التحكم البيئي في العمران وأثره في الحراك الاجتماعي
أمحمد ربيع - جامعة ورقلة
ملخص
في ضوء تأثر عمران المدن التقليدية الصحراوية بمتغيرات العصر الحديث، وتغير صورة التجمع الصحراوي التقليدي، كان موضوع المداخلة يتناول مدى تأثير المحتوى البيئي على عمران المدن الصحراوية، وعلاقته بالحراك الاجتماعي للسكان، وما يترتب عنه من ممارسات، ومدى إمكانية الخروج بأسس ومعايير للتحكم البيئي في عمران تلك المدن، وذلك من خلال تقييم العمران القائم بالتجمعات التقليدية القائمة بالصحارى، ومدي درجة تفاعله مع البيئة المحيطة، والخروج بأسس تخطيطية للعمران الصحراوي المتوائم مع البيئة بما يجعل المدن الصحراوية مميزة بطابعها وعتيقة في نسقها وأصيلة في انتسابها .
الكلمات المفتاحية : البيئة – المدن الصحراوية – معايير للتحكم البيئي – التخطيط البيئي المستدام ـ الحراك الاجتماعي - الحداثة ـ التقليد .
مقدمة
لقد ارتأيت في مداخلتي هذه أن أتناول الإسهام في محور: مدن صحراوية أم مدن في الصحراء؟ ، من حيث الشكل والمضمون، وعلى الخصوص فيما يتعلق بمعايير التحكم البيئي في عمران المدن الصحراوية بما يجعل العلاقة مطردة بين المدن وعمرانها، وما يدفع بالحراك الاجتماعي في مختلف مجالاته الطبيعية والثقافية والاقتصادية ، فقد تأثر عمران المجتمعات الصحراوية في القرن الحادي والعشرين بالاتجاهات الغربية الحديثة في التخطيط العمراني ، مما أدى إلى تغير صورة المدينة الصحراوية التقليدية في شكلها وممارساتها، كما ظهرت بعد قيام الثورة الصناعية وسائل وتقنيات حديثة في عمليات البناء ووسائل المواصلات والتي أدت إلى إهمال التقنيات الموروثة في عمران المناطق الصحراوية التقليدية، وشكلت تجمعات عمرانية حديثة غير مستدامة ذات نظام اقتصادي، وطبيعة صناعية جديدة على حساب عمران المناطق الصحراوية.
لذلك يعد مدخل التخطيط البيئي أحد مداخل التعامل مع التحول الذي تمر به التجمعات الصحراوية، وأساساً لصياغة استراتيجياتها المستقبلية للحفاظ على هويتها وانتمائها .
إن سياسة تخطيط وتعمير المناطق الصحراوية تعتبر ضرورة حتمية تفرضها الظروف الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية والعمرانية .
ولذلك اتجهت معظم الدول العربية إلى تعمير المناطق الصحراوية من خلال سياسة إنشاء تجمعات عمرانية جديدة في شكل أحياء وقرى بهدف إحداث تحول كيفي وكمي في الخريطة السكانية، والهيكل العمراني والاقتصادي للمدن الصحراوية، وذلك بغرض الحد من الامتداد العمراني على الواحات الزراعية المنتجة، بالإضافة إلى البحث عن حلول لإشكالية المدن الكبرى، وما تعانيه من هجرة الريف والبوادي وما يترتب عنها من ضغوطات على مستوى المرافق والخدمات.
لذا كان من الضروري دراسة شكل العمران بالتجمعات الصحراوية التقليدية من خلال الدراسات التحليلية لمورفولوجية المدينة، وأعني شبكة الحركة، وتوجيه العمران، وتحديد الدروس المستفادة من العمران القائم كعمران مدينة ورقلة القديمة ( نموذجا) لإثبات صلاحية مكونات العمران التقليدي، حيث تعلمت هذه المجتمعات عبر القرون كيفية التعامل مع بيئتهم المحيطة واستخلصت الحلول لمشاكل الإسكان وغيرها، وكان من الأهمية بما كان الخروج من تحليل و تقييم هذا العمران بالتجمعات التقليدية بأسس ومعايير لكيفية التحكم البيئي في التخطيط المستقبلي للتجمعات الصحراوية الجزائرية أهمها ما يلي:
الطبيعة المميزة للتجمعات الصحراوية: المدن أو المستقرات التي تقع في المناطق الصحراوية بأنماطها وأنساقها المختلفة تتميز بطبيعة وشخصية خاصة تنفرد بها عن الموروث التخطيطي المستخدم حالياً في عمليات التحول المتبعة في العاصمة مثلا. ولذلك فان تخطيط التجمعات العمرانية بالمناطق الصحراوية مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى فهم وإدراك المخطط لخصوصية العلاقة بين المدينة الصحراوية والبيئة المحيطة بها.هذه العلاقة تضفي العديد من الملامح على المدينة، وتعطي لها ميزة و خصوصية.
ومن خلال استنتاج هذه الملامح يمكن الوصول إلى تطوير أسـس ومعايير التخطيط لمثل هذه التجمعات الصحراوية.
ويتأكد ذلك أكثر كلما حصل التوافق بين أهداف ومفاهيم المهتمين و المخططين العمرانيين، ومفاهيم واهتمامات سكان تلك التجمعات من ناحية، والواقع الطبيعي للبيئة الصحراوية من ناحية أخرى، ويمكن حصر تلك الأهداف على النحو التالي: ([1])
- العلاقة بين الخصائص العمرانية للتجمعات الصحراوية، وبيئتها المحيطة بها الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية منها.
- الوصول إلى ملامح محددة للتشكيل العمراني بالتجمعات الصحراوية.
- دراسة وتحليل العناصر التخطيطية المميزة للطابع العمراني للتجمعات الصحراوية.
- حماية التجمعات الصحراوية من النمو العمراني الغير مخطط بإحداث تنمية عمرانية على أسـس علمية وبيئية سليمة.
البيئة الصحراوية : بما أن البيئة هي الوسط المحيط بالإنسان والذي يشمل كافة الجوانب المادية وغير المادية البشرية منها وغير البشرية، فالبيئة تعني هنا كل ما هو خارج عن كيان الإنسان، وكل ما يحيط به من موجودات.
سواء أكان ذلك على مستوى القرية والمدينة في مجالهما التطبيقي.
فإذا كانت القرية أو الريف تعني تلك التجمعات العمرانية المقامة على أراضى زراعية أو صحراوية لإيواء من يقومون على خدمة تلك الأراضي واستغلالها، وتتميز بصغر أحجامها السكانية، وقد تغلب الوظيفة الزراعية علي اقتصادياتها، وقد يأوي إليها من يجمعون بين الرعي والزراعة، وهي تختلف عن المدينة في أن الصناعة والتجارة فيها لا تلعب إلا دوراً ثانوياً في حياة سكانها.فان المدينة تتميز بتجمعات عمرانية سكنية تعتمد نشأتها عادة على نشاط أو أكثر غير الزراعة، فقد يكون النشاط الأساسي بها الصناعة أو التجارة أو السياحة أو…الخ ، وتتدرج أحجامها بين الصغيرة والمتوسطة والكبيرة ، وتعتبر المدينة همزة الوصل بين القرية والسلطة المركزية ، فالعلاقة بين المدينة وإقليمها الريفي متبادلة فإذا كانت المدينة تغزو الريف بحضارتها وتمدنها فان المهاجرين القرويين يحملون معهم للمدينة طريقة حياتهم وعاداتهم و تقاليدهم لفترة طويلة .([2])
التوافق البيئي والايكولوجى :
استخدام الأساليب الطبيعية: لقد أدى التشكيل المتضام للمنازل و جعل واجهاتها للداخل بحيث تفتح مداخلها على شبكة الطرق الداخلية دورا هاما في تلاحم جدران المنازل بحيث تبدو كأنها سور خارجي يلتف حول تلك المدن العمرانية مما أدى إلى إلاستغناء عن الأسوار كحماية من الأتربة والرمال أيضا و ساعدت الشوارع الضيقة والمغطاة والفراغات الداخلية والافنية المزروعة في التقليل من حجم الاتربة والغبار على تلك المدن([3]) ، كما أدىاستخدام مواد البناء المحلية في بناء معظم المباني من الطوب اللبن والطفلة بسمك 60 سم في كثير من عمران المدن التقليدية الصحراوية إلى تخفيف الحرارة، وتوفير الرطوبة ، وبناء السقف من جذوع النخيل، وتغطيته بالطوب واستخدام الفتحات الصيفية بالواجهات، كل ذلك أدى إلى تلطيف درجة الحرارة داخل المباني ، مما أدى إلى التقليل من استخدام التقنيات الحديثة الغير متوافقة مع البيئة.
نمطية المكان والطابع : لقد تميز كل نمط من أنماط المدن التقليدية بالصحاري الجزائرية بالشخصية المميزة له، حيث التشكيل العمراني الواضح والنسيج العمراني المتضام، والطابع المعماري الخاص فتميزت المدن الوحاتية بالتلقائية واستخدام القباب والقبوات وغيرها من المفردات المعمارية المميزة. وبوضوح الهيكل العمراني، والتدرج الهرمي لشبكات الطرق والفراغات ، حيث جاء هذا التدرج نتيجة تأثير الأنساق الإجتماعية والاحتياجات الإنسانية التي انعكست في المقياس الإنسانى للفراغات والمباني والأرتفاعات ، كما نجد ذلك ممثلا في مباني قرى وادي سوف، كما أدى التماسك العضوي للمباني والتراص بينها كوحدة واحدة، أدى إلى ظهور نوع من الانسجام الروحي، والاحساس بالامن والأمان لدى السكان، كما هو الحال بقصور ورقلة القديمة أو نقوسة وبالقصور التواتية.
التوافق الوظيفي: لقد تميز عمران المدن الصحراوية التقليدية بوضوح التوافق الوظيفي كما يتضح في التعبير المعماري عن الوظائفوالمباني في الجامع والمسكن والحانوت، و بتصميمات تلقائية أيضا في مواد البناء سواء من الطوب اللبن الأحمر أو الاخشاب بألوانها الطبيعية، وأيضا عكست الفراغات العامة في المدن القديمة الوظيفة، فنجدالفراغ التجميعي، وفراغ السوق، حيث التحديد الواضح لمدخل الفراغ، وسيطرة مئذنة المسجد كعلامة مميزة، وتوافر مساحات مظللة بفراغ السوق للتجمهر والتجمع .لقد عكس الكثير من الرموز في عمران تلك المدن تأثير الانساق الاجتماعية مثل: التقاء الادوار العليا بين المساكن كتعبير قوى عن الترابط والتالف بين السكان، واستخدام بعضالاشكال الهندسية البسيطة واستخدام الألوان النابعة من الطبيعة المحيطة أيضا واتصال المباني المستمر على الطريق، وتغير حد البناء بما يحفظ الجار ولا يحجب الهواء، وبين جذوع النخيل وما تسقطه من ظلال على الواجهات مما ساعد على تشكيل عمراني متميز ببساطته وانتمائه الحضاري . (قرى واد ميزاب أنموذجا)وبالتالي فقد تميزت المدن التقليدية الصحراوية بالوضوح على مستوى التجمع ككل أو كأجزاء منفردة، كما تميزت كل منها بطابع محلى متميز نابع من تأثير المكان والزمان والانتماء في تشكيل عمران كل منها.
أسس التحكم البيئي من خلال تخطيط عمران المدن الصحراوية : من خلال السرد التحليلي السابق لعمران المدن التقليدية بالصحاري الجزائرية، نجد أن هناك اعتبارات أساسية يجب أن تؤخذ عند تنمية المدن التقليدية الصحراويةأهما: تناسبه مع البيئة المحيطة من الناحية الطبيعية والاجتماعية سواء من حيث المناخ أو طبيعة الأرض (جبلية- واحية-) حيث يجب أن يعالج التخطيط الاجهاد والحرارة وذلك بتعديل المناخ المصغر للتجمع العمراني وفيما بلى يتم تناولأهم الاسس ومعايير التخطيط التي يجب مراعاتها لموائمةالنسيج العمراني للظروف الخارجية وهى :([4])
التخطيط المرصوص( المتضام) : لاشك أن استمرارية وثبات التشكيل العمراني المتضام في القلب التاريخي للمدن العربية والجزائرية على الخصوص لمئات السنين حقق مفهوم التواصل الاجتماعي والوظيفي للأجيال المتلاحقة، ونتج عنه تشكيل هوية عمرانية متميزة مستدامة وهو في أبسط صورة تقارب صفوف المباني المتجاورة، وضيق مسارات الحركة، وكثرة تعرجها لحماية الواجهات من أشعة الشمس ومن حركة الرياح الساخنة خلال الفراغات، ونظراً لشدة قسوة البيئة الصحراوية كان للعمران دور كبير في احتواء السكان، علاوة علي توفير الظلال، فمن الناحية الاجتماعية، أدى التخطيط المتضام أو المدمج من خلال الفراغات إلي تقارب العلاقات الاجتماعية بين السكان، وبطبيعة الحال ينتج عن ذلك تجمعات ذات أحجام صغيرة وأكثر بساطة وأقل تلوثاً وأكثر استدامة.
مفهوم التخطيط المتضام في البيئة الصحراوية: ويمكن أن نتناول ملامح التخطيط المتضام في تخطيط المدن الصحراوية في مستويين:
أحدهما خاص بالتشكيل العمراني بصفة عامة وهو رفع كثافة العمران للتجمع وإتباع أسلوب الانتشار لتوزيع التجمعات العمرانية.
وثانيهما يختص بالبنية الهيكلية للعمران داخل التجمع، والمقصود به تعدد استعمالات المباني الخدمية، وتكثيف الأنشطة بها، بما يناسب الكثافة السكانية والبنائية للتجمع ، وبذلك يكون حجم التجمع أقرب ما يكون إلي وحدة مترابطة عمرانياً واجتماعياً من خلال تجانس السكان في ظل القيم الموروثة من التجمعات الصحراوية التقليد
العمران وحركية التجمعات الصحراوية : وتتمثل في مجموعة من الجهـود المبذولة عن قصد وبغرض إحداث نوع من التحول في حياة الجماعات والمجتمعات الصحراوية بما تشمله هذه الحياة من جوانب متنوعة ومتعددة في إطار من السياسة العامة للدولة ومن هذا المنطلق يتضح لنا أن الحركية الصحراوية تتمظهر بداية في عملية تغيير عمراني مقصود، وتتأثر بظروف السكان وخاصة القرويين و البدو وتراثهم الثقافي والنظم الاجتماعية السائدة في مجتمعاتهم، وفي غيرها من بقية قطاعات المجتمع الصحراوي ككل بصفة عامة وترتبط حركية التجمعات الصحراوية بعاملين هامين هما : التزايد المطرد في مجال الإسكان و السكان وزيادة المتطلبات والاحتياجات تبعاً للتطور الفكري والحضاري للتجمعات ([5])،
التحول التاريخي للمدن الصحراوية: فنلاحظ عملية التحول التاريخية التي عرفتها مدينة ورقلة مثلا، فقد عرفت هذه المنطقة حضارة تاريخية عريقة فالدارسـة التي قـام بها الدكتـور " تريكول " وفريقه تؤكد ذلك، كما أن النقود المعدنيـة الرومانية التي عثر عليها توحي بالتبـادلات التجارية التي كانت سائـدة آنـذاك إضافـة إلى ، تجار الذهب والعـاج الذين جعـلـوا من ورقلة نقطـة وصول القوافل القـادمة من السـودان ونقطـة انطلاق لجـلب الثمـار والحبـوب والـنسيـج.يصفها " الإدريسي بقوله: " أن هذه المدينة سكنتها عائلات ثرية وتجار مفاوضون جعلوا من التجارة أداة لقطع المسافات والتوغل داخل إفريقيا السوداء ( غانا ، وأنغرا ) وهي الأماكن التي يجلب منها الذهب ويضرب في مدينة ورقلة، إضافة إلى هذا التطور الاقتصادي هناك نمو ثقافي أدى إلى ظهور علماء في الدين ، رحالة ، ومؤرخين من امثال : أبي بكر الورجلاني. كما تميزت هذه الحقبة لسكان المنطقة بوضع نظام اجتماعي - يحكم حياة المجتمع - مستوحى من قداسة الدين وما توارث من عادات وتقاليد كنتيجة لما عرفته من تحول على المستوى الاجتماعي والثقافي من خلال احتكاكها بالقبائل العربية لبني هلال بالإضافة إلى موقعها الاستراتيجي كونها نقطة عبور وتحول بين محور الشمال والجنوب ، إن الموقع الاستراتيجي لمدينة ورقلة جعلها مستهدفة عبر مراحلها التاريخية فقد ذكرها ابن خلدون في مقدمته وأشار: ( إلى أنه في نهاية القرن الرابع عشر كانت ورقلة بوابة الصحراء فهي نقطة عبور بالنسبة للمسافرين المصحوبين بالسلع القادمة من المزاب باتجاه السودان .)
سكان المنطقة وحراكهم الثقافي: إن سكان المنطقة في تلك الفترة كانوا من بني ورقلة أو من بني أفران أو من بني مغراوة، أما العائلة الحاكمة كانت من بني غابول من عشيرة بني وقين، وهكذا عرفت مدينة ورقلة العريقة والعتيقة كمدينة صحراوية، عرفت تحولات جذرية بالنظر إلى ما كانت عليه، فإذا كانت بالأمس القريب تتمظهر حياة سكان منطقةورقلة وما جاورها بالممارسةالدينيةوالعقائدية، اذ احذ علماءالدينوالفقهاء من أمثال الشيخ السكوتي وبريقش ومسروق وخضران والحاج بلقاسم وغيرهم كثير لا يتسع المقام لحصرهم، اخذوا على عاتقهم تعلـيم النـاس ديـنهم ، ورسخوا في الوسط الاجتماعي الكثير من المناسبات الدينية ، حيث كان لشهر رمضان مثلا دور هام في تنشيط الحياة الثقافية فبمجرد اقتراب هذا الشهر الفضيل تنطلق التحضيرات على مختلف المستويات يبدأ القراء في مراجعة القـران للقيام بصلاة التراويح والعائلات في تحضير المئونة من مختلف المأكولات والذخائر، في اليوم التاسع والعشرين مـن شهر شعبان ، يخرج الناس أفواجا وجماعات يتطلعون إلى رؤية الهلال فإذا ثبت الشهر اقبل النـاس علـى المسـاجد للشروع في صلاة التراويح التي تتعدد في المساجد والمصليات وتقام حلاقات الذكر وتستمر طيلة أيام شهر رمضان ، وفي اليوم الأخير منه يتوجه الجميع لحضور حفل ختم القرآن الكريم، أما اليوم السابع والعشرون يستعد لها الصائمون بتحضير الأطعمة والحلويات وذكر خصال الرسول صلى الله عليه وسلم لأن هذا اليوم تستجاب فيه الدعوات، أما النساء فيبعثن مع أزواجهن أو أطفالهن الرقى والسرائر لتوضع في المحاريب أو بجانب المساجد لتعلق بها بركـات القـرآن وتصلي عليها الملائكة لجلب الشفاء للمرضى وتفك العقم عند الأزواج والزوجات وغيرها من الاعتقـادات فـي فقـه العجائز، هذا بالإضافة إلى خلق جو من الممارسة الثقافية منها زيارة الأضرحة ورجال الحضرة الذين يعتقدون فـيهم الولاية والصلاح وهي ظاهرة من الظواهر التي تتعلق بالجانب الثقافي والاجتماعي الشائعة بالإقليم فلكل ضريح مـن الأضرحة المنتشرة عبر الإقليم وقت معلوم تشتد إ ليه الرحال لزيارته وإقامة الطقوس من حوله ويجتمع فيها المتصوفة والفقراء والدرويش لإنشاء المدائح والرقص والألعاب البهلوانية وتقام فيها الذبائح، ولعل ارتباط الحياة الثقافية في إقليم ورقلة بتلك المناسبات الدينية والنشاطات المتنوعة المتعددة جعلت منها منطقة ذات مكانة في المنطقة .
وعملت من خلال ذلك على جلب السكان والسياح من مختلف الأقطار، ويتعزز هذا الزخم و الـزحم الثقـافي بالعادات والتقاليد التي تمارس خلال شهر محرم على الخصوص أين تنطلق المهرجانات المتنوعة تشـمل " الـرقص، الألعاب البهلوانية والتنكر بأزياء غريبة مثل خ: رافة باهروش ، وشائب عشوراء ولعلهم كانوا يفعلون ذلـك تأسـيا بالشيعة الذين يجعلون من أيام عاشوراء تعبيرا عن حزنهم وسخطهم عن مقتل الحسين رضي الله ، عنه وفي هذه الأيام العشرة تتوقف الأعمال، فالرجال يتوقفون عن العمل في بساتينهم فلا يحرثون ولا يزرعون، أما النساء ف يتـوقفن عـن النسيج والغزل وصنع الأواني اعتقادا منهن أن كل عمل يتم في هذه الأيام تنزع منه البركة ،ويصاب أصحابه بمـرض الرعشة وهذا الاعتقاد ما زال قائما إلى يومنا هذا موروثا عن الفكر الشيعي الفاطمي الذي حكم المنطقة ، كمـا كـان للاحتفال بالمولد النبوي الشريف دور يركب فمجرد دخول شهر ربيع الأول يستبشر الناس بقدومه فيحيون لياليه بالأفراح فالرجال يجتمعون في المساجد على المدائح الدينية التي تمدح صاحب الرسالة وينشدون البردة والنساء يزغردن ويغنين أما الأطفال فينتقلون بين المساجد والبيوت ويجولون في الشوارع يحملون الشموع ويلعبون بالمشاعل ويطوفوا تلاميـذ الزاوية على الكتاتيب ينشدون الأناشيد ويجمعون الهدايا.تمر تلك الأيام التي يراها الناس ارتقاء للنفس والروح وفي ليلة الثاني عشر ترتفع الأفراح فتزداد الحركة في المساجد والزوايا للذكر وإعداد الحلقات وتتواصل هذه المراسم إلى غاية الفج ر لتختم بالصلاة على النبي صلى االله عليه وسلم ويعود بعد ذلك الناس إلى حياتهم. كل هذه المناسبات عملت علـى تفعيل الحياة الثقافية في المنطقة.
البعد المادي وأثره في الممارسات: أما اليوم وتحت تأثير العصرنة والحداثة والعولمة، فقد تغيرت الحياة الاجتماعية وأصبحت اهتمامات الناس اقتصادية،و تمظهرت في العديد من المجالات بدءا من واجهات المساكن القديمة التي تحولت إلى محلات ومستودعات تجارية بحكم تأثير البعد المادي، وتغير نمط التفكير والحاجة إلى استغلال المساحات والواجهات المقابلة للشوارع الرئيسية لكسب مداخيل إضافية للعائلة ولو على حساب النمط العمراني، إذ تجد العديد من المساكن في مداخل القصر القديم قد تحولت إلى محلات تجارية وكما هو الحال في اغلب أحياء المدينة التي تشهد كثافة.وغابت المساحات الخضراء والساحات العمومية .إن التركيبة السكانية التي عرفتها ورقلة بحيث أصبحت تجمع أبناء كل مناطق الوطن باختلاف تقاليدهم وقيمهم وذلك نتيجة لعدة عوامل منها: التزايد السكاني الذي عرفته خاصة أثناء الأزمة الأمنية التي مرت بها الجزائر بمعنى أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية والأمنية أجبرت العائلات التي كانت تسكن المناطق الشمالية باختيار ورقلة نظرا لتوفر عدة مزايا منها العمل والسكن ، هذا التزايد في حد ذاته شجع النشاط التجاري والخدماتي، ومنه قطاع البناء والتعمير . فضلا عن وجود الحقول والشركات البترولية، أي القاعدة الصناعية الضخمة وما تستقطبه من يد عاملة، وأيضا النمو الديمغرافي السريع بالتزامن مع الثورة التكنولوجية في مجال الاتصال والإعلام وثقافة العولمة اثر كل ذلك في مكونات المجتمع مما انعكس على الهوية العمرانية، بمعنى أن المدينة شهدت زحزحة للهوية العمرانية المحلية نحو بروز تعدد هويات. أمام غياب دور المؤسسات المختصة في المحافظة على النمط العمراني المحلي في ظل غياب ثقافة عمرانية وبيئية لدى المواطن.([6]) وعلى ذلك تعتبر تنمية التجمعات الصحراوية هي العملية الملحة والموجهة لإيجاد تحولات في الهياكل العمرانية والاجتماعية والاقتصادية بحيث تؤدي إلى تكوين مراكز عمرانية يمكن الانطلاق من خلالها. والمشكلة الرئيسية التي تواجه برامج تنمية التجمعات العمرانية بالمناطق الصحراوية هي: عدم توافر الحد الأدنى من خدمات المجتمع، وهيكل عمراني قادرين على الإبقاء على سكان هذه التجمعات الحاليين من جانب، واجتذاب سكان جدد واستثمارات جديدة من جانب آخر ، بمعنى آخر أن الهدف الرئيسي الذي يجب أن تسعى لتحقيقه عمليات التحول، هو التنمية الشاملة للتجمعات العمرانية بالمناطق الصحراوية بغرض الوصول إلى تجمعات عمرانية لها صفة الدوام ([7]).
الخلاصة :
يستخلص من هذه المداخلة حتمية إتباع سبل وطرق جديدة تناسب عملية تحول التجمعات العمرانية في المدن الصحراوية وتشكيل مجتمعات عمرانية مستدامة تحقق الأهداف التخطيطية من خلال مقومات سكان المنطقة مع مراعاة موروثهم الثقافي دون الإخلال بالنظام الايكولوجي، ذلك بالإضافة إلى إدماج الخبرات القديمة المكتسبة من عمران المجتمعات الصحراوية التقليدية مع المعايير والاحتياجات المعاصرة والمستقبلية لذا يوصي بما يلي :
- دراسة الأسس والتقنيات العلمية لاستخدامات الطاقة الطبيعية للتبريد واستخدام التقنيات المتوافقة مع البيئة لتحديد آليات معالجة المناخ المحلي من خلال تصميم شبكات الفراغات المفتوحة والأفنية الداخلية وتحقيق أسس ومعايير تصميم وتنسيق المواقع بالتجمعات الصحراوية .
- العمل على تطبيق أسس وسياسات التصميم العمراني المستدام والتي تتضمن مداخل الضوابط المتعددة لمعالجة إشكاليات التجمعات الصحراوية في جميع المجالات التخطيطية والعادات الاجتماعية والتقاليد الثقافية والعلوم السلوكية من خلال الدراسة التحليلية لاحتياجات الإنسان والتي يمكن استنباطها في صورة المعالجات التطبيقية في المجتمعات الصحراوية التقليدية .
- مراعاة تخطيط وتصميم وظائف التشكيل العمراني فراغياً وزمنياً وأنماط استعمالات الأراضي حيث تتغير نظم التوافق البيئي باختلاف فصول السنة وساعات الليل والنهار ومحاولة إمكانية تقارب واختلاط الأنشطة واستعمالات الأراضي.
- اختيار شكل المحيط الخارجي للتجمع الصحراوي ليحاكي تشكيل البيئة الصحراوية مما يساعد على حمايته من عواصف الرمال وتراكمها.
- تصميم نسيج عمراني متضام يحقق تكامل واتحاد وتركيب التجمع العمراني بدرجة تلبي الاحتياجات وتوفر الخدمات لمعظم سكان التجمع ويسمح بتشكيل فراغات للتفاعلات الإنسانية لتوليد الإحساس بالتجانس الاجتماعي والأمان من خلال دراسة عناصر الإسكان الاجتماعية والنفسية في تشكيل العمران المستدام .
- فتح تخصصات في الجامعة تعنى بالتراث الصحراوي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- النذير زريبي ،البيئة العمرانية بين التخطيط والواقع، مجلة العلوم الإنسانة، قسنطينة 2000م. ص71.
- أحمد فؤاد،مشكلات المجتمع الريفي، دار النهضة، بيروت 2002م.ص25.
- حسين عبد الحميد رشوان،المدينة ،دراسة في علم الاجتماع، المكتبالجامعي الحديث ، الاسكندرية 1998م .ص84.
- ايفي بينوت ،ماهية التنمية، ترجمة سعيد ابو الحسن ، بيروت 1976م .ص214.
- السيد عبد العاطي السيد،علم الاجتماع الحضري –، دار المعرفة الجامعية ، ج1 ، 2006م . ص44.
- عبد الحميد نجاح ،ورقلة وضواحيها ، منشورات جمعية الوفاء ، تقرت 1999م .ص111 .
- حسين علي حسين، المجتمع الريفي الحضري، المكتب الجامعي الحديث، القاهرة 2006.ص66.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق