التسميات

الأحد، 2 نوفمبر 2014

خصوصيات نشوء "الفئات الهامشية" في البلدان النامية من المنظومة الرأسمالية العالمية ...

خصوصيات نشوء "الفئات الهامشية"
في البلدان النامية من المنظومة الرأسمالية العالمية

الثقافة الجديدة - مجلة فكرية و ثقافية عراقية - العد 313 - 2004م - صالح ياسر:
    ارتباطاً بوصول أنماط " التنمية " في معظم البلدان النامية إلى افقها المسدود وعجزها عن حل المشكلات المرافقة لها، شهدت السنوات الأخيرة تحولات نوعية عميقة في البنية الاجتماعية والطبقية، وتزايد الوزن النوعي وأهمية العديد من الفئات، وتعاظم دورها في تحديد اتجاهات  التطور ". ولكن بالرغم من الدور الذي بدأت تلعبه هذه الفئات فهي ما زالت بدون تحديد واضح. ويبدو أن هناك فجوة بين الواقع الملموس لهذه الفئات وبين رؤية الفكر النظري لها، الذي بدا عاجزا عن توصيفها بدقة وتحديد " هويتها ". وكان من إحدى " ثمرات " هذه الفجوة بين الواقع وفكر الواقع ظهور العديد من المصطلحات، كلها تريد أو تحاول توصيف هذه الظاهرة منهجياً. ولهذا تزداد الحاجة إلى دراسات أكثر انضباطا - منهجية - للتكوينات الاجتماعية في بلداننا ولتحليل أكثر ملموسية للبنية الاجتماعية والوزن النوعي لكل طبقة وفئة بشكل صحيح(1).

    وارتباطا بالملاحظات السابقة، نبدأ معالجتنا هذه بسؤال بسيط: لماذا التأمل في " الفئات الهامشية " ؟ يتعين ابتداءً أن نؤكد على أنه بالرغم من العديد من المحاولات إلا أن هذا المفهوم ما زال بعيداُ عن الوضوح النظري، فالمصطلح يستخدم، في واقع الأمر، من قبل بعض الباحثين (2) كأداة منهجية مساعدة للتحليل النظري العام لأزمة التشكيلات التابعة، في حين يستخدمه البعض الآخر لتحليل بعض جوانب أزمة التشكيلات الرأسمالية المتطورة (3). ومن هنا تنشأ الحاجة إلى تحديد ما إذا كان هذا المفهوم يستند إلى قاعدة نظرية قوية فعلاُ، وما إذا كان يضيف لفهمنا شيئا جديداٌ، عن خصائص وديناميكية هذه التشكيلات. وعند دراسة هذه الظواهر يمكن العثور على العديد من المصطلحات مثل: الفئات الهامشية، البروليتاريا الرثة، حثالة البروليتاريا، رعاع المدن .... الخ، ينطرح سؤال بسيط: هل هذه المفاهيم عبارة عن مترادفات Synonyms ، تعبر جميعا عن ظاهرة (أو ظواهر محددة) أم لا؟ فإذا كانت هذه المفاهيم تعبر عن ظاهرة محددة، فما هي " الضرورة الموضوعية " لهذه " التسميات " المختلفة؟.
   نظراُ لأن معظم الدراسات تعرض هذه الفئات وكأنها " نتاج " تطور التشكيلات الرأسمالية، سواء في " مراكزها " أم " أطرافها "، ينطرح سؤال ملح أخر هو: هل أن ظاهرات من قبيل " الرث " أو " الهامشي "...... الخ هي ظاهرات مرتبطة بنشوء وتطور الرأسمالية فقط أم أنها تظهر في تشكيلات أخرى، وفي ظروف أخرى؟.
   ودون الانتقاص من جهود الباحثين الذين يعتمدون المنهج الماركسي في دراساتهم للظواهر الاجتماعية، وإنتاج معرفة علمية عنها، نستطيع القول أن العديد من هؤلاء في مسعاهم لتحديد طبيعة " الفئات الهامشية " في بلدان " العالم الثالث " يستعيرون أطروحات ماركس وانجلز ومفاهيمهما حول " رعاع المدن " أو " الفئات الهامشية " التي نشأت في القرن التاسع عشر، أي دون أخذ الظروف التاريخية التي صيغت في ظلها تلك المفاهيم، أي تاريخية المفاهيم، أي ضرورة قراءتها ضمن السياق التاريخي-السياسي الذي أُنتجت فيه.
    ومن المفيد التذكير هنا إن هدف ماركس وانجلز الأساسي لم يكن إنتاج معرفة بهذه الفئات إنما كان همهما المعرفي يدور حول قضية أعمق: إنتاج معرفة نظرية - منهجية بالتشكيلة أو التكوين الرأسمالي، بهدف طرح بديل يتجاوز ذلك التكوين على المستوى النظري والسياسي في آن. لذلك تبدو صحيحة الأطروحة القائلة " بضرورة التميز " الواضح بين أدوات نظرية مصاغة على مستوى التجريد...... " وبين الأدوات التحليلية اللازمة لدراسة أوضاع محددة تكون أكثر تعقيدا وتشابكاً "(4).
حول مقولات: البنية الاجتماعية، الطبقة الاجتماعية والفئة الاجتماعية
   لا بد من الإشارة إلى أنه لا يمكن صياغة وتحديد مفهوم " الفئات الهامشية " وتحديد حقله الملموس، وإنتاج معرفة منتظمة عنه دون رؤيته ضمن إشكاليات اعم، من بينها البنية الاجتماعية، الطبقة الاجتماعية...... الخ. لذلك يتعين علينا، ابتداء، تدقيق هذه المقولات بهدف تجاوز بعض "المسلمات”.
    باختصار شديد وبدون الدخول بالتفاصيل، مقارنة بالبنية الطبقية، يمكن القول أن البنية الاجتماعية تمثل مفهوما أوسع، حيث أن بعض الفئات التي تعتبر من مكونات البنية الاجتماعية، لا تكون بالضرورة طبقات اجتماعية. والفائدة المنهجية لمفهوم " البنية الاجتماعية " هي أنه يوضح لنا أن أي مجتمع محدد لا يتألف فقط من طبقات اجتماعية صافية، بل يوجد إلى جانبها كينونات، أو جماعات أخرى لا تنطبق عليها معايير الطبقة ولكنها تشكل مكونا من مكونات هذه البنية. لا ينبغي أن نفهم من ذلك أن هذا الاختلاف هو خلاف مصطلحاتي، بل هو مفاهيمي أصلاً.
وفيما يتعلق بمفهوم " الطبقة الاجتماعية "، يتعين علينا التأكيد على ضرورة البحث عن مضمون مفاهيمي مشترك يساعدنا على التمييز بين مفهوم (الطبقة) ومفهوم (الفئة)، بما يمكننا من ضبط مفهوم " الفئات الهامشية " أو " الفئات الرثة "، والإجابة على السؤال المهم، أين تكمن هامشيتها ورثتها؟
وهنا لابد من التأكيد على الملاحظات التالية:
1- لا يمكن الحديث من وجهة النظر الماركسية عن الطبقات الاجتماعية بدون ربطها بفترة تاريخية محددة من تطور نمط الإنتاج المادي، الملموس، ودون ربطها بنمط إنتاج محدد، أي تاريخية وملموسية الطبقات الاجتماعية. إنها ليست بنى نظرية مقطوعة الجذور عن الواقع، إذ أن مقولة (الطبقة)، كتجريدة علمية، تستمد مشروعيتها ومصداقيتها المعرفية من كونها تعكس نمطا من العلاقات الناشئة بين مجموعة محددة من الناس لها أساس مشترك وعناصر مشتركة، يتعين إذن استدعاء مفهوم " نمط الإنتاج " كمنطلق للتحليل(5).
2- وتعني الملاحظة أعلاه أن الحديث عن الطبقات الاجتماعية وتحديد أشكال العلاقات بينها لا معنى له إلا بعد الكشف عن العلاقة بين مفهوم (الطبقة) ومفهوم (نمط الإنتاج). يستلزم الحديث، إذن، عن طبقات اجتماعية ضرورة القيام بقراءة فعلية للبنية الاجتماعية، في ديناميكيتها، إذ أن الطبقات ليست شيئاً جامداً، ثابتاً لا يتغير، معطى منذ البداية، إنما هي نتاجات للتطور التاريخي، وإنها في الوقت نفسه قواه الديناميكية المحركة دوما (6).
3- لا يمكن الحديث عن طبقة أو طبقات متوازية لأن الحديث يجب أن يبدأ بالبنية الطبقية في مجتمع محدد، تلك التي تتكون من ترابط طبقات وفئات اجتماعية مختلفة تتصارع في مستويات متعددة قائمة في التشكيلة الملموسة.
   ينطرح على الفور سؤال مهم: ما هي أهمية هذه الأطروحة في التحليل؟ أعتقد أن تلك الأهمية تتجلى في ثلاث قضايا:
الأولى: هي أنه لا يمكن القيام بتعريف الطبقة الاجتماعية بحد ذاتها، منعزلة، بل يمكن تحديد جوهرها الملموس في ارتباطها الفعلي الوثيق مع الطبقات الأخرى ضمن بنية اجتماعية محددة وتشكيلة ملموسة.
الثانية: لا يمكن إنجاز مهمة تعريف الطبقة من دون تحديد طبيعة البنية الطبقية في اللحظة الملموسة.
الثالثة: يتعين إبراز مفهوم الطبقة في حالته الديناميكية، رؤية الطبقة في ارتباطها الوثيق مع الطبقات الأخرى وفي صراعها معها، أي رؤية هذا التشكل ضمن قانون الوحدة/الصراع.
والخلاصة، إن إعادة بناء الاطروحات السابقة تتيح القول بأن الطبقات تتحدد، إذن، جدليا بثلاث لحظات:المستوى الاقتصادي، المستوى السياسي، المستوى الإيديولوجي، ومن دون أن ننسى طبعاً حقيقة أن المستويات المختلفة للتكوين الاجتماعي الملموس تتشابك في وحدة جدلية وتفعل فعلها في آن واحد.(7).
وأخيراً، ما هي " الفئة الاجتماعية " وما هي الفروقات الجوهرية بينها وبين الطبقة الاجتماعية؟
  ابتداءً يمكن القول أن مصطلح "الفئة" يظهر في الماركسية بثلاث معانٍ على الغالب(8) :
   يمكن أن يسمى بالفئة ذلك الجزء المحدد من طبقة، الذي يمكن تمييزه على أساس إما معيار مستوى الدخول (برجوازية كبيرة، متوسطة، صغيرة، أرستقراطية عمالية......الخ)، أو على أساس معيار حقل النشاط الاقتصادي (برجوازية صناعية، تجارية، عمال زراعيين، عمال صناعيين......الخ)، أو على أساس المعيار الإقليمي أو العرقي.
   يجري الحديث كذلك عن "الفئة" ونقصد بذلك توحّد (اندماج) "أجنحة" محددة تنتمي لطبقات اجتماعية مختلفة تمتاز بتماثل ظروف المعيشة.
وأخيرا يمكن أن تسمى بـ "الفئة" تلك الجماعة من الناس التي تظهر كما لو أنها خارج التقسيمات الطبقية الأساسية وتمتاز بمنظومة محددة وواضحة لنمط المعيشة (الانتلجنسيا، البروليتاريا الرثة).
   واستناداً إلى الملاحظات السابقة يمكن القول أن أحد الفروقات التي تتيح التمييز بين مفهوم (الطبقة الاجتماعية) و (الفئة الاجتماعية) هو درجة الارتباط بالعملية الإنتاجية. واستناداً إلى ملاحظة سابقة قوامها أن مفهوم "الطبقة الاجتماعية" لا معنى له دون ربطه بمفهوم " نمط الإنتاج"، فإنه يمكننا القول أن الفئات الاجتماعية لا ترتبط بالضرورة بنمط إنتاج محدد وإنما تتنوع علاقاتها وترتبط بأنماط إنتاج مختلفة. ويعني ذلك إن موقعها ضمن التكوين الاجتماعي لا ينتج عن علاقات الملكية بوسائل الإنتاج وشروط العمل، بل ينتج عن خصائص مميزة لحقول أخرى في التكوين الاجتماعي. وفي ضوء ذلك يمكننا أن نفرز تلك المجموعات التي تنتمي إليها الفئات الاجتماعية، بإعتبارها تلك التي لا تدخل ضمن مجموعات المنتجين المباشرين، أي أن أعضاءها ليسوا بمالكين لوسائل الإنتاج ولا لشروط العمل، ولكنهم رغم ذلك "يستحوذون" - عبر قنوات مختلفة - على منتوج العمل الإضافي للمنتج المباشر.
    وإضافة لذلك يبدو أنه من الضروري التأكيد على أن هذه " الفئات الهامشية " ليست كينونات خاصة قائمة، بحد ذاتها، لذلك يتعين، من جهة، رؤيتها باعتبارها وحدات اجتماعية وعلاقات سياسية من جهة أخرى، تحدد طبيعتها واتجاهاتها العامة حركة الصراع الاجتماعي الخاص، بالتكوين الاجتماعي الملموس في ديناميكيته. وهذا التحديد يلح على ضرورة رؤية هذه " الفئات " ضمن بنية اجتماعية محددة، يتعين تعريفها أولا، ثم رؤية هذه " الفئات " في ارتباطها الوثيق مع الطبقات الاجتماعية.
    لهذا ومن اجل ضبط مفهوم " الفئات الهامشية، أو الرثة...... الخ" لابد من الانتباه إلى قضيتين:
الأولى: تمس إشكالية التكوين الاجتماعي الذي تنشأ وتتطور فيه هذه " الفئات .
الثانية: تمس إشكالية علاقة هذه " الفئات المهمشة " بالطبقات الاجتماعية، وخصوصا المسيطرة منها، ووظائفها في الصراع الاجتماعي في البلد المعني في لحظة تاريخية محددة.
من المجرد إلى الملموس:
    نحو مقاربة تاريخية بين سيرورات نشوء " الفئات الهامشية " في البلدان المتطورة و البلدان النامية ضمن التشكيلة الرأسمالية العالمية.
   ها نحن ننتقل إلى الملموس، إلى تحليل إشكاليات نشوء وتطور ما يسمى بالفئات الهامشية في البلدان النامية. ومن المفيد أولا أن نشير إلى حقيقة مهمة جدا، لا يجب أن تغيب عن ذهن الباحثين المنشغلين بهذه " الظواهر الهامشية "، وهي أن تحديد جذور هذه الفئات يجب أن يرتبط بتحليل خاصية تطور التكوين الاجتماعي في بلدان "الأطراف"، أي البلدان النامية. وهذه المنهجية ستسمح لنا بإجراء مقاربة بين سيرورات نشوء وتطور هذه البلدان المتطورة وبلدان “الأطراف”، وبالتالي تحديد جذور الاختلاف في النشوء وما يترتب عليه من ضرورة إنتاج مجموعة جديدة من المفاهيم التي تعبر عن هذه الظواهر.
   بعد هذه الملاحظات السريعة، يتعين تعميق تأملاتنا بصدد هذه الفئات انطلاقاً من الفكرة التالية:
    إن إنتاج معرفة منتظمة بصدد " الفئات الهامشية " في البلدان النامية يجب أن يرتبط بتحليل خاصية التطور الرأسمالي في البلدان " الطرفية "، أي تحليل خاصية ظهور الرأسمالية هنا، تحديد أصولها، والنتائج، والعواقب المرافقة لها.
    ونعتقد أن إنجاز هذه المهمة لا يمكن أن يتم دون رؤية هذه المجموعة من البلدان ضمن النظام الرأسمالي العالمي، وبالتالي فإن هذه الفكرة ستسمح لنا بالقيام بمقاربة بين سيرورات نشوء " الفئات الهامشية " في البلدان الرأسمالية المتطورة وفي البلدان النامية. ودون الدخول في تفاصيل الظروف التي رافقت دخول الرأسمالية إلى البلدان " المستعمرة والتابعة " ولا في التفاصيل الدقيقة التي مرّ بها هذا النمو خلال مراحله المتعاقبة (9)، لا بد من الإشارة إلى أن هذا النمو لم يتحقق في إطار السيرورة الداخلية لعلاقات الإنتاج، وإنما " بفضل " التدخل الإمبريالي العنيف، الذي حطّم هذه السيرورة الداخلية، وأعاد بناءها وتكيفها وربطها تبعياً بحاجات تطوره المباشر، مخضعاً بنيتها الاجتماعية الجديدة لضرورات التراكم الرأسمالي ولعملية إعادة الإنتاج الموسعة في الدول الإمبريالية ذاتها (10). وفي ضوء ذلك يتعين فهم خاصية التطور الرأسمالي في " البلدان المحيطية " وكذلك سيرورات التراكم وخصائصها المميزة. ويمكن ملاحظة ذلك في العديد من القضايا هي:
     لم تحطم الرأسمالية " المحمولة " من الخارج البنى التقليدية، بل وعملت في أحسن الأحوال على تكيفها وفقاً لاحتياجاتها، وقد خضعت هذه البنى لتطور بطيء ومؤلم دون أن تتعرض لتحطيم جزئي. وهذه الملاحظة مفيدة في فهم جذور تشكل " الفئات الهامشية ". يتعين القول إن " تحرير " قوة العمل أثر انغراس العلاقات الرأسمالية المتدفقة من الخارج، تميّز بسيرورة متناقضة للغاية: تحول إلى " بروليتاريا " من جهة وتحول إلى " ما قبل بروليتاريا " من جهة ثانية. ومن شأن التأمل العميق في هذه السيرورة أن يساعدنا على الاحاطة بالديناميكية والحراك الاجتماعيين في اقتصاد رأسمالي تبعي احاطة أفضل، ويجعلنا على دراية بواقع نلك السيرورات و " يحررنا " من " إلزامية " نقل مخططات تحليل طُبقت في ظروف تاريخية أخرى، تختلف عن ظروف هذه البلدان التي تشل موضوعاً لتأملاتنا هذه (11).
   إن قدرة العناصر البرجوازية المحلية على التطور الذاتي، المرتبطة بنمط الإنتاج الرأسمالي (حامل علاقات الإنتاج الرأسمالية) تتقرر إلى حدٍ كبير بمدى ارتباط البلد المستعمَر نفسه بالاقتصاد الرأسمالي العالمي. إن الانخراط العميق، والمنتظم للبدان " المحيطية " في الاقتصاد الرأسمالي العالمي يفضي إلى إعادة إنتاج تبعيتها بصورة مستمرة، وفي مثل هذه الظروف يأخذ مجمل مسار تطور البنى الرأسمالية في هذه البلدان تطوراً متناقضاً ومقيداً (12).
    إن المجتمعات المتباينة من حيث مراحل الارتقاء ما قبل الرأسمالي، تورطت بالتدريج في عملية إعادة إنتاج جديدة عليها، وغاية في السلبية بالنسبة لها، فالعلاقات الإنتاجية ما قبل الرأسمالية كانت تتقوض بأشكال، وبدرجات متفاوتة، بينما تتجدد وبشكل أسوء في الوقت ذاته. وهذه مفارقة مهمة يتعين ملاحظاتها وعدم نسيانها من أفق التحليل، في مجرى الكشف عن جذور الفئات الهامشية، فقد أصبح الفقر المتنامي والانفصال الطبقي لفئات كبيرة من السكان إحدى أهم نتائج وظروف هذه المجتمعات. وعند إجراء مقاربة للسيرورات التي تمت في البلدان التي حدث فيها التطور الرأسمالي في البداية، أي البلدان الأوربية الغربية، يمكن القول أن هذه البلدان لم تعرف هذا الشق الهائل والمديد بين انحلال العلاقات " التقليدية " - ما قبل الرأسمالية - وتشكل العلاقات الرأسمالية.
    لنتأمل، ولو باختصار، كيف تمت سيرورات التراكم البدائي وعملية التبلتر في البلدان الرأسمالية المتطورة، بهدف رؤية الاختلاف ومضمونه. وباختصار نستطيع أن نقول أن الطلب على قوة العمل في البلدان الرأسمالية الغربية لم يتأخر طويلاً مقارنة بعرض قوة العمل، فالتقدم العلمي- التقني، والتطور البطيء نسبيا للرأسمالية في الريف (وكذلك قصر عمر حياة العمال) كلها عوامل أسهمت في " تنظيم " الوضع في سوق العمل وضبطه طبقا لمقتضيات عملية التراكم. ولا يتعين أن يضيع من أفق التأمل حقيقة أن التمدن Urbanization سار بشكل متوازٍ تقريبا لعملية التصنيع. وأخيرا أصبحت الهجرة، ولحد ما، حاجزاً محدداً للأمن في الظروف والحالات الصعبة. في حين أن عمليات " التراكم البدائي " في البلدان " المحيطية " التي جرت في المرحلة المبكرة واللاحقة لتطور الرأسمالية وكذلك في مرحلة التصنيع قد تمت بطريقة أخرى تماماً.
    فالجانب الأول من عملية " التراكم البدائي "، أي ظهور تلك المجموعات من البشر المعزولين من العلاقات الاجتماعية المألوفة والمغتربين كان واضحاً، أما العملية الثانية للإنتاج الرأسمالي فقد كانت بطيئة جدا، إن لم نقل منعدمة تقريباً. لهذا نلاحظ أن خاصية الانفصال الطبقي في ما يسمى بالمجتمع المتعدد الأنماط تكمن في أن هذا المجتمع " ينتج " كل الأنماط من " المعدمين " الذين يصبح وجودهم أحد أهم شروط الكينونة اللاحقة للأنماط " القديمة " منها " والجديدة "(13).
      والخلاصة، إن الجزء الأساسي من " الفئات الهامشية " للمدينة المعاصرة في البلدان النامية هي ليست فقط "سقط متاع "، الإنتاج الرأسمالي، ولا ضحايا البطالة الدورية، التي يتم امتصاصها بشكل منظم خلال الدورة الرأسمالية ولا هي " الجيش الاحتياطي الصناعي "، ولا هي منتوج الوتيرة السريعة للهروب من الريف إلى المدينة (أو انهيار الحرفيين) والتي يمكن " التغلب " عليها من قبل الإنتاج الرأسمالي مقارنة بالعرض على قوة العمل، في " العالم الثالث". نحن هنا شهود سيرورات من نوع مغاير تماماً عن تلك الظواهر الأوربية " المماثلة "، إنها سيرورات ذات طبيعة واسعة، طويلة المدى، والاهم من ذلك هي عبارة عن سيرورات مرتبطة عضويا بالسنن الرئيسية للتطور الرأسمالي التابع " وخصائصه " الملموسة (14).
   يطرح هذا الاستنتاج ضرورة تعميق التحليل بصدد قضيتين، نعتقد أنهما مهمتين في إنتاج معرفة أفضل بـ " خصوصية " الفئات الهامشية في البلدان النامية.
القضية الأولى: هي أن إنتاج معرفة منتظمة عن الفئات الهامشية يستحث أولاً، وقبل كل شيء، تحليل مضمون نمط " التراكم المحيطي " والياته التي "تفرخ" أو تفرز هذه الفئات.
القضية الثانية: ضرورة إجراء مقاربة بين هذا النمط من التراكم والتراكم الذي تم في بلدان " المركز " الرأسمالي. إن التجربة التاريخية لسيرورات التراكم في " المركز" تبين أنها تنتج بشكل منتظم " الجيش الاحتياطي الصناعي "، في حين أن التراكم المحيطي (أي في البلدان النامية) ينتج على ما يبدو " ما قبل بروليتاريا "، نعتقد أن هذا التمييز ضروري على المستوى المفاهيمي وعلى المستوى التطبيقي كذلك.
    بصدد القضية الأولى يمكن رؤية مضمون " التراكم المحيطي" ضمن الإشكالية التالية: إن تفكيك/حفظ علاقات الإنتاج ما قبل الرأسمالية في الريف المترافقة مع/والخاضعة إلى سيرورة تحرير قوة العمل وانبثاق الشروط الرأسمالية لتحولها إلى سلعة، وتدفقها نحو المدينة باحثة عن "عمل" وعدم قدرة القطاعات " المترسملة " عن استيعابها سينعكس في تهميش أجزاء متعاظمة من قوة العمل الجديدة في المدن، ويجد انعكاسه في خلق الشروط لنشوء الأحياء القصديرية (أحزمة الفقر) التي تطوق المدن، وتكون المكان الملائم لانبعاث وتطور شرائح واسعة من " الفئات الهامشية .
    يتعين الإشارة إلى أن هذه العملية مرتبطة بالسيرورات المرافقة لتفكك الأنماط التقليدية ونشوء الأنماط المعاصرة وبمدى قدرتها على إعادة إنتاج نفسها بشكل متواصل ودون عوائق. ففي الوقت الذي يؤدي انهيار العلاقات الاقتصادية القديمة (أي ما قبل الرأسمالية) وما يرافقه من "اضمحلال" أو ابتعاد متزايد للناس عن مهنهم القديمة بحثاً عن موطئ قدم في السيرورات الجديدة، التي تحتاج إلى فترة من الزمن للدخول فيها. وهذا يؤثر في نمو عدد العاطلين وفي السيل المتعاظم للسكان المتقاطرين نحو المدن، التي تعجز مختلف قطاعاتها "المعاصرة" عن استيعابهم، وبذا تنخلق شروط الإفقار المعمم، النسبي والمطلق. نستطيع أن نقول أن ثمة علاقة طردية بين سرعة تهديم الأشكال الاقتصادية التقليدية(ما قبل الرأسمالية) وبين وتيرة نمو الاقتصاد الانتقالي "المتعدد الأنماط". وإذا كان هذا التحليل يدفع للاستنتاج بأن منبع " الهامشيين هو تلك "السيرورات" المرتبطة بانهيار أشكاله التقليدية، فإنه لا ينبغي نسيان حقيقة أخرى، هي أن تطور " المجتمع الانتقالي " يرافقه ظهور "مفلسين" من أنماط أخرى. وهكذا يمكن أن تضم " الفئات الهامشية" في لحظة معينة "برجوازيا سابقا، ومثقفاً سابقا، إلى جانب بروليتاري سابق، أو حرفي سابق"(15). إذن يمكن القول إن هذه " الجماعات" التي يتعاظم حجمها باستمرار، من المسحوقين والمهجرين وساكني أحزمة الفقر التي تطّوق مدن "العالم الثالث" وتملأ شوارعها، وأعضاء عصابات الجريمة المنظمة، والسوق الموازية، ليست ناجمة فقط عن انحلال القطاعات الإنتاجية التقليدية فقط، بل هي ثمرة "لإدخال وزرع " النمط الرأسمالي (16).
     إن تحليل التبلتر من زاوية حركية قوة العمل يسمح، بالإضافة إلى غناه النظري، بتجاوز السببية التبسيطية، فيض سكان- نزوح ريفي، وبإعادة طرح مسألة التبلتر في إطارها النظري/ التاريخي الملموس، أي تحرير قوة العمل عن طريق تغيير وضعيتها، ومن ثم تصبح الحركية لا مجرد انتقال جغرافي، بل تغيراً في الوضعية الاجتماعية يطال الفلاحين والحرفيين سواء نزح هؤلاء من مناطقهم الأصلية أم لم ينزحوا (17). إن جزءاً مهماً من "الفئات الهامشية" في البلدان "المحيطية"، التي تحافظ (وهي في المدينة) على روابط مع القطاعات التقليدية، تمثل من جهة منتوج هذه القطاعات، غير أنها تمثل جزءه الاستهلاكي، وليس الإنتاجي.
    تتقاطع هذه العملية مع سيرورة أخرى، ونعني بها النمو العاصف، ولكن المبكر(مقارنة بتجربة البلدان الأوربية الغربية) للعمالة في قطاع الخدمات، بما في ذلك المعاصرة منها. ويمكن اعتبار ذلك بمثابة "تورم سرطاني"، مما يمكن معه النظر إلى هذه الظاهرة بمثابة نتيجة وشرط ضروري، لظهور "الجيش العملاق" من الهامشيين. تشهد على ذلك حقيقة أن نمو العمالة في قطاع الخدمات في " البلدان المحيطية" يحدث تأثير الضغط المتنامي لسوق العمل وليس نتيجة المرونة الدخلية العالية للطلب على الخدمات (18). ويتعين إذن رؤية هذه الظواهر وتحليلها ارتباطاً بأنماط التصنيع التي انتهجت في بلداننا، وبالتالي توجيه الاتهام نحو استراتيجيات التصنيع التي انتهجت في هذه البلدان (19).
    والنتيجة النهائية فإن السياسة التي تضع في مخططها الأول الفعالية وتعظيم الدخل القومي، التي هي على وفاق تام مع معايير التراكم الرأسمالي، تخلق مشكلة العمالة و " السكان المهمش"، وذلك بطريقتين. فمن جهة، وعبر تحديث الزراعة مع الإبقاء على البنية التقليدية للملكية الزراعية، تخلق فائضاً لقوة العمل في الزراعة، ومن جهة ثانية وعبر التحديث و "إعادة البناء" المعتمدة على تكنولوجيات الشركات الاحتكارية عابرة القومية، يلاحظ ضعف القدرة التنافسية للصناعة في مجال قوة العمل. نستنج من ذلك أن الظاهرة المسماة بالتهميش ليست لها طبيعة داخلية بل وخارجية كذلك، وهي تختلف عن المشكلة الكلاسيكية "جيش العمل الصناعي الاحتياطي"، كما أشار إلى ذلك بصواب هانيبال كويانو (20)، كما أنه ليس لها صلة مع ما يسمى بـ " البروليتاريا الرثة " فقط.
    أما بصدد القضية الثانية، والمتمثلة بضرورة إجراء مقاربة بين نمط التراكم المحيطي، ونمط التراكم الذي تمّ في بلدان "المركز الرأسمالي"، فيمكن صياغتها كما يلي:
    إن نمط التراكم في هذه البلدان سار ضمن المنحى التالي: تقترن سيرورة تمفصل/إعادة بناء الطبقات الاجتماعية أثناء عملية التطور بإعادة هيكلة تتجلى ببروز قوة اجتماعية (البرجوازية) تفرض نمط إنتاجها ومنظومة قيمها على "الجميع"، وتعيد إنتاج التكوين الاجتماعي الجديد ضمن شروط ومنطق علاقات الإنتاج الرأسمالية. ويعني ذلك أن العنف الذي حدث في أوربا أثناء فترة التراكم البدائي لرأس المال، قد ولّد سيرورة تمفصل/إعادة هيكلة لأنماط الإنتاج الموجودة في التكوين الاجتماعي الجديد عبر إخضاعها لمنطق نمط الإنتاج الرأسمالي وقوانينه. أما نمط "التراكم المحيطي" فيمكن رؤيته ضمن التصور التالي: إن سيرورة تمفصل البنية الاجتماعية التقليدية(ما قبل الرأسمالية) تقود إلى ظهور بنية جديدة متنافرة تتعايش فيها عدة أنماط دون سيطرة أحدها لفترة طويلة، بشكل يفرض منطقه على الأنماط الأخرى. ومن هنا يجب عدم الخلط بين " الجيش الاحتياطي الصناعي"، وبين "الفئات الهامشية" لأن المفهومين ينتميان إلى حقلين معرفيين مختلفين. إن "ما قبل البروليتاريا" التي ترتبط بها "الفئات الهامشية" في البلدان المحيطية لا تطابق تماماً مفهوم "الجيش الاحتياطي الصناعي"، إذ أنه لا يمكن تشبيه سيرورة ما قبل التبلتر ببقايا الإنتاج السلعي الصغير الذي لم يتعرض بعد للتدمير من قبل رأس المال. وإذا كان "الجيش الاحتياطي الصناعي" هو جزء مكون لليد العاملة المستخدمة في الصناعة في البلد الرأسمالي المتطور، وبالتالي يمكن القول أنه (أي الجيش الاحتياطي الصناعي) يمثل عنصراً وظيفياً من عناصر التراكم الرأسمالي، جاهزاً للاستخدام في كل لحظة من لحظات توسع الإنتاج الرأسمالي، فإن بعض النشاطات الحضرية التي تلجأ إليها الفئات الهامشية (ما قبل البروليتاريا) تظهر كنتاج للتحديث الرأسمالي التبعي لا كبقايا تقليد.
    ويتعين التأكيد على أن مفهوم " ما قبل البروليتاريا" لا يقتصر على "الفئات الهامشية" فقط. فإذا كان للتحليل المستند إلى مصطلح " الهامشية" فضل في إبراز حقيقة أن دمج "التكوينات الاجتماعية المحيطية" يؤدي الى تطور قطاع ثالث طفيلي ومتورم، والى وجود أشخاص "هامشيين" فائضين بالمقارنة مع حاجات رأس المال، إلا أن مصطلح "الهامشية" لا يراعي واقع أن جزءاً من السكان الذي يُنظر إليهم كهامشيين هم شغيلة يعملون في الإنتاج السلعي الصغير، ويلعبون دوراً مهماً في تنامي قيمة رأس المال، ويشكلون أُجراء بكل معنى الكلمة ويعانون من فيض الاستغلال كذلك.
    ولاشك أن الأمر لا يتعلق هنا، إذا تجاوزنا المفاهيم المختلفة مثل: الجيش الاحتياطي الصناعي، التهميش، الأجراء..... الخ، لفئات اجتماعية هي في وضعية "البروليتاريا الكامنة" سواء كان ذلك مؤقتاً ونهائياً، إنها "ما قبل بروليتاريا" مندمجة في دائرة اقتصادية تسود فيها علاقات متعددة، هجينية، غير محددة الأبعاد، متحركة. فوضعية " ما قبل البروليتاري" تتبدل باستمرار تبعاً للظروف الملموسة، فهو تارة أجير، وتارة أخرى حرفي، وثالثة عاطل عن العمل، أو مشتغل في أعمال " قذرة "(21).
    وإذا كانت قضية "الجيش الاحتياطي الصناعي" تمثل واحدة من لحظات المنافسة على سوق العمل، وإن انتقال العامل إلى مجموعة المشتغلين، أو إلى المجموعات العاطلة عن العمل إنما يكون مشروطاً، قبل كل شيء، بشكل رئيسي بتذبذبات الدورة الاقتصادية، فإن وضعية " السكان المهمشين” في البلدان المحيطية تمثل قضية أخرى. إنها لا ترتبط بمراكز الصناعة المعاصرة بروابط إنتاجية مباشرة، بل على العكس أنه ليس لهذه "الفئات" الحظوظ كي تستطيع أن تنخرط في حقل نشاط القطاعات المسيطرة في الاقتصاد.
   وثمة مفارقة في هذا المجال يتعين الإشارة إليها. إن هذا " المحيط المهمش"، يستكمل بقوة العمل المهمشة المؤلفة من العمال الذين كانوا يشتغلون في الصناعة، ولكن بسبب التطورات التكنولوجية (وضعف مستويات مهاراتهم)، أًبعدوا إلى الصناعات التقليدية أو نحو الحرف، يتعين تحديد وضع هؤلاء. من وجهة نظر الصناعة المعاصرة يمثل هؤلاء جزءاً من الفئات الهامشية، في حين أنهم، من وجهة نظر الصناعة التقليدية يمثلون جزءاً من "الجيش الاحتياطي الصناعي"، طبعاً ليست هذه التسمية مماثلة لما جرى في أوربا الغربية. أخذين بنظر الاعتبار حقيقة أن القطاعات التقليدية (ما قبل الرأسمالية)، بالرغم من عملية "الطحن" الجارية لها، أنها مازالت كبيرة من الناحية الكمية، ولكنها ليست في وضع يسمح لها بامتصاص الفائض من قوة العمل، ولهذا فإن "قوة العمل المهمشة" هذه غالباً ما تذهب إلى المحيط الهامشي، متجاوزة بذلك مرحلة (طور) البطالة الصناعية (22).
   انطلاقاً من الملاحظات السابقة نستطيع أن نقول أن القانون العام الذي سيحكم نمط التراكم التبعي هو قانون هدم/محافظة، المنظم للرابطة بين العلاقات الرأسمالية والعلاقات ما قبل الرأسمالية. فإذا كانت هذه الرابطة قد تميزت في البنيات الرأسمالية الأوربية بكونها علاقة تناحرية ضمن سيرورة تمفصل/إعادة هيكلة، حيث أدت إلى إخضاع كل ما هو قبل رأسمالي (القطاعات التقليدية) لمنطق قوانين التراكم الرأسمالي وعلاقات الإنتاج الرأسمالية، فإنها في "البنية التابعة" هي علاقة "تعايش". هذا مع العلم إن هذا التعايش ليس ساكناً أو ثابتاً، إنما هو تعايش يعكس صراعاً بين الطرفين، بحيث يتم من خلال ذلك تحديد أي من العلاقات ما قبل الرأسمالية سيتم هدمه، وأي منها يجب الحفاظ عليه. وإذا كان من الصعوبة بمكان تحديد الكيفيات التي يعمل فيها قانون هدم/محافظة في ظروف "التراكم التبعي"، إلا أننا نستطيع القول أن تلك الكيفية ناجمة عن ثلاث لحظات جديرة بالملاحظة والتأكيد. إنها أولاً ناجمة عن التعقيد والتناقضات التي تعتمل داخل النمط الرأسمالي نفسه، وثانياً، عن التناقضات الخاصة بالأنماط ما قبل الرأسمالية، وثالثاً عن الطريقة التي يتم بها التصادم بين الطرفين وما يترتب عليه من نتائج(23).
     نستطيع أن نقول، انطلاقاً من الملاحظة السابقة، أن هذه "الفئات الهامشية" في "البلدان المحيطية" تمثل نتاجاً لعملية نفي مزدوجة، فمن جهة تنتمي هذه الفئات إلى أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية، أي بمعيار القوى المنتجة إلى قوى التخلف والمحافظة، حيث تصبح هذه القوى ضمن إطار عملية " التراكم المحيطي" بمثابة "جسم زائد". ولكن هذا "الجسم الزائد" نفسه هو، من ناحية ثانية، نتاج مجموعة متنافرة من قوى اجتماعية تنتمي إلى أصول تاريخية مختلفة يشترط التراكم التبعي ليس تصفيتها جميعاً بل "إعادة طحنها"، أي أن عملية "نفيها" لا تكون كاملة، لأن من ضمن "متطلبات" قانون "التراكم المحيطي" عدم إزاحة البعض منها من على "مسرح الحياة”.
    وقد لا يغامر المرء حين يقول بأن "إعادة الطحن" المذكورة أعلاه تعني أن السيرورات المرافقة لنمط "التراكم التبعي" تنتج "ما قبل بروليتاريا" أكثر مما تساهم في عملية البلترة وخلق الشروط لهيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي. ولهذا يكون هذا النمط معاقا ًمنذ لحظة ولادته، وبالتالي فإن عملية التهميش ونشوء "الفئات الهامشية" تصبح حقيقة من حقائق تطور هذا النمط وليس أثراً عارضاً له. ولا يتعين أن تغيب عن الذهن حقيقة أن هذه السيرورات تتم ضمن منظومة رأسمالية عالمية وتخضع لمنطق القوانين الناظمة لها وللدور المتعاظم للشركات الاحتكارية العابرة القومية، وبالتالي يخضع معظم الفائض الاقتصادي المنتج في "البلدان المحيطية" إلى عملية استنزاف وترحيل نحو الخارج، مما يمنع عملية إعادة الإنتاج من التوسع، وبذلك يظل العديد من القوى العاملة في العمر الإنتاجي على "هامش" العملية الإنتاجية.
    إن إعادة إنتاج "الفئات الهامشية" لا يتم بطريقة مباشرة، بل من خلال الطبقات والقوى المرتبطة بها (24) والمواقع التي تحتلها تلك الطبقات في التكوين الاجتماعي الملموس. إن وجود "مستنقع" ما قبل رأسمالي راكد يضم فئات همّشها التطور التبعي، إلى جانب رأسمال طفيلي ومضارب، يتقدم بسرعة عاصفة في معظم البلدان، ويفرض على المجتمعات المختلفة منظومة " قيمه وقوانينه"، يسمح بالقول بأن هذه الفئات، الراكدة تحت " قمقم التبعية " للقوى المسيطرة، ستكون في لحظات تاريخية معينة في "طليعة" القوى التدميرية ووقود المعارك "الكبرى". يتعين أن نشير إلى أن مسار السنوات المقبلة سيكون محكوماً بـ "حقائق جديدة"، من بين أهمها النشاط المتعاظم للفئات التي سماها ماركس بالرعاع وتسمى الآن بالرثة أو الهامشية. ولا ينبغي نسيان تجارب التاريخ. فبونابرت استخدم تلك "الفئات الهامشية" بمثابة رأس حربة لتصفية خصوم الطبقة المسيطرة. وبعد أن أدى "وظيفته" قامت البرجوازية بإزاحته عن سلطتها التي لن تتقاسمها مع أحد. فهل سنكون، خلال الفترة المقبلة، شهود حقبة بونابارتية جديدة. لكن لا ينبغي نسيان المثل الشهير: إن التاريخ يتكرر، لكنه يتكرر أما بملهاة أو بمأساة، غير أن كليهما مُر.
    والسؤال الذي يطرح نفسه بحدة هو: هل سيظل الخطاب القديم والمقاربات القديمة حول هذه الفئات على حاله، أي رؤية الجانب السلبي (هامشيتها، رثتها!)، أم يتعين رؤيتها ضمن حقائق جديدة، أهمها أن هذه الفئات تشكل "الكتلة الأكبر" في اللوحة الاجتماعية الراهنة (حيث يتنامى عدد العاطلين باستمرار، حيث تصل "التنمية" في هذه البلدان إلى أفاقها المسدودة مستنفذة كل إمكانياتها المادية وانهيار الخطاب الشعبوي للقوى المسيطرة) وتصبح موضوعاً للرهان، والصراع والخطابات "الراديكالية" الساعية لجذبها إلى حلبة الصراع وتغيير ميزان القوى. وما شهدته بلادنا خلال الفترة التي تلت انهيار النظام المقبور يقدم الكثير من الدروس الجديرة بالتأمل العميق.
    ومن دون إهمال عمق ألازمة البنيوية التي كانت سائدة إثناء فترة النظام الدكتاتوري المقبور، فقد قاد المشروع الذي طبقته سلطة الاحتلال (25) إلى عملية تهميش اجتماعية واسعة، كانت عاملا رئيسيا من عوامل بروز الاتجاهات الراديكالية بما في ذلك بروز الإيديولوجيات المعادية للديمقراطية والتي اتخذت تنويعات مختلفة، وتعاظم النزعات الأصولية والتطرف. ومن المفيد الإشارة إلى إن " مجتمع التهميش " يتكون، سوسيولوجيا، من كل المبعدين عن العملية الإنتاجية والاستهلاكية كذلك، ويضم فئات اجتماعية سيزداد حجمها باستمرار. ولأسباب موضوعية وذاتية كذلك لم تستطع القوى السياسية، وخصوصا القوى الديمقراطية واليسارية تحديدا، من الوصول إلى قطاعات عريضة من هذه القوى المهمشة وتنظيمها وتأطيرها وبلورة الشعارات المناسبة والصحيحة لاجتذابها إلى النضال المطلبي والسياسي الصائب وإبعادها عن تأثير القوى والأحزاب والتيارات الراديكالية.
    إن الحاجة ملحة اليوم إلى إجراء قطيعة مع المنطق السياسي والاقتصادي الذي فرضته سلطة الاحتلال، الأمر الذي يتطلب كسر القطبية السياسية السائدة. وهذا يستدعي إنجاز المرحلة الانتقالية وإجراء إصلاحات اجتماعية سياسية عميقة وبناء دولة ديمقراطية عصرية. ولابد هنا من التأكيد على أهمية بلورة رؤية جديدة للعلاقة بين المجال الديمقراطي الذي يضم مجموعة واسعة من الفاعلين السياسيين ( أحزاب وقوى سياسية واجتماعية متنوعة) التي تكون ما يمكن تسميته بالمجتمع المدني، وبين عالم التهميش المبعد عن العملية الإنتاجية والاستهلاكية بهدف تحريره - كقوة اجتماعية - من الغلاف الإيديولوجي السياسي الذي استطاع الاستحواذ على قطاعات واسعة منه لأسباب عديدة تحتاج إلى دراسات تفصيلية للكشف عنها. فوجود عالم التهميش بوضعه الحالي يمكن أن يكون بمثابة قنابل اجتماعية موقوتة قادرة على تفجير التناقضات المتراكمة والمتفاقمة ليس على الصعيد الاقتصادي، ولكن على الصعيد السياسي أيضاً. ولكي يتحقق هذا التحالف لابد أن يتم في إطار تفكير جديد يعيد النظر كذلك في الأشكال التنظيمية ووسائل العمل السياسي.
 ---------------------
هوامش الدراسة
(1) لمزيد من التفاصيل، وخصوصا الإشكاليات المنهجية المرتبطة بهذه الظاهرة أنظر: د.صالح ياسر حسن: بعض الإشكاليات المرتبطة بمفهوم " الفئات الهامشية " في البلدان النامية - نحو معالجة منهجية منتظمة -. " جدل " كتاب العلوم الاجتماعية، الكتاب الرابع/1993، ص 39-72,
(2)قارن: إبراهيم محمود: حركية حثالة البروليتاريا في العالم الثالث. "النهج"، العدد 32/1990، ص 88 ولاحقاً.
(3)  قارن على سبيل المثال:
V.Tanzi(ed), D. The Underground Economy in The United States and Abroud Lexington 1982, and J.Gershung: The Informal Economy, its Role in Post- Industrial Society,Futures , February 1979.
(4) انظر: عصام الخفاجي: بعض إشكاليات دراسة الطبقات والتطور الاقتصادي الاجتماعي في البلدان العربية. دراسة غير منشورة، ص 6.
(5) قارن: د.فيصل دراج: الثقافة والطبقات الاجتماعية. "الهدف"، العدد 815، في 22/4/1986، ص 45/ ولاحقاً. كذلك: ستانسلاف كوزير كوفالسكي: البنية الاقتصادية وتشكيلة المجتمع. " الكتاب والمعرفة ". وارشو 1988. ص 395 ولاحقاً، كذلك أيتين باليبار: حول المفهومات الأساسية للمادية التاريخية: (في) قراءة "رأس المال". الجزء الثاني، ترجمة تيسير شيخ الأرض، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1974، ص 241 ولاحقاً.
(6) قارن: أرنست فيشر: هكذا تكلم ماركس حقاً. ترجمة محمد عيتاني، دار العودة، بيروت 1973، ص 70.
(7) قارن: عادل غنيم: النموذج المصري لرأسمالية الدولة التابعة، دراسة في المتغيرات الاجتماعية والطبقية في مصر 1974 - 1982. دار المستقبل العربي، الطبعة الأولى، القاهرة، 1988، ص 122-124.
(8) قارن: يرزي فياتر: المجتمع. مقدمة للسوسيولوجيا المنظومية (النسقية). مطبعة الدولة العلمية، وارشو 1981، ص 255-256، كذلك و.فيسووفسكي: الطبقات، الفئات، السلطة. مطبعة الدولة العلمية، وارشو 1980، ص 129، ولاحقاً. (9) لمزيد من التفاصيل راجع العمل الهام: نوداري أ.سيمونيا: مصائر الرأسمالية في الشرق. ترجمة فاضل جتكر. مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، دمشق 1987.
(10) قارن: د.صالح ياسر حسن: موضوعات حول الاتجاهات والآليات الجديدة في القسمة الدولية الرأسمالية للعمل. " دراسات عربية "، العدد 4 شباط 1985، ص 36 ولاحقاً. كذلك لنفس الكاتب: جدلية العام والخاص في الأزمة الاقتصادية الرأسمالية الدولية. "الفكر الديمقراطي" العدد 4/خريف 1988، ص 106-108.
(11) قارن: د.صالح ياسر حسن: خصوصيات تمايز رأسمالية "الأطراف" ضمن تطور المنظومة الرأسمالية العالمية. قراءة في كتاب نوداري أ.سيمونيا: مصائر الرأسمالية في الشرق."جدل" كتاب العلوم الاجتماعية، العدد 1، أب، 1991، ص 282، ولاحقاً..
(12) قارن: تطور متناقض (تبادل أراء عالمي حول التطور الرأسمالي في المنطقة الأفرواسيوية). "الثقافة الجديدة"، العدد 136/1981، ص 106-108.
(13) قارن: الكسي ليفكوفسكي: البرجوازية الصغيرة وخصائصها. دار التقدم، فرع طاشقند 1979، ص 110-112.
(14) لمزيد من التفاصيل قارن: البلدان النامية. السنن، النزعات، والأفاق. مطبعة الدولة العلمية، وارشو 1977، ص 290 ولاحقاً. كذلك: سمير أمين: ما بعد الرأسمالية. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1988، وخصوصا ص 11-81.
(15) انظر: الكسي ليفكوفسكي: البرجوازية الصغيرة وخصائصها، مصدر سابق، ص 114.
(16) قارن: د.خلف الجراد: البروليتاريا الرثة في العالم الثالث. "دراسات عربية"، العدد 5 السنة التاسعة عشرة/آذار 1983، ص 98.
(17) قارن: جمال الدين نفاع: تفكك البنى ما قبل الرأسمالية وحركية قوة العمل في المغرب، أعمال الندوة العلمية الدولية الرابعة التي نظمها المعهد العربي للثقافة العمالية وبحوث العمل ومنظمة العمل العربية خلال الفترة 24 -29/3/1984، ص 3.
(18)D.Turnham: The Employment problem in less Developed Countries, A review of Evidences, Paris 1971, p. 113.
(19) لمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة قارن: د.صالح ياسر حسن. أفكار وملاحظات حول تطور القطاع الصناعي في البلدان العربية. "العلوم الاقتصادية"، معهد العلوم الاقتصادية، جامعة قسنطينة، العدد 3/1987، ص 80 ولاحقاً.
(20) A.Quijuno Obregen: The Marginal Role of the Economy and The Marginalized Labor Force.  Economy and Society  1974, v.2, NR. 4.
(21) قارن: جمال الدين نفاع: تفكك البنى ما قبل الرأسمالية، مصدر سابق، ص 43-45.
(22) قارن: هنريك شلايفر: تحديث التبعية، الرأسمالية والتنمية في أمريكا اللاتينية. أكاديمية العلوم البولندية، وارشو 1985، ص 211-213.
(23) لمزيد من التفاصيل قارن: باجو حميد: دراسة في التمرحل. البنية الاقتصادية المغربية كنموذج. "النهج"، العدد 32/1990، ص 19-22.
(24) لمزيد من التفاصيل راجع التحليل الذي قدمه إبراهيم محمود في دراسته الموسومة: حركية حثالة البروليتاريا......، مصدر سابق، ص 88، ولاحقاً.
(25) لمزيد من التفاصيل حول هذا المشروع أنظر: د.صالح ياسر حسن: " عملية رفاهية العراق "  بين الصخب الايديولوجي وحقائق الواقع الصارمة. ملاحظات أولية حول  المشروع الاقتصادي لسلطة الاحتلال. "طريق الشعب"، العدد 22/السنة 68، 20-26/تموز 2003، الملحق الاقتصادي للعدد ذاته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا