كتاب جغرافية التسويق بين الأدب والمحتوى والتخطيط
إعداد : الأستاذ
الدكتور : أ.د. فايز حسن حسن غراب
2008 / 2009 م
المقدمة :
مما لاشك فيه أن الإنسان
يولد ومعه سلة من الاحتياجات الضرورية التي لا تتوفر في الوسط المكاني المحيط به ،
وفى الاتجاه المعاكس تتوزع الموارد بصورة غير منتظمة ، وهنا يتحتم تواجد الأسواق
لتوفيق الأوضاع بين الاثنين ، ونزيد على ذلك أن الأسواق تعكس التفصيلات الدقيقة
للصورة التي يعيشها المجتمع من المحاور الاقتصادية والاجتماعية ، بل والسياسية ،
فالمجتمعات المغلقة ذات الاكتفاء الذاتي لا يىشكل السوق فيها دورا كبيرا ، بل
يتقزم دور السوق ، ومن الأدلة التاريخية فإن ظاهرة التبادل والتسويق قد مارسها
الإنسان العاقل فى العصر الحجري القديم ، وذلك وفق منظومة اقتصادية واضحة المعالم .
فالإنسان تموضع في مواضع ثابتة وشبه ثابتة ،
وأسس لأول مرة مساكن على شكل مغارات وكهوف ، هذا فى الغرب الأوربي ، وكانت هذه
الكهوف مناطق للعبادة والتخزين ، ولقد ظلت الأسواق فى الكثير من عمرها في أحضان
مراكز العبادة في عصر ما قبل الإسلام ، بل تعزز الرابطة بين الأسواق وبين دور
العبادة في ظل الإسلام ، وقد تعددت ألوان المساكن من الكهوف سالفة العرض إلى
الخيام المصنوعة من الجلود أو الملاجئ الأرضية ، أو الأكواخ طينية المستديرة على
طول المجارى النهرية التي سهلت الحركة التجارية بين المراكز العمرانية .
ومع التطور الاجتماعي
والاقتصادي برزت مرحلة حياتية أخرى تمثلت أساسا في تقسيم العمل ، فقد تفرغ النسوة
والأطفال للصناعة كتهيئة الجلود لصنع الملابس ، وتهيئة الطعام ، وإيقاد النار، و
كان نتاجا لحالة الاكتفاء ، ورغم ذلك فقد ظهرت إشارات على
وجود تبادل تجارى واضح في كثير من الأحيان ، فقد عثر على بعض قطع الصوان في منطقة
جاجارينو Gagarino على نهر الدون فى جنوب
روسيا على مسافة 70 ميلا من مصدرها الأصلي في الوادي الأدنى للنهر ، وحدد هذا
المدى الإطار الخارجي للمنطقة التسويقية الكبرى أنذاك .
ويعد العصر الحجري الحديث فتح
جديدا في جغرافية الأسواق فقد سجل الكثير من أوجه التحضر الذي استند أساسا على
الزراعة ، وتربية الحيوان ، وصناعة الآلات الخاصة بالعمل الزراعي كالمحراث وآلات
الحصاد ، والأهم في ذلك هو موسمية الزراعة التي استوجبت استحداث أساليب التخزين ،
وهذه الأخيرة أكثر العناصر تأثيرا في التجارة ومواقع الأسواق ، وترتب على ذلك
امتداد المدى المسافي جدا ، فأصداف البحر الأحمر وجدت لدى سكان الفيوم والمعادى ،
ووجدت أصداف البحر المتوسط لدى فلاحى الدانوب والراين ، وكان ذلك برهانا على
التخصص الاقتصادي ، فجماعات الصوان كانت تصنع الفئوس فى مناطق كثيرة من العالم ،
وفى المقابل كانت تستورد الغذاء من القمح واللحم من مناطق أخرى .
ولسنا هنا لتأريخ بديات التسويق ، ولكن الهدف المرجو تحديد
المحطات الرئيسة في الحضرية التي حددت إلى حد كبير المواقع المثلى للأسواق
والمراكز التجارية .
ولعل ما أورده لويس ممفورد في كتابه الكبير المدينة على مر
العصور – The City in The history( 657 صفحة عدا
المقدمة والفهارس ) (1)ما يؤكد الدور الحيوي
للسوق ، والمحاور الرئيسة لبيئة السوق ، حيث جمع ثلاثة عناصر تمثل بحق الثوابت
الرئيسة للتبادل التجاري : فالنهر – الطريق- السوق ، ثم يؤكد الدور الريادي للسوق
حينما يقول : إنه في منطقة السوق تجتمع المؤسسات الحكومية سواء في المناطق القديمة
أو المستحدثات العمرانية ........ إن الوظائف الرئيسة للسوق التخزين – التوزيع ،
وكان ذلك ضمن الممتلكات المكانية للمعبد ، فالمعبد كان بمثابة الولاية التجارية – Trading Estate -
والمركز التسويقي Shopping Center لجميع المنتاجات .
وقد لفت الأنظار إلى أن التطور الحضاري قد أثر على الأسواق
كمواقع تجارية وذلك لحساب اقتصاديات السوق بعد دخول الوسطاء فى العمليات التجارية
، وذلك عندما ذكر في الفصل الرابع عشر ( تحت
عنوان التطور التجاري ومشكلات المدن ) من موقع السوق إلى اقتصاد السوق ، وقد أعطى
المؤلف الذي تحت أيدينا السوق الكثير من الاهتمام الجغرافي وذلك تحت :
· الدور الكبير والمتنامي
للسوق في النمو الحضري .
· الدور اللأ محدود للسوق في
ضبط إىقاع الحياة في المدن ، فالسوق هو المحدد الرئيس للعمليات التجارية – المهيمن
على الحياة الاجتماعية – القائم بالأمور الدينية – الدائب على حفظ الأمن .
· التطور الذي يصيب مواقع
الأسواق وقد يفقدها أهميتها ، فظهور التجارة المتنقلة ، والتجارة من المصدر ،
والوسطاء ، والتجارة عبر الإنترنت ، وانتشار العولمة التجارية ، تغير دوريات
الأسواق ، التسويق الدولي ، فكلها ذات محاذير اقتصادية تترك بالضرورة تداعياتها
على مواضع ومواقع الأسواق .
· التطور الذي يصيب
جغرافية النقل ، والذي يعتبر المحدد بل المسئول الأول عن الكثير من التأثيرات
والتداعيات التي تصيب جغرافية الأسواق ، فالطرق الدائرية -المحاور - طرق الإنفاق -
النقل الجوى - وتركيز المراكز التجارية الكبرى بالقرب من الموانئ الجوية بل
والبحرية قد ترك التأثير الأكبر على منظومة الأسواق ، ولا يقف الأمر عند هذا الحد
، فتتبع الأسواق فى مسيرتها ( بالتعاون مع جغرافية النقل ) قد حدد المراحل التي
عايشتها ومازالت تعيشها المراكز الحضرية : فسوق المنطقة
الوسطى ترك منصبه إلى المنطقة الانتقالية ، ثم إلى المنطقة الخارجية ، ثم إلى الضواحي
والتوابع ، وأخيرا إلى منطقة التقاطع القصوى لشبكات الطرق ( على النحو الذي سيرد
عند دراسة المراكز التجارية الكبرى - المولات ) ولكل من هذه الأسواق وجهة خاصة تلازمت مع التوجهات الحضرية
.
· وتتأثر العملية التسويقية
بعاملين على درجة عالية من التأثير، فمرونة التاجر ، وطول نفسه تحدد المدى أو الدائرة
التي يمتد فيها أطول نفس للتاجر ، وبالتالي أقصى امتداد للمنطقة التجارية لدى
التجاريين ، أو إقليم السوق لدى الجغرافيين ، وفى المقابل فالمستهلك يمتلك خيوط
العملية التجارية من خلال تميزه بعدة ملكات ، فالعمر والنوع والمستوى الاقتصادي والاجتماعي
كلها مؤثرات قاطعة في الخريطة التجارية .
ولنأتي إلى المحور الأخير في تحليل شخصية الأسواق ، وهو التفاعلات
المكانية للسوق ، أو العلاقات الإقليمية للسوق ، أو دائرة نفوذ السوق ، وأخيرا
إقليم السوق ، ولنعود لنؤكد إن الدور الأكبر للسوق إنما يترجم من خلال توجهات
الحركة التجارية التي تولد العلاقات المكانية - إقليم السوق .
وتجدر الإشارة إلى أن العلاقة بين جغرافية الأسواق ، وبين
جغرافية العمران لا ولن تنقطع أبدا ، قد يكون السبب في ذلك اليقين بمفصلية العلاقة
، ولنؤكد هذه العلاقة من الأدب الجغرافي الحضري ، إن أوروسو حينما وضع تصنيفا
للمدن ، وذلك فى العام التالي لانتهاء العشرين عاما الأولى من القرن المنصرم فى ست
فئات ، ورغم اختزال دور الأسواق في فئة واحدة ( الفئة الخامسة ) فقد أوجبت عليه
التواجد في ثلاث فئات فرعية : في مدن الجمع ( Collection ) ، ومدن الانتقال أو التحويل ( Transfer ) ، أو مدن التوزيع ،
وقد توسع شانسي هاريس في إدخال الدور الأكبر للأسواق والتجارة كأساس لتصنيف المدن
، فمن بين الفئات التسع لوظائف المدن استقلت التجارة بفئتين ( مدن تجارة التجزئة –
مدن تجارة الجملة ) ، ودخلت التجارة بنوعيها ضمن الأسس التي استند عليها هارس في
بقية الفئات ، فعلى سبيل المثال عندما حدد مدن الصناعة ( الرمز M ) اشترط نسبة العمالة
الصناعية مع تجارة التجزئة والجملة 74% من إجمالي العمالة فى المدينة ) ، وتسرب
دور التجارة إلى بقية فئات التصنيف ونظرا لوضعية السوق فإن يقدم شهادة على
العصر ، ويمكن من هذا المنطلق أن نحدد ثلاث مراحل متميزة :
المرحلة الأولى : مرحلة
التسويق الدوري وسادت على مدار العصور، ومازالت تمثل علامة بارزة فى الحياة الاقتصادية
.
المرحلة الثانية : مرحلة
التسويق المتخصص : حيث تحولت الخريطة الإنتاجية إلى مخروطية واضحة تعبر عن التخصص الإنتاجي
، وهذا واضح في تسويق الحبوب ( والإبل في سوق برقاش ) .
المرحلة الثالثة : مرحلة
التسويق المتعدد – المتخصص – ذات الأطر الكبيرة ، ففي إطار مكاني واحد تتعدد
المحال التجارية ذات التخصص السلعي في إطار مكاني كبير ، وهذا يتم في المراكز
التجارية الكبرى (المولات ) .
إن هذه التأملات التي سطرها المؤلف لتنم عن ما يحمله
الكتاب المذكور بين دفتيه ( في عموميته ) من معالم واضحة فى جغرافية التسويق ،
ولكن لابد من التأكيد على الدور الريادي لجغرافية التسويق فى التخطيط – التخطيط –
التخطيط التجاري على مستويات متعددة ، يتكون الكتاب المذكور من عدة محاور :
المحور الأول : أدبيات
جغرافية التسويق ، والمدارس التي فتحت أبوابها لمعالجة الأسواق من المناظير
الجغرافية ، ورواد هذه المدارس خلال المائة عام التي سادت القرن المنصرم ، مثل
المدرسة الأمريكية ، والمدرسة الإنجليزية ، والمدرسة الفرنسية ، والمدرسة
النيوزيلندية والمدرسة العربية فلكل منها منهجا خاصا .
المحور الثاني : الجوانب
التخطيطية في جغرافية التسويق ، استعرض الدراسات والتطبيقات التي سارت بالأسواق
منحا جديدا تمثل في وضعها في إطار تنظيمي يحقق الأهداف التي وجدت من أجلها الأسواق
، وكانت نظرية كريستالر هي الأكثر حظا في الجانب التخطيطي .
المحور الثالث : تطور
محتوى جغرافية التسويق والتطورات التي جرت خلال الربع الأخير من القرن الماضي :
العولمة والتسويق والأسواق الدولية ، وتكامل الأسواق .
المحور الرابع : يركز
التحليل على مرونة الحركة التجارية ونفس التاجر في التردد على الأسواق طول الرحلة
التجارية فى إطار المقارنة مع البيئات الأخرى ، فهناك تاجر البيئة السهلية ، وتاجر
البيئة الجبلية ، وتاجر البيئة الساحلية .
المحور الخامس : وتناول
الجانب الأكثر ديناميكية في جغرافية الأسواق بل وكل الدراسات الجغرافية ، ألا وهو
سلوكيات المستهلكين ، والمتغيرات الجغرافية التي حددت هذه السلوكيات ، من التراكيب
السكانية ، والاقتصادية ، والمركب السلعي ، ووسائل الوصول إلى الأسواق والمراكز
التجارية .
المحور السادس : وهو الأكثر اهتماما من قبل المؤلف نظرا لأنه يمثل العمود الفقري
للدراسات الجغرافية ، بل المحدد الرئيس لجغرافية التسويق ألا وهو أو الإقليم التجاري(
المنطقة التجارية ) الذي يتحدد وفق الأطر الخارجية لنهايات التفاعل التجاري بين
المراكز التجارية المتجاورة ، وقد ركزت الدراسة على الأساليب الكمية للتحديد النظري
لها ( مع تطبيق ذلك على البحوث التي أجراها المؤلف وأوردها في الكتاب الذي تحت
أيدينا ) ، كما استعرضت الدراسة
نماذج للأقاليم الفعلية .
المحور السابع : ويمثل نهجا جديدا في التطبيقات الجغرافية ، حيث أجرى
الباحث هذه الدراسات ( كدراسة حالة ) لرفع الواقع الجغرافي وإعطاء التوجهات
التخطيطية التي استشعرها الباحث من خلال رحلته الطويلة في مجال دراسات الأسواق التي
بدأت منذ عام 1989 م بدراسته للدكتوراه عن
الأسواق الريفية بمحافظة المنوفية وتوالت حتى عام 2006 م ببحث المراكز التجارية الكبرى ( المولات ) مرورا بتجارة
التجزئة في محافظة المنوفية ، والأسواق الجبلية ومرونة التاجر الجبلي ( اليمنى )
وسوق الإبل ( في قرية برقاش )..... وفى الصدد ذاته فقد حملت دفتا الكتاب الدراستين
: الأبعاد الجغرافية لتسويق الإبل ، والمراكز التجارية الكبرى لأنهما يعكسا آليات
التجديد التجاري في مصر ، كما اختتما برأي الباحث في تخطيط الظاهرتين .
ولعل هذا الكتاب يعد الأول في المكتبة العربية الذي يحمل الاسم
المشار إليه ، فالكاتب لم يقابل مؤلفا ( في حدود مطالعات الكاتب ) بهذا الاسم باللغة العربية ، ولكن موضوعاته بالتأكيد قد
استندت إلى الأدب الجغرافي .
وتجدر الإشارة إلى أن البيئة التي نحظى بالعيش فيها وهى
محافظة المنوفية في حاجة ماسة إلى التخطيط التجاري بها ، وخصوصا الأسواق الريفية التي
تعيش في وضع عشوائي يهدر الكثير من العوائد والمردودات النقدية التي يمكن أن توظف في
رفع مستويات أداء المؤسسات الخدمية بها ، ويقوم الكاتب حاليا بتحديث رسالة الدكتوراه
الخاصة به لكي تتمشى مع المستجدات الاقتصادية التي كانت وما زالت تعيشها أسواق
المحافظة .
و يلتمس الكاتب العذر ( إذا سقطت سهوا بعض المراجع ) ،
ويود التأكيد على أن الكثير من المصادر والمراجع التي استعان بها الكاتب مثبتة في
هوامش الكتاب بصفة رئيسة ، وكذلك في نهايات البحوث التي قام بها الكاتب واستعان بها في الكتاب ، ولا يعتبر عدم ورودها في الكتاب
من قبل التعدي على حقوق الغير .
وأخيرا فإذا صادف الكتاب قبولا لدى القارئ فهذا توفيق من
الله ، وإذا صادف غير ذلك فمن عند الكاتب .
والله
المستعان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق