التسميات

الجمعة، 12 يوليو 2013

القدس في المنظومة الجغرافية الإسلامية ...

القدس في المنظومة الجغرافية الإسلامية

مؤلفان سوريان يتتبعان التاريخ الروحي للمدينة المقدسة

جريدة الشرق الأوسط - دمشق: فيصل خرتش :

  يمثل هذا الكتاب محاولة لكشف مكانة القدس في وعي المسلم ووجدانه، الذي يربط بين البيت الحرام والمسجد النبوي وبيت المقدس، من خلال ما يسميه المؤرخون بـ «المدى الطويل» الذي يبدو فيه تاريخ القدس تاريخا مستمرا للذات الاسلامية ويستقصي على مستوى ادق المراحل والاحداث والعهود واهم الشخصيات التي باتت جميعها جزءا لا يتجزأ من تاريخ المدينة المقدسة. وقد اعتمد الكتاب في استقصائه على منهج علمي مركب يستند الى قاعدة المعلومات التاريخية والرمزية والثقافية ويستثمر بشكل فعال منهجيات عديدة، تاريخية وانثروبولوجية، ثقافية وبنيوية وألسنية وتأويلية وسيميولوجية، تتيح كشف الابعاد المختلفة والمركبة لهذه المدينة في وعي المسلم.

   ويعيدنا الكتاب، كما يقول محمد احمد السويدي، امين عام المجمع الثقافي في الامارات، الى قاعدة هائلة من الواقع والرموز والاحاديث والتفاسير والمصنفات التي تدل في مجملها على تغلغل القدس فكرة ومكانا في عمق الذات الاسلامية.

   الجغرافيا المقدسة تنفرد القدس بما يمكن تسميته بالجغرافيا المقدسة العليا للعالم، حيث ترتبط بها الحياة الروحية للاديان السماوية التوحيدية الكبرى الثلاثة. وتتميز الرؤية الاسلامية للقدس في انها تدمج الجغرافيتين المقدستين (اليهودية والمسيحية) في مجالها المقدس وتعترف بهما لاهوتيا. وقد انعكس ذلك في الممارسة الفعلية حين تسنى لكل دين منها ان يكون بمنزلة الحاكم السياسي للقدس. ففي حين حرم الصليبيون على المسلمين دخول القدس او ممارسة شعائرهم فيها وصادروا الاماكن المقدسة فيها وقاموا بتنصيرها، وقام اليهود بعد احتلالهم لها في حزيران 1967، بمحاولة تهويدها المنهجي وبكل الوسائل الممكنة، بمحاولات لم تتوقف حتى الآن، فإن العرب المسلمين تركوا بيت المقدس حرا ومفتوحا امام المسيحيين واليهود على حد سواء، وشاركوهم في احتفالهم بقداسة القدس والاهتمام بخدمتها وعمارتها والتبرك بفضائلها، الى درجة انه تكون ادب اسلامي كامل، يمكن تصنيفه تحت عنوان «فضائل القدس» يبين ان قدسية القدس ليست امرا عابرا او ثانويا في المنظومة الجغرافية الاسلامية، بل طرف جوهري مكون لها.

   وتستند المنظومة الجغرافية الاسلامية على الوحدة المتكاملة والمترابطة الى اطراف ثلاثة،هي: البيت الحرام والمسجد النبوي والقدس (المسجد الاقصى والصخرة الشريفة) وقام التصور الاسلامي على الوحدة الالهية الاصلية، ما بين الكعبة وبيت المقدس، ولغويا حمل اسم القدس من كل الدلالة التوراتية Paradigmatique للقداسة والتبجيل. ولم يكن الفتح العربي الاسلامي للقدس (336م) خارج الرؤية النبوية ذاتها كجزء لا يتجزأ من اطراف المنظومة الجغرافية الاسلامية المقدسة، ويحضر هذا الفتح في الوعي الاسلامي كتصديق لوعد نبوي مسبق بهزيمة الروم وفتح القدس، تحقيقا لوعد نبوي ـ إلهي، ونبوءة تؤكد ذاتها عند المسيحيين.

   وبعد دخول الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه اليها بنى مسجدا في المنطقة التي كانت مليئة بالتراب بجوار الصخرة المقدسة وصير الصخرة في آخره. وعندما اكتمل البناء وافق بلال على الاذان افتتاحا لأول صلاة في المسجد فخشعت أفئدة الناس واقشعرت ابدانهم وبكوا بكاء شديدا. وكان مبنى المسجد خشبيا يتماشى مع مبدأ التقشف لدى المسلمين الاوائل. وبذلك يكون عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد رسخ الاسلام كديانة جامعة وليس كديانة مانعة لا تعترف بأي دين آخر. وكثير من المؤرخين يذهبون الى ان عمر رضي الله عنه، لما قبل شروط البطريرك صفرونيوس جميعها ما عدا الشرط الخاص بحرمان اليهود من دخول القدس، معتذرا بأن القرآن قد حدد ما لأهل الكتاب وما عليهم، لكنه تعهد له بألا يدخل احد من اليهود الى مقدساتهم او يسكن في حاراتهم، مما ادى الى تحسين وضع اليهود على نحو ملموس وزاد من نشاطهم الثقافي، وسمح للمسيحيين ببناء كنائسهم وترميمها من دون قيود، بينما كان المسلمون يتعبدون في حرمهم الخاص (المسجد الاقصى) بأعداد كبيرة. وقد دفعت مكانة القدس في المنظومة الجغرافية الاسلامية الكثير من الصحابة الى زيارتها او الاقامة فيها، وحرص بعضهم على ان يمضي بقية حياته فيها، طالما ان الرؤية الاسلامية تعتقد انها ارض الحشر والنشور يوم القيامة وان الموت فيها يحمل لصاحبه اجرا كبيرا.

   واهتم الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه ببركة سلوان في القدس وبنى حديقة عامة شاسعة حولها وتمت مبايعة معاوية بن ابي سفيان في القدس، خليفة للمسلمين، وكان دائم التردد عليها والتبرك بها. وبعد تولي عبد الملك بن مروان الخلافة بعام واحد ابتدأ باصلاح اسوار القدس وبوابات المدينة وشيد دار الامامة بجوار الحرم، وكان اعظم اسهاماته بناء مسجد قبة الصخرة، ولغايات التشرف والتبرك اعطى نفسه حق الاشراف على بدء العمل بنفسه، فقدم من دمشق الى بيت المقدس وجمع الصناع وخصص خراج مصر على مدى سبع سنين لخدمة بناء قبة الصخرة وحدها. فكانت تصميما فريدا في تاريخ العمارة الاسلامية، مزج ما بين جمال الهندسة المعمارية والذوق العربي مع الاستفادة من الاسلوب البيزنطي. وقد انجز بناء المسجد الاقصى في عهد الوليد على الهضبة القدسية ذاتها التي اقيمت عليها قبة الصخرة. وواصل اهتمام والده بعمارة بيت المقدس عاصمة للامبراطورية الاسلامية. وكان اخوه سليمان قد هم بالاقامة نهائيا في بيت المقدس، فجمع الاموال والناس بها. اما الخليفة عمر بن عبد العزيز فقد كان يستحلف العمال الذين يحاسبهم على ادائهم عند الصخرة، وتكررت زياراته لبيت المقدس، مثل بقية الخلفاء، وهذا ما وسع الخيال الاسلامي (الروحي والذهني) في العصر الاموي لتشمل قداسة بيت المقدس الشام وما يحيط بها، تفسيرا لـ«الذي باركنا حوله» في سورة «الإسراء». كما ان التهميش العباسي السياسي لفلسطين لم يؤثر في المركز الديني الثابت لبيت المقدس، فقد زارها المنصور مرتين واعاد بناء الحرم إثر وقوع زلزال هدم شرق المسجد الاقصى وغربه. وكذلك فعل ابنه محمد المهدي الذي انفق اموالا طائلة لترميم ما خربه زلزال آخر في عهده. بينما جعلها الخلفاء الآخرون مدينة مفتوحة متعايشة لكافة الاديان. وبذلك ترسخ في الوعي الاسلامي الرمزي في المرحلة العباسية موقع القدس كبنية مولدة لشاعرية رمزية دينية رؤيوية عليا، تحضر فيها العلاقات الميتافيزيقية للمكان بكل اشراقاتها العليا.

   وعندما سيطر الصليبيون على بيت المقدس، اعادوا تحصينها ومسخوا المقدسات الاسلامية وانتهكوا حرمتها، مما اثار مشاعر المسلمين وآذى نفوسهم وأعدهم للجهاد لطرد الغزاة. واكتسبت القدس تأكيدا جديدا، اثر هذا الغزو، يؤكد منزلتها الرفيعة وحرمتها قبل الغزو الصليبي وهي التي ادت الى ان تصبح رمز الجهاد والتحرير ايام الزنكيين والايوبيين وبعدهم.
لقد تكونت الصورة النمطية لقداسة المدينة منذ مرحلة البعثة النبوية وترسخت بقيم معززة ومضافة في العهد الاموي ثم الفاطمي، وكتبت المؤلفات العديدة في فضائلها للتذكير دائما بقدسيتها، وتتابعت هذه الكتب في العهد المملوكي والعهد العثماني لتكتمل بذلك مدونات «فضائل القدس» في الثقافة العربية الاسلامية.

   الهجرة اليهودية بدأت فلسطين تتعرض لخطر الهجرة اليهودية المنظمة، منذ منتصف القرن التاسع عشر، عندما راح المتمولون اليهود يشترون الاراضي بطرق مختلفة، وارتفع ذلك مع ازدياد اعداد المهاجرين، لا سيما مع الهجرة الكبرى عام 1882، بعد المذابح القيصرية ضد اليهود في روسيا. وتمكن اليهود المشمولون بالحماية البريطانية من شراء مزيد من الاراضي ومن السيطرة على التجارة والبناء في القدس عن طريق التعاونيات. ولعبت ضغوط القناصل الاوروبيين وفساد الجهاز الاداري العثماني دورا في اضعاف المقاومة العربية للهجرة. وفي سياق ذلك تمكن اليهود من تملك اول ارض في القدس في عهد السلطان عبد المجيد. وفي عهد السلطان عبد العزيز منحت الحكومة اليهودية قطعة ارض لاقامة مدرسة زراعية عليها بالقرب من يافا. ورغم ذلك حافظ الخلفاء العثمانيون على مواصلة التقليد الاسلامي بخدمة القدس. فأنفق السلطان عبد العزيز على عمارة الحرم وزخرفته ثلاثين الف ليرة عثمانية وبنى المسجد العمري بالقرب من كنيسة القيامة. كما وقف السلطان عبد الحميد الثاني بحزم ازاء المطالب الصهيونية فأصدر قانونا في عام 1882 بتحريم الهجرة اليهودية الى فلسطين وبيع الاراضي لهم وانفق على عمارة الحرم القدسي 30 ألف ليرة عثمانية.

  ان تاريخ الاستيطان اليهودي في فلسطين وتاريخ مقاومته معروف للجميع، ولا يدخل في غائية تأليف الكتاب، وكان الهدف من ذلك التركيز على حقيقة ان الاسلام بوصفه دينا جامعا لا دينا مانعا، يقبل التعايش مع الاديان السماوية الاخرى في بيئة تعددية، قد قدم انموذجا لامكانية ان تكون المدينة المقدسة «صلح الكل» من ابناء ابراهيم في الارض.

    لقد تحولت المرحلة الصليبية الى محطة في تاريخ المنطقة، في حين ان المرحلة الصهيونية ما زالت مستمرة بكل مفعولاتها الكارثية على شكل اقتلاع الفلسطينيين الراسخي الجذور من ارضهم وتهجيرهم وتحويلهم الى لاجئين او الى اقلية مهمشة ومحاولة تهويد القدس في استعادة معاصرة لمنهج الصليبيين البائدين في اقصائهم للآخر ومسخ مقدساته وتشويه امكنته. فقد كان الوعي الاسلامي بموقع القدس في المنظومة الجغرافية الاسلامية المقدسة، خلال 14 قرنا، شديد التركيز، وامتلكت فيه القدس ديناميات ذاتية داخلية مشعة، غدت فيه محل قيم عليا مضافة. وقد تعزز الوعي في المرحلة الصهيونية المعاصرة لدى مجمل العرب بأهمية تكريس الموقع الاسلامي المتميز للقدس في قضية الكفاح الشاق والعادل الذي يخوضه العرب ضد اسرائيل في مواجهة طمس وتهويد الهوية العربية ـ الاسلامية للقدس. وهذا يتطلب تأكيد الوعي العربي والاسلامي بالقدس في مواجهة سياسة التهويد المنهجية العاتية المتمثلة بـ «الابادة الثقافية»، وان حماية المدينة المقدسة هي قضية عربية واسلامية وعالمية، كي تكون القدس مدينة سلام بالفعل وليس بمجرد الاسم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا