التسميات

الاثنين، 27 أكتوبر 2014

جغرافية الفكر كيف يفكر الغربيون والآسيويون على نحو مختلف .. و لماذا؟ ...

جغرافية الفكر كيف يفكر الغربيون والآسيويون على نحو مختلف  .. و لماذا؟



تأليف ريتشارد إي نيسبت


ترجمة شوقي جلال


سلسلة عالم المعرفة - العدد 312


فبراير 2005 م 


--------------
جغرافية الفكر

أو دعوة للبشرية للاستيقاظ من سبات فكري ونظرة خاطئة حول طريقة تفكير العالم

    جريدة مغرب الغد الإلكتروني -  بقلم:صوفية الصافي :

    عالم المعرفة سلسلة كتب ثقافية شهرية، يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب بالكويت، حيث صدر العدد الأول من هذه السلسلة في يناير1978  بإشراف أحمد مشاري العدواني (1923-1990).
من بين الكتب الشيقة و الغنية بالمعلومات التي تساعد الناس على تصحيح عدة مفاهيم خاطئة، كتاب "جغرافية الفكر" "كيف يفكر الغربيون و الأسيويون على نحو مختلف...ولماذا"؟.
    الكتاب من تأليف (ريتشارد إي نيسبت) البروفيسور في علم النفس الاجتماعي، ومدير مشارك في برنامج الثقافة والإدراك في جامعة ميتشيجان بالولايات المتحدة الأمريكية، صدرت له ثلاثة كتب كان آخرها "الذكاء وكيفية الحصول عليه: أهمية المدارس والثقافات" (2009) والعديد من الدراسات، ولقد حصل (نيسبت) على العديد من الجوائز العلمية والبحثية كان آخرها عام 2007 من جامعة فورزبورغ الألمانية.
 الكتاب ترجمه شوقي جلال، وهو من مواليد 30 أكتوبر عام 1931، بالقاهرة، مترجم مصري، حاصل على ليسانس كلية الآداب، قسم فلسفة وعلم نفس، جامعة القاهرة، طبع هذا الكتاب في مطابع السياسة بالكويت، عدد صفحاته 246، طبع منه ثلاثة و أربعون ألف نسخة، والكتاب هو عدد شهر فبراير2003 من سلسلة عالم المعرفة.
    في كتاب جغرافية الفكر يحاول (نيسبت) إثبات أنّ التفكير ليس غريزة أو عادة ثابتة يشترك فيها جميع البشر في كل مكان، وإنما هناك عوامل ثقافية واجتماعية تؤثر فيه تأثيرًا كبيرًا وتشكّل طريقة عمله، ولإثبات ذلك يقوم المؤلف بالمقارنة بين أساليب التفكير لدى الغربيين (وبخاصة سكّان أميركا وكندا) وتلك لدى الشرق- آسيويين، متتبعًا الجذور التاريخية والفلسفية والاجتماعية التي أنتجت هذين النمطين المتمايزين من التفكير.
    كتاب عالم النفس ريتشارد نيسبت، كتاب يشكل دعوة للبشرية للاستيقاظ من سبات فكري ونظرة خاطئة حول طريقة تفكير العالم، فالكتاب يتألف من ثمانية أجزاء، إضافة إلى مقدمة للمترجم، وأخرى للمؤلف، ثم الخاتمة، وجرد للمراجع والمصطلحات و الأعلام.
    بالنسبة للفصل الأول فهو تحت عنوان: القياس و الطاو. و الثاني تحت عنوان:الأصول الاجتماعية للعقل. أما الفصل الثالث فقد اختار له المؤلف عنوان: العيش معا أو الحياة فرادى؟ أما الفصل الرابع فبعنوان: لتكن عيناك في مؤخرة رأسك أم لتكن على الكرة. والفصل الخامس بعنوان: "البذرة الشريرة" أم الصبية الآخرون هم الذين أغروه على هذا الفعل؟ أما الفصل السادس من الكتاب فهو تحت عنوان:هل العالم مؤلف من أسماء أو أفعال؟، أما الفصل السابع فقد سماه الكاتب: "هذا ليس منطقا أم أنت حققت فوزا في هذه النقطة؟"، ينهي الكاتب فصول الكتاب بالفصل الثامن و الأخير والذي جعله تحت عنوان: "وماذا لو كانت طبيعة الفكر واحدة في كل العالم".
   تتمحور مقدمة المترجم حول المقارنة بين الغربيين و الصينيين في عدة أمور مثل أن الأطفال في الغرب يتعلمون الأسماء أسرع من الأفعال، على عكس أطفال شرق آسيا، فنجد الكاتب يتحدث عن كيفية توحيد العالم في أفكار واحدة، فكما يقول "قانون واحد حاكم  للفكر" بمعنى أن الناس أينما كانوا و كيفما كانت ثقافتهم يفكرون و يستقرون، ويصنعون الوجود و يرونه و يدركونه على نحو نمطي واحد، فإن رؤيتنا للعالم أصبحت واحدة، فبحلول القرن الواحد و العشرين عرف العالم عدة تناقضات و تحولات نوعية في مسيرة تطور البشرية، سواء على مستوى القدرات أو الإمكانيات أو الإنجازات أو الفعاليات للمساهمة  في تقدم الفكر الإنساني وثقافته، وكبرهان على ذلك، انبثاق الشبكة المعلوماتية (الانترنيت) بهدف توحيد العالم وتصغير الفجوة الموجودة بين الأقطاب و القارات.
    فمن بين التناقضات التي خلفها العالم الحديث: قضية الهوية في سياق جديد تأسيسا على رؤى نقدية لفكر الغرب، حيث أن الذات أصبحت تبحث عن  تأكيد وجودها كثقافة تاريخية و فعل عصري.
    لقد أخد العالم الآن يتخبط في دوامة الصراعات، جدلية الحاضر و الماضي، وأيضا الدخول في دوامة جديدة تحت اسم "ما بعد الموديرنيزم" أو "ما بعد الحداثة" حيث نرى نهاية لكل الفلسفات، و المنظمات، مما ساعد على العيش في عالم كقرية صغيرة متداخلة الأطراف بدون قوانين.
    ويؤكد المترجم على أن اللغة و التواصل يلعبان دورا كبيرا في تطور عدة مجالات في العالم: كالفكر، الفنون، و ظهور ذهنية جديدة للتفكير، وهذا ما وصل إليه علماء الغرب، حيث قالوا أن الإنسانية ورثت عن الغرب صياغات أو نظريات عن العالم و الميتافيزيقا، مما جعلهم يطرحون عدة أسئلة.
    ولعل منهج التناقض عند كل من الغربيين و الصينيين، ولد لديهم طريقة جديدة في التفكير مثل: لا يمكن أن تكون فكرة صائبة و خاطئة في نفس الوقت، و هنا لا يمكننا أن نقول إنه قانون علم الفكر البشري، بل هو عادة و ثقافة اكتسبها الشعبين وكذا لتبين التراث و الفكر في بعديه الزماني و المكاني على الصعيد المحلي والإقليمي و الدولي.
    مقدمة المؤلف يقوم فيها بمقارنة كيفية التفكير عند الغربيين قاصدا بذالك (الأمريكيين,الأوروبيين,السودوالبيض)، والأسيويين الذين يمثلون(الصين,اليابان’كوريا).
    فالمقارنة الأولى تتجلى في أن الصينيين يرون العالم كدائرة، و الغربيين يرونه كخط مستقيم، وهذا بالنسبة لما قاله تلميذ ر ريتشارد. والمفارقة الثانية: اهتمام الأسيويين بدراسة العلاقة بالأشياء و توسيع نطاق الأحداث، علاقة بالجزء دون الكل، فيما الغربيين يحاولون السيطرة على الأمور نظرا لمعرفتهم الشاملة بكل المواضيع.
فرغم كل هذا الاختلاف مازال العالم مرتبط بفكرة سيادة عقل واحد مشترك الأفكار، و تعود هذه الاعتقادات لعدة مبادئ: كاستعمال نفس الآليات في الإدراك و الذاكرة و التحليل السببي و التصنيف الفئوي و التحليل.
     إلا أن فكرة نهج طريقة واحدة للتحكم في مسار الأمور، ظلت غير واضحة و مقنعة للمؤلف، لذالك قام بدراسة زعزعت مفاهيم الناس الخاطئة حول مفهوم التفكير، تجلت في اكتشافه أن طريقة تفكير العالم يمكن أن تتغير بواسطة تدريب الفرد في دورات تدريبية قصيرة لتغيير فكرهم و تغيير سلوكهم العقلي. فقد لاحظ بعض الباحثين، أن اختلاف نمط التفكير سواء عند الأسيويين أو الغربيين متواجد منذ آلاف السنين، لأن المعرفة الإنسانية ليست واحدة في كل زمان و  مكان. كما كشف بعض الباحثين في مجال الإنسانيات و العلوم الاجتماعية، أن طبيعة التفكير مختلفة بين البشر نظرا لرؤاهم الميتافيزيقية، فعمليات الفكر تتميز من مجموعة إلى أخرى، و استخدام الفرد للأدوات المعرفية حسب رؤيته للعالم، إذن فهناك فوارق كبيرة و حقيقة في طبيعة عمليات التفكير الأسيوي و الأوروبي.
    الفصل الأول يقوم على عدة تناقضات و مقارنات، حيث يُدرج الكاتب مجموعة من النقط مثل: الإغريق القدامى و الفعالية،  و تنظيم منظور الإغريق للفلسفة، و جمالية  المسرح التي تطغى عليها الحرية، الثقة بالنفس، حب الاستماع الجمالي، حس قوي بالفعالية الشخصية، و إحساسهم بأنهم أحرار في العمل، دون نسيان الفضول المعرفي إزاء العالم الذي يتميزون به.
أما النقطة الثانية فتجلت في إبراز علاقة الصينيين القدامى بعقيدة التناغم. وهنا تختلف رؤية الأشياء فمثلا عبارة "مناسبة خاصة" تعني في مجتمعاتهم زيارة الأقارب و الأصدقاء، كذا الحث على العمل الجماعي و الاهتمام بالتحكم بالنفس، حيث تطغى الكنفشوسية على حياتهم.
    ولكن الجميل في الصين هو تقبل الآخر، فهم دائما لديهم ما يدعمون به أفكارهم. والنقطة الثالثة في هذا الفصل فتجلت في الجوهر، فالكاتب يقول أن الصفات لها حقيقتها الراقية المتمايزة، بخلاف تجسدها في المواضيع، فالفلسفة الإغريقية تختلف كثيرا عن الفلسفة الصينية، و هنا نرجع للقول على أن العالم لا ينطوي تحت لواء واحد للتفكير.
   لقد عني الصينيون بالعلاقات الإنسانية و السلوك الأخلاقي و جعلوه في الصدارة، بخلاف الإغريقيين.
    ولقد ظل الصينيون يرون العالم بعين ناقدة مثلا: نظام الطاو (الين و اليانج) تداخل الخير و الشر، الجميل و القبيح، و التناقض و التضاد. و هكذا تختلف فلسفات الصين و اليونان القديمة بشكل لا يقبل الجدال، وهنا يتبين لنا دور التناغم في حياة الصينيين الذين يرون الحياة معقدة فيها يتداخل الناس بعضهم ببعض، بخلاف الغربيين الذين تطبع الحرية على حياتهم. بخصوص النقطة الرابعة المتمثلة في التناقض و التضاد، حيث يتحدث الكاتب عن علم الرياضيات في اليونان و في الصين قديما، حيث أن الصين حققت تطورا كبيرا في مجال الجبر و الهندسة، أما اليونانيون فلم يتحدثوا عن الصفر الذي كان ملازما للجبر و الهندسة حسب الأسلوب العربي.
    في الفصل الثاني نتعرف على بعض عوامل المعرفة مثل: العوامل الميتافيزيقية التي يمكن أن تأثر على العوامل الاقتصادية و الثقافية. و التي توالت من خلال البيئة والجمال عند الصينيين، ودراسة الموضوعات عن الإغريق. ففي الصين هناك سهول خصبة و أنهار تنشط الزراعة، مما يولد لديهم روح التعاون و ينشر بينهم قيم التكافؤ والانسجام، فالمجال الزراعي يستوجب توحيد الأفراد للحصول على نتيجة مرضية، أما في اليونان فهناك  جبال و سفوح منحدرة نحو البحر شجعت أعمال القنص و الرعي و القرصنة.
    كما أدرج الفصل بعض أنواع تفكير العصر الحديث، و نذكر منها: الفروض الأساسية لتكوين العالم، وأنماط الاهتمام و الإدراك.
    يدور الفصل الثالث حول كيفية عيش كل من الأسيويين و الغربيين، فالغربيون وخصوصا الأمريكيين يفضلون الوحدة و  الاعتزال و العمل على شكل فردي، فهم يؤمنون أن كل ما يحققه الفرد راجع لقدراته و إمكانياته في العمل، فهم يهتمون بشكل كبير بالأهداف الشخصية أو تعظيم  الذات. أما الأسيويين (الصين،كوريا،اليابان) فيفضلون العمل على شكل مجموعات في ظل التناغم، لأن أي إنجاز أو حصيلة إيجابية ستعود على الجماعة بالنفع مما يجعلهم راضين عن أنفسهم، وبما أنهم يعتبرون الذات وهما من نسج الخيال، فإنهم يهتمون بأهداف الجماعة و العمل المتآزر، لأن النزعة الفردية "أنانية" بالنسبة لهم.
   وإذا أردنا أن نقوم بدراسة مقارنة للطرفين عن طريق النظرة الشرقية الأسيوية والغربية للعلاقة بين الذات و الجماعة الداخلية و الجماعة الخارجية، سنجد بأن الذات عند الأسيويين في تناغم كامل وسط الجماعة الداخلية، بخلاف الذات عند الغربيين فهي تتواجد خارج الجماعة الداخلية، و هذه الأخيرة، حسب المؤلف تعني:جماعة يسودها مستوى عال من روح الجماعة و شعور قوي بالامتداد الذاتي لهذا الانتماء. فمثلا: الأمريكيون لا يربطون أوصافهم لذواتهم بالسياق بشكل كبير، فهم دائما يتحدثون عن الفردية و التفرد في البيئة و الوسط، وكذا التفرد في الممتلكات وما يتميزون به، و تجدهم يميلون إلى كل ما هو نادر، بخلاف الكوريين أو اليابانيين الذين هم متعلقين بالسياق و يصبون اهتمامهم على الأشياء الأكثر شيوعا، فمثلا في اليابان يعلمون أبناءهم نقد الذات فيضاعفوا مهاراتهم، وكذا العمل وسط الجماعة لتكون لديهم روح التعاون و التضامن، و ذلك بداية من المهد، لأن الوليد عندهم لا يمكن أن ينام مستقلا، بخلاف الغربيين الذين يضعون المولود في جهة وأمه في الجهة الأخرى، مما يدل على تعليمهم التفرد و الاستقلالية، و هنا يتبين لنا مرة أخرى الاختلاف في العقليات و الثقافات عند كل من الشرق و الغرب.
     يدرج المؤلف في الفصل الرابع دراسة عن العين التي يرى بها كل من الأسيويين والغربيين الحياة. فهي في نظر المؤلف إما أن تكون سهلة و تمكنك من تحقيق أهدافك و أحلامك، و إما أن تكون صعبة و تجعلك تتشاءم و لا تحقق شيئا. فالفعالية الشخصية تولد قوة خارجية للاهتمام بعدة أمور، مثلا: البيئة و المحيط، فالصينيون القدامى يرون العالم مؤلفا من جواهر متصلة فنظرتهم كلية ترتكز على مظاهر الاتصال في الجوهر و العلاقة مع البيئة، فهم يرون العالم من خلال عدسة منفرجة الزاوية، فهذه النظرة أضافت عدة مميزات على سلم أخلاقهم و تعاملهم مع الآخرين. أما بالنسبة للغربيين فلديهم نضرة ضيقة للحياة، و كما قال المؤلف:"شأنهم شأن الفلاسفة الإغريق القدامى الذين كانوا يرون العالم عبارة عن موضوعات متمايزة في صورة ذرات منفصلة". حيث أن نظرة الغربيين تشمل  التحليل في الموضوعات و صفاتها، كما يرون أنه بالتحكيم الفردي يمكن التحكم في الحياة، لأن العالم مليء بالتغيرات حيث ازدادت لديهم نسبة عدم الاكتراث بالآخر واللامبالاة بمن حولهم.
في الفصل الخامس من الكتاب المميز يحاول المؤلف مرة أخرى إقناع قرائه بالاختلاف الحاصل بين الشرق و الغرب، فينطلق من ذكر تجربة ميشيل موريس الطالب الصيني الذي قتل مأطره و بعض زملائه و انتهى بنفسه. حيث قام ريتشارد بجمع بعض آراء الأسيويين و الغربيين عن السبب الكامن وراء هذا الفعل. حيث أن الأسيويين يُرجعون السبب إلى السياق و العوامل الخارجية، كما أنهم يعتبرون أن المحيط يمكن أن يؤثر في شخصية الفرد بشكل كبير، أما بالنسبة للغربيين وخصوصا الأمريكيين فيرون أن الأسباب تتمثل في عدم تماسك الشخصية، لأن الفرد هو الذي يفرض نفسه على الأشياء لا العكس، إضافة إلى اقتناعهم بأن الشخصيات ثابتة نسبيا، دون نسيان ما أشرنا إليه سابقا بأن الغربيين يهتمون بالموضوعات و محتوياتها، إلا أنهم في بعض الأحيان يفترضون، ولكنهم يضلون متشبثين برأيهم. فللوصول إلى نتيجة ما في موضوع ما، لا بد من صياغة فرضيات، ويركز الكاتب على نقطة  مهمة، ألا و هي استعمال النظرة البعدية، بمعنى تنبئ ما لم يقع بعد، حيث نجد الكوريين على الخصوص يميلون إلى هذا الفعل أكثر من الأمريكيين. 
    أما في الفصل السادس فيسافر بنا الكاتب لعالم الأسماء و الأفعال ليحاول معرفة أي منها سهل التعلم عند الطرفين. حيث يؤكد على أن الصين القديمة لم تصنف العالم إلى فئات،  لأنهم ببساطة لم يكونوا معنيين بالعلاقة بين الأفراد أعضاء الفئة، لقد كان لهم عزوف عن تحديد الفئة،  بعكس الإغريق القدامى الذين ذهبوا إلى أن الأشياء تدخل ضمن مقولة واحدة، شأنهم شأن الغربيين المعاصرين الذين لديهم ميل إلى تصنيف الموضوعات إلى فئآت، فهم يُعلمون أطفالهم قانون التقسيم إلى فئات، بعكس أطفال الصين الذين يعتمدون أساس العلاقات.
    إن الأفعال عرضة للتقلب في معناها أكثر من الأسماء، حين يتواصل شخص مع آخر، أو عندما يفسر ما قاله آخر. وتحديد معناها يكون أصعب من الأسماء، لقد اكتشف جنتنر أن  الأطفال يتعلمون الأسماء أسرع من الأفعال، فالغربيون يرون أن الأسماء هي صانعة الفعل، و يرى الشرقيون أن الفعل هو شيء يجري النهوض به في تضافر الجهود مع الآخرين. فمثلا: بالنسبة للرياضيات، إذا كان الطفل الغربي ضعيفا في هذه المادة فيعتبر "معاق تعليميا"، أما الطفل الصيني الضعيف في الرياضيات فهو بحاجة للعمل بجدية أكثر.
    يتحدث الفصل السابع عن الاستدلال العقلي في الشرق و في الغرب، حيث أن المنطق حاضر و بقوة عند الغربيين وبالأخص أسلوب المحاججة الذي يحتل مكانة كبيرة في أوساطهم، و غايته توضيح القضايا و معرفة الخطأ من الصواب، و نجد كذلك دمجاً للحجج القياسية و غير القياسية، حيث أن الكوريين اقتنعوا من الحجج القياسية، لأن النتائج مع النموذج. فالطلاب منهم يفضلون الحكم و الأمثال التي تنطوي على تناقضات، أما الغربيين فيفضلون الحكم و الأمثال التي لا تشتمل على التناقض، و الميل لتحاشي هذه التناقضات مرتبط بالنزوع الغربي العميق إلى البحث عن مبادئ و هي: مبدأ التغيير، مبدأ التناقض، مبدأ العلاقة.
    الفصل الأخير من كتاب "جغرافية الفكر" يناقش أثر كل هذه التناقضات على عدة مجالات عند الأسيويين و الغربيين، نذكر منها: الطب: فالطب الغربي نجده يهتم بالجزء المسبب للعلة وإزالته، فيما يهتم الطب الشرق - آسيوي بالعلاقات بين أعضاء الجسد والتوازن بينها، و القانون: ففي الغرب تجري معالجة القسط الأكبر من المشاكل في المحاكم بهدف تطبيق مبدأ العدالة، أما في الشرق فتسود الوساطة، وعلى الأرجح ينخفض مستوى العداوة، والجدل: ففي اليابان تقام مجالس لتجنب النزاع والتنافر، أما الأمريكيون فأميل لمحاولة الإقناع، و لدينا كذلك: العلم، الخطابة، العقود، العلاقات الدولية، حقوق الإنسان،والدين وغيرها من المواضيع التي لا يتسع المجال للاستفاضة في شرحها.
    كما بدأ الكاتب بالتناقضات سينتهي بالتناقضات في خاتمة الكتاب. حيث نجده يتحدث عن الخصائص النفسية للشعوب، و التي من الممكن أن تكون واحدة أيضا، و لكن صراع الحضارات يشير إلى إمكان أطراد التباين في عادات الفكر، فنجد آسيا يغلب عليها طابع الغرابة في التصرفات، والغربيون يميلون للغرابة و العقلانية.
إن عمليات المعرفة يمكن أن تكون في الوسط و شاملة لثقافتين مختلفتين، و بتعاون وتضامن الشرق و الغرب، سيغنيان الفكر البشري و سيساعدان  على التطور.

-------------

لماذا يختلف تفكير الغربيين والشرقيين وكيف؟.

صحيفة الجزيرة - الثقافية السبت - 05 ذو القعدة 1430 -  العدد  13540 - د. عبدالله البريدي 

    مازلنا نتساءل: لماذا تختلف الشعوب في تفكيرها، وكيف؟ وهي مسألة إن نحن فهمناها جيداً فستكون مفتاحاً ذكياً للتعامل مع الشعوب والمجتمعات، وتدعيم ثقافة الحوار الحضاري والتنوع الثقافي في كوكب يتعين علينا أن نعيش فيه بأكبر قدر من التفاهم والتعاون والمحبة.

    يركز كتاب (جغرافية الفكر) على تتبع الاختلافات الجوهرية في تفكير الغربيين والصينيين في مشاهد متعددة، فمن ذلك يذكر المؤلف بأن الإغريق ركزوا على التفكير في الموضوعات نفسها؛ بينما آمن الصينيون بمراعاة ما حول الموضوعات حين يفكرون، الأمر الذي جعل الإنسان الغربي يفلح - كما يقول الكتاب - في دراسة الموضوعات والتعمق فيها ولكنه يفشل في فهم (السياقات) المحيطة بالموضوعات بعكس الصينيين تماماً، فهم يولون السياق وما ينطوي عليه من علاقات متشابكة عناية كبيرة جداً، ولذلك فإن الصينيين - على سبيل المثال - يستخدمون طريقة (فنج شوي) Feng Shui عند التفكير في التشييد والبناء، وهي ممارسة يقوم بها متخصصون أو خبراء في فنج شوي، بحيث يدرسون عوامل كثيرة مثل ارتفاع الأرض والاتجاه الغالب للرياح والقرب من مصادر المياه ونحو ذلك.

    ويمضي بنا الكتاب في رصد المشاهد التي تبرهن على وجود اختلافات جوهرية بين الشعوب في طريقة تفكيرها، فسيرد لنا الاختلافات في التعاطي مع علم الرياضيات، وكيف تنوعت الاكتشافات الرياضية من جراء الاختلاف في طريقة التفكير، كما أشار الكتاب إلى تباين الأساليب والمعالجات الطبية أيضاً، فالصينيون لا يقتنعون بإجراء العمليات الجراحية نظراً لإيمانهم بأن الجسم مكون من أجزاء تربطها شبكة معقدة من العلاقات وتقوم على التوازن والتناغم، مما يدفع بالصيني إلى التشخيص الدقيق للخلل في محاولة لإرجاع الجسم إلى حالة التوازن كما في طريقة الوخز بالإبر، وهذا كله يختلف عن تفكير الغربي الذي ينزع إلى النظر إلى الموضوعات بشكل مجرد من سياقها؛ ومن إيمانه بالقدرة على التعرف على القوانين التي تسيّر تلك الأجزاء ومن ثم القدرة على التحكم بها (البتر والإزالة مثلاً).

    وهنالك مسائل أخرى هامة أشار إليها الكتاب وتدل على وجود قدر مشترك فيما بيننا وبين الشرقيين، لم نكتشفها بعد! ومن تلك المسائل ما يمكن أن نسميه ب(التفكير الوسطي)، حيث يقول مؤلف الكتاب: (أبناء شرق آسيا يميلون أكثر إلى التماس طريق وسطي إذا ما واجهتم حالة تناقض ظاهري، هذا بينما الغربيون أكثر ميلاً إلى تأكيد صواب اعتقاد ما دون سواه) (ص 60).

     الغربيون يؤمنون بالفردانية والاستقلالية، والصينيون يؤمنون بالجماعية والاعتمادية، هذه مسألة معروفة، وقد أطال الكتاب في بيان بعض أسرارها، ولعلنا نتصيد بعض المشاهد الرمزية التي أومأ إليها الكتاب:

    ينام الأطفال الغربيون في سرير مستقل أو ربما في غرفة مستقلة، ويندر حدوث هذا في شرق آسيا، حيث يحظى الأطفال هناك بدفء سرير العائلة. وحين ُتلاعب الأمُ الغربية طفلَها فإنها تستغل الوقت في تركيز اهتمامه على (الموضوعات) وتطرح عليه مجموعة من الأسئلة، بينما تنشغل الأم الآسيوية ب(المشاعر)، وحين يخطئ الطفل تتوجه الأم الآسيوية بالقول: (الفلاح سوف يستاء إذا لم تأكل) و(اللعبة تبكي لأنك ألقيتها على الأرض)، وهكذا.

    وهنالك تنبيه هام أكد عليه الكتاب في عملية الاتصال بين الناس: يحمّل الغربيون (المتحدث) الخطأ ؛ مما يجعله مطالباً بأن يكون دقيقاً وحذراً، بينما يميل الآسيويون إلى تحميل مسئولية الخطأ للمستمع، وقد توصلت إلى نتيجة مبدئية قد تفسر هذه الظاهرة جزئياً، ولكنه لا مجال لطرحها في هذه الزاوية.ويطرح المؤلف في نهاية الكتاب رغبته في أن يكون هناك طريق ثالث بين (التغريب) و(التشريق) في تفاعل الشعوب والمجتمعات؛ أي بعيداً عن فرض العضلات الثقافية، ساخراً من مقولات بعض المفكرين الغربيين كمقولة (نهاية التاريخ) و(صدام الحضارات)، والكتاب جدير بالقراءة المتأنية.

* * * *

الكتاب: جغرافية الفكر - كيف يفكر الغربيون والآسيويون على نحو مختلف.. ولماذا؟

المؤلف: ريتشارد نيسبت Richard Nisbett، ترجمة شوقي جلال.

الناشر: عالم المعرفة، عدد 312، 2005م. 

--------------

كُتب يوم 8 سبتمبر, 2012 بواسطة ذ. فَضيل ناصري : باحث في الأديان وفي: الحجاج في اللغة والخطاب.
مقدمة:

   يقع الكتاب الموسوم "جغرافية الفكر ..."[1] في مائتين وأربعين صفحة من القطع المتوسط،وقد صدر في سلسلة كتب عالم المعرفة،التي تصدرها مؤسسة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويتية .
    وهو كتاب يبحث في طرق وأنماط التفكير البشري، مع تبئير الاهتمام على المجتمعات الغربية و الآسيوية، ونلحظ هذا في العنوان الفرعي ذي الصيغة الاستفهامية والمثبت على الصفحة الأولى من الغلاف :كيف يفكر الغربيون والآسيويون على نحو مختلف ولما ذا؟
    وقد عمل المؤلف طيلة فصول الكتاب على نقض جملة مسلمات، من مثل أن طبيعة الفكر البشري كلية جمعية ،وليست مختلفة باختلاف البيئات والمجالات التداولية،وتعتبر هذه المسلمة الدعوى بنظر المؤلف أحد تأثيرات المنطق الصوري الأرسطي القائم على مبدأ عدم التناقض في منطق القضايا الذي يتفق بشأنه الجميع شرقا وغربا،إذ لا أحد البتة يقبل بكون قضية ما صادقة وكاذبة في الآن نفسه[2].
   ونحن نعي تماما أننا ملزمون ،على الأقل تقنيا ومنهجيا ،بالالتزام بما اتخذناه عنوانا لهذه الورقة ،أي ملزمون بالعرض،إلا أننا قد نحيد عنه بالاستدراك تارة وبالتحليل والتركيب تارات أخرى.ولأجل ذلك قسمنا عرضنا هذا إلى مطلبين اثنين نتناول في الأول منهما بالدرس والتحليل نظرة المؤلف إلى الإغريق/الغرب،وفي ثانيهما نرصد نظرته إلى ثقافة شرق آسيا ونذيل المطلبين بخاتمة نسجل فيها بعض ما خلصنا إليه واستنتجناه بتركيز واقتضاب شديدين.
1- نظرته إلى الإغريق /الغرب:
    يبدأ الباحث حديثه عن الفروقات الموجودة بين الذهنية الغربية،ونظيرتها الشرقية بالعودة القهقرى إلى الأسس الفلسفية لكل منهما،فيتحدث عن الإغريق القدامى ورؤيتهم أو رؤاهم على الأصح ، ورؤية الصينيين القدامى للعالم ؛ فالإغريق بنظر المؤلف الذين عرفوا الديموقراطية قبل غيرهم من الشعوب والأمم،استطاعوا أن يحققوا ما ينبزه هو ،أي المؤلف،ب"الفعالية الشخصية"(ص.26)،وهي فعالية تكفل للمرء النظر إلى الأشياء والمواضيع بمعزل عن تكويناتها،كما يقول '' لوسيان غولدمان ''، وسياقاتها وبيئاتها،أي تكفل له القدرة على التجريد.
     وما فتئ الباحث يحشد الاستدلالات على زعومه ودعاواه،التي تثبت كل محمود من الصفات للإغريق،وتجرد غيرهم ضمنا أو صراحة منها !! فلكي يقزم الباحث الشرقيين، ويقلل من شأن تفوقهم على نظرائهم الغربيين، والأمريكان منهم خاصة،في العلم والرياضيات، يذهب إلى أن اكتشاف الإغريق/الغربيين الأوائل الطبيعة؛ معناها باعتبارها "الكون مخصوما منه البشر وثقافتهم"(ص.40)،وهو بنظر المؤلف معنى غير مسبوق،كان السبب الذي يسر وقيض للبشرية اكتشاف العلم واكتشافهم للطبيعة كان نتيجة قدرتهم على الفصل بين الذات والموضوع،أي بين الطبيعة الذاتية الباطنية،والطبيعة الخارجية(ص.146).
   ثم إن اليونان وإن اختلفوا في طرق ووسائل اختبارهم ونظرهم للطبيعة بين تجريبيين يحتكمون إلى الملاحظة الحسية وبين تجريديين لا يثقون في الحواس،إلا أن الاتجاهين كليهما عنيا بجوهر الأشياء والموضوعات(ص.32)،ويتساوق هذا مع اعتقادهم في سكونية العالم وثباته،فأرسطو اعتبر الأجرام السماوية ثابتة لا تتحرك،وحتى إن حصلت الحركة فجوهر الأشياء هو الثبات وعدم التغير.
   ويعزو الباحث تفرد اليونان في نظرتهم القائمة على الاستقلالية وعلى ما سيسميه في الصفحة الثانية والثمانين من الكتاب "فعالية إيرابي"*،مرة إلى نظام دولة المدينة الديموقراطي، الذي يتيح للأفراد قدرا كبيرا من الحرية(ص.48)،ومرة أخرى يرد تفردهم ذاك إلى موقعهم البحري التجاري الذي دفعهم إلى حب الاستطلاع،والفضول المعرفي ،لأنه كان يكفل لهم مشاهدة أقوام وثقافات أخرى مغايرة،ويسوق الباحث في هذا الصدد قولة للقديس لوقا،يقول متحدثاعن الأثينيين :"يقضون وقتهم في رواية جديد،أو الاستماع إلى جديد فقط ولاشئ آخر"(ص.27).
    ولا يغفل المؤلف ما للمجال والبيئة الإيكولوجية من وثيق الصلة بطبائع اليونان وأنماط تفكيرهم ،فلأن اليونان تحفل بما سمق من الجبال ،ولأن اليونانيين يمتهنون مهنا لا تستلزم قدرا كبيرا من التعاون مع الآخرين ،كالقنص ،والرعي،وصيد الأسماك،والقرصنة ،والتجارة،ولد ذلك لديهم حسا فرديا استقلاليا امتد في المكان والزمان من اليونان إلى الغربيين المحدثين(ص.50،وص.78،وص.93).
    لأجل هذا كله استطاع الغرب، بنظر الباحث،ممثلا في الإغريق قديما، وفي الأمريكان حديثا النظر إلى العالم باعتباره ضميمة من الأسماء والفئات(ص.135)،ولأجل هذا أيضا يتعلم أطفال الغرب الأسماء بوتيرة أسرع من الأفعال(ص.142)،ولأن اللغات الهندوأروبية والإنجليزية واليونانية تنحو إلى جعل الأشياء/المفردات مفهومة بمعزل عن سياقاتها(ص.149).
   وقد كان للتجريد الغربي، آثار أخرى طالت ميادين الطب والقانون...إلخ،فالطب الغربي ينزع إلى التحليل المنتهي إلى القول بالدافع الوحيد لا البنيوي ،وينأى عن النظرة الكلية التي ترد الداء إلى أسباب عدة،وفيما يتصل بالقانون يلتجئ الغربيون إلى القضاء الذي ينهض على الجدل والحجاج الموصل إلى الحقيقة(ص.178).
2 - نظرته إلى الآسيويين الشرقيين:
   يذهب الباحث إلى أن كلا المجالين التداوليين(الغرب وشرق آسيا)"يتطابقان"بالمعنى البلاغي الأسلوبي للطباق،أي إنهما على طرفي نقيض قديما وحديثا.
    وتعتبر الطاوية،والكونفوشية،والبوذية أهم عمد المنظومة الثقافية الصينية .وثلاثتها بنظر المؤلف تقف حجر عثرة أمام التأمل الفكري المجرد،وتلح مقابل ذلك على ما يسميه"التناغم"(ص.34).
    ويقصد المؤلف بالتناغم،تلك النظرة الكلية للأمور،أي النظر إلى الشئ مع الوضع في الاعتبار مجمل الصلات والعلاقات المنعقدة بينه وبين مكونات سياقه أو "تكوينه"،وهو ما ينبزه عالما النفس :هيرمان و تكين ب" الاعتمادية على المجال" (ص.58،وص.78)،وهو دال ذو كفاية استيعابية مهمة يظل معها بنظرنا أبعد عن الاعتباطية في علاقته بمدلوله.
    هذه الفعالية الجمعية عند سكان شرق آسيا تؤطرها منظومة قيمية أخلاقية تنظم العلاقات المتبادلة بين الرؤساء ومرؤوسيهم،بين الأزواج وزوجاتهم،وبين الأباء وأبنائهم،ولأجل هذا يشعر الفرد الصيني بأنه حقا جزء من كيان اجتماعي حميد سمح كبير الحجم معقد التركيب.
   ولأجل هذا أيضا فهم ،أي سكان شرق آسيا،يحرصون على ما يوحدهم،ويصلح ذات بينهم لا على ما يفرقهم،وتضمر عندهم الذات الفرد،وتحل محلها الذات الجماعة،والنجاح بالنسبة إليهم هدف منشود ما دام جماعيا،ثم إن"الخنزير الذي يبعد عن القطيع يشبع ضربا"على حد تعبير المثل الصيني(ص.63)،الذي يتفق دلاليا مع القول الإسلامي المأثور "عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية"،ونحن محقون إن سجلنا هذا التصادي الحاصل بين الثقافة الصينية والإسلامية خاصة إذا علمنا أن الماضي بالنسبة للصينيين موصوف بالكمال والحاضر بالانحطاط والتدني،وأننا ملزمون بالمجاهدة والمكابدة لتحقيق يوطوبيا الماضي الكامل،عكس الغرب الذين يؤمنون بالتقدم الخطي وبأن الكمال واليوطوبيات يتوصل إليها بفضل الكسب البشري وليس البتة بالأقدار أوالتدخلات المفارقة.
   وترتد نظرة سكان شرق آسيا ذات الطابع الكلي "التكافلي" العلائقي (ص.90،وص.135،وص.142)إلى الخلفية الفكرية والفلسفية التي تعتمد جملة مبادئ،يستتبع الأخذ بها وتبنيها بشكل شعوري أولاشعوري عدم إغفال العوامل الموقفية والمقامية في النظر إلى أي موضوع،ودونكم بعض هذه المبادئ:
- مبدأ التغير :
   يعتقد الآسيويون في أن الواقع متحول ومتغير دائما وبشكل مطرد وليس في حالة ثبات،ويسوق المؤلف مستدلا على هذا المبدأ قصة صينية قديمة ،تحكي عن فلاح عجوز،رفض أن يفد عليه جيرانه لمواساته لما شرد حصانه الوحيد الذي كان عمدته في حله وترحاله،فقال :من منا يعرف أين الخير وأين الشر؟ وبعد أيام قلائل عاد حصانه مصطحبا معه حصانا بريا،وتوافد عليه الجيران ثانية مهنئين هذه المرة متوقعين فرحه بعودة حصانه،فكان أن رفض قائلا العبارة نفسها : من منا يعرف أين الخير وأين الشر ؟ ولم يمض سوى بضعة أيام حتى حاول ابن الفلاح العجوز امتطاء الحصان البري،فأطاح به من على ظهره فانكسرت ساقه، وتوافد عليه الجيران والأصدقاء للمرة الثالثة تعبيرا عن حزنهم لمأساة الابن،فقال العجوز مرة أخرى : من منا يعرف أين الخير وأين الشر؟ ولم يمض بعد الحدث سوى أسابيع محدودة حتى رجال الجيش إلى القرية لتجنيد القادرين من الرجال إجباريا لخوض حرب ضد مقاطعة مجاورة،وطبيعي أن يعفى ابن العجوز لأنه لم يكن قادرا (ص.34).
    وتجلو القصة توجه الصينيين في محاولاتهم لفهم الشيء ناحية تعقد المجال والسياق،ولهذا ليس غريبا أن يكون لديهم نوع من الإقرار بمبدأ التأثير عن بعد،قبل أن يصوغه غاليليو بألفي عام (ص.41)،واعتقدوا أيضا أن حركة القمر تؤثر في البحار عن طريق المد والجزر وهي حقيقة لطفت عن غاليليو.
   وفي السياق نفسه،أي سياق الاستدلال على إيمان سكان شرق آسيا بمبدأ التغير،يسوق الباحث قولا ورد في كتاب "الآي شنج"عن الصلات المنعقدة بين التعاسة والسعادة،يقول:"(...)التعاسة تناهضها السعادة،والسعادة تتخفى في داخلها التعاسة،من يعرف أين التعاسة أو السعادة ؟ لا يقين هناك،الفضيلة تصبح فجأة رذيلة والخير يغدو فجأة شرا"(ص.35).
- مبدأ التناقض:
   يستتبع التغير الدائم والمطرد للعالم،والذي أشرنا إليه أعلاه،ظهور أضداد ومفارقات،فالقديم والجديد،والخير والشر،جميعها موجودة في كل شئ،وفي الآن نفسه،تماما مثل القولة التي يلوكها أبناء المنظومة الثقافية الإسلامية:"ليس هناك خير محض،مثلما ليس هناك شر محض"،أي في الخير قد تجد بعض الشر،وفي الشر قد يثوي بعض الخير! وبناء على هذا المنطق يجب أن يفهم قول كونفوشيوس:"حين يشعر المرء بأنه الأسعد،فإنه سيشعر بالحزن في الوقت نفسه".
- مبدأ العلاقة أو الكلية:
   إذا كان التغير والتضاد واقعان إذن،فلا شئ مستقل ومنعزل عن سواه،بل تنصهر الأجزاء جميعها في "كل" بوتقة يحكمها الترابط والتساوق والتواشج(ص.162،163).
   ويضيف الباحث إلى هذه المبادئ الثلاثة عاملا آخر موضوعيا يظل هو الآخر وازنا في النظرة الكلية إلى الأمور،وهو لغات شرق آسيا التي تعتبر بنظره [الباحث] سياقية،إذ تتعدد معاني وحداتها الصوتية الصغيرة[الفونيمات/حروف المباني] قبل المونيمات/الأسماء والمورفيمات بتعدد واختلاف المقامات والأحوال(ص.149).
   ولعله من قبيل تحصيل الحاصل،بالنظر إلى ما تقدم ذكره،أن يقرر الباحث اعتماد الفلسفة الصينية على الحس لا التجريد،وتأثيرها في مباحث معرفية أخرى؛ كالنقد الأدبي إذ يتحدث عن "منهج مراقبة نار عبر النهر"ويراد به عزل الأسلوب،و"منهج حشرات اليعسوب تحوم فوق سطح الماء"ويراد به المس الخفيف،و"منهج رسم التنين وتحديد عينيه في نقاط"أي تبيان النقاط المحورية والمهمة(ص.49).
خاتمة :
    وبعد يتضح للقارئ العادي لا الحصيف المتمرس،ودون كثير إنعام نظر،أن صاحب الكتاب لم يتوان عن التحيز للإغريق وللغرب،أي لذاته ولثقافته،وضد ثقافة شرق آسيا كلما سنحت له الفرصة،وهو تحيز قد يلطف عن البعض،لأنه مغلف بلبوس علمي مبني على الاستمارات والأبحاث الميدانية،وهنا تبطل بنظرنا دعواه القائلة بقدرة الغرب على التجريد وعلى النظر إلى الأشياء والمواضيع في استقلال عن المحيط.
   ونحن واعون تمام الوعي،أن التحيز شئ حتمي وان الموضوعية الصارمة لم تكن يوما مطلبا علميا في العلوم الحقة بله في العلوم الإنسانية،ولكننا نحاكم المؤلف بمنطلقاته ومقدماته.
   وبالإضافة إلى هذا التحيز الفج،تنطوي دعاوى المؤلف على كثير من التناقض، وسيتبين تناقضه هذا في الصفحة الثانية والسبعين بعد المائة من الكتاب، فبعد أن اقتنع واقتنعنا معه بأن "الشرق آسيويين"غير منطقيين، وغير قادرين على التجريد، ويقر أنهم يبزون الأمريكان في الرياضيات التي ليست سوى إيغال في المنطق والتجريد، وكي ما يداري يتملص ويقول :إنه لا مشكلة لدى الشرقيين مع المنطق الشكلي بقدر ما لهم مشكلة مع المنطق في حياتهم اليومية !!ثم إن شهرتهم في الرياضيات والعلم حديثة العهد،محاولا بذلك سحب البساط من تحت أقدام الشرقيين!!؟
الهوامش:

[1] جغرافية الفكر: كيف يفكر الغربيون والأسيويون على نحو مختلف ... ولماذا؟ ،ريتشارد أي . نيسبت، ترجمة: شوقي جلال، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ذو الحجة 1425/ فبراير2005.
[2]  - انظر ص.8،وص.12من مقدمة المترجم، و كذا ص.16من مقدمة المؤلف. وسنحيل بعد هذا على جميع الصفحات المتعلقة بالكتاب الذي نقدمه داخل المتن بين قوسين.
* - إيرابي أسلوب غربي في التفاوض يقوم على حرية تعامل الفرد مع بيئته،وفقا لأغراضه ،ويعني الفردَ في النهاية النتائجُ، ولا يركز على العلاقات المنعقدة بين مكونات المجال،وهذا ما يسميه المؤلف مبدأ الاختيار،ويقابل فعالية "إواسي"وهي أسلوب ياباني يلجأ إلى التوفيق ويرفض فكرة حرية الإنسان في تعامله مع بيئته،وكذا مبدأ الاختيار الحاسم ،،،إما/أو.
 ----------
   الناس يفكرون بطريقة واحدة في كل أنحاء العالم, أو أن العقل قسمة مشتركة متساوية المحتوى والمنهج بين الجميع. يبحث في الأصول الإجتماعية للعقل: كيف يفكر الناس, بل وكيف ولماذا يختلفون في إدراكهم, بل في رؤيتهم البصرية؟ ولماذا اختلفت طريقة التفكير, واختلفت النظرة إلى العالم بسبب اختلاف وتباين الهياكل الإجتماعية والإيكولوجيات والفلسفات ونظم التعليم منذ آلاف السنين وحتى اليوم مع شواهد من الإغريق والصين قديما.
   ويتناول قضايا عديدة مثيرة وشائقة بأسلوب علمي مبسط وبراهين معملية واضحة:
- لماذا تفوق الصينيون القدامى في الجبر والحساب دون الهندسة التي تفوق فيها الإغريق؟
- لماذا من العسير على أبناء الشرق الأقصى فصل الموضوع عن السياق المحيط به؟
- لماذا يتعلم الأطفال في الغرب الأسماء أسرع من الأفعال, بينما أطفال شرق آسيا يتعلمون الأفعال بأسرع من الأسماء؟.
















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا