ثوابت الهوية الثقافية الوطنية وعلاقتها بالمكان
بداية نود ان نعبر عن شكرنا وتقديرنا للاخوة في المركز اليمني للدراسات التاريخية واستراتيجيات المستقبل على الثقة التي أولوها لنا ودعوتنا للمشاركة في ندوة « الهوية الثقافية الوطنية في اليمن» متمنين لهذا المركز النجاح في سعيه لخدمة البحث العلمي والباحثين في يمن الايمان والحكمة.
وانطلاقاً من الاستراتيجية العامة للورقة المحورية لندوة «الهوية الثقافية في اليمن» المرتكزة على إبراز الابعاد النظرية والقومية ودلالاتها، ومن الاستراتيجية الخاصة بمحورها الثالث (ثوابت الهوية الثقافية الوطنية في اليمن وعلاقتها بالمكان) و تركيزها على إبراز المنحى العلمي لاستراتيجية الهوية الثقافية الوطنية اليمنية المتمثل في تحويل الانطباعات والمفاهيم العامة الى حيثيات ومفردات علمية وبلورة مضامينها ودلالاتها بحيث يمكن اعتمادها اساساً علمياً وموضوعياً لتحديد الهوية الثقافية الوطنية للمجتمع اليمني المستمدة من طبيعة المكان في أبعاده البيئية، وظروف مصادر العيش فيه لتعريف النشء والشباب بها وتجنيبهم المحاولات المشبوهة لتجاهل او تهميش او إلغاء الهوية الذاتية.
أ. علي حسن العيدروس
انطلاقاً من هذه الاستراتيجيات تناول الباحثان المحور (القسم) الثالث من الورقة المحورية المناط بهما من منظورين رئيسين:
- المنظور المكاني.
- المنظور البيئي.
أولاً: ثوابت الهوية الثقافية الوطنية في اليمن وعلاقتها بالمكان من منظور مكاني وتتمثل في:
- دلالات المكان في تعزيز الانتماء الى الهوية الثقافية الوطنية في اليمن
- توطئة:
أهمية المكان
المكان بوصفه علامة لغوية هو احد شظايا الجذر اللغوي (ك و ن) وقد جاء في لسان العرب مكان : في اصل تقدير الفعل (مفعل) وهو موضع لكينونة الشيء فيه« وموضع الشيء، اي المحل الذي يحل فيه ويتموضع، والفضاء الذي يحيط به، ويحدد موقعه بالقياس الى شيء آخر.. والمكان بوصفه رقعة جغرافية انما يعني الامتداد والاتساع للمحل والفضاء الذي يحيط به بما يحمله من علامات جغرافية مرتبطة بتشكيل هوية المكان، وهوية الانسان الذي يعيش عليه» وان أية تغييرات قسرية (قهرية) تحدث في المكان من شأنها ان تحدث انشراخات في الشفرة العلائقية بين الانسان والمكان».. والامكنة وفق السياق المتقدم، هي الفضاء الذي يتحرك فيه الانسان ويمارس نشاطاته المختلفة.. وعلى هذا القياس فاليمن هي الفضاء (المكان) الذي يتحرك فيه اليمنيون ويمارسون نشاطاتهم المختلفة فيه، وهكذا الامر مع غيرهم، غير ان المكان يتجاوز هذه الدلالة المعجمية الى دلالات اوسع في منظومة التكوين الفكري للانسان، وهذه هي الرؤية التي اشتغل عليها الباحث في تتبع دلالات المكان في تعزيز الانتماء الى ثوابت الهوية الثقافية الوطنية في اليمن بشكل خاص، منطلقاً من رؤيتين اساسيتين:
الأولى: المكان بوصفه دلالة انتماء لا بوصفه رقعة جغرافية محضة.
الثانية: المكان بوصفه منتجاً لمكونات الهوية الثقافية الوطنية.
1- المكان بوصفه دلالة انتماء:
الوطن دلالة (سيميائية) يكتسبها المكان، تحيلنا الى علاقات ارتباط الانسان بالمكان بوصفها تعبير عن انتمائه للمكونات المادية والمعنوية للمكان ،و هذا الانتماء هو أحد اهم مرتكزات تشكيل هوية الانسان، تتجسد في حزمة من الدلالات مثل: الاطمئنان، الراحة، الحب، الحماية.. وهذا ما يفسر لنا تعاطف الناس مع اوطانهم (الامكنة) على مستوى الاحداث الداخلية والخارجية كالاحداث السياسية والثقافية والرياضية.. ويتشكل هذا البعد الدلالي للمكان (الوطن) عبر السياق الزمني من حياة الانسان بوصف الزمن - على حد تعبير باختين - هو «البعد الرابع للمكان» ضمن جدلية العلاقة التاريخية بينهما، ويمكننا استشراف مضامين هذه الدلالة من زاويتين:
- استقرار الانسان في المكان:
خاض المكان رحلة طويلة عبر حقب التاريخ الانساني وتعرض «لفاعليات الصيرورة وتحولاتها لكي ينتقل من الفضاء الوحشي الى الفضاء الانساني -وفق الرؤية (الميثولوجية)- الذي تتوافر فيه دعائم الاستقرار والامن» من خصوبة الارض ووجود مياه الامطار والغابات والبحار ثم المياه الجوفية واخيراً ثروات الارض الباطنية.. وهذه هي نقطة التحول التي تحيل المكان من منظور الانسان من مجرد دلالة على رقعة جغرافية الى دلالة وطن (انتماء) ، والانسان بوصفه «الكائن الاكثر وعياً بالمكان يمتلك حساسية مكانية تتيح له القدرة على انتظام المكان بالاقامة فيه» والتاريخ البشري يثبت ان الانسان هجر مكانه حين لم يجد فيه مقومات استقراره وأمنه..لقد أوجدت دعائم الاستقرار والامن في المكان (الوطن) عبر مراحل التاريخ، اوجدت لدى اليمنيين تنامياً مضطرداً في سلوك الانتماء للمكان (الوطن) توارثته الاجيال وحافظت عليه الى يومنا هذا، تمثل في بناء الصرح الحضاري العظيم في مارب وحضرموت وشبوه، يعتز به اليمنيون بوصفه ملمحاً هاماً من ملامح تشكيل هويتهم الكلية.. وفي عصرنا الحاضر شكلت وحدة الارض اليمنية اهم دعائم استقرار وامن الانسان اليمني اليوم نحو اكتمال ملامح هويته وتعميق جذور الانتماء للمكان (الوطن).
- تفاعل الانسان مع المكان:
يلجأ الانسان في كل المجتمعات البشرية بعد استقراره في المكان الى تسخير معطيات المكان في تحقيق متطلبات العيش له مستخدماً امكاناته العقلية والمادية موجداً من خلالها حالة من التفاعل المتنامي بينه وبين المكان الذي «لا يعد عاملاً طارئاً في حياته وإنما معطى (سيميوطيقي)» إذ لا يتوقف حضوره - اي المكان - « على المستوى الحسي وانما يتغلغل عميقاً في الكائن الانساني حافراً مسارات في مستويات الذات عنده ليصبح جزءاً حميمياً منه» ذلك لأن المكان هو «الفسحة او الحيز الذي يحتضن عمليات التفاعل بين الانسان والعالم من حوله».
ان انتقال المكان من موقعه الفيزيائي الى الموقع الثقافي مرّ من خلال الكائن الانساني نفسه «لأن العلاقة بينهما تتسم بالالتصاق والتلازم» مما يعني الارتباط الجذري بينهما بفعل الكينونة.. ولا تقتصر علاقات التفاعل بين الانسان والمكان على تأثير الانسان على المكان فحسب بل إن المكان يحفر في الانسان خصائصه وملامحه.. إذن فالعلاقة بين الانسان والمكان هي علاقة تفاعلية قائمة على اساس «قانون الفعل ورد الفعل».
وعلى هذا الاساس فإن ما يقوم به الانسان في المكان (الوطن) من نشاطات زراعية وصناعية وعمرانية وثقافية هو ما نسميه تفاعل الانسان مع المكان، وبقدر ما يتنامى هذا التفاعل يتنامى معه شعور الارتباط بالمكان (الوطن) متمثلاً في عدد من السلوكيات والقيم والاتجاهات الايجابية المتوالدة عبر التاريخ الانساني مثل المحبة ، الاعتزاز، الولاء، الانتماء، البناء، وهي في محصلتها الاخيرة صورة من صور هوية الانسان وانتمائه للمكان وهو ما يفسر لنا مثلاً اصرار الانسان اليمني على مواصلة عمليات البناء المادي والفكري وخلق صورة مشرقة للمكان (الوطن) للدلالة على ايجابية التفاعل بينه وبين المكان ( الوطن) او بالاصح بينه وبين هويته..
ان الانسان وفق تعبير (يوري لوتمان)» يخضع علاقاته الانسانية ونظمها لاحداثيات المكان» وتشابكاتها الدلالية.. وهكذا فإن الباحث يرى ان التفاعل بين الانسان والمكان علاقة يتمظهر فيها تعزيز الانتماء الى الهوية الوطنية بأبعادها الكلية.
2-المكان بوصفه منتجاً لمكونات الهوية الثقافية الوطنية
إن الانسان اثناء عمليات تفاعله مع المكان يخضع علاقاته الانسانية ونظمها لاحداثيات المكان وتشابكاتها الدلالية على نحو ما اشير اليه سابقاً فيضفي على «الافكار صفات المكان» مستخدماً العديد من «منظوماته الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية» تتلاقح مع بعضها مكونة ملامح هامة لهوية الانسان الثقافية الوطنية.. ويمكن اجمال هذه المكونات في الآتي:
1- الثقافية:
إن الدلالات الشائكة والمتشابكة لمفهوم الثقافة في عصرنا الراهن جعلت البحث يركز على أبرز ملامح الثقافة الناتجة عن تفاعل الانسان مع المكان ويمكن تمثيلها بالآتي:
(أ) العادات والتقاليد:
في اي مكان في العالم يعد الانسان المساس بعاداته وتقاليده مساساً بهويته الثقافية الوطنية فهي ثمرة من ثمرات تفاعلاته مع المكان (الوطن) الذي حفر فيها من ملامحه وخصائصه عبر مدى طويل من الاجيال ، فعادات وتقاليد العمل والزواج والموت والملبس والمأكل والاعراف هي في مجملها ذات ارتباط وثيق بمكونات المكان (الطبوغرافية) لذلك فإن الانسان يعتز بها ويدافع عنها بوصفها إحدى ملامح هويته الوطنية.. واليمن المكان (الوطن) قد انتج كماً غير قليل من العادات والتقاليد تطبIع بها الانسان اليمني ودأب على ممارستها عبر التاريخ بفخر واعتزاز معتبراً ان الحفاظ عليها حفاظ على هويته الثقافية الوطنية وعلى مدى مصداقية انتمائه اليها، غير ان حركة التطور الزمني والمعرفي تفرض عليه تهذيب وتشذيب عاداته وتقاليده او حتى إتلاف ما هو فاسد منها وتلك عملية طبيعية لا تنقص من مكانتها لدى الانسان.
(ب) الفنون والآداب والمعارف
وشأن هذه شأن العادات والتقاليد، فهي منتج هام لتراكم العلاقات التفاعلية بين الانسان والمكان (الوطن) يحفر فيها المكان من ملامحه وخصائصه كما فعل ذلك في العادات والتقاليد، ونستطيع ان نرى ذلك بوضوح عند اليمنيين في منحوتاتهم وازيائهم ولوحاتهم التشكيلية وفنونهم المعمارية والزراعية ومصنوعاتهم الحرفية وفنونهم الغنائية وتراثهم الشعبي وآدابهم الشعرية والنثرية ومعارفهم العلمية المختلفة.. انها ليست احداثاً عارضة في حياة الانسان بل هي جزء اساسي وهام في منظومة التكوين الثقافي والفكري له متغلغلة فيه، وبشمولية اكثر هي احد أهم مرتكزات مكونات الهوية الوطنية لديه التي تربطه بالمكان (الوطن) وتزيد من تنامي تعزيز الانتماء لديه.
2- الخصوصية وتنوعها
تكتسب مناشط الانسان المادية والفكرية الناتجة من عمليات تفاعله مع المكان خصوصية مستمدة من خصوصية المكان، هذه الخصوصية هي إحدى ملامح الهوية الوطنية له، ويتجسد حضورها عنده في الاعتزاز بها والترويج لها على المستوى الداخلي والخارجي، واليمنيون مثل غيرهم من شعوب العالم نجدهم يدأبون على عكس نتاجاتهم الحضارية المادية والثقافية في المحافل الدولية والاقليمية والمحلية ويضمنونها أدبياتهم المكتوبة والمسموعة والمرئية.. ومما يزيد من قيمة وثراء هذه الخصوصية هو تشكلها من تنوع الخصوصيات الداخلية التي تمنحها الامكنة الداخلية المتنوعة في ثيماتها (الطبوغرافية والثقافية والانثروبيولوجية).. ان التنوع في خصوصية الهوية الثقافية الوطنية لا يعني اضعاف الخصوصية الأم وانما هو رافد مهم من روافد ثراء الهوية، وهذه السمة بخاصة هي إحدى عوامل اعتزاز اليمني وتنامي ارتباطه وانتمائه لهويته الوطنية على المستوى الداخلي والخارجي.
والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو كيف يمكن لخصوصية المكان الاّ تعيش في عزلة عن قضايا العصر المطروحة مثل العولمة وحوار الحضارات والهوية الثقافية الوطنية، وهي قضايا نشتم منها رائحة الالتهام لخصوصيات الامكنة وثقافاتها الوطنية؟!
إننا نعيش اليوم في «عصر اختزال المسافات و ثورة تكنولوجيا المعلومات، يصبح العالم فيها قرية»، ولا حياة لمن يعزل نفسه عنها، فهل نحن قادمون على عالم له هوية ثقافية واحدة، أم أن خصوصية هوياتنا الثقافية الوطنية المتنوعة ستظل حاضرة ولكن في إطار هوية ثقافية عالمية واحدة قائمة على تنوع الخصوصيات؟!
ثانياً ثوابت الهوية الثقافية الوطنية من منظور بيئي:
يوصف النظام البيئي بأنه «اية مساحة من الطبيعة وما تحويه من مكونات حية ومواد غير حية في تفاعلها مع بعضها البعض ومع الظروف المحيطة بها».. ويتكون النظام البيئي من مكونات غير حية ومكونات حية تكونان معاً نظاماً ديناميكياً يُظهر توازنه قدرة الخالق وإبداعه في خلقه.. وتمتاز المكونات الحية للنظام البيئي بمظاهر الحياة من غذاء ونمو وتكاثر، وهي تشمل مظاهر الحياة ايضاً من نبات وحيوانات وكائنات حية اخرى.. ولكل نوع من انواع الكائنات الحية متطلبات غذائية وحياتية تشمل المكونات غير الحية اللازمة للنمو والتكاثر.
وتعتمد درجة مناعة أي نظام بيئي على قدرته في مواجهة الظروف الطارئة، وهذا بدوره يعتمد على تعدد الانواع في النظام البيئي، فالانظمة البيئية المتنوعة هي الاكثر قدرة على مواجهة ومقاومة عوامل التدهور والاضعاف، فكلما كان النظام البيئي متنوعاً في مكوناته، متعدداً ومتداخلاً في علاقات مكوناته الحية وغير الحية، كلما وصف بالقوة والثبات لذا عدت الغابة الاستوائية المتنوعة نباتياً وحيوانياً اكثر الانظمة البيئية ثباتاً وديمومة.. الا اذا تم اجتثاثها كلياً، وفيما عدا ذلك فالنظام البيئي عادة ما يستعيد توازنه ويحافظ على طبيعة العلاقات بين مكوناته، وعندما دمّر الانسان مساحات هائلة من الغابات المتنوعة لزراعة محاصيل غذائية او نقدية من نمط واحد كأن تكون: قطن، شاي، الخ.. حوّل ذلك التنوع في المكان الى نمطية وفرض نوعاً واحداً من النبات، وبالتالي فإنّ تعرض هذا النبات لآفة معينة أو حتى لعوامل طبيعية متغيرة فإنّ ذلك يعني دمار هذا النظام البيئي الناشئ وتدهوره بسرعة ،و هذا ما حصل في تاريخ الزراعة الحديث وبالتالي لجأ الانسان امام هذا الى استخدام المبيدات الحشرية، ونعرف اليوم مدى الاضرار التي ألحقتها بالبيئة فضلاً عن البشر.. واليمن - المكان - وصف باليمن السعيدة او العربية السعيدة بما امتاز به من تنوع تضاريسي ومناخي، تبعه تنوع بيئي نباتي وحيواني، وظل الانسان والمكان في اليمن في علاقة مواءمة انتجت المكانة التاريخية الحضارية لليمنيين بين من جاورهم، والتي تجسدت في العمران البيئي والتنوع الزراعي حيث كان الفلاح اليمني يزرع اكثر من نوع من المحاصيل في مساحة معينة وفقاً لإدراكه طبيعة العلاقة بين المكان بخصائصه الطبيعية من تربة ومناخ وتضاريس، وبين المحصول ومتطلباته من مياه وحرارة وعناصر معدنية في التربة، بل وتميزت أماكن اليمن المتباينة بتباين المحاصيل والمنتجات، وبهذا جسد تاريخنا البيئي الزراعي الاستقلالية وحقق الامن الغذائي، واكد الخصوصية وحقق التبادل التجاري.
قياساً على ما سبق ، وبعيداً عن المزيد من التفاصيل ، فإن فلسفة البحث اليوم في علاقة الانسان بالبيئة لم تعد حبيسة المشكلات البيئية، ماهيتها وكيفية الوقاية منها، بل تجاوزت ذلك الى البحث في الجذور التاريخية للأزمة البيئية ومحاولة البحث في المنطلقات الاساسية التي اعطت الانسان الحق في تدمير البيئة وفقاً للنظرة النفعية تجاه موارد الارض، كما برزت فلسفات متعددة في هذا الجانب تتمحور في اتجاهي محورية الانسان، ومحورية الكائن الحي، كما بدأ فلاسفة البيئة وبعض من علماء الاجتماع يبحثون في العلاقة بين خصائص الانظمة البيئية وطبيعة العلاقات بين مكوناتها، وخصائص المجتمعات البشرية وما بينها من علاقات وتفاعلات في المكان في ابعاد مساحية ضيقة (الوطن مثلاً) او في ابعاد اوسع لتشمل الارض والغلاف الحيوي ككل وهو -فيما يبدو- جزء من اهتمامات مكونات ما يمكن تسميته «علم الاجتماع البيئي» ، واستناداً الى محور هذه الورقة «ثوابت الهوية الثقافية وعلاقتها بالمكان» فإن التنوع البيئي الطبيعي في اليمن تبعه لاشك تنوع بشري نابع من طبيعة التفاعل بين الانسان والبيئة في المكان، فالاساليب الزراعية التي اتبعها سكان السهول غير اساليب سكان الجبال او الهضاب، وقس على ذلك كثيراً من العادات الاجتماعية واساليب الحياة اليومية بين مناطق واقاليم اليمن، واذا كانت مكونات النظام البيئي في مساحة صغيرة فيما يسمى «بيئة الموطن» التي عادة ما توجد فيها اشكال من الحياة تتفاعل فيما بينها في ذلك النطاق الضيق، لكنها تعد جزءاً لا يتجزأ من النظام البيئي المحيط وتتفاعل معه (الكائنات الحية بجانب صخرة على ساحل او نباتات في جزء من مدرج من المدرجات) وبالتالي فهي تؤكد هنا الخصوصية ولكن في إطار الكل (البحر، الجبل) الذي يمكن ان يتسع في حلقات ليصل الى النظام البيئي الكلي، وهو الغلاف الحيوي (الارض الوطن).. وهكذا تتجسد وحدة الكائنات الحية وفقاً لمبدأ التوازن.. ذلك ان سير اي نظام بيئي انما يفترض التعايش في التنوع، وان لكل كائن حي دوره في إحداث ذلك التوازن ومثلما ينطبق هذا على نظام بيئي في حيز مكاني صغير كبركة ماء، فإنه ينطبق ايضاً على نظام بيئي اكبر مثل الغابة.. وقياساً على ذلك فإن مكونات النظام البيئي الاجتماعي في بعده المكاني الضيق، مساحة تجسده القرية او المدينة وقد تتسع لتشمل المديرية او المحافظة او الاقليم (سهول تهامة مثلاً)، وفي الوقت الذي يظهر فيه المكان خصوصيته المكانية والاجتماعية من خلال تفاعل العناصر البشرية للنظام الاجتماعي في المكان، فإنه يشكل جزءاً لا يتجزأ من النظام الأوسع وهو الوطن اليمني ككل بمقوماته الطبيعية والاجتماعية التي تؤكد الهوية الوطنية بأبعادها المختلفة، وهكذا فإذا كان النظام البيئي الطبيعي يتعرض للخطر والتدهور من جراء اجتثاث عنصر من عناصره الرئيسية، او التدخل في العلاقات والتفاعلات بين مكوناته ، فإن النظام الاجتماعي المحتضن للهوية يتعرض للخلل ويصبح عرضة للتدهور ايضاً خاصة عندما يتم تفكيكه وتجزئته وهو ما كان عليه حال اليمن قبل مايو 1990م إذ كانت الحواجز العقلية اكثر سلبية من الحدود القائمة على الارض.
خلاصة القول اننا مجتمع متنوع في بيئاته، وموحد في إطار التنوع في اهدافه ومقوماته في آفاقها المتسعة، والواقع يفرض التعايش في التنوع وبذلك تتأصل الهوية وتزدهر الديمقراطية.. ان واقعنا في بعده المكاني والاجتماعي وطنياً وعالمياً يدعونا الى إيثار التعاون في إطار التنوع، واحترام الخصوصيات والاعتراف بالحق في الاختلاف ولكن بمزيد من تعزيز روح التسامح، ومن اجل إقامة بنيان متين يعزز رسوخ الهوية الوطنية ويؤهل للتفاعل مع العالمية ، لابد ان يسود نظامنا- بمفهومه الشامل- الاستقرار والامان، إذ ان النظام البيئي الطبيعي عندما يتعرض لظروف مناخية شاذة مثل سيادة الجفاف او تكرار العواصف، او مؤثرات بشرية، فإنه يصبح في حالة عدم استقرار، وقس على ذلك النظام البيئي البشري ، «فالقيم والمبادئ الموجهة للسلوك الانساني إنما ترسخ في الأوقات التي يسودها الاستقرار والأمن وفي غير ذلك فإن القيم السائدة تصبح موضعاً للشك او الجدل في الوقت الذي تكون الحاجة اليها اشد! إذ ان بمقدور القيم المشتركة - التي تسهم في تشكيل الهوية - ان تساعد الافراد ان يروا الى ابعد من صدامات مصالحهم المباشرة، وان يتصرفوا في ضوء مصالح متبادلة واوسع مدى».
مراجع القسم الاول:
- ابن منظور (ط 1996م)، لسان العرب، مادة: ك و ن ، تحقيق امين عبدالوهاب ومحمد الصادق، بيروت.
- العشماوي، فوزية (2003م) الحوار بين الحضارات والخصوصيات الثقافية، مجلة العربي، عدد 534 مايو الكويت.
- باختين ميخائيل (1990م)، اشكال الزمان والمكان، ترجمة يوسف حلاق، دمشق.
- حسين ، خالد (2000م)، شعرية المكان في الرواية الجديدة، كتاب الرياض، عدد 83 الرياض.
- شريبط، أحمد (1994م) ، الفضاء المصطلح، مجلة الحياة الثقافية، عدد 67-68 تونس.
- عصفور، جابر (2007م) حوار الحضارات، والثقافات، كتاب في جريدة ، صحيفة الثورة عدد 101، 8 يناير.
- قاسم، سيزا (1994م) أهمية المكان، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة.
مراجع القسم الثاني:
- السقاف، احمد محمد (1994م) نحو فلسفة للتربية البيئية، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية والفنون، جامعة اليرموك، الاردن.
- بيليت، جان ماري ، (1994م)، عودة الوفاق بين الانسان والطبيعة، سلسلة عالم المعرفة (189)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.
- غرايبه، سامح والفرحان، يحيى، (1987م) ، المدخل الى العلوم البيئية، دار الشروق عمّان، الاردن.
- لجنة إدارة شؤون المجتمع العالمي (1995م) ، جيران عالم واحد، سلسلة عالم المعرفة (201) المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت.
ورقة مقدمة إلى ندوة «الهوية الثقافية الوطنية في اليمن».
________________
علي حسن العيدروس ، "ثوابت الهوية الثقافية الوطنية وعلاقتها بالمكان" صحيفة 26 سبتمبر،ادب و ثقافة ،العدد 1371 ،الخميس 07 فبراير- شباط 2008 ، ص 6 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق