزائر, والذي ما يوجد غالبا فوق منحدر طفيف اعتبارا لصرف المياه لكي يتضمن آخر سفح التل كل ما هو رطب ومظلم واخضر ثم تحولت كذلك الى مكان للانشطة البشرية الطبيعية من ولادة وجنس ونوم وموت بينما تتضمن النهاية العليا من التل الانشطة المرتبطة بالضوء والنار وتسلية الضيوف.
يلاحظ في هذا النموذج ان المنزل ينقسم بحسب المبادئ التي تفصله عن الخارج فنفس المتضادات تنظم كلا العالمين ومن الممكن دراسة الترتيب الفضائي للمشهد والممارسات التي تشكله لكي ننظر الى تصورنا لنظام الكون وكذا تصورات الآخرين على حد سواء, وبهذا فإننا نملك مستويين الاول طريقة استعمال الثقافات للجغرافية ثم التوزيع الجغرافي لهذه الثقافات.
ان هذه الالتفاتة الى طراز المنزل وتحليله في ضوء فضاءات ذكورية وانثوية تبين الاستخدام الامثل لمبدأ الجغرافيا الثقافية وهذا ما يبدو جليا عند مقارنة ذلك الطراز بنموذج المسكن الريفي الانجليزي.
المشاهد الادبية والوطن والمواطن
خلال العشرين سنة الاخيرة اصبح الجغرافيون يهتمون على نحو متزايد بالاشكال الادبية المتنوعة كطرق البحث عن المشاهدة فالأدب مفعم بالقصائد الشعرية والروايات والقصص والروايات البطولية التي تجاهد لفهم وإلقاء الضوء على الظواهر الفضائية, وسيتبع هذا الفصل سلسلة من الالتزامات والطريقة الاولى هي ربما الاكثر وضوحا حيث استعمل الأدب عن الاماكن بوصفه مصدرا او معطيا.
لا يشير المؤلف كرانغ الى ابداعات اسلامية عربية حول ادب المكان رغم ان هذا حادث وحاصل لدينا, بل انه يأخذ على طلبة الجغرافيا افتقادهم لهذه المهارة ويرى ان ذلك ينتج وضعية محزنة شيئا ما وتترك الجغرافيا فراغا قاحلا وجافا وخطيرا بدرجة اكبر, وتظهر اهمية هذا خصوصا اذا حاولنا ان نصف ما تعنيه المشاهد للناس, وبهذا يقود الحديث هنا المؤلف للحديث عن الوطن والمواطن.
يقتبس كرانغ في موضوع افضية النص من آلان سيليتو ALAN SILLITOE مقولة: يشبه الموطن قلعة من الجيش تفتخر بقابليتها للحركة وانحرافا عن القاعدة تحدد الارجل الجغرافيا والعيون تلاحظ وترتبها منهجا وبما ان الحظ الاساسي جوهري في تشكيل خريطة ما وكل النقط عليها والنقط المترابطة للولادة والمكان والتنشئة هي بالنسبة الى اي شخص وكذلك بالنسبة الى الكاتب عوامل لا يمكن ابدا التخلي عنها.
اذا عدنا للوراء حسب المؤلف, فإن قصيدة جلجامش واوديسا هوميروس وكذلك حكايات الجن وقصص الفرسان كلها نصوص جغرافية متصفة بالجنوسة وربما من العدل الاعتراف بأن هذه البنية تدجن الموطن ويعتبر الموطن فيها مكانا للمودة والامان وايضا للحجز.
الى هذا السياق قاد كرانغ القارئ للحديث عن الكتابة حول المدينة, واستعرض بذلك البؤساء لهيجو VICTOR HUGO الذي بنى الاحداث الرئيسة للرواية حول باريس, وهنا فإن المسألة الاهم في المعادلة الادبية ان الرواية تفضي عن المدينة لباس الأنوثة.
ثم يتابع المؤلف الحديث عن الجغرافيا في ظلال الإعلام والفضاء المكاني والاحساس بالمكان وثقافات الاستهلاك والعولمة والانتاج، وفي مجال الحديث عن الامم والأوطان والانتماء في العوالم الهجينة يبدأ كرانغ فصله بالتمهيد عن بداية الاكتشاف التاريخي للثقافات وتحولها إلى الفضاء والمشاهد التي تحدثها، وفي مجال دراسة ثقافة الجماعات العملية يخلص الكاتب إلى توضيح الروايات الأكاديمية التي تنتج المعرفة الصحيحة، وحاول ان يبرهن على الحاجة إلى الحذر في موقع الأكاديميين الخاص من انتاج المعرفة.
ختاما يبدو "الجغرافيا الثقافية" جديدا في بابه لأنه يحمل المنعطف الثقافي في الجغرافيا المعاصرة نحو ابواب جديدة يمثل اجتماعها مقدمة لمنظور جغرافي جديد مركز على كيفية الثقافات الممارسة.
الكتاب:الجغرافيا الثقافية
المؤلف مايك كرانغ
المترجم سعيد منتاق
عدد الصفحات268
الناشر المجلس الوطني للثقافة الكويت /سلسلة عالم المعرفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق