ملكية الأراضي في ليبيا منذ العهد العثماني
حتى منتصف الألفية الجديدة
م. صالح بشير المزوغى
تعريف الملكية و السيطرة و الاستعمال
الملكية هي (حوزة وتصرف) في الأرض و ماعليها من موجودات ثابتة فيها وفق (سيطرة شرعية سواء أكانت هذه السيطرة قانونية أو عرفية طالما أنها لأتصادم نصوصا شرعية ثابتة) , فالقوانين والأعراف الاجتماعية لا تملك أراضى الأفراد ولكنها تسيطر على استعمالات الأراضي الأفراد و الجماعات التابعة له أو الواقعة تحت حكمه بطريقة نافعة لا تتصادم مع ملكيات أفراد أو جماعات أخرى داخل المجتمع.
فملكية الأرض لأصحابها سواءا أكانوا أفردا أو جماعة أو حكومة و السيطرة عليها للحكومة سواء أكانت هذه الحكومة فردا أو قانونا أو عرفا اجتماعي و الاستعمال للجميع دون المساس بخصوصيات الأفراد.
يقصد بالحاكم في هذا البحث هو الفرد الحاكم سواءا أكان هذا الفرد ملكا أميرا أو رئيسا أو شيخ قبيلة كما يمكن أن يعنى (الحاكم شرعا) العرف الاجتماعي أو التعاقد القانوني المتفق عليه أو الصلح بين المتخاصمين.
أصل ملكية الأرض وكيف أمتلكها الناس؟
قال تعالى (ولله ملك السموات و الأرض),قال تعالى ( إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين),(هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) (الذي له ملك السموات و الأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الأرض أرض الله و العباد عباد الله فمن أحياء أرضا مواتا فهي له ,وليس لعرق ظالم فيها حق) إذاً الأرض لله والإنسان هو خليفة الله الذي يملك هذه الأرض ويورث ملكيتها لمن يشاء من عباده. فللإنسان الحق في امتلاك هذه الأرض بأعمارها دون النظر إلى دينه أو عرقه, وفق ضوابط الشريعة الإسلامية التي تقر كل القوانين الوضعية و الأعراف الاجتماعية التي لا تتصادم مع نصوص الشريعة الإسلامية التي تخص تقديس الملكيات و المواريث,وقد امتلك الناس من مختلف الأديان والأعراق الأرض بإحيائها أي بإزالة مايمنع الانتفاع بها وذلك لتحقيق الأهداف التي تمكن الناس من العيش عليها و الكسب منها و الاستقرار فيها وفق شريعة الله في هذه لأرض.وقد بدأت كل المجتمعات البشرية منذ بدء الخليقة بحيازة الأرض و التصرف فيها بمجرد إحيائها بعد أن كانت (أرضا مواتا) أي بجعلها صالحة للحياة البشرية..
فما هي الأرض الموات وكيف يتم إحياؤها وما هي فائدة إحيائها!!! ؟
ولمن يثبت الحق في امتلاك الأرض الموات من الأفراد و الجماعات !!؟
وما هي أنواع ملكيتها وحيازتها و التصرف فيها!!؟
وهل يشترط إذن الحاكم في إحيائها!!؟
وهل للحاكم الحق في نزع ملكيتها للمنفعة العامة!!؟
وما هي ضوابط نزع ملكيتها؟
إحياء الأرض الموات في الشريعة الإسلامية
والأرض الموات هي الأرض التي لا تصلح لحياة البشر إلا بعد إزالة مانع الاستصلاح فيها و يشترط لكي تعتبر الأرض مواتا ألا يكون منتفعا بها أحد قبل وضع اليد عليها وحيازتها لذلك يشترط كل الفقهاء أن تكون بعيدة عن العمران و المزارع بالقدر الذي يجعل من الصعب اعتبارها مرفق من مرافق العمران ويتحقق الإحياء بالبنيان أو الحرث أو غرس الأشجار أو حفر بئر أو شق نهر أو مجرى ماء أو إزالة عوائق إحياء الأرض التي كانت تمنع العمران لوجود عوائق تحول دون أعمارها.
والإسلام يدعو لاستصلاح الأراضي و عمارتها بالزراعة و البناء و غيرها من منطلق مقاومة تعطيل الثروات الطبيعية عموما و تجميد الأموال و حبسها عن مجال الاستفادة بها فالإسلام يرفض الاكتناز يقول الله تعالى " يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون و يقول تعالى " ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالا و عدده
فوائد إحياء الأرض الموات في الإسلام:-
الإسلام يدعو للإحياء لفوائد عظيمة تعود على الفرد والجماعة و الدولة و أهما :
1. استصلاح الأراضي وعمارتها بالزراعة أو إقامة المباني أو المصانع تضيف إلى الأراضي الزراعية الموجودة مساحات جديدة تساهم في إضافة محاصيل جديدة متنوعة تشبع حاجات الأفراد و الدولة ,و لو أقيم عليها مصانع فإن ذلك يفيد الدولة و يجعل من الأرض الموات مصدر إنتاجي يأتي بمنتجات جديدة,و لو استخدمت في البناء فإنه سوف يساهم في حل مشكلة السكان و الإسكان في الدولة .
2. استصلاح هذه الأراضي و عمارتها يتيح فرص عمالة متعددة في كافة المجالات الزراعية و الصناعية و العمرانية فيكون الإحياء وسيلة لمكافحة البطالة .
3. تقرير حق الملكية لمن يقوم بالإحياء يوسع من دائرة الملكية بين الأفراد لتشمل عدد كبير من أفراد المجتمع و بالتالي يعم الرخاء و كل فقير و محتاج سيعمل في هذه الأراضي بدلا من ذل الحاجة و المسكنة .
4. يهدف الإسلام أيضا من الإحياء أن تصبح أراضى الدولة الإسلامية جميعا عامرة فترد أطماع المغيرين لأن إحياء و عمارة الأرض و سيلة لحماية أملاك الدولة في مواجهة أطماع الدول الأخرى.
5. من فوائد الإحياء أيضا انه يضيف مصدر جديد لإيرادات الدولة حسب طبيعة الأرض و بذلك يضيف إلى حصيلة الإيرادات التي تعتمد عليها السياسة المالية الإسلامية.
6. الإحياء دعوة حقيقية لتحسين مستوى معيشة الفرد و الجماعة فمن يحي الأرض فله حق تملكها حسب الرأي الراجح للفقهاء و حق الملكية حافز لكل فرد للقيام بالإحياء و يترتب على ذلك تحسين المستوى المعيشي لكل فرد و للدولة و سيقضى على الفقر داخل الدولة.
لمن يثبت الحق في ملكية أحياء الأرض الموات؟
يثبت الحق في الإحياء بعدة وجوه نذكر منها وجهين لا خلاف فيهما
الوجه الأول : أن يأتي الرجل الأرض الميتة فيحييها و يعمرها ثم يأتي رجل أخر فيحدث غرسا أو بنيانا فيستحق الأرض وما عليها الرجل الأول الذي أحياها لأن الثاني يعتبر معتديا على حق من سبقه بإحياء الأرض,و يدل على هذا الحكم قول الرسول صلى الله عليه و سلم" من أحيا أرض ميتة فهي له و ليس لعرق ظالم حق " فالرجل الثاني صار ظالما لأنه غرس في الأرض و هو عالم بأنها ملك لغيره فصار بذلك غاصب فقال الرسول صلى الله عليه وسلم "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فله نفقته و ليس له من الزرع شئ " فمن قام بزراعة ارض سبق إحياؤها فله ما انفق و تظل الأرض ملك للأول الذي قام بالإحياء ابتداء .
الوجه الثاني : أن يقطع الحاكم لرجل ما أرضا مواتا لم تكن لأحد قبل أن يقطعها الحاكم فتصير ملكا لهذا الرجل فيتركها بغير عمارة لسبب ما فيراها غيره على تلك الحالة فيحسبها ( لا مالك لها ) فينفق عليها و يحييها بالغرس و البنيان ثم يخاصم فيها صاحبها الأول الذي منحه الحاكم أرضا مواتا لم تكن لأحد قبله ,و يدل على حكمها أن الرسول صلى الله عليه و سلم اقطع أقواما أرض فجاء آخرون في زمن عمر رضي الله عنه فأحيوها فقال لهم عمر حين فزعوا إليه تركتموهم يعملون ثم جئتم تغيرون عليهم و كان حكم عمر أما أن يدفع من اقتطعت له الأرض ما تكلفه من قام بالإحياء أو يدفع الثاني للأول ثمن الأرض .
ما هو الحق الذي يثبت للفرد أو الجماعة من عملية أحياء الأرض الموات ؟
هل لمن يقوم بإحياء الأرض يكون له الحق في استغلالها فقط أم يثبت له حق ملكية رقبتها ؟
جميع الفقهاء يقولون بأن الإحياء يرتب منه حق الملكية لمن قام بعملية الإحياء فالحديث " من أحيا أرضا ميتة فهي له " فالحديث أضاف بلام التمليك في قوله (فهي له )و إن كان هناك رأى آخر منفرد يرى أن عملية الإحياء لا تغير من ملكية الأرض بل تظل الأرض ملكا للحاكم أو لمن يوكله و لا يسمح للفرد بتملك رقبتها و إن أحياها و إنما يكتسب بالإحياء حق الانتفاع بالأرض دون أن يتملكها . وهذا لاشك أنه رأى شاذ لا يتحقق به عمران الأرض فملكية الإنسان جزء من ذاته فلا يصح أن يفصل بين الإنسان وملكية ما يحصل به أعماره للأرض وإلا لما كان الإنسان حرا ولما عمر هذه الأرض.
هل يشترط إذن الحاكم في أحياء الأرض الموات؟
أغلب الفقهاء يقولون بأنه من أحيا ارض مواتا فهي ملكه بإذن الإمام أو بغير إذنه و دليل ذلك قول الرسول صلى الله عليه و سلم من أحيا أرض موات فهي له دليل على أن ملكية الأرض الموات تثبت بالإحياء وليس بإذن الإمام و يرى أبوحنيفة أنه لا يجوز الإحياء إلا بإذن الإمام لقول الرسول صلى الله عليه و سلم " ليس لأحد إلا ما طابت به نفس الإمام " و بهذا الرأي أخذ أبو يوسف و قال في تبريره أرأيت رجلين أرادا موضعا واحد فأيهما أحق به ..... و الراجح هو الرأي الذي يوجب ضرورة الحصول على إذن الإمام (الدولة) و ترجع ضرورة اشتراط إذن الإمام للقيام بالإحياء هو منع الخصومات و النازعات التي تقع بين الأفراد ويتحقق القول الأول في حال إحياء ارض موات غير مملوكة لأحد و دون وقوع خصومة من أحد.
نزع الملكية للمنفعة العامة
هو أخطر إجراء يتعرض له المالكون من الأفراد و الجماعات البشرية؛ لأن كل إنسان يتصور أن يبقى على ملك ما هو في يديه ، وما سيحوزه في المستقبل. فالملكية جزء من الإنسان لا يمكن انتزاعها من بين يديه. وقد نصت جميع دساتير الأرض والأعراف الاجتماعية على حماية الملكية إن كانت خاصة أو عامة، وأحاطت الاعتداء عليها بالعقاب الشديد بل أن الحروب و النزاعات و الخصومات قامت عليها.
ولذلك فان أغلب دساتير الدول الإسلامية وغير الإسلامية اعتبرت حق الملكية الفردية من الحقوق المقدسة. وقد جاءت الشريعة الإسلامية حافظة للنفس و المال و الأرض و العرض والشرف، ، لذلك اعتبر فقهاء الشريعة الإسلامية أن المحافظة على الملكية من الكليات الخمس في الشريعة الإسلامية. وقد امتلأت كتب الفقه والسيرة بالحالات الموجبة لنزع الملكية للمنفعة العامة كتوسعة المساجد، فقد كانت أولى الحالات التي استوجبت تدخل رسول الله ولى أمر الدولة الإسلامية آنذاك في ملكية الصحابة تبيانا لرعاية حقوق المسلمين من بعده . فالقاعدة العامة قي الشريعة الإسلامية أن حق الجماعة مقدّم على حق الفرد. وإذا كانت الشريعة الإسلامية أجازت نزع الملكية للمنفعة العامة فقد كان هذا البحث المتواضع في هذا الموضوع مع الاعتراف بقلة المراجع المعتمد عليها فيه رغم أهميته وتشعب موضوعاته واختلاطها، بالإضافة إلى تشعب أحكامه و الخلاف فيه بين علماء الشريعة وعلماء القانون المدني والقانون العام, فعلماء الشريعة يرون أن أحكامهم تشمل أحكام القانون والأعراف الاجتماعية التي لا تعارض النصوص الشرعية كما أن الناس في شئون الملكية و الأحوال الشخصية يتبعون الشريعة بإرادتهم حتى في غياب القانون وأهله أما علماء القانون فيرون أن القانون المدني يضمن بأحكامه مصالح عامة لم تواكبها أحكام الشريعة، و الموضوع بهذا الشيوع بين الفريقين لا يعالج العلاج الصحيح الكامل لأن كلاً منها لا يصيب كل أطرافه،لأن الحكام المسيطرون يميلون إلى تطبيق أحكام القانون أكثر من ميلهم إلى إتباع أحكام الشريعة التي غالبا ما يرجع إليها الناس بعد زوال عوارض الحكم القانوني عليهم و أجل ذلك فنحن بحاجة إلى نظام متكامل ذا نظرة شاملة متماسكة بين أحكام الشريعة و القانون فيما يخص ملكية الأرض في بلادنا . وهذا ما جرت محاولة بحثه في هذه الورقة.
أول بداية لنزع الملكية للمنفعة العامة في الإسلام
ثبت في الصحيحين من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين} وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم زاد المسجد بعد فتح خيبر حتى أصبح مائة ذراع في مائة ذراع وكانت تلك الزيادة تكفي لحاجة المسلمين في ذلك الوقت . فكيف انتزع النبي صلى الله عليه وسلم ملكية ما اعترض من الدور في هذه الزيادة ؟..... ورد أن رجلاً تقع داره في شمال المسجد شملتها الزيادة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أتتصدق بدارك على المسجد ولك بها دار في الجنة فأبى هذا الرجل فجاء عثمان بن عفان رضي الله عنه وظل يساوم هذا الرجل في داره ويغريه حتى اشتراها منه بعشرة آلاف درهم ثم جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له يا رسول الله أتقبل مني الدار بالثمن الذي أعطيته لصاحبها فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدار في الجنة .
و قد استمرت الدولة الإسلامية في تطبيق أحكام الشريعة فيما يخص امتلاك الأراضي و بيعها و التصرف فيها إلى نهاية العهد العباسي وبداية عصر الدويلات و المماليك.
ملكية الأراضي في ليبيا قبل العهد العثماني
الكثير من المراجع التاريخية شبه المحايدة تؤكد أن وضع المسلمين قبل انضمامهم للخلافة العثمانية كان سيئا جداً فليبيا مثلا كانت محتلة من قبل الأسبان ومعظم البلدان العربية والإسلامية الأخرى كانت تدار من المماليك والدويلات أو الإمارات القبلية القزمية التي تعيش في حالة حروب دائمة وتخلف متنامي وبعد سيطرة الدولة العثمانية أنشئت في ليبيا وفى غيرها من البلدان العربية والإسلامية المحاكم الشرعية في المدن ونظمت الإدارة كالبريد والأملاك وأقامت المباني والمستشفيات والمستوصفات بالحواضر الكبيرة وجلبت المياه وحفرت الآبار ومكنت الكثير من أبناء البلاد من المشاركة في الإدارة تحت حكمها فكان منهم مديرو النواحي والقائمون مقام الدولة والمتصرفون وضباط الأمن والجند وشيوخ القبائل الموالون للدولة .
وقد امتلك الناس في ليبيا الأرض أما بالشراء ممن سبقهم إليها بالإحياء وإما بميراثها من أب أو جد أو قريب أو هبة من قبيلة أو عشيرة أو بإحياء أرض موات لم تكن مملوكة لأحد بالبناء أو الزراعة أو الاستقرار فيها وعند الخصومات والمنازعات كان الناس يتصالحون عرفا وأما أن يرضخ الناس في حال الغلبة للغالب بمقابل يرضي به الخصم المنازع ويمكن كلا من المتخاصمين من الاستقرار بهدوء فيها ويعترف كل منهما بحق الآخر في تملك ما حاز من أرض , وقد استمر هذا الوضع حتى منتصف العهد العثماني,وكانت هذه الأوضاع السائدة ملكية الأراضي في ليبيا إلى منتصف العهد العثماني الثاني.
أنواع الأراضي و ملكياتها بعد منتصف العهد العثماني الثاني :
أصدرت الدولة العثمانية قانونا للأراضي عام 1858م ثم تبع ذلك إصدار العديد من القوانين اللاحقة فأصدرت لائحة تعليمات بحق سندات الطابو عام 1859م ثم نظام الطابو في نفس العام ثم إعلان قانون الطابو عام 1861م، وملحق نظام الطابو عام 1867م، ويمثل الطابو حاليا ( مصلحة التسجيل العقاري) كما صدر نظام تملك الأجانب عام 1869م، وبموجب هذا القانون. قسمت أراضي الدولة العثمانية سواءا في ليبيا أو غيرها من البلدان العربية و الإسلامية آنذاك إلى خمس أقسام :
أولا : الأراضي المملوكة
وهي الأراضي المملوكة ملكية خاصة والتي يتصرف بها صاحبها كيف شاء كما يتصرف بالمنقولات فله رقبتها وكافة حقوقها ويجوز له بيعها أو رهنها أو الايصاء بها كما انه يورثها لورثته الشرعيين فلا تعود إلى بيت المال بعد وفاته إلا إذا لم يوجد احد من ورثته .
ثانيا : الأراضي الأميرية أو ما يعرف ( بالميري في ليبيا))
وهي الأراضي التي تعود ملكيتها لبيت المال وتشمل الأراضي الزراعية والمحاطب والمراعي والغابات وما شابه ذلك من ذات النفع، وكان يتصرف بها بإذن وتفويض من أصحاب الزعامة والثيمار، وأحيانا كان يستفاد من تلك الأراضي بإذن وتفويض من المحصلين والملتزمين إلا أن هذا الحق ألغى وأصبح التصرف بها بإذن من مأمور من قبل الدولة أي أن الدولة أصبحت الجهة الوحيدة المخولة بتحديد التصرف بهذه الأراضي فتبيع منها ما تريد بموجب سند طابو، وبين قانون الأراضي كيفية التصرف بالأراضي الأميرية فقد منع إحالة جميع أراضي قرية أو قصبة إلى هيئة جماعية أو إلى شخص أو شخصين بل تحال الأراضي لكل شخص من الأهالي بمفرده وتعطي سندات طابو لكل شخص مبينة فيها كيفية التصرف بالأرض، ويحق للمتصرف بالأرض الأميرية أن يزرع بها ما يراه مناسبا في مجال الاستثمار الزراعي ويمنع من زراعتها كروما أو أشجار مثمرة، كما لا يحق له وهبها للوقف دون إذن من الدولة، ووضع قانون الأراضي نصوصا تضمن عدم إهمال الأراضي الأميرية من قبل المتصرف بها وذلك بإبطال حقه في التصرف بها في حالة عدم تسديد الضرائب والرسوم عنها، وعدم زراعتها وفلاحتها لمدة 3 سنوات متتالية .
ثالثا: أراضى الوقف
وكانت معظم أراضي الأوقاف في العهد العثماني خلال القرن السادس عشر الميلادي وذلك خلال حكم السلطان سليمان القانوني وكانت تتكون بداية من الأراضي الأميرية التي حددها السلطان سليمان وما تبعه من سلاطين بالإضافة إلى الأراضي التي خصصها بعض الأغنياء أو الأراضي التي أوقفها بعض الفلاحين وخاصة بعد صدور التنظيمات للتهرب من دفع الضرائب والرسوم .
وقد عانت أراضي الأوقاف خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر من الفوضى والفساد الذي لحق بأجهزة الدولة بشكل عام فقد تسلم إدارة الأوقاف أشخاص غير مؤهلين لذلك، فحاولت الدولة الحد من هذه الفوضى والفساد وذلك بأن أصبحت المسؤول المباشر عن أراضي الأوقاف، ومع ذلك استمر الفساد وحال دون تطبيق هذه الإجراءات نتيجة لإهمال القائمين على الأوقاف إذ قام الكثير من النظار بتحويل أملاك الأوقاف إلى أملاك خاصة وتسجيلها في سجلات التمليك ملكا لهم ثم انقلبت لورثتهم ولمن ابتاعها منهم وكان كل ذلك يتم بمعرفة دائرة الأوقاف .
رابعا: الأراضى المتروكة
هي الأراضي التي ترك حق الانتفاع بها لعامة الناس أو لأهالي قرية أو مجموعة قرى وقصبات تكون مشتركة فيها وقسمت الأراضي المتروكة وفق قانون الأراضي العثماني إلى قسمين :
1- الأراضي المتروكة لعامة الناس كالطرق والأسواق العامة والساحات والمسطحات المائية من بحار وبحيرات وأنهار وعيون ومجاري سيول الأودية وغير ذلك مما ترك لاستخدامات الناس .
2- الأراضي التي تركت لأهالي قرية أو قصبة أو التي تركت لأهالي عدة قرى وقصبات كالمراعي والبيادر والمحتطبات .
وبين قانون الأراضي كيفية استخدام الأراضي المتروكة إذ لا يحق لأي شخص أن يحدث أبنية أو يغرس أشجارا في الأماكن العامة المتروكة لعامة الناس دون إذن الدولة ومن كان يقوم بذلك يهدم البناء ويقلع الشجر وذلك لأن التصرف في هذه الأماكن يعتبر تصرفا في ملك الدولة العام دون إذنها ، ومن الأمثلة على ذلك ما حدث في الخليل عام 1890م حيث أجبرت الحكومة رئيس بلدية الخليل عبد الله المحتسب على هدم ثلاثة دكاكين كان قد أقامها لنفسه في ساحة محله القزازين في المدينة .
خامساً الأراضى الموات
وهي الأراضي الخالية والبعيدة عن العمران وليست بتصرف أحد والتي لم تترك ولم تخصص لأهالي القرى والقصبات كما أنها لم تكن بتصرف أحد بالطابو كالجبال وتبعد عن أقصى العمران مسافة ميل ونصف الميل أو نصف ساعة سيرا على الأقدام بحيث لا يسمع فيها صيحة الرجل الجهير الصوت .
وسمح قانون الأراضي العثماني بإحياء هذه الأراضي من قبل الناس شريطة موافقة الحكومة على أن يكون إحياؤها في مدة لا تزيد عن ثلاث سنوات وإذا لم يستصلحها خلال هذه المدة تؤخذ منه وتعطي لشخص آخر، أما إذا أحيا رجل أرضا مواتا بإذن الحكومة فعليه دفع بدل الطابو أي مصاريف تقييمها في السجل العقاري) .
النشاط الزراعي في الاحتلال العثماني ودوره في تمليك الأراضى في ليبيا :
كانت الدولة العثمانية تعتمد اعتماداً كبيراً في دخلها على الأراضي الزراعية من خلال ما تفرضه من ضرائب إلى جانب ما تحصل عليه من غنائم وفيرة أثنا حروبها غير أن الغنائم المجزية والضرائب المتعددة التي كانت تفرض على البلدان المهزومة والخاضعة قد أصبحت محدودة عقب أن صارت معظم حروب الإمبراطورية العثمانية ذات طبيعة دفاعية مما عمل على إيجاد هوة واسعة بين موارد الدولة من ناحية وتعهداتها من ناحية أخرى مما عمل على الاعتماد الشبة الكامل على الزراعة فعملت على إصدار عدة قوانين ولوائح بولاية طرابلس، كان الهدف منها إعادة تنظيم الزراعة في البلاد على ضوء ما شاهدته من بزوغ عصر التنظيمات العثمانية والإصلاحات الخيرية وعلى سبيل المثال قانون الطابو عام 1858م الخاص بتسجيل الأراضي في ليبيا وبيعها وشرائها للمواطنين من الدولة العثمانية مقابل مبلغ معين من المال نظير سند رسمي وعملت على إدخال أنواع جديدة من المحاصيل (كبطاطا، والبن، والسمسم، والقطن، والبرتقال، والتوت، وأشجار الغابات مثل الصنوبر والصفصاف مع الاهتمام الكبير بأشجار النخيل والزيتون واللوز والتين والعنب والشعير ، وذكر دور العثمانيين فيما يتعلق بالنهوض بمرفق الزراعة بطرابلس الغرب الذي يتجلى في عدة مجهودات منها :
1- الاهتمام بالتعليم الزراعي .
2- إنشاء قرى زراعية جديدة.
3- عمل حدائق عامة بالمدن وزراعتها بأنواع الأشجار والزهور.
4- المشاركة في إقامة المعارض الدولية.
5- غرس أشجار الزيتون والنخيل.
6- زراعة أشجار البرتقال والتوت والعنب والبن والقطن إلى جانب بعض النباتات الأخرى مثل السمسم.
7- الاهتمام بالنباتات البرية الطبية مثل الزعفران والصبغة والغاسول.
8- حفر الآبار.
9- إنشاء مصرف زراعي وإقامة السدود المائية في مجاري بعض الوديان.
فالزراعة قد وصلت إلى درجة لا بأس بها إبان نهاية حكم الأتراك العثمانيين لليبيا وقد استفادت ايطاليا فيما بعد بما أدخلته من تحسينات على وسائل الإنتاج الزراعي وأنواع المزروعات .
الطبيعة الصحراوية تستحوذ على معظم الأرض الليبية, فنسبة الصحراء إلى المساحة 95 % ونسبة المزروع فعلا من الخمسة في المائة الباقية ـ وحتى سنة 1965 م ـ هي نصف في المائة فقط.
هذه الطبيعة فرضت نمط إنتاج معين يتمثل في مجمله في الرعي والزراعة الموسمية باستثناء الشريط الساحلي الضيق الذي كان يضم زراعة مروية مستقرة, ويحتوي أيضاً علي المراكز المدنية .
تمت محاولة إصلاح وتنشيط قطاع الزراعة ابتداء من جهود على رضا باشا في عام 1866 م بعملية زراعة الآلاف من الأشجار في منطقة سيدي المصري. وبعد إصدار قانون الأراضي 1858 , الذي ينص على الملكية الفردية للأراضي وتسجيلها عقاريا ولا يخفى ما له من دلالة في العمل على كسر إطار الملكية القبلية كمؤسسة اقتصادية وسياسية واجتماعية وعلى التأكيد على ملكية الأفراد برغم كل ما يقال عن محدودية تطبيق هذا القانون في هذه الولاية .
وفى العهد العثماني الثاني تغيرت طبيعية التمردات المحلية باكتسابها مطالب محلية أو جهوية خاصة في هيئة مطالبات علنية وبشكل مباشر في حين كانت من قبل تفهم ضمناً باعتبارها مكافأة من الوالي حين تنصره قبائل معينة في صراعه مع وال أخر . لقد تركز المطلب الأساسي لهذه التمردات في ضرورة وجود حاكم محلي من السكان الليبيين يكون نائباً للوالي في الداخل , ولذا فقد تم تعيين نواب ليبين للوالي , كما فعل حسن باشا 1837 م , ثم على عسكر باشا الذي ثبت اتفاق خلفه مع المتمردين وأزال منه الشروط المجحفة الخاصة بدفع أموال عن الفترات السابقة لتوليهم النيابة , وكذلك محمد راغب باشا الذي عين على منطقة الجبل الغربي نائبا له من أتباع غومة المحمودي .
شمل نظام ملكية الأراضى في القرن التاسع عشر أنواعًا عدة في ليبيا العثمانية . قانون الأراضى العثماني الصادر في عام 1858 شمل أراضى المسرى التي هي أراضى مملوكة للدولة وضعت تحت تصرف شيوخ القبائل و العشائر الموالين لها أو الممثلين لها واعتبرتهم الدولة ملاك أراضى في الأقاليم وجندت لهم جنود السباييس . وهؤلاء لهم حق جمع الضرائب من الفلاحين وبالمقابل يقومون بإعداد الجنود وعدتهم في حالة الحرب، ولهم أيضا حق إبقاء جزء من الضرائب لأنفسهم .
إلا أن قانون عام 1858 الخاص بملكية الأراضى عكس تحولات اقتصادية بدأت تقوى في داخل الدولة تم فيها التركيز على الملكية الفردية للأشخاص وتسجيل الأراضى من قبل السكان المحليين . .
فالملكية الخاصة في القانون العثماني في ليبيا تعطى الحق لعائلة أو فردًا الحق في الملكية الشاملة أو حق الاستعمال والتصرف. بعبارة أخرى، حق استغلال الأرض وبيع وشراء الأرض .و هذا النمط وجد في المناطق الزراعية المستقرة في الجبل الأخضر و الشريط الساحلي من بنغازي إلى مصراته وانتهاءا بزوارة غربا وفى مناطق طرابلس المدينة لم يتجاوز حدود منطقة المنشية جنوبا حيث كانت قبائل عكارة و ورشفانة و الرقيعات و العلاونة خارج حدود مناطق الزراعة في طرابلس كما شمل تطبيق القانون و تسجيل الأراضى مناطق الجبل الغربي من وازن غربا إلى الخمس شرقا مرورا بمناطق الجبل الكبرى كنالوت و جادو ويفرن وكاباو وغريان وترهونة و بني وليد ومسلاتة وكل القرى الصغرى المحيطة بكل من مناطق الجبل الكبرى كما شمل واحات الصحراء و مناطق الحمادة وفزان و واحات الجفرة و الكفرة، ففي هذه الأراضى نجد الطابع الغالب لاستغلال الأرض، إمّا العمل ألفلاحي العائلي أو . لم توجد ملكية أراضى كبيرة في القرن التاسع عشر إلا في حالات معدودة في طرابلس، ولكن نجد نمط كبار ملاك الأراضي في فزان، إذ غالبًا ما نجد طبقة تجار / ملاك أراضى يؤجرون أراضيهم لفلاحين مقابل نسبة من الإنتاج نجد هذا الطابع في فزان في بساتين ومزارع النخيل التي زودت الولاية بمعظم حاجاتها من التمور .
النمط الثاني لملكية الأراضي في ليبيا العهد العثماني هو الأرض المملوكة من قبل الدولة، المسرى الدولة لها حق التصرف في هذه الأراضى ولكن الدولة عادة ما تعطي الأفراد الذين لهم حق الاستغلال أو الاستعمال حق الملكية بعد زمن معين من دفع المسرى.
إلا أن الطبيعة الصحراوية وغلبة التكوينات القبلية في ليبيا قللت من فرص ظهور هذا النمط للملكية، و بنهاية القرن التاسع عشر أجرت السياسة العثمانية خصوصًا في المنطقة الغربية من ليبيا، تحولات جديدة في نظم الملكية المعروف ( بالميري) نقلت فيه الملكية ببيع أراضى( الميري) التي كانت تحت سيطرة الدولة إلى شيوخ القبائل والأفراد خاصة عندما أحست الدولة العثمانية بضعف نفوذها وقلة مواردها الاقتصادية وبداية العصر الاستعماري الأوروبي على مناطق نفوذ الإمبراطورية العثمانية.
أما النمط الثالث للملكية الشائع في الإمبراطورية العثمانية هو الوقف الإسلامي، أو الحبس كما هو يعرف في المغرب الإسلامي. الوقف أو الحبس هو أرض يوقفها المالك الخاص بناء على وصية أو وقفية لخدمة مسجد أو مدرسة، أو ضريح. هذا الوقف يبين مدى مرونة الفقه الإسلامي في مواجهة تجاوزات الدولة على الملكية. حيث إن أراضى الوقف مملوكة للدولة خاصة في المدن ولا سلطة للدولة من الناحية النظرية عليها، بعبارة أخرى وجدت الطبقة التجارية الحضرية في نظام الوقف الإسلامي وسيلة لمواجهة سلطة الدولة في تأميم ممتلكاتها وأراضيها ولكن أراضى الوقف لم توجد فقط في المناطق الحضرية والواحات في طرابلس وفزان بل أيضا في دواخل خاصة في برقة لدرجة أن أراضى زوايا الوقف السنوسية كانت تشمل 600.000 هكتار في بداية القرن العشرين .
النمط الرابع للملكية هو الأرض المتروكة، وهي الأرض العامة المملوكة من قبل الدولة ولكن تركت لاستعمال قرية أو قبيلة. ولكن القبائل الليبية نظرت إلى أوطانها وأراضيها كملكية شاملة وليس للدولة حق فيها. أراضى المراعي ملكت من قبل القبيلة بشكل جماعي، ولذلك ليس من حق أي فرد في القبيلة بيع هذه الأراضى، دون إجماع بقية أعضاء القبيلة .
حاولت حكومة الولاية تطبيق قانون الأراضى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وشجعت الأفراد على تسجيل الأراضى بشكل فردي . تشجيعا للملكية الفردية ، لأن جمع الضرائب في الماضي ذا الطابع الريعي كان على كل قرية أو قبيلة كجزء من الإنتاج وليس بالضرورة دفعها بالعملة أما القانون الجديد فقد ركز على المسؤولية الفردية وبالتالي التخلص من الوسطاء في جمع الضرائب من الشيوخ والسباييس . كما ألغى القانون الجديد امتيازات المرحلة السابقة للعهد العثماني الثاني مثل إعفاء قبائل الأشراف والصلحاء والكرغلية والأعيان من دفع نسبة من الضرائب أو كل الضرائب .
وق د نجحت الدولة العثمانية في تطبيق هذا القانون في طرابلس الغرب و المنطقة الغربية ولكن كان تطبيقه محدود التأثير في الدواخل . وخارج مدن برقة، نظرا لاعتبارهم أن تدخل الدولة العثمانية في أراضيهم غير مشروع لأن خصوبة أراضى طرابلس كمركز للولاية ليست مثل خصوبة أراضى الدواخل , لهذا فإننا نجد أن نظام ملكية الأرض في ليبيا في هذه الفترة عبارة عن مزيج من قانون عام 1858 الخاص بملكية الأراضي وأعراف ملكية الأراضى المتعارف عليها بين القبائل..
استمر الغزو العثماني العسكري للقبائل التي رفضت السيطرة العثمانية على أراضيها وحاولت الحفاظ علي استقلالها الطويل عن السلطة المركزية فظهرت ثورة غومة المحمودي بالجبل الغربي و عبد الجليل سيف النصر بفزان وبعد هزيمة المحاميد بدأت الدولة العثمانية في تقوية السلطة المركزية عن طريق تشجيع تسجيل الأراضى والاستقرار بدل الترحل . أثمرت هذه السياسة ظهور طبقة من الأعيان وشيوخ القبائل الذين اندمجت مصالحهم في الإدارة الوجوه الجديدة وعينت الدولة البيك و المتصرف و القائم مقام بكل منطقة سيطرت عليها وشيوخ القبائل والأعيان الأراضى بأسمائهم، ولذلك سجل العديد من رجال القبائل فوجد الكثير من الأفراد العاديين وبعض القبائل الضعيفة أنفسهم فجأة بلا أراضى فاضطروا للهجرة من مناطقهم إلى ساحل طرابلس ومصراته أو إلى جنوب تونس للعمل في مزارع العنب . التي بدأ الاستعمار الفرنسي في إعدادها.
ويلاحظ في هذه الفترة منطقة الساحل والمنشية والجفارة وقماطة الساحل ومسلاتة و الجبل الغربي بداية ضعف العلاقات القبلية وبقاء العائلة كوحدة مهمة بنهاية القرن التاسع عشر . لكن هذه التغيرات الاقتصادية لم تؤثر في تركيبة قبائل القبلة كقبائل ترهونة و ورفلة وقبائل الحمادة الحمراء التي ظلت مثل قبائل برقة خارج تأثير هذه السياسة الاقتصادية الجديدة التي تقضى بتشجيع تسجيل الأراضي للأفراد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق