كتاب جغرافية النقل بين الأدب والمنهج والتطبيق
من المنظور الجغرافي لم تتطلع جغرافية النقل طوال تاريخها إلى
الاستقلالية كفرع جغرافي مستقل ، وإنما اكتفت بالتواري خلف الفروع الأخرى على نحو
جعلها تقوم بدور الملقن على خشبة المسرح الجغرافي ، وكانت بذلك ذات شخصية متواضعة
، وقد يكون ذلك ترديدا لصدى الدور السطحي الذي كانت تقوم به الجغرافيا ، ولعل ما ذكره
هوميير عن الجغرافية كان كفيلا بتحديد
الدور الذي يحدد شخصية جغرافية النقل ، فالجغرافيا عنده لا تزيد عن كونها وصفا
عاما لبقاع الأرض ، وغاية الجغرافية أن يعرف الإنسان مسرح نشاطه ، ولهذا فهي تصف
هذا المسرح ، ولعل هذا التهميش هو الذي حدا بعالم مثل رتر أن يغير مصطلح الجغرافية
من وصف الأرض إلى آخر أكثر علمية وهو علم الأرض ، وهذا أعطى للجغرافية مذاقا خاصا .
وإذا عدنا إلى موضوعنا وهو جغرافية النقل فلم
يكن ذات وضعية خاصة ( كما سبق ) ، إن ما أورده هارتشهورن لفروع شجرة الجغرافيا قد
خلا تماما من أية إشارة لجغرافية النقل (1) هذا على الرغم من أن الكتاب
المثبت في الحاشية قد أفرد فصلا كاملا عن اكتشاف القارة القضبية الجنوبية ، وعرض
للرحلات التي جابت المنطقة بدءً من عام 1773م ، حيث الرحلة الأولى للكابتن كوك ،
وحتى ما قامت به هيئة المساحة لجزر فو كلند في الفترة 1943 – 1946 م .
ويطرح السؤال نفسه ؟ ألا يدخل ذلك في محتوى
جغرافية النقل ؟ ولنستأنف في الأدب الجغرافي العربي حينما
دار الاهتمام ( بصفة رئيسة ) بالمواقع ( الممالك ) فلم ينفصل عن جغرافية النقل (
المسالك ) ، وعلى هذا المنوال سادت هذه الرابطة لدى الكثيرين ، فهذا بن خرداذبه في
كتاب المسالك والممالك ، والأصطخري الكرخي في كتاب مسالك الممالك قد أوفيا جغرافية
النقل البعض من شخصيتها ، فالمسافات بين المدن سواء كانت بالميل ( عند بن خرداذبه
) ، أو بالمرحلة ( عند الأصطخري ) كانت محددة بالطول ( الوصلات ) والعقد ( مراكز
العمران ) ، بل احتوى الأدب الجغرافي العربي على تراتبات الشبكة ( هيراركيات
الوصلات والعقد ) وفقا لحظها من عناصر الترجيح الموقعي ، سواء كانت الدور الديني (
مكة والمدينة ) ، أو الدور الاقتصادي مثل التخصص الزراعي والصناعي والتجاري ،
وهكذا فإن ما سبق يدخل في محتوى جغرافية النقل ، وتبقى القضية حول هندسة وتنظيم
جغرافية النقل على نحو يجعلها تتطور تجاه الجوانب النفعية ، أو التطبيقية ، وبمعنى
أكثر دقة تتولى جغرافية النقل التخطيط الاقتصادي لحل المشكلات التى تواجه الإنسان
، وأن تقوم بدور ضابط الإيقاع لبقية الفروع الجغرافية ، وسوف يجد القارئ هذا الدور
الريادي لجغرافية النقل .
وأمام هذه العمومية تعددت المدارس البحثية ،
فالمدرسة الأمريكية حددت طريقها باستخدام المناهج الاستنباطية ، وتفعيل الأساليب
الكمية ، والبيانية الخاصة بتحليل الشبكات ، وعلى العكس فقد أولت المدرسة
الانجليزية الجانب الميداني الاهتمام الأكبر ، من منطلق التوظيف التام لجغرافية
النقل في خدمة البيئة والمجتمع ، وذلك تحت حاجة الهيئات التنفيذية والخدمية
للمشورات الجغرافية ( كما سيأتي في المتن ) .
ويقع الكتاب الذي تحت أيدينا في محورين رئيسين :
المحور الأول : تناول أدبيات جغرافية النقل فى معية جغرافية
الحركة التي تمثلت فى حركية الظاهرات الجغرافية من حيث إطار الحركة ، والوسيلة ،
والمحتوى والكم والتركيب ، واهتمامات جغرافية النقل لدى كل من المدرستين الأمريكية
والانجليزية ، وفى هذا الصدد فقد تناول الكتاب تحليل محتوى بعض الدراسات الخاصة
بجغرافية النقل خلال النصف الثاني من القرن العشرين .
ثم تناول
الكتاب في الفصل الثاني مناهج البحث في جغرافية النقل ، ومداخله ، ورغم إشكالية
منهجيات البحث ، فقد أورد الكتاب أهم المناهج المستخدمة فى جغرافية النقل مثل
المنهج الاستقرائي والمنهج الاستنباطي ومنهج دراسة الحالة ومنهج تحليل الشبكات وهو
الأكثر ارتباطا بجغرافية النقل وتم تطبيقه في تطور الشبكة في محافظة كفر الشيخ ،
وتطور الشبكة السعودية ، وتحليل شبكة الطرق اليمنية ، وأعقب ذلك استعراض مداخل البحث في جغرافية النقل ممثلة في المدخل السلعي
والمدخل الإقليمي والمدخل الوظيفي والمدخل الحرفي والمدخل التاريخي الأكثر تطبيقا في
جغرافية النقل ، وقد تم تطبيق بعض المداخل على محافظة المنوفية.
وقد أعطى الكتاب
اهتماما ( كبيرا إلى حد ما ) للدراسة الميدانية فى جغرافية النقل ، وان كانت
الدراسة الميدانية في حاجة إلى المزيد من الاهتمام ، وقد تم إدخال النماذج
والنظريات في بعض جوانب جغرافية النقل بمعياري المسافة والحجم السكاني ( على سبيل
ترجيح العقد) .
واسترجع الفصل
الثالث بصورة تفصيلية المحددات الجغرافية للنقل ، مثل الموقع الجغرافي والأحوال
الطبيعية ( المناخ ومظاهر السطح ) – الحياة الحيوانية والنباتية - السكاني - والجوانب الاقتصادية
الأخرى (مواقع الأسواق – أقاليم الأسواق – أقاليم المدن ، والمواقع الاقتصادية
الأخرى .
وانتقل الحديث في الفصل الرابع عن نظم النقل : البرى – الحديدي
– المائي ( نهرى – بحري ) الجوى ، وعند الحد هذا انتهى المحور الأول ( المحور المنهجي
).
.
المحور الثاني : تناول الجوانب البحثية التطبيقية فى ثلاثة فصول :
الفصل الخامس : تناول نموذج من جغرافية النقل فى البيئات السهلية :
نموذج الطرق البرية الحضرية في محافظة كفر الشيخ ، وركز البحث على حيثيات بيئة البراري
وأراضى الاستصلاح ، وتأثيراتها على
الشكل الطبولوجي لشبكة الطرق البرية الحضرية فى المحافظة .
واتجه الفصل السادس إلى طريق آخر حيث تسلق الجبال إلى
تحليل شبكة الطرق الجبلية اليمنية ، نظرا لأن الشبكة اليمنية ذات مواصفات خاصة ، فهي
جبلية ذات تداعيات سلبية ( إلى حد ما
) ، وتم أغلبها فى إطار المعونات الدولية ، والفصلان السابقان يتميزان بالشبكة
المسطحة ، وتخير الفصل السابع والأخير نمط نقلى متميز هو النقل الجوى بالتطبيق على
ميناء جدة الجوى ( الشبكة غير مسطحة ) واستعرض التغيرات التي طرأت على موقع
الميناء ، ومركزية مكة المكرمة وتحليل الشبكة طبولوجيا ، وكان مسك ختام البحث
استعراض الإقليم الجغرافي للميناء
مع التركيز على دور فريضة الحج في جعل مكة أكبر مناطق العالم مركزية جغرافية ( على
النحو الذي ورد في المتن ) .
وقد زود الكتاب بعدد من المراجع أثبت بعضها فى مواضع
البحوث ، ومنها ما ورد في قائمة المراجع الملحقة ، كذلك اعتمد الجزء الخاص
بالأدبيات على المراجع الأجنبية ، وكذلك
المواقع البحثية على الشبكة القومية للمعلومات ، وكان موقع جوجل هو الأكثر حظا ،
وإن كان ثبتها يتسم بالعمومية ، فقد يرد جزء من مقالة دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي
، كما تجدر الإشارة إلى أن البحوث الواردة في الكتاب لا تتضمن سوى متن البحث ، أما
الملاحق فإنها مودعة في البحوث الأصلية ، ورجاءً التماس العذر لما قد يوجد من
أخطاء قد تكون مطبعية ، أو من قبيل السهو ، وبالتأكيد فالكتاب فى حاجة إلى المزيد
من التطوير ، وإذا صادف الكتاب قبولا ، فهذا توفيق من الله ، وإذا صادف غير ذلك ،
فالكمال لله وحده لا شريك له .
والله المستعان
(1) جريفث تيلور الجغرافية فى القرن
العشرين ، دراسة لتقدمها وأساليبها
وأهدافها واتجاهاتها ترجمة محمد السيد غلاب ومرسى أبو الليل ، مراجعة ابراهيم
رزقانة ( 1394 هـ 1974 م ) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ص ص 62 -63 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق